عند الحديث عن الماركسية غالبا ما يقترن اسم كارل ماركس باسم فردريك إنجلز. وكثيرة هي الكتب التي تتناول ماركس المفكر بالدراسة، وقليلة هي الكتب التي تتناول إنجلز بصفته واحدا من المفكرين. في سلسلة "مقدمة قصيرة جدا" صدر كتاب بعنوان "إنجلز" لمؤلفه "تيريل كارفر" أستاذ النظرية السياسية في جامعة بريستول وجامعة ليفربول، وهو أمريكي من مواليد 1946. ومن مؤلفاته "نظرية ماركس الاجتماعية" و"ماركس وإنجلز: العلاقة الفكرية" و"ماركس ما بعد الحداثة".
عرض المؤلف في مقدمة الكتاب أنه حاول تقديم دراسة دقيقة وموجزة عن أفكار إنجلز، وأن هدفه هو إثارة اهتمام القارئ بأفكار إنجلز وتأثيراتها على العلوم السياسية والاجتماعية المعاصرة. ويعرب المؤلف في المقدمة عن امتنانه لجامعة ليفربول لمنحها إجازة له كي يتمكن من تأليف هذا الكتاب. وقد صدرت الترجمة العربية عن مؤسسة هنداوي عام 2015 في لندن، ترجمة صفية مختار، ومراجعة مصطفى محمد فؤاد. ويقع الكتاب في اثنتين ومائة صفحة، من القطع الصغير.
تضمن الكتاب مقدمة وسبعة فصول عرضت بشكل شائق وموجز مختلف جوانب شخصية إنجلز التي توزعت فصولها في العناوين الآتية: إنجلز وماركس، إنجلز الصحفي، إنجلز الشيوعي، إنجلز الثوري، إنجلز الماركسي، إنجلز العالِم، إنجلز والماركسية.
إنجلز وماركس
تحت هذا العنوان يسلط المؤلف الضوء على العلاقة بين ماركس وإنجلز باعتبار أن إنجلز شريك في أحد الإسهامات الفكرية الأكثر شهرة على مر التاريخ. ويرى الكاتب أن إنجلز كان الأكثر تأثيرا من الناحية السياسية مقارنة بشريكه ماركس، ويأتي هذا التأثير من خلال شرحه لأفكار ماركس. ولأنجلز أفكار خاصة به، وماركس اعترف أنه قد تأثر بها، وتوجد بطبيعة الحال الأعمال الشهيرة التي كتبها إنجلز بالاشتراك مع ماركس. ويطرح المؤلف بعض التساؤلات: إلى أي مدى كان إنجلز يدعم عمل ماركس في النواحي التي كلفه بها، وهل يمكن قراءة أعمال إنجلز المستقلة كما لو كانت مكتوبة بالاشتراك مع ماركس، وهل ماركس وإنجلز يتحدثان دائما بصوت واحد حتى عندما يكتب كل منهما بشكل مستقل عن الآخر (ص 11) .
يوضح المؤلف أن لإنجلز تأثيرا هائلا من خلال شخصه وكتاباته على تطور الماركسية، لا سيما في الأعمال التي انتشرت على نطاق واسع بعد وفاة ماركس، وفي كثير من الحالات كانت تلك الأعمال مصممة لتكون شروحا لأعمال ماركس أو لأعمال اشترك كلاهما في تأليفها. وقد تناول كُتّاب السيرة الذاتية حياة إنجلز، وما ينقص تلك الأعمال التي تناولت حياة إنجلز هو معالجتها لحياته الفكرية التي لا يسيطر عليها دائما شبح ماركس (ص 12).
مع ملاحظة ما قاله لينين في مقالة له عن فردريك إنجلس "وحتى عام 1870 عاشا، إنجلز في منشستر، وماركس في لندن، ولكن هذا لم يمنعهما من أن تكون وحدة أفكارهما وثيقة أشد الوثوق، فكانا يتراسلان في كل يوم تقريبا"(1) ويواصل لينين القول إن الاشتراكي الديمقراطي النمساوي آدلر لاحظ "إن إنجلس بإصداره المجلدين الثاني والثالث من "رأس المال" قد نصب لصديقه العبقري أثرا جليلا كتب عليه، ودونما قصد بأحرف لا تمحى، اسمه الخاص إلى جانب ماركس"(2).
إنجلز الصحفي
يتناول "كارفر" جانبا غير معروف كثيرا من شخصية إنجلز وهو: الصحفي، يوضح فيه تطوره الفكري والسياسي، ففي سن السابعة عشرة نشر إنجلز بعض الأعمال الشعرية، وفي سن الثامنة عشرة كان صحفيا تتسم مقالاته بالنقد اللاذع. وكل ما كتبه كان مبنيا على بيانات مثبتة شاهدها أو سمعها. وقد استخدم انجلز عينيه وأذنيه استخداما ناجحا وفعّالا وكان تصويره للظروف المادية والاجتماعية لمجتمعه حينذاك تصويرا دقيقا (ص 13). وعلى مدى السنوات 1839-1842 أثبت إنجلز نفسه ناقدا سياسيا وأدبيا بما يقرب من خمسين مقالة وكتيبا. وكان لإنجلز اهتمامات أخرى غير الصحافة المهتمة بالنواحي الاجتماعية؛ فاهتم باللاهوت والفلسفة، دفاعا عن الهيجليين الشباب اللبراليين ضد الهجوم المدعوم رسميا الذي يشنه عليهم فريدريش فون شيلينج أستاذ الفلسفة الجامعي (ص 16). وكان إنجلز يرى أن وجهة نظر شيلينج ترهات لا توجد إلّا في رأسه وألّف كتيبا بعنوان (شيلنج والوحي) لم يوقعه باسمه، وهو نقد لأحدث محاولة للتصدي للفلسفة الحرة، وما زال هذا الكتيب قابلا للقراءة ورواية يعتمد عليها (ص 18). وأثناء تواجده في برلين مابين 1841 ـ 1842 لتحق بالجامعة بصفته طالبا غير مسجّل.
ذكر إنجلز أعمال الفلاسفة النقديين أمثال: شتراوس، فيورباخ، باور، والصحف التي نشروا فيها مقالاتهم، ومدحهم بالقول: لقد سقطت كل المبادئ الأساسية للمسيحية، بل سقط ما كان معروفا حتى تلك اللحظة باسم الدين، أمام نقد العقل المستمر بلا هوادة. وقد استدعت الدولة (شيلينج) للدفاع عن التقليد في الدين والسياسة، واعتقد إنجلز أن هذا الدفاع لم يكن ذا قيمة (ص 19).
إنجلز الشيوعي
ويلقي المؤلف الضوء على التطور الفكري لإنجلس من خلال مشاهداته أوضاع انجلترا، وتلمسه معاناة الطبقة العاملة ومشاهداته العيانية لأحوالها، ويطلق عليه صفة الشيوعي. ففي رحلة إنجلس الثانية إلى انجلترا أواخر 1842 ومن لندن هاجم إنجلز الطبقات الحاكمة، سواء أكانت الطبقة الوسطى أم الطبقة الارستقراطية بسبب عمى بصيرتهم حيث كانوا دائما معارضين لنظام الاقتراع العام. وأثناء وجوده في برلين 1841و1842 عكس تطوره السياسي التطور الذي مرّ به الهيجليون الشباب، حيث تحولت آراؤهم السياسية من الدفاع عن العقلانية المتسقة على نحو أو آخر مع الرؤية الهيغلية إلى النقد الصريح لهيغل، ورفض ليبرالية الطبقة الوسطى ثم توجهت للدفاع عن الديمقراطية والنظام الجمهوري والإصلاح الاجتماعي الذي يصب في صالح الفقراء (ص 22).
وكانت هناك مناقشات لنظريات عن الثورة الاجتماعية الشاملة والملكية المشتركة وتحرير الإنسان. وقد أثار إنجلز الاهتمام الموجه إلى الصناعة الحديثة وفقر الطبقة العاملة في سياق الثورة الاجتماعية والسياسية. وكان هذا الشكل من الشيوعية والذي لم يكن مذهبا واضحا المعالم هو المذهب الذي اختار انجلس تطويره. وكانت مقالة "الأزمات الداخلية" تمهيدا نظريا لرائعة إنجلز "حالة الطبقة العاملة في انجلترا" التي نشرها عام 1845. والتي كان لها ثلاثة أعمال تمهيدية، وهي مقالات كتبت ونشرت في 1843 و1844 متناولة موضوعا أوسع هو التاريخ الاجتماعي لانجلترا.
ورأى أن الثورة التي حدثت في الصناعة البريطانية هي وراء كل أشكال التطور الاجتماعي، وأن أهم أثر لهذا التطور هو تكوّن طبقة البروليتاريا من خلال الثورة الصناعية. وقد استعرض النظام الدستوري والقانوني الإنجليزي، ورفضه باعتباره خليطا معقدا من الأكاذيب واللاأخلاقية. وبعد أن استعرض عناصر الحكم الملكي والارستقراطي والديمقراطي تساءل: من يحكم فعليا في انجلترا؟ وكان جوابه هو: أصحاب الأملاك (ص 25).
ألّف إنجلز كتاب "حالة الطبقة العاملة في انجلترا" اعتمادا على ملاحظات شخصية ومصادر موثوقة، وغرضه من التأليف كان سياسيا، وقدّم في الكتاب سردا لاذعا عن طبقة الملّاك ودورها في النظام الاقتصادي القائم على المنافسة، واستعرض انجلز الحالة البائسة للطبقة العاملة والظروف السيئة التي يعيشون فيها. وأشار إلى مقاومة الطبقة للظروف السيئة، وكان أول أشكال تمرد هذه الطبقة هو اللجوء إلى الجريمة وتكسير الآلات والإضرابات. ويقيّم لينين كتاب إنجلس بالقول "لقد كان هذا الكتاب صك اتهام رهيب ضد الرأسمالية والبرجوازية، وكان الأثر الذي أحدثه عظيما"(3).
إنجلز الثوري
ونظرا لتعمق أفكار إنجلز، يكشف المؤلف عن تصاعد الروح الثورية عنده، ولقائه بماركس. ولم يكن أول لقاء لإنجلز مع ماركس ناجحا، فقد اتخذ ماركس، رئيس تحرير الصحيفة الكولونية الراديكالية موقفا صارما من الإسهامات المقدمة من مجموعة الهيجليين الشباب، وكان إنجلز منضما إليها. وأثناء تواجد إنجلز في مانشستر كتب في الفترة ما بين اكتوبر ونوفمبر 1843 مقالة "إسهام في نقد الاقتصاد السياسي"، وكانت هذه المقالة مفخرة ماركس كلما تحدث عن علاقته بإنجلز. ولا بد أن تناول إنجلز النقدي للاقتصاد السياسي قد حاز إعجاب ماركس الذي كان يبحث الآثار العملية لنظام الملكية الخاصة الذي تقره مملكة بروسيا وتدافع عنه. وتطرُّق إنجلز للاقتصاد السياسي النابع من اهتمامه بالتاريخ الاجتماعي لإنجلترا، لاسيما الثورة الصناعية التي حدثت في القرنين 18و19. ونظرا لكون إنجلز شيوعيا فقد اقترح إلغاء الملكية الخاصة والمنافسة. ومن ناحية النقد الأخلاقي للاقتصاد السياسي وصف إنجلز التجارة بأنها تشبه السرقة، موضحا أن النتيجة الفورية للملكية الخاصة هي التجارة، معتبرا إياها احتيالا مقننا. والملكية الخاصة حولت الإنسان إلى سلعة (ص 36).
وقد انعقد أول مؤتمر للشيوعيين في لندن 1847، وقدم فيه إنجلز مسودة البيان الشيوعي لغرض المناقشة. وأعد إنجلز نسخة أخرى لماركس حملت اسم "مبادئ الشيوعية". وفي أواخر ذلك العام طلب من ماركس وإنجلز استخدام هذه المسودة وغيرها في تشكيل وثيقة نهائية يمكن لكل الشيوعيين الالتزام بها (ص 42). وفي مرحلة لاحقة اعترف ماركس وإنجلز كل منها على حدة بأن الفكرة الأساسية للبيان الشيوعي كانت من إنتاج ماركس وحده. والنسخ الأولى من البيان كانت معدّة بالفعل على يد إنجلز وحده مهتما بأسلوب صياغة البيان، وتولى ماركس صياغة البيان في النهاية.
إنجلز الماركسي
يرى المؤلف أن إنجلز كان أول الماركسيين، وكان تأثيره على الماركسية كبيرا (ص 45) . كتب طوال الفترة 1849-1895 مفسرا وجهات نظر ماركس ومراجعا ومحررا لأعماله. وأثبت صحة وجهة نظر ماركس القائلة بأن وجود الطبقات في المجتمع يعتمد على مراحل تطور الإنتاج وأن طبقة البروليتاريا الحديثة هي فقط التي لديها ما يؤهلها لبدء عهد المجتمع اللاطبقي، معتمدا تقديم الأدلة من مصادر التاريخ، مستعرضا تاريخ الصناعة الألمانية في القرنين 14 و15 واختلاف المانيا سياسيا عن النمط السائد في كل مكان من أوروبا، وكان تلخيصه للوضع الالماني ترديدا لما جاء في البيان الشيوعي. وسار إنجلز على نهج كتاب "الإيديولوجية الالمانية" فأظهر أن الخلافات الدينية في حقيقتها اجتماعية وسياسية. وكانت دراسة إنجلز لحرب الفلاحين في المانيا أول مؤلف ماركسي عن "التاريخ" أوضح فيها أنه خلف "الغطاء الديني" تكمن مصالح واحتياجات الطبقات المختلفة (ص 48).
كان إنجلز كريما في وقته وماله. أحسن إلى أسرة ماركس وأنقذها في مرّات عديدة من الفقر والشقاء الذي عاشوا فيه. وقام إنجلز بمساعدة ماركس أيضا من خلال كتابة المقالات عنه بالإنجليزية، التي لم يكن يتقنها ماركس، لصحيفة (ذا ديلي تربيون) فعمل إنجلز مؤلفا ومترجما، وتلقى ماركس الأجر (ص 49) .
ظهر كتاب مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي لماركس عام 1859 وقد وضع ماركس خطة العمل التي سيراجعها إنجلز، وطلب منه أن يكتب تعليقا مختصرا حول المنهج النقدي المتبع في العمل (ص 52) . وأصبح إنجلز المروج الأول لاكتشافات ماركس في علم الاجتماع، والمعلق الأول على منهجه النقدي. وكانت عبارة "التصور المادي للتاريخ" التي قالها إنجلز هي التي أدت إلى ظهور الماركسية. وأضاف عنصرا آخر مهما إلى هذه النظرة الأساسية وهو "المنهج الجدلي الماركسي" وبحلول عام 1878 أصبح إنجلز على نطاق ضيق كاتب سيرة ذاتية عن ماركس. واختار تناول اكتشافين فقط من اكتشافات ماركس وهما: تصوره الجديد للتاريخ والتفسير النهائي للعلاقة بين رأس المال والعمل، فقال: أثبت ماركس أن التاريخ السابق كله هو تاريخ للصراع الطبقي (ص 56).
في السنوات التي أعقبت وفاة ماركس 1883 قدّم إنجلز مقدمات لطبعات جديدة من "البيان الشيوعي" الذي ألّفاه معا (خمس طبعات) ولثمانية من أعمال ماركس.
إنجلز العالِم
ويتناول كارفر في هذا الفصل إنجلز باعتباره عالما. كان "دوهرينج" قد نشر مجموعة أعمال، من ضمنها كتاب "مقرر في الفلسفة" الذي اتخذه إنجلز كهدف أساسي للرد عليه. وظهر كتاب "الرد على دوهرينج" على شكل أجزاء في صحيفة اشتراكية ألمانية في الفترة 1877 - 1878، ثم نشر في ثلاثة كتيبات ثم نشر في كتاب. وكانت لدى إنجلز ثلاثة أسباب لمناقشة دوهرينج؛ أولها: تجنب الانقسام الفكري داخل الحزب الذي كان لا يزال في بداياته، والثاني: نشر آرائه حول الموضوعات المثيرة للجدل، والثالث: تحذير القّراء من الأنظمة الألمانية الأخرى التي تمثل الهراء المطلق. واعترف إنجلز صراحة أنه هاوٍ غير متخصص في التشريع والعلوم الطبيعية، وإن إسهامه قاصر على تصحيح الحقائق التي ليس فيها خلاف (ص 62) .
وفي 1894 أضاف في الرد على دوهرينج بعضا من محتوى مخطوطات ماركس إلى الفصل العاشر من الكتاب، وهكذا كشف أن ماركس ساعده في تأليف جزء صغير من الرد (ص 63) . وقد كتب في الرد على دوهرينج: إن الجدل لا يعدو أن يكون علم القوانين العامة للحركة وتطور الطبيعة والفكر والمجتمع البشري. ويقول أيضا: كنت أنا وماركس الشخصين الوحيدين اللذين أنقذا الجدل الواعي من الفلسفة المثالية الألمانية وطبقناها في التصور المادي للطبيعة والتاريخ (ص 65).
وكان لدى إنجلز وجهة نظر وضعية تجاه العلوم، حيث قال: إن تراكم الحقائق المأخوذة عن العلوم الطبيعية تجبرنا على الاعتراف بالتصور الجدلي للطبيعة. وكان منهج إنجلز يتمثل في البحث عن حقائق نسبية قابلة للتوصل إليها عن طريق العلوم الوضعية وجمع نتائجها من خلال التفكير الجدلي. وبعد أن حاول تحديد العلاقة بين التفكير الجدلي والتاريخ والعلوم، تناول القضية الأساسية الكبرى لكل فلسفة، وهي علاقة التفكير والوجود. وقد أكدت الاكتشافات الحديثة في مجال الانثروبولوجيا كتلك التي تمت في علوم الأحياء والكيمياء والفيزياء والتاريخ والفلسفة حقيقة تصوره المادي للتاريخ القائم على الجدل (ص 75).
إنجلز والماركسية
وفي الفصل الأخير من الكتاب يقيّم المؤلف إسهامات إنجلز الفكرية ويصدر أحكاما بشأنها. والتفسير المادي للتاريخ هو العنصر الأساسي في تركة إنجلز الفكرية (ص 79)، وقد ابتكر هذا المصطلح بنفسه ودافع عنه. ويرى الكاتب أنه إذا كان هناك معيار واحد للتفرقة بين الماركسي وغير الماركسي، فسيكون التفسير المادي للتاريخ هو المنافس الأقوى بين هذه المعايير. كما يعتبره أول عالٍم ومؤرخ أنثروبولوجي ماركسي وأدى تأثيره في نطاق هذين المجالين إلى نتائج يمكن اعتبارها تقدمية. وفي شروح إنجلز لكتابات ماركس كانت نوايا إنجلز -حسب ما يرى مؤلف الكتاب- صادقة للغاية، وقد ذاعت شهرته السياسية والفكرية أكثر بسبب علاقته بماركس وتفسيراته لأعماله، وقد جعل طموحاته داخل حدود علاقته كتلميذ بأستاذه (ص 80). وموضوع كتاب ماركس "مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي" أصبح الموضوع الرئيس لشروح إنجلز وتفصيله لآرائه.
ويرى المؤلف أن إنجلز كان يفتقر إلى حنكة المتشكك المثقف الذي يستطيع طرح أسئلة صعبة على نفسه ثم يسعى للإجابة عليها. ولم تكن فلسفة إنجلز -حسب رأيه- مجرد فلسفة متناثرة في أفكاره الجدلية المختلفة كما هو الحال مع ماركس، بل كانت في حد ذاتها كيانا يحتوي على كثير من الافتراضات غير المفحوصة والمصطلحات غير المعرّفة، وفي رأيه أن العلاقة بين ماركس وإنجلز علاقة بين الأستاذ والشارح.
وهناك مزاعم أنهما كانا متفقين في كل الموضوعات، وعملا باعتبارهما مؤلفين مشتركين يعتبر كل منهما عمل الآخر عمله، وهو تصور غير صحيح، كما يرى، والصورة التي ظهرت كانت لشخصين لكل منهما أعمال مستقلة مع استثناءات قليلة. وماركس قدّم الإسهامات الأكثر إبداعا بينما إنجلز قدّم الإسهامات الأكثر تأثيرا. ويصل المؤلف إلى استنتاج أن دفاع إنجلز عن التفسير المادي للتاريخ غير حاسم من الناحية التحليلية ودوغمائي في النهاية (ص 84). وأشار إلى أن البعض في الغرب تجاهلوا وجود الاختلاف بين ماركس وإنجلز، وتناولوا ماركس منفردا، وآخرون لهم وجهة نظر أن أحدهما تحدث نيابة عن الآخر.
ونعرض هنا شهادة إنجلز عن نفسه الذي وضع مرتبته بعد مرتبة ماركس، فقد كتب لأحد أصدقائه القدماء "لقد كنت دائما ثاني عازف على الكمان بجانب ماركس"(4) ويقول لينين "كان ماركس يعمل في تحليل الظاهرات المعقدة في الاقتصاد الرأسمالي، وكان إنجلز يعرض في مؤلفاته المكتوبة بأسلوب واضح وجدلي في كثير من الأحيان أهم القضايا العلمية ومختلف وقائع الماضي والحاضر بروح المفهوم المادي للتاريخ لدى ماركس ونظريته الاقتصادية"(5).
الهوامش
1- ماركس وإنجلز، مختارات، ج1، دار التقدم، موسكو، د. ت، ص 23.
2- المصدر نفسه، ص 24.
3- المصدر نفسه، ص 20.
4- المصدر نفسه، ص 25.
5- المصدر نفسه، ص 23.