تشرين1/أكتوير 11

    تنطلق أغلب القراءات الحديثة للفلسفة الاسلامية بعامة ومنها فلسفة الفارابي من مرجعية يونانية، وفيما يخص الفارابي وفلسفته السياسية يجري دائما مقارنته بكتاب الجمهورية لأفلاطون بل ويتخذونه مرجعية في تفسير آراء الفارابي في السياسية وفي الاجتماع الانساني . مثلا حين يتحدثون عن صفات الرئيس الأول المؤسس للمدينة الفاضلة فهو الفيلسوف كما يذهب الدكتور ابراهيم مدكور بالرغم من وقوفه على نصوصٍ صريحةٍ للفارابي تتقاطع مع هذه القراءة. وقد شايعه بهذا الرأي كل من المستشرق رتشارد فالزر والمستشرق ت. ج.  دي بور وهنري كوربان وحتى الدكتور محسن مهدي أستاذ الدراسات الفارابية بلا منازع أخذ بهذه القراءة . كما أن أغلب هذه الدراسات لم تتوقف بشكل جدي عند مرحلة غياب الرئيس المؤسس للمدينة الفاضلة وهي الأهم في اعتقادنا لأن وجود هذا الرئيس يشكل مرحلة محدودة وقصيرة جداً من حياة هذه المدينة الفاضلة، وتكرار وجود مماثلين له في الخصائص والصفات بحسب الفارابي نفسه من النوادر وإن تكرّر، سيكون لمرة واحدة على الأغلب. إذاً ما مصير المدينة الفاضلة بعد غياب مؤسسها؟ وما هو شكل الحكم فيها؟  وكيف يمكن الحفاظ على وجودها وعدم انحرافها إلى مضاداتها (المدن الجاهلة) بعد غياب مؤسسها؟ هذه الأسئلة لم يتوقف عندها الباحثون كثيراً لأن المرجعية التي يرتكزون عليها لا تعينهم في الإجابة عليها.  أن استمرار وجود المدينة الفاضلة عند أفلاطون يتوقف على وجود الفيلسوف، طالما يوجد حكيم يحكم المدينة... المدينة باقية وسننها مستمرة وتغيب أو تتحول إلى مضاداتها بغيابه فقط، أما عند الفارابي فالأمر مختلف تماماً. أن نصوص الفارابي صريحة لا لبس فيها في هذه المسألة فهي تتحدث عن خصائص وصفات خاصة لمؤسس المدينة الفاضلة لا تتوافر في حد الفيلسوف من أهمها مهاراته في إدارة الشأن العام وسياسة الجماعة ومهاراته أو قدرته على مخاطبة جميع الناس الخاصة والعامة المتعلم وغير المتعلم  واقناعهم وتوجيههم الوجهة التي تحقق أغراضه بالإقناع أو بالقهر. هذه مهارات تتطلب اتخاذ قرارات مناسبة في زمان ومكان معينين تناسب الواقعة، وهذه مهنة خاصة لا يجيدها إلا من تمرس على مهنة الملكية، كما تحدثت نصوصه عن مرحلة غياب الرئيس الأول الفاضل المؤسس للمدينة الفاضلة، وتقدمُ شروطا يجب توافرها في من يحكم المدينة بعد غياب مؤسسها، بضمنها أن يكون حكيما فيلسوفاً، فضلاً عن مهارات أخرى مثل جودة الحفظ واستنباط الأحكام الجزئية من نواميس واضع الشريعة والقياس على أحكام جزئية سابقة وتكييف الأحكام الجديدة بحسب نواميس الملة التي ينتمي إلها كما يتطلب منه أن يكون حسن الظن بالملة التي ينتمي إليها  .. الخ من شروط لا تدخل في حد الفيلسوف. 

مقدمة منهجية لا بد منها

 إن النظرية أي نظرية، هي جواب مقترح على مشكل أو سؤال مطروح داخل سياقه الثقافي الذي ينتمي إليه منتجها، وفهم النظرية وبخاصة الفلسفية، فهما سليما يتطلب منهجياً مراعاة ثلاث قضايا مهمة يصطلح عليها حسام الآلوسي بالدوائر الثلاث وهي :

  1. الدائرة الكبرى: دراسة المشكلة في سياقها التأريخي الفلسفي العام.
  2. الدائرة الوسطى: قراءة جواب الفيلسوف داخل سياقه الثقافي والاشكالية المركزية الحاكمة في عصره.
  3. الدائرة الصغرى: محاولة تحديد موقع الفيلسوف ضمن الصراعات الاجتماعية والسياسية الفاعلة في عصره ومجتمعه.

وايجازا يمكن القول أن المشكلة موضوع بحثنا هي: كيف يمكن أن نؤسس للاجتماع الفاضل ؟ وابرز الاجابات عليه في تاريخ الفلسفة هو جواب افلاطون ومفاده أن الاجتماع الفاضل هو الاجتماع العادل . تحقيق العدالة وانزال الناس منازلهم التي يستحقونها ومثله كان جواب أرسطو وإن اختلفا في كيفية وآليات تحقيق العدالة. أما جواب الفارابي فمفاده تحقيق السعادة القصوى لجميع مواطني المدينة الفاضلة.

أما السياق الثقافي لنص الفارابي فهو المجتمع العربي الاسلامي في العصر الوسيط، والاشكالات المثارة في زمانه في مجال الاجتماع الانساني فكانت تتمحور حول ثلاث قضايا هي:

  1. بيان حدود العقل ومجال الوحي، ما الحدود المعرفية للوحي وما هي الحدود المعرفية للعقل؟.
  2. مشروعية السلطة السياسية، ما هي معايير شرعية الحاكم الاسلامي؟.
  3. وحدة الأمة اجتماعياً وسياسياً، كيف يمكن اعادة توحيد المجتمع العربي الاسلامي الذي مزقته تعدد الملل والطوائف والنحل ؟. وهذه القضية هي كما بينا في دراسة سابقة تعد الإشكالية المركزية في الثقافة العربية الاسلامية التي أثرت على مجمل نشاط مفكرينا وآرائهم الفكرية الأخرى. كما أنها حددت أجوبتهم على القضيتين الأولى والثاني .. مسألة الوحي والعقل وحددت أيضا مجالها المعرفي كما حددت إجابتهما على مشروعية السلطة السياسية وتحديد معاييرها.

الدائرة الصغرى: ما علاقة الفارابي بإشكالية التوحيد في الثقافات العربية الإسلامية؟ ما علاقته بسؤال مشروعية السلطة ووحدة الأمة؟. أليس هو الأعجمي المعني بإحياء تراث أجداده؟ كما يذهب بعض باحثينا المعاصرين في قراءته لفلسفة ابن سينا. أم أن أبواه الفارسي والتركي حرراه من الإنتماء القومي العرقي نحو الفضاء الأوسع؟

نطرح هذه الأسئلة كي نزيل منذ البداية الفهم الخاطئ عند قراءة نصوصنا الفلسفية من تراثنا بعامة والفلسفي بخاصة. إن هذه الاسئلة من نتاج ثقافتنا العربية المعاصرة لم تكن معروفة قبل القرن التاسع عشر وعليه من الضروري إقصاء المستحدث في ثقافتنا المعاصرة عند قراءة نصوص الفارابي السياسية كي لا تكون عائقاً معرفيا في فهم وتفسير نصه الفلسفي. والفارابي بعده مثقفاً نقدينا غير مغترب عن وسطه الثقافي كان معنياً بالاجبابة عن ما يثيره هذا الوسط من اشكالات فكرية ومن أهما مسألة شرعية السلطة السياسية ووحدة الجماعة وشكل الاجتماع الفاضل وما سنقدمه يمثل ايجازا لأجوبته على هذه الأسئلة قدمها من موقع المنتصر للحق والخير والجمال الذي يرى أن شرعية السلطة تستمد من خصال ومهارات يحتاجها الحاكم لأداء وظيفته الاجتماعية ليس منها العرق والقوم.

الفارابي والتأسيس الفلسفي للسياسة الملية 

أولاً: أنواع الاجتماعات عند الفارابي

يرى الفارابي أن الإنسان كائن اجتماعي بطبعه، لا يستطيع أن يعيش بمفرده بل دائما يحتاج الى بني جنسه لتلبية متطلبات عيشه لهذا نراه دائما يعيش ضمن جماعة بشرية. والجماعات البشرية بعامة صنفها الفارابي إما بحسب حجمها وإما بحسب غاية اجتماعها.

(1) الصنف الأول من حيث حجمها تنقسم الى قسمين رئيسين هما:

أ- الاجتماعات الناقصة: هي كل اجتماع لا يلبي احتياجات الإنسان الكاملة ويحتاج لذلك للإعتماد على إجتماعات أخرى خارجة عنه وهذا النوع من الإجتماعات يكون دائماً دون المدينة مثل القرية والسكة والمحلة والمنزل هي اجتماعات ناقصة لا تلبي لوحدها كل احتياجات الانسان.

ب- الاجتماعات الكاملة (1) : هي كل اجتماع بشري يكتفي بذاته ويستغني عن غيره من الجماعات البشرية، أصغرها المدينة وأعظمها هو إجتماع الأمم على مستوى المعمورة وأوسطها إجتماع أمة في جزء من المعمورة وكل اجتماع دون المدينة مثل القرية والسكة والمحلة والمنزل هي اجتماعات ناقصة لا تلبي لوحدها كل احتياجات الانسان بل ستحتاج بالضرورة الى اجتماعات أخرى لاشباع حاجاتها. وبعبارة أخرى أن المدينة هي أصغر وحدة للإجتماع الكامل. والمقصود بالمدينة ليس دلالتها الإدارية الحديثة بل يقصد بها ما كان معروفاً في الحضارة اليونانية القديمة دولة المدينة city state مثل أثينا واسبرطة  أو في الحضارة العراقية القديمة مثل أوروك ولكش  أو عند العرب قبل الإسلام مثل مكة ويثرب وهذا النوع من المدن يضم في الغالب إضافة الى مركز المدينة أريافا ومزارعا ومراعي (قرى) تحيط بها وتُؤمّن لها الغذاء. هذا النوع من الإجتماعات الكاملة دولة المدينة يصطلح عليه الفارابي بالإجتماعات الصغرى، أما الإجتماعات الأكبر وهي الوسطى ويقصد به إجتماع الأمة أو بعض الأمم في جزء من المعمورة واجتماع الأمة يضم طبعاً عدد من المدن المتحدة تحت نظام سياسي واحد تحت ملة واحدة والإجتماع الأعظم هو اجتماع المعمورة على ملة واحدة.

(2) الصنف الثاني للاجتماعات البشرية هو بحسب غاية اجتماعها. ومن يحدد غاية الإجتماع هو الرئيس الأول إلذي له الدور الأبرز في توحيد الجماعة الكاملة على غاية وهدف واحد من خلال ملة يرسمها لهم . والملة هي مجموعة من الأقوال والأفعال يضعها الرئيس المؤسس للمدينة ويفرضها على الجماعة التي ينتمي إليها إما بالإقناع أو بالقهر كما سنبين ذلك لاحقاً. ويصنف الفارابي هذا النوع من الأجتماعات بحسب الملة والغاية التي اجتمعت عليها الجماعة الى صنفين هما:

أ- الإجتماع الأول: وهو الأجتماع الفاضل، وهو الإجتماع الذي غايته تحصيل السعادة القصوى للجميع. قد يكون مدينة فاضلة وهو أصغر اجتماع وقد يكون مجموعة مدن من أمة واحدة أو مجموعة أمم تجتمع على ملة فاضلة واحدة ، وقد يكون اجتماع الأمم كلها على مستوى المعمورة كلها تجتمع على ملة فاضلة واحدة.

ب- الإجتماع الثاني: وهو الاجتماع الفاسد وهو كل إجتماع كامل تكون غايته تحقيق أغراض وغايات ضالة وفاسدة قد تكون خاصة فقط بمؤسس المدينة مثل المجد والشهرة والمال ، وقد تكون له ولأتباعه من أبناء المدينة، لكنها أغراض وغايات غير فاضلة ولا تحقق السعادة القصوى لهم.   

 وكل اجتماع كامل، سواء كان فاضلا أم غير فاضل، يتطلب توافر ثلاثة شروط رئيسة لإيجاده وهي:

  1. الشرط الأول والأهم هو وجود الرئيس الأول المؤسس للاجتماع الكامل.
  2. الشرط الثاني وجود جماعة بشرية تعيش في مدينة أو مجموعة مدن تتشكل منها أمة أو مجموعة أمم على مستوى المعمورة.
  3. الشرط الثالث أن تكون لهم عقيدة أو ملة مشتركة يتوافقون عليها.

والشرط الأهم من بين هذه الشروط الثلاثة هو الأول أي شرط توافر رئيس مؤسس للمدينة أو الجماعة الكاملة لأنه هو من يضع أو يحدد غاية الإجتماع ويضع نواميسه للجماعة وهو من يَحْمِلْ الجماعة على الخضوع والانقياد لهذه النواميس سواء بالاقناع أو بالقهر. فقد تكون غايته تحصيل السعادة لكل أفراد الجماعة وهو الاجتماع الفاضل وقد تكون غايته تحقيق غايات خاصة به (أي بالرئيس الأول) دون الجماعة وقد تكون تحقيق غايات لهم ولكن ليس غايات فاضلة. يقول الفارابي  "الرياسة ضربان: رياسة تمكن الأفعال والملكات الإرادية التي أن يُنال بها ما هو في الحقيقة سعادة ، وهي الرياسة الفاضلة، والمدن والأمم المنقادة لهذه الرياسة هي المدن والأمم الفاضلة. ورياسة تمكن في المدن الأفعال والشيم التي تنال بها ما هي مظنونة أنها سعادات من غير أن تكون كذالك وهي الرياسة الجاهلة(2).

ولإهمية مؤسس المدينة أو الإجتماع الكامل وبخاصة الإجتماع الفاضل . يتوقف الفارابي طويلاً عند هذه المسألة لأنها مرتبطة بالجواب عن سؤال شرعية السلطة السياسية.  لهذا نرى الفارابي يحاول التأسيس المعرفي لها بقصد منحها المعقولية. وقد سبق لنا أن عالجنا هذه المسألة بالتفصيل في بحثنا الموسوم نظرية النبوة عند الفارابي(3) ولا نرى حاجة لتكرار ذلك وسنكتفي هنا بذكر المهم منها المرتبط بموضوعنا الحالي.

ثانياً: الفيلسوف والنبي معرفياً

    يعرض الفارابي في كتبه السياسية مثل كتاب "السياسة المدنية" و كتاب "آراء أهل المدينة الفاضلة" المراتب العليا التي يمكن أن يصل إليها الإنسان ويكشف لنا الفارابي تفاوت وتفاضل في مراتب الناس بحسب فطرهم واستعدادهم وكذلك صبرهم ومطاولتهم وطول تمرنهم على تحصيل المعارف. منهم من تكون قوته المتخيلة قوية لا تستغرقها تماما المحسوسات الواردة عليها من الخارج ولا خدمتها للقوة العاقلة بل يكون لديها فضل قوة، على حد تعبير الفارابي، تشتغل فيها وتقبل من العقل الفعال الجزئيات الحاضرة والمستقبلة. ومنهم من يستقبلها في يقظته ومنهم من يستقبلها في نومه فقط ومنهم من يستقبلها في الحالتين. منهم من تبقى قوته المتخيلة قوية نشيطة طوال حياته ومنهم قد تزول لأسباب وعوارض مختلفة. وأعلى مرتبة يمكن أن يصل إليها إنسان في قوته المتخيلة هم المتنبئين وأصحاب الرؤى الصادقة.

   يقول الفارابي  "ولا يمتنع أن يكون الإنسان، إذا بلغت قوّته المتخيّلة نهاية الكمال، فيقبل، في يقظته، عن العقل الفعّال، الجزئيات الحاضرة والمستقبلة، أو محاكياتها من المحسوسات، ويقبل محاكيات المعقولات المفارقة وسائر الموجودات الشريفة، ويراها، فيكون له بما قبله من المعقولات، نبوّة بالأشياء الإلهية، فهذا هو أكمل المراتب التي تنتهي إليها المتخيّلة، وأكمل المراتب التي يبلغها الإنسان بقوّته المتخيّلة"(4) في هذا النص يتحدث الفارابي عن القوة المتخيلة وما يمكن أن تصله من كمال وتمام وفاعلية نراها متحققة عند الانبياء ويمكن أن توجد عند المتنبئين أو الصوفية والشعراء وغيرهم، ولكن هؤلاء دون هذه الرتبة فبعضهم كما أشرنا يرى في يقظته أو في نومه ومنهم من يتخيلها في نفسه ولا يراها ببصره وكل هؤلاء يعبّرون عن ذلك بأقاويل محاكية ورموز والغاز وتشبيهات، ومنهم من يفسد مزاجه فيرى أشياء لا وجود لها مثل المجانين واشباههم.أما الانبياء الرسل فإنهم يمتازون عن هؤلاء بقدرات أخرى لا يتصف بها غيرهم ممن بلغت قوته المتخيلة تمامها. وهي تمام قوته العاقلة أيضاً وهي أعلى مرتبة يصلها الأنسان الذي يصفه الفارابي أنه النبي الفيلسوف والفيلسوف النبي وهو ذاته الرئيس الأول للمدينة الفاضلة.

   يقول الفارابي عند حديثه عن صفات وشروط الرئيس الأول وبما يعزز هذا الفهم "إذا جعلت الهيئة الطبيعية (القوة الناطقة) مادّة العقل المنفعل الذي صار عقلا بالفعل، والمنفعل مادّة المستفاد، والمستفاد مادّة العقل الفعال، وأخذت جملة ذلك كشيء واحد، كان هذا الإنسان هو الإنسان الذي حلّ فيه العقل الفعّال.

وإذا حصل ذلك في كلا جزئي قوّته الناطقة، وهما النظرية والعملية، ثمّ في قوّته المتخيّلة، كان هذا الإنسان هو الذي يوحى إليه، فيكون الله عزّ وجلّ يوحي إليه بتوسّط العقل الفعّال، فيكون ما يفيض من الله، تبارك وتعالى، إلى العقل الفعّال، يفيضه العقل الفعّال إلى عقله المنفعل، بتوسّط العقل المستفاد، ثمّ إلى قوّته المتخيّلة، فيكون بما يفيض منه إلى عقله المنفعل حكيما فيلسوفا ومتعقّلا على التمام، وبما يفيض منه إلى قوّته المتخيّلة نبيّا منذرا بما سيكون، بما هو الآن من الجزئيات بوجود يعقل فيه الإلهيّ، وهذا الإنسان هو في أكمل(5) مراتب الإنسانية، وفي أعلى درجات السعادة . وتكون نفسه كاملة متحدة بالعقل الفعال، ...  وهذا الإنسان هو الذي يقف على كل فعل يمكن أن يبلغ به السعادة . فهذا أول شروط الرئيس"(6).

 يتحدث الفارابي في النص الثاني عن مرتبة أعلى من تلك التي تناولها النص الأول وهي كما يقول أكمل مرتبة يمكن أن يصل إليها إنسان.  ففي الحالة الأولى تمثل تمام وكمال القوة المتخيلة فقط، أما الثانية تمثل كمال وتمام كلا قوتيه المتخيلة والعاقلة لذلك وصفه بصفتين هما الحكمة والنبوة وهذا الانسان هو الفيلسوف والنبي، لكونه قادراً على إدراك المعرفة بذاتها بقوته العاقلة التي بلغ فيها حد الكمال كما يمكنه التعبير عن تلك الحقائق بمثالاتها لأنه أيضا قد بلغت قوته المتخيلة درجة الكمال الذي لا زيادة بعدها معرفياً. وهذا هو أول شرط من شروط الرئيس الأول للمدينة الفاضلة.

 يضيف الفارابي، بعد ذلك، شرطاً ثانيا ضرورياً لمن يتولى مهام تأسيس المدينة الفاضلة وهو الشرط الذي لم يتنبه إليه دارسوا فلسفة الفارابي السياسية، لذلك لم يميزوا بدقة بين دلالة الفيلسوف الذي يمكن أن يكون ضمن الرؤساء الثواني وبين الرئيس الأول مؤسس الملة الفاضلة والذي يشترط فيه مهارات أخرى تمكنه من إداء مهامه الإجتماعية والسياسية وليس فقط المعرفية.  يقفول الفارابي " ثم أن يكون له مع ذلك قدرة بلسانه على جودة التخيل بالقوة لكل ما يعلمه، وقدرة على جودة الارشاد الى السعادة والى الاعمال التي بها تبلغ السعادة وأن يكون له مع ذلك جودة ثبات ببدنه لمباشرة أعمال الجزئيات"(7).

يتحدث الفارابي في هذا النص عن شرطين ضروريين لمؤسس المدينة الفاضلة هما:

الأول: معرفة نظرية تتحقق باكتمال كلا قوتيه العاقلة والمتخيلة

والثاني: مهارات عملية وهي:

  1. أن تكون له قدرة بلسانه (قدرات تعبيرية وتخيلية) لكل ما يعلمه .
  2. أن يمتلك مهارة الإرشاد إلى السعادة وتحديد الأعمال التي بها نبلغ السعادة.
  3. وأن تكون له جودة ثبات ببدنه لمباشرة أعمال الجزئيات. أي أن يمتلك مهارات بدنية لتنفيذ وتطبيق ما يجب من أعمال تفصيلية جزئية تحقق السعادة بالنتيجة.

هذا هو الرئيس الفاضل الذي لا يرأسه إنسان مطلقاً  "وهو الإمام وهو الرئيس الأول للمدينة الفاضلة وهو رئيس الأمة الفاضلة ورئيس المعمورة من الأرض كلها"(8).

أن هذه الرتبة التي نتحدث عنها عن هذا الإنسان تتطلب توافر  إثني عشرة خصلة أخرى حتى يمكنه أن يكون بالحال التي وصفناها بحسب الفارابي وهي:

1 – أن يكون تام الأعضاء

2 – أن يكون بالطبع جيد الفهم والتصور ،

3-  جيدا الحفظ لما يفهمه ويدركه

4 – جيد الفطنة ذكيا

5 – حسن العبارة

6 – محبا للعلم والاستفادة منقادا له سهل القبول

7 – غير شره فى المأكول والمشروب والمنكوح

8 – محبا للصدق واهله مبغضا للكذب واهله

9 – كبير النفس محبا للكرامة

10 – أن يكون الدرهم والدينار وسائر اغراض الدنيا هينة عنده

11 – ان يكون بالطبع محبا للعدل واهله مبغضا للجور والظلم وأهلهما وان يكون عدلا غير صعب القيادة ولا جموحا ولا لجوجا اذا دُعيَ الى العدل بل صعب القيادة اذا دُعي الى الجور والى القبيح.

12 – قوى العزيمة على الشيء الذي يرى انه ينبغي ان يفعل، جسورا عليه مقداما غير خائف ولا ضعيف النفس.

  الصفات التي يذكرها الفارابي هنا، تنطبق تماما على ما يصفه بالإمام الموحى إليه والفيلسوف الكامل والرئيس الأول الفاضل وهو غير النبي الفيلسوف الذي توقف عند تمام قوتيه المتخيلة والعاقلة، أما المرتبة العليا التي تُعَد كمال ما يمكن أن يحصل عليه الإنسان بتمام قوتيه العقلية والمتخيلة فضلا عن ذلك مهارات وقدرات عملية منها ما هو فطري، ومنها ما هو مكتسب بالخبرة العملية وطول مزاولة للمهنة الملكية كما يصرح بذلك في كتابه الملة حيث يرى إن المهنة الملكية الفاضلة هي مهنة الرئيس الأول بحق تتطلب تحصيل الرئيس الأول على "قوتين إحداهما القوة على القوانين الكلية . والأخرى القوة التي يستفيد منها الإنسان بطول مزاولة الأعمال المدنية وبممارسة الأفعال في الآحاد والأشخاص في المدن الجزئية والحنكة فيها بالتجربة وطول المشاهدة"(9). أي أن يحصل على تمام وكمال قدراته المعرفية بكمال قوتيه العاقلة والمتخيلة ثم أن يمتلك القدرة والمهارة على إتخاذ قرارات تناسب الموقف الآني الذي هو فيه لا تتقاطع مع الغاية القصوى وهي قيادة الناس وإرشادهم لتحصيل السعادة. وفي نص آخر من كتاب إحصاء العلوم يقول الفارابي معززاً ما ذكرناه في النص السابق "إن المهنة الملكية الفاضلة تلتئم بقوتين: إحداهما القوة على القوانين الكلية. والأخرى القوة التي يستفيد منها الإنسان بطول مزاولة الأعمال المدنية وبمزاولة الأفعال في الأخلاق والاشخاص ... والحنكة فيها بالتجربة وطول مشاهدة"(11،10).

يتحدث الفارابي في هذه النصوص وغيرها الكثير وبما لا لبس فيه عن ثلاث خصال متدرجة يجب أن يمتلكها الفيلسوف الكامل والرئيس الأول الفاضل هي:

  1. حصوله على الفضائل النظرية (الفلسفة النظرية)
  2. له القدرة على جودة إدراك على الفضائل العملية ببصيرة يقينية (الفلسفة العملية – السياسة والاخلاق). ومن يحصل على هاتين المرتبتين فهو الفيلسوف بالمعنى العام.
  3. أن تكون له القدرة على إيجادها جميعاً في الأمم والمدن بالوجهة والمقدار الممكنين في كل واحدة منهم طوعاً أو كرهاً. وهذا هو الفيلسوف الحق وعلى الإطلاق أو الفيلسوف الكامل والرئيس الأول، وهو الشرط الأهم الذي لم ينتبه إليه أغلب الباحثين في فلسفة الفارابي السياسية.

وفي كتابه الملة يذكر الفارابي نصاً صريحاً لا لبس فيه يتضمن ما ذكرناه من شرطي المهنة الملكية الفاضلة أو الرئاسة الأولى الفاضلة. يقول الفارابي  "أن المهنة الملكية الفاضلة الأولى لا يمكن أن تكون أفعالها عنها على التمام إلا بمعرفة كليات هذه الصناعة بأن تُقرَن إليها الفلسفة النظرية وبأن ينضاف إليها التعقل(12). ويعرف التعقل بقولة "هو القوة الحاصلة عن التجربة الكائنة بطول مزاولة أفعال الصناعة في آحاد المدن والأمم ... وتلك هي القدرة على جودة استنباط الشرائط التي تُقدر بها الأفعال والسير والملكات بحسب جمع جمع ومدينة مدينة أو أمة أمة، ... وإن هذه هي التي تلتئم بها المهنة الملكية الفاضلة الأولى"(13). أما الرؤساء الثواني فهم بحسب الفارابي لا يحتاجون إلى كل هذه المهارات الضرورية لواضع الملة الفاضلة يقول الفارابي "أما التابعة لها التي رئاستها سنية فليس تحتاج إلى الفلسفة بالطبع"(14). وننبه قارئنا الفاضل على قوله أن الرئاسة السنية ويقصد بها الرئاسة التي تأتي بعد المؤسس الأول ولا يتصف بصفاته فهذه الرئاسة لا تحتاج الى الفلسفة بالطبع!

ثالثاً: الملة

يعرف الفارابي الملة بقوله   "آراء وأفعال مقدرة مقيدة بشرائط يرسمها للجمع رئيسهم الأول، يلتمس أن ينال باستعمالهم لها غرضاً له فيهم أو بهم محدوداً. والجمع ربما كان مدينة ... وربما كان أمماً كثيرة"(15).

وهذه الآراء والأقوال تتناول بحسب الفارابي موضوعين رئيسين هما آراء نظرية تتناول الذات الإلهية وتوصف به والموجودات الروحانية واوصافها ومراتبها وفعلها والخلق وكيف تكون .. الخ من موضوعات في العالمين الروحاني والهيولاني المادي ومنها الانسان .. خلقه ومصيره. والموضوع الثاني يتناول من الموضوعات الملية الموحى بها هي قصص وأخبار الأولين من ائمة الهدى والرؤساء الأوائل الأبرار منهم وكذلك الفجار وما هي مصائرهم واخبار أممهم. أما الأفعال الملية فتتلخص في كيفية تعظيم الله وتمجيده وتقدير الرؤساء الأوائل فضلاً عن معاملات الناس فيما بينهم بالعدل والاحسان وإدارة الفرد لنفسه (16). وكل هذه الآراء والأفعال غايتها تنظيم وتوحيد حياة الجماعة بما يلبي حاجاتهم ويحقق سعادتهم الحقيقية. أي أن الملة هي خطاب موجه لكل الناس على مختلف مستوياتهم واستعداداتهم المعرفية، لهذا كان من الضروري عند الفارابي أن يكون الرئيس الأول ماهرا في اساليب البيان والجدل والخطابة والتخيل وليس فقط البرهان لأن مهامه هي إجتماعية سياسية وليس فقط معرفية كما سنرى.

إذاً البعد الأهم في مفهوم الرئيس الأول وحتى الرؤساء الثواني الذين يأتون بعده هو البعد الاجتماعي السياسي. بوجوده تلتئم الجماعة وتأتلف وتنتظم جهودها وتتوزع نشاطاتها بما يشبع حاجاتهم ويحقق مقاصد الرئيس، وبغيابه ينفرط عقد الجماعة ويتشتت الى مجموعات صغيرة ناقصة متناحرة لا تحقق متطلبات الاجتماع الكامل، لأن الرئيس هو من يضع الملة للجماعة وبها يجمعهم على مقصد وهدف واحد. يقول الفارابي إن الرئيس "هو السبب أن تحصل المدينة وأجزاؤها، والسبب أن تحصل الملكات الإرادية التي لأجزائها في أن تترتب مراتبها ، وإن اختل منها جزء كان هو المرفد له بما يزيل عنه اختلاله"(17).

   إن الملة كما قلنا هي أقوال وأفعال يضعها الرئيس الأول للجماعة غايتها تنظيمهم وتوحيدهم لتحقيق مقاصده. قد تكون هذه المقاصد لتحقيق سعادته دونهم أو تحقيق أغراض جاهلية له ولهم مثل الغلبة واليسار، وقد تكون غايته فاضلة يقصد تحصيل السعادة الحقيقية لهم. ويسمى الرئيس الأول في الحالة الأخيرة الرئيس الفاضل ورئاسته رئاسة فاضلة وملته ملة فاضلة. والرئيس الفاضل هو نبي مرسل وفيلسوف كامل، كما أوضحنا ذلك سابقاً والملة التي يشرعها تكون مقرونة بوحي من الله إليه (18). وجميع أقواله وآرائه وأفعاله هي إما مقدرة بوحي من الله مباشرة أو قدرها هو بالقوة التي استفادها من الوحي (العقل الفعال) وقد يجمع بين الحالتين بعضها مقدر بوحي مباشر والبعض الأخر قدرها هو (بالقوة التي استفادها هو عن الوحي ...)(19). والنبي الموحى إليه لا يستعمل الأساليب البرهانية اليقينة في دعوته للناس بل الأساليب التخيلية الجدلية والخطابية أي البيان والتمثيل والتشبيه لآن منزلة المخاطبين من جماعته غير منزلة الفلسفة إما بطبعهم وإما لأنهم غير متفرغين لتعلمها. لذلك صار من الضروري اعتماد هذه الأساليب لنصرة آراء الملة ورفع كل شبهة عنها بينهم. أي أن الرئيس الأول الفاضل يراعي في خطابه مستوى المخاطبين ولكن هذا لا يعني أننا لا نستطيع التمييز بين آراء الملة الفاضلة عن غيرها من الملل الفاسدة. فالآراء الواردة في خطاب الرئيس الأول الموحى إليه هي كما يقول "إما حق وإما مثال الحق، والحق بالجملة ما تيقن به الإنسان إما بنفسه بعلم أول، وإما ببرهان"(20).  وكل ملة لا يمكن التثبت من صدق آرائها بعلم أول ولا ببرهان هي ملة ضالة فاسدة. وبكلمة أخرى أن خطاب الملة وبالرغم من أنه يعتمد الأساليب الجدلية والخطابية لا يختلف معرفياً عن الخطاب البرهاني في الفلسفة إلا بالدرجة وليس بالنوع فالملة تعبر عن الحقائق بمثالاتها في حين أن الفلسفة تعبر عن الحقائق بذاتها. 

رابعاً: المدينة الفاضلة بعد غياب مؤسسها

    أشرنا إلى أن الدراسات الحديثة عن الفارابي لم تتوقف بشكل جدي عند هذه المرحلة وهي باعتقادنا الأهم، لأن الرئيس الأول الفاضل هو شخص لا يجود به الزمان دائما كما يرى الفارابي وظهور مثل هذه الشخصيات يكون نادراً والأندر أن يتسلسل ظهوره في الأمة الواحدة(21). لهذا يكون الحديث عن ادارة المدينة بعد غياب المؤسس أمر في غاية الأهمية لأن عمر المدينة بعد غيابه هو الأطول زماناً بحكم البديهة.

ما رأي الفارابي في هذه المسألة ؟

يضع الفارابي ثلاثة احتمالات لمرحلة غياب مؤسس المدينة الفاضلة لا رابع لها وهي:

      الأول: أن يتوافر شخص له الخصائص والصفات ذاتها التي تتوافر في الرئيس الفاضل المؤسس الأول.  وهذا الإحتمال عند الفارابي نادر الحصول ولكن يفترضه. في هذه الحالة يتولى هذا الشخص رئاسة المدينة وتكون له صلاحيات كاملة في المضي على تشريعات ونواميس المؤسس الأول أو أن يعدلها أو أن يأتي بشريعة وملة جديدة بحسب ما تقتضيه حال المدينة فهو مثل الأول له مهارات الإدارة الناجحة التي تحقق غاية أهل المدينة في تحصيل السعادة القصوى التي يبتغونها.

يقول الفارابي "فإن وجد مثل هذا في المدينة الفاضلة ثم حصلت فيه بعد أن يكبر، تلك الشرائط الست المذكورة قبل أو الخمس منها دون الأنداد من جهة المتخيلة كان هو الرئيس"(22).

الاحتمال الثاني: أن لا يوجد شخص يتصف بخصال الفيلسوف على الإطلاق أو الكامل  أي لا يوجد شخص اكتملت لديه كلا قوتيه العاقلة والمتخيلة درجة الكمال، وله في الوقت ذاته المهارات الفطرية والمكتسبة بالخبرة العملية لإرشاد الناس.

 في هذه الحالة يمكن لهذه المدينة أن تواصل مسيرتها الفاضلة إذا توافر فيها شخص يتصف بخصال ست يرى الفارابي أنها ضرورية في الحفاظ على ما تركه المؤسس الأول من سنن وتشريعات وهي:

  1. أن يكون حكيماً .
  2. أن يكون عالماً حافظاً للشرائع والسنن والسير التي دبرها الأولون للمدينة محتذيا بأفعاله كلها حذو تلك بتمامها .
  3. أن يكون له جودة استنباط فيما لا يُحفظ عن السلف فيه شريعة ويكون فيما يستنبطه من ذلك محتذياً حذو الأئمة الأولين.
  4. أن يكون له جودة رؤية وقوة استنباط لما سبيله أن يُعْرَف في وقت من الأوقات الحاضرة من الأمور والحوادث التي مما ليس سبيلها أن يسير فيه الأولون ويكون متحرياً بما يستنبطه من ذلك صلاح حال المدينة.
  5. أن يكون له جودة إرشاد بالقول إلى الشرائع الأولين وإلى الذي استنبط بعدهم مما أحتذي فيه حذوهم.
  6. أن يكون له جودة ثبات ببدنه في مباشرة أعمال الحرب وذلك أن يكون معه الصناعة الحربية الخادمة والرئيسة.

هذه الخصال الست ضرورية للحفاظ على الملة الفاضلة من خلال استنباط أحكام وتشريعات جديدة من الملة التي وضعها مؤسس المدينة الفاضلة. أما إذا لم تتوافر هذه الشروط الستة مجتمعة في شخص واحد ولكن توافر في شخصين أو أكثر فهؤلاء هم الرؤساء الثواني الذين سيتولون مهمة استنباط الأحكام وادراة المدينة بعامة. وهذه الشرائط ليست على درجة واحدة من الأهمية بل تتباين بحسب أهميتها فالشرط الأول هو الأهم وبغيابه يستحيل على أهل المدينة الاستمرار على سنة مؤسس مدينتهم لأنه الشخص الوحيد القادر على ربط الأحكام الجزئية والحالات الفردية بكليات الفلسفة كما تحدثنا عن ذلك فالملة كل الملة هي تحت كليات الفلسفة وهي خطاب أدنى للفلسفة ولا أحد غير الفيلسوف قادر على هذا الفهم والربط. أما باقي الشروط فيمكن أن يغيب منها شرط أو إثنين أو حتى أكثر فهذا لا يضير كثيراً طالما أن أهل المدينة قادرين على البقاء على الملة التي وضعها لهم مؤسسهم الأول. أما في حالة غياب الفيلسوف من الملة فهذا هو الأحتمال الثالث.

الاحتمال الثالث: هو غياب الفيلسوف فضلا عن باقي الشرائط الأخرى فالمدينة لا محال سائرة نحو الضلال والهلاك .. فهي ستتحول إلى احدى المدن المضادة للمدينة الفاضلة لا محالة.

  أن وظيفة الفيلسوف في الحكومة السنية (الحكومة التابعة لسنة سابقة) تتلخص في استنباط أحكام لمعالجة وقائع جديدة وهذه الأحكام الجديدة مستمدة من سنن سابقة وضعها واضع الملة ومؤسسها فالفيلسوف وإن كان قادراً على تحصيل المعاراف البرهانية، إلا أنه ليس لديه المهارة الملكية التي تعينه على سن قوانين جديدة تناسب الواقعة وبالوجهة والمقدار المطلوبين والمناسبين للزمان والمكان والمجتمع الذي تُسن وتُوضع له. فهو بحسب الفارابي يفتقر الى "القوة الحاصلة عن التجربة الكائنة بطول مزاولة الأفعال في المدن والأمم وهي القدرة على استنباط الشرائط التي تقدر بها الأفعال والسير والملكات"(23). وهي المهارة التي يختص بها مؤسسو المدن الفاضلة. وهذا يعني  أن الفارابي يرى أن شرط بقاء المدينة الفاضلة على سنة مؤسسها الأول بعد غيابه يكمن في لعب الفيلسوف دور ما كان يلعبه الفقيه في النظام الشرعي والقضائي الاسلامي في عصره وأن تخضع كل السلطات الأخرى للسلطة الشرعية الملية في المدينة ممثلة بالفيلسوف. وشرعية السلطة السياسية تستمد من السلطة التشريعية التي يكون الفيلسوف الحكيم على رأسها. وبخلافه ستؤول الأمور بالمدينة وأهلها الى الهلاك.   

 المصادر والهوامش

1 - الفارابي ، أبو نصر، آراء أهل المدينة الفاضلة ، دراسة وتحقيق حسن مجيد العبيدي منشورات ضفاف، بيروت، 2014 ص 290 . كذلك الفارابي ، السياسة المدنية ، تحقيق وتقديم فوزي النجار، المطبعة الكاثوليكية، بيروت، 1964، ص 70 وكتاب الملة ونصوص أخرى، تحقيق محسن مهدي منشورات دار المشرق، بيروت، الطبعة الثانية، 1991 ص 34 – 44.

2 - الفارابي، ابو نصر، احصاء العلوم ، تحقيق عثمان أمين ، منشورات دار الفكر العربي ، مصر 1949 ص 103 .

3 - يمكن مراجعة الهيتي، فوزي حامد، " نظرية النبوة عند الفارابي" مجلة الفلسفة، العدد 22، السنة 2020، ص 3-21.

https://search.emarefa.net/detail/BIM-1284417

4 - الفارابي، ابو نصر ، كتاب السياسة المدنية ، تحقيق ، فوزي متري النجار ، منشورات المطبعة الكاثوليكية، بيروت، 1964 ، ص 80 .

5 - نود التنبيه هنا أن الفارابي يتحدث عن كمال هذا الإنسان معرفياً هذا في النص كما ورد في النسخة المحققة بين أيدينا ، وكان الأولى أن يقول أتم  وليس أكمل ، لأن معنى الكمال في اللغة هو تمام الوصف بحده الأفضل الذي لا زيادة فوقه أما الأتم فهو ضد النقص. تقول هذا إنسان تام الخلقة بمعنى لا ينقصه شيء ولكن لا يعني أن خلقته وصلت درجة الكمال. والفارابي سيقول بعد هذا القول هذا هو الشرط الأول للرئيس الأول الفاضل ثم يضيف شروط أخرى.

6 - الفارابي، أبو نصر، آراء آهل المدينة الفاضلة ، ص 298- 299 .

7 - المصدر نفسه، 299.

8 -المصدر نفسه.

9 - الفارابي أبو نصر، كتاب الملة ونصوص أخرى، تحقيق محسن مهدي ، ط 2، منشورات دار المشرق، بيروت 1991، ص 70 – 71 .

10 - الفارابي، أبو نصر ، كتاب احصاء العلوم ، ص 103 – 104 .

11 - ويكرر الفارابي هذه الفكرة بنصوص في كتابه الملة ، مصدر سابق، ص 56.

12 - الفارابي ، كتاب الملة، ص 60.

13 - المصدر نفسه. ويذكر الفارابي هذه الفكرة أيضاً بنص آخر في العلم المدني المنشور ضمن كتاب الملة ونصوص أخرى يقول فيه أن المهنة الملكية لها ثلاثة مقومات ضرورية (منها العلوم النظرية والعملية، وإن تنضاف إليها القوة الحاصلة عن التجربة الكائنة بطول مزاولة الأفعال في المدن والأمم وهي القدرة على استنباط الشرائط التي تقدر بها الأفعال والسير والملكات). الفارابي كتاب الملة ونصوص أخرى ، نص العلم المدني   ص 73.

14 - المصدر نفسه.

15 - يتحدث الفارابي بعد هذا النص عن الرئيس الأول مؤسس المدينة ويشير إلى أن هذا الرئيس المؤسس قد يكون فاضلا وقد يكون بخلاف ذلك

16 - الفارابي ، كتاب الملة ، ص 44، 46.

17 - الفارابي آراء أهل المدينة الفاضلة، ص 294.

18 - الفارابي، كتاب الملة، ص 44

19 - المصدر نفسه.

20 - المصدر نفسه، ص 46.

21 - يقول الفارابي مؤكداً ما ذكرناه " إن اجتماع هذه كلها – يقصد صفات الرئيس الأول – في إنسان واحد عسر فلذلك لا يوجد من فَطِرَ على هذه الفِطرة إلا الواحد بعد الواحد والأقل من الناس" . الفارابي آراء أهل المدينة الفاضلة، ص 301 .

22 - الفارابي، آراء أهل المدينة الفاضلة، ص 302 ). أما إذا لم يتوافر شخص يتصف بهذه الخصال المشار إليها، فعلى من يأتي بعده حفظ سننه وتشريعاته. يقول الفارابي " وإن اتفق أن لا يوجد مثله – يقصد الرئيس الأول – في وقت من الأوقات ، أخذت الشرائع والسنن التي شرعها هذا الرئيس – يقصد الأول – وأمثاله إن كانوا توالوا في المدينة ، فإثبتت " . الفارابي، آراء أهل المدينة الفاضلة، ص 302.

23 - الفارابي ، ابو نصر ، كتاب الملة، ص 73.