قدّم لنا موقع حوار التنوير محاضرة ألقاها الأستاذ أحمد الديين من الكويت في 31/ 5 / 2023، وكانت من المحاضرات المتميزة التي ألقت الضوء على معوقات التنويريين العرب، وأشار بشكل خاص الى حالات التنوير في منطقة الخليج العربي وتوصل الى استنتاجات كانت غير واضحة في الثقافة والإعلام العربي.
كانت المحاضرة واسعة شملت نقاطا عديدة وهي أشبه بكتاب مختصر لم يسع وقت المحاضرة في تناول محاورها بالتفصيل، ولابد للأستاذ أحمد الديين من شرح تلك المحاور وتبويبها واخراجها على شكل كتاب لما في محتواها من ريادة وعمق. وسأتناول بابا واحدا نظرا لتعذر تغطيتها في مقالة واحدة.
عوائق التنوير العامة
إن الأمر المؤسف الذي واجه حاضرنا هو الفوات التاريخي الذي حاق ببلداننا جراء عدم تلمس الطرق الصحيحة للدخول إلى العوالم الحديثة، فقد أصرت بعض الأحزاب على سلوك طرق بالية لاجتياز عقبة التخلف، وقالوا أن سبب تخلفنا هو ابتعادنا عن الدين، وقد غضوا أبصارهم عن فشل الفقهاء في إنجاز خطة واحدة تساعد المسلمين في الذهاب إلى المستقبل، حيث فشلت الدولة العثمانية في تحقيق النهضة، ونجحت التجربة الأوروبية التي سلكت طريقا معاكسا في تحقيق النهضة ونشرها في الشرق والغرب، وقد لاحظ عدد من المثقفين ورجال الدين المسلمين هذه المشكلة، فحاول بعضهم منذ نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين المساهمة في إحداث نقلة نوعية، هدفها وضع الدول المسلمة على أرضية الحداثة، عن طريق إحداث ثورة فكرية عامة، لتوفير الحاضنة الطبيعية لنقل الفكر والثقافة والصناعة والاقتصاد الحديث إلى البلدان الإسلامية، لكن النجاح لم يحالفهم، وظلت المنطقة تدور داخل زمن القرون الوسطى، ولم يطرأ عليها إصلاح يناسب الفترة التي تقدمت بها أوروبا.
لقد بدأ التغيير العام في القارة الأوروبية يقتفي أثر التغيير الاقتصادي الذي طرأ على القارة، وبدأت المدن بالتوسع والاعمار يتنامى، وظهرت المهن والحرف الجديدة، وأصبحت المدن تنافس الإمارات الإقطاعية، وتصاعد الصراع بين الطبقة التجارية الوليدة والطبقة الإقطاعية التي تسندها الكنيسة، وكان فريدريك الثاني ( 1194 - 1250 م) يميل إلى الطبقة التجارية الناشئة، فنصحه معاونوه باعتماد موازن فكري للفكر الكنسي الواقف في الضفة الأخرى، وذلك بترجمة كتب ابن رشد لغرض خلق قاعدة فكرية عقلانية موازية وموازنة للكنيسة، وأدى ذلك إلى خلق تيار رشدي لاتيني مؤثر، ساهم بالتالي في الوقوف ضد تأثير الكنيسة، وأعطى ذلك دفعة قوية للتفكير العقلاني ومحاربة الخرافة، وتوصل جمال الدين الأفغاني بعد ملاحظته الواقع الأوروبي إلى أن النهضة كانت قد بدأت بالثورة الدينية التي قادها مارتن لوثر، الذي انحاز إلى التفكير العقلاني واستعمل نفس منهجية ابن رشد القاضية بأسبقية الحرية لفهم النصوص الدينية، وأدت هذه الطريقة إلى استنباط لوثر بنود إصلاحاته التي علقها على باب كنيسة فيتنبرغ، وهي التي هزت سيطرة الكنيسة، وأتاحت فسحة من الحرية والشك بسياستها وفكرها، ما سمح للفلسفة والعلوم أن تأخذ دورها في تغيير الواقع الأوربي، ثم توسعت الثورة العلمية والاجتماعية والحقوقية التي أوصلت أوروبا إلى الحداثة .
كان الأفغاني ومحمد عبدة قد رصدا تأثير حركة الإصلاح الديني التي قادها مارتن لوثر ( 1483-1543) الذي عرض إصلاحاته عام 1517م، وحلم جمال الدين الأفغاني وتلميذه محمد عبده بقيامهم بنفس الدور الذي قام به لوثر، وقال الأفغاني في كتابه (الرد على الدهريين) بأن مارتن لوثر قلد في ثورته المسلمين وسمى مذهبه مذهب الإصلاح.
لم يتحقق هذا الحلم لأسباب عديدة منها محدودية الفكر الذي انطلقا منه، وتردد ذهنيتهما في إجتياز القصور الفكري، وعدم قدرتهما على مراجعة الفكر الديني أسوة بما فعله مارتن لوثر في الديانة المسيحية، إضافة للتخلف العام، وحالة الوعي المتردية في ظل الدولة العثمانية؛ ففي الفترة التي ظهر بها مارتن لوثر كانت جحافل العثمانيين تتقدم نحو أوروبا، وتحقق الانتصار تلو الآخر دون أن تتأثر بتلك الثورة الدينية ولا العلمية التي أعقبتها، وبالنتيجة لم تصل شرارتها إلى المنطقة الإسلامية.
ليس هذا هو السبب الوحيد الذي منع الدول والشعوب الإسلامية من تقبل المنتج الفكري الغربي ووصول حركة الأنوار إلى العمق الإسلامي، فقد وصلت أولى شرارات الأنوار الأوروبية مع وصول نابليون بونابرت إلى مصر، وهي الفترة التي شهدت فيها أوروبا تراجعا عن حركة التنوير التي توجتها الثورة الفرنسية، وعاد الاستبداد والملكية على نطاق واسع، حيث عادت الملكية وانتشر الاستبداد، وأدى هذا الوضع في النهاية إلى الحربين العالميتين. كما لعب الاستعمار دورا في تأخير الوعي اللازم للانتقال إلى الحداثة، وحدث العكس، حيث تقدم رجال الدين الصفوف الأولى لمقاومة المستعمر، وبالتالي مقاومة الجهة التي أتى منها التنوير والحداثة.
عوامل أخرى أدت إلى تأخر انطلاقة التنوير
ساهمت أوروبا في تأخر انتشار الفكر التنويري في المنطقة العربية والإسلامية، فقد سيطرت بريطانيا على الهند فعليا منذ عام 1760م و ثار ضدها الشعب الهندي بكافة أديانه عام 1857م، واحتلت فرنسا الجزائر عام 1830م، وثار ضدها الشعب الجزائري بقيادة الأمير عبد القادر (1807 - 1883) عام 1832م، ونفته فرنسا عام 1847م، وتقدم رجال الدين لمقاومة الاستعمار البريطاني للعراق عام 1915، وبعده بقليل حدثت ثورة العشرين بقيادة رجال الدين عام 1920.
لقد حل الاستعمار في البلدان الإسلامية بالقوة، وفهمته شعوب المنطقة فهمها للحروب الصليبية قبل حوالي ستة قرون، وهي حروب دينية استفزت العاطفة الدينية وأوقفت حركة الإصلاح الديني، كما لعبت الدولة الصهيونية دورا كبيرا في تأخير حالة الوعي العامة وأبقت الثقافة ضمن الدائرة الدينية، وأثر دخول دول النفط في هذا المجال في إمالة الكفة لصالح تشويه وتأخير حركة الإصلاح، وكان عدد الأشخاص الذين زاروا الغرب في مطلع القرن التاسع عشر وحاولوا عكس حجم التغيرات فيه وأسبابها قليلا، وكان تأثيرهم بسبب تلك الظروف أقل، ومازالت الشكوك منتشرة بين الأوساط الدينية والشعبية حول المنجز الفكري الأوربي وهي تعتمل في النفوس .
لقد حاول محمد عبدة من خلال موقعه الديني المهم، ومن خلال اطلاعه على الثقافة الغربية من تحديد الأصول التي يمكن بها تخليص الإسلام من عوامل قصوره الذاتية للانتقال إلى النهضة، وقد لخصها بالنقاط الاتية:
العقل الذي يجب أن يقدم على النقل في حالة التعارض، والبعد عن التكفير، و الاعتبار بسنن الله في الخلق، ولا وجود للسلطة في الإسلام، واقتصار القتال على الدفاعي فقط، ولا إكراه في الدين، ومَوّدَة المخالفين في العقيدة، وهي أصول مكثفة توفر الأساس الفكري للنقلة الحضارية .
لكن الشعوب العربية والإسلامية واجهت ظروفا جديدة عزلتها عن عوامل التغيير التي اجتازت بها أوروبا تخلفها للبدء بثورة الإصلاح الديني ثم الثورة العلمية والحقوقية، ففي الربع الأول من القرن العشرين بدأ الصراع في القارة الأوروبية يأخذ منحى آخر بعيدا عن هذه الموضوعة، وهو الصراع بين الاشتراكية والرأسمالية، وأصبحت الدراسات الفكرية تدور حول هذا الصراع، وانسحبت خلفه الصحافة والاهتمامات الثقافية، ولم تسنح الفرصة ولا الظرف في قيام المواجهة بين الثقافة الحديثة وواقع الثقافة الدينية القديمة في المنطقة العربية والقسم الأعظم من الدول الإسلامية، فقد انتهت معركة الصراع الديني - الديني، وفترة الصراع السياسي - الديني في أوروبا قبل أكثر من ثلاثة قرون، وواجهتهم بعدها مهمات أخرى، حيث تجاوزوا تلك المرحلة بعد أن أنجزوا كافة مهماتها، ولم تنجز شعوبنا هذه المهمة، ووجدت منطقتنا نفسها بين منتجات حديثة وفكر قديم لم يتعرض للمناقشة، وواجه الفكر الاشتراكي الذي انتشر في الربع الثاني من القرن العشرين الفكر الإقطاعي المتحالف مع المرجعيات الدينية، وحمل المثقف في هذه المواجهة الراية، في الوقت الذي واجه الإقطاع الأوروبي طبقة تجارية وبرجوازية ساهمت في النهضة الصناعية وامتلكت إمكانيات مالية وعسكرية استطاعت بها من مواجهة الإقطاع ورجال الكنيسة، وانشغل المثقفون بهذا الصراع، ولم تسمح لهم الفرصة في الإطلاع على الثقافة الدينية الشائعة ولا الفقه ولا الشريعة، حيث عاجلتهم الانقلابات العسكرية التي حمل لواءها القوميون الذين وقفوا في ما بعد مع المرجعيات الدينية وفرغوا الساحة من الثقافة، كما لم يعرف رجال الدين العلوم الحديثة، ولم يتأثروا بحركة التطور والتقدم التي عمت العالم، ولم تحدث من داخل النظام الديني ثورة إصلاح فكرية، وبرزت خلال تلك الفترة مهمة معرفة المثقف للحقل الذي ينشط فيه، ومعرفة الاعشاب الضارة والمناطق الملغومة لكي يحقق نمو وتكاثر مزروعاته، وعدم الخلط بين الصالح والطالح في مسيرته التوعوية.
موقف المثقف من أنواع التدين المختلفة
لا بد للمثقف من التفريق بين أنواع التدين المختلفة، بين التدين الشعبي، والتدين الفقهي والتدين السياسي، لكي لا يوجه سلاحه الوجهة الخاطئة، حيث ينتمي الأول إلى فترة التنزيل الشفوية الأولى، وإلى استمرارية الثقافة المحلية والأعراف في رفده بالجديد والمختلف، حيث كان الفرد مازال محتفظا بثقافته و أعرافه، ويمتلك حرية نسبية تبيح له النقاش والسؤال والشك وإعادة تكوين الفكرة والاختلاف عن الآخر، وهو يحمل مفهوما عن الطاعة مقتصرا على طاعة الله، ويعتمد على قاعدة الإيمان الرباني الفردي، وهي القاعدة الحاسمة التي تعزل نمط هذا التدين عن التدين القانوني (الفقهي والسياسي)، الذي يُخضِعْ الطقوس إلى مدونة قانونية مذهبية، والتدين الشعبي يكتفي بالعلاقة الروحية العمودية بأقل الطقوس العبادية التي تخلق له رضى وقناعة روحية بحرية وبسعة التواصل مع الغيب، ويشعر بإشباع روحي ونفسي بهذه الممارسة العبادية والعلاقة الإيمانية مع المطلق. وهو يخلو من قاعدة نظرية أو ايدلوجية تقف بوجه التقدم، ولم يتعلم المتدين الشعبي العبادات من الفقيه ولا من السياسي المتدين بل من بيته ومن اقرب الناس اليه.
ينتمي التدين الفقهي إلى فترة التدوين حيث كتب فقهاء المذاهب الشريعة تحت أنظار الحكومات المتعاقبة التي حولت الشريعة إلى قانونٍ للحكم، وحولت فقهاء الدين إلى قضاة، وحولت الشريعة إلى مذهبٍ تصبح به قاعدة أساسية تحكم به الدين، وتَضيّقت بهذا الشكل الديني فسحة الحرية واتسعت رقعة التكليفات الشرعية، وأصبح المسلم محكوما دينيا بالحاكم الذي سعى إلى الفوز بالإيمان والقداسة وأصبح أميرا للمؤمنين، وحول الطقوس إلى فعل جماعي يقف على رأسه وحول مفهوم الطاعة من الطاعة المقتصرة على الله إلى طاعة الحاكم أولا، ثم نَشرَ قيم التقليد الديني للحاكم أو من يمثله وتزايدت الأحكام الدنيوية المباشرة في هذا التدين على حساب الجزاء المؤجل إلى الآخرة.
لقد حدد فقهاء المذاهب هذا الشكل التديني المحدود الواقع بين حد الحرام والحلال، وقللوا من فسحة العقل، واعتمدوا على التلقين ضمن حدود المذهب وعلى تلاوة النصوص وحفظها وترديدها ووقف الاجتهاد، واقتصار الفهم على قدماء المفسرين، واقتصر سقف هذا التدين على الفقه وابتعد تدريجيا عن بحوث العقيدة والإلهيات، وخَلقَ ظاهرة الكفر الديني والعقوبات الدنيوية العديدة.
ولا ينتمي التدين السياسي إلى المنظومة الإيمانية، ولا إلى المنظومة التشريعية بل ينتمي إلى قاعدة سياسية عمادها المصلحة السياسية التي تستخدم الدين ضمن منظومة أيديولوجية، تحاول العبور به على المذهب، فهو يميل إلى تقديس التاريخ السياسي للخلافة الإسلامية، ويخلق مرجعية سياسية تمثل العصر الذهبي، هي مرجعية الخلافة الراشدة، ويعممها على نظام الخلافة في كل العصور وهو يعتبر أداءها السياسي هو القدوة والمثل الصالح الذي يجب الاقتداء به، ويعتبر الموقف السياسي أساسا لتعديل الموقف الديني، وهو لا يكتفي بالشهادتين في تحريم دم المسلم فيضيف لهما الموقف السياسي، فهو يكفر المسلم والكتابي واللاديني، ويضفي عليهم صفات جاهلية حديثة، ويجنح لا إلى القناعة الروحية بل إلى العنف والإرهاب والحلول القضائي مكان الله، ويميل هذا التدين إلى خلق شكل تنظيمي حديث مستورد من الغرب لكنه فارغ من القيم الحضارية، ويعتمد على الطاعة التامة والتقليد السياسي المنضبط، من خلال خلق شكل هرمي أو خيطي يعتمد على السريّة في النشاط والعمل، وعلى المال والإعلام ونسج شبكة واسعة من العلاقات السياسية المحلية والدولية، لا لنشر القيم الدينية بل لتوسيع القاعدة المادية للقفز إلى السلطة، وهو على استعداد للتنازل عن الشريعة أمام المصلحة السياسية، وتجده متلونا متغيرا لعوبا يجيد التخلي عن المبادئ وإخضاع الشريعة للمتطلبات السياسية، ويبتعد عن التأمل والبحوث الالهية والمنطق وعلم الكلام والفلسفة والثقافة العامة والفنون، ويميل إلى الاستخدام الايديولوجي النفعي للدين، فهو تدين قشري يسعى إلى اقتراح حضارة قشرية قوامها الاقتصاد الطفيلي، ويعتمد على الشكل أكثر من الجوهر، ويقتدي بأشد الوسائل التاريخية في التعامل مع الآخر المختلف، ويجعل من الجماعة حزبا معتمدا على التكتيك، ولا يبادر في التعريف والفصح عن أهدافه البعيدة، وعن شكل الدولة والنظام السياسي والموقف من السيادة والحريات والديمقراطية وحقوق الإنسان والمرأة والاقتصاد والنظام التعليمي والقضائي، فهو لا يريد أن يبدأ معركة خلافية مع الإسلام والمسلمين .
كان ظهور الحركة السياسية الإسلامية ردة فعل على انتشار الحداثة بكل أنماطها الماركسية والقومية، وأدى انقسام الهند على أساس ديني، وقيام الدولة الصهيونية، وتراجع حركة التحرر السياسي والفكري وفشل الحركة القومية، وتصاعد القمع الثقافي، وفقدان الحرية، وتفريغ الساحة من الإصلاحيين إلى خواء المنطقة أمام الحركة الدينية، وأسهم نجاح الثورة الإيرانية عام 1979 م في تعزيز الحركة السياسية الدينية، وشعرت الحركة الاسلامية بامكانية انتصار نموذجها الثوري والسيطرة على الحكم والاستحواذ على الدولة. كما توفرت عوامل موضوعية أخرى منها فشل السياسة التعليمية والاقتصادية والحروب الفاشلة والبطالة والزخم المالي الذي وفرته الدول الخليجية والدعم الدولي، وعلى رأسه الدعم الأمريكي والبريطاني. كما توفرت عوامل ذاتية مهمة أدت إلى انتشارها وتمددها شعبيا منها:
قوة وكفاءة تنظيماتها، وشجاعة قيادتها، وقدرة اعلامها وانتشاره ووصوله من خلال الفضائيات إلى البيوت، وتواصلها اليومي مع الناس من خلال المساجد، وامكانية خطبائها في إقتناص العبارات وتحريك المشاعر واستحضار الرموز الدينية والتاريخية، والتواصل مع لغة الجمهور اليومية المتداخلة مع العرف والتراث، لغة مزيجة من الصوفية والمثالية ونكران الذات، لغة مبنية على سلامة النحو والخطابة، حيث تتصاعد عاليا في روحية الخيال الجارف لتصنع واقعا حالما لكنه عاجز عن الولوج في المستقبل وبناء تصورات عنه .
بدايات صعبة
بدأ تداول مفهوم العلمانية في الشرق الأوسط والنقاش به بشكل واسع بعد نكبة حزيران 1967، حيث بدأ المشروع القومي يضعف ويعجز عن حل مشاكله ومشاكل المجتمع. وبدأ التيار الديني منذ ذلك الوقت يملأ الفراغ الذي تركه الفكر القومي، وبدأت بعض فصائله الاندماج مع المشروع الإسلامي، وقد وصل المصطلح إلى المنطقة ضعيفا تمت محاربته ونزع شوكته، فقد هاجمه جمال الدين الأفغاني في كتابه الرد على الدهريين قبل أن تتعرف عليه وتسمع به شعوب المنطقة، ودون وجود - أو بالأحرى - ضعف القاعدة الفكرية أو السياسية التي تتبناه، فانفردت به أحزاب الإسلام السياسي التي عرفت ما فعلته العلمانية في أوربا بالكنيسة، وتأهبت لهذا القادم الجديد وتجهزت بأسلحة تكفيرية تمنعه من الوصول إلى حدودها، وصنعت منه حسب مزاجها ايدولوجيا معادية وفكرا سياسيا لصقته ببعض الأحزاب القومية واليسارية، وحمّلته شتى التهم، و ربطته بفشل التجربة القومية وتخلف منطقتنا التي لم تلتزم بالدين كما يجب، وهي تدري سبب عداوتها للعلمانية الهادفة إلى تحييد الدولة في الشأن الديني والأيديولوجي، وفصل السياسة عن المؤسسة الدينية، وفصل القانون عن الفتوى، وبالتالي تَتقاطع مسيرتها مع أهداف أحزاب الإسلام السياسي التي تريد السيطرة على السلطة باسم الإسلام .
لقد نجحت تلك الأحزاب في تشويه فكرة العلمانية دون أن يدافع عنها أحد، فقد عرفها محمد عمارة ( بأنها المقابل لما هو ديني) أو أنها مؤامرة غربية، وهي نتاج يهودي، وهي جزء من التخريب الاستعماري، وأن هدفها فصل الدين عن شتى نواحي الحياة والمجتمع، وهي القنبلة التي سيفجرها الغرب الصليبي في عقول المسلمين، وتمكنت الأحزاب الإسلامية من اشاعة مفهوم كفر العلمانية بين الاوساط الشعبية، حتى إن مفكرا من وزن محمد عابد الجابري اعتبر العلمانية من صناعة الفكر المسيحي العربي، ويجب إبعادها من قاموس الفكر العربي وتعويضها بشعاري الديمقراطية والعقلانية، وقال إن معنى العلمانية هو فصل الكنيسة عن الدولة، والإسلام ليس فيه كنيسة كي نفصله عن الدولة، وعندما انتبه العلمانيون مؤخرا إلى هذه الحقيقة وجدوا أمامهم ارثا تكفيريا كبيرا ومقاومة عنيفة في بلدانهم، إن أبعاد العلمانية والدين عن الصراعات السياسية وتحييدهما يخدم السياسة والدين والمجتمع ويوفر على الناس صراعات لا فائدة منها .