تشرين1/أكتوير 11

                                                                             

   كان يمكن لهذه السطور أن تكون ضمن العدد الخاص احتفاءً بالذكرى الـ 70 لصدور "الثقافة الجديدة"، لكن عارضاً صحياً جدياً أَلمَّ بي، ولمّا يزل، حال دون ذلك.. أحاول العودة له الآن.

الكتابة عن شأنٍ غير شخصي كهذا، قد تبدو للبعض ادعاء أو ترفاً زائداً. 

هل الكتابة محنة؟

نعم ! بمعنى أنها محنة لا تمحوها إلاّ متعة الانتصار على التردُّد والخوف من سهامٍ قد ترميكَ بتهمة التَنطُّع!

قليل من الكتّاب من يضعون حيواتهم في الميزان ويندمجون في الصيرورة التاريخية والفنية للشرطية الإنسانية القاسية التي عاشوها أو يعيشونها.

مهمٌ جداً كيف تسحب نصك من الآني والسياسي المباشر؟ تُبعده عن الآنية والمباشرة الفجة؟ كيف تحميه من مخاطر التعبيرات الأيديولوجية التي تضعفه؟!

تلك، لَعَمري، مهمّةٌ لا تَتَحقَّقُ بسهولة دوماً !

فأية قيمة تكون لرأي لا يحتمل المراجعة والتساؤل ، بما في ذلك النظريات الكبرى؟! هل سيكون هذا الرأي رأيا أساسا أم "حال واقع وحالة عامة مبهمة" لا تعريف لها؟ وكيف نُكسب الفكرة صفة الحق ونُصبغها بصبغة فاضلة إنسانياً إذا كانت "مفروضة منتهية" لا يمكن التأكد من صواب أخلاقيتها ومنطوقها بالتساؤل والتحليل والتحدي والاختبار؟!

    فإن كنتَ فرداً أو حكومة أو مؤسسة أو جزءا من منظومة حزبية أو دينية أو غيرها ، جباراً قامعاً للرأي المخالف ونجحت في إجهاضه ، ولو لحين ، فاستمع لصوت الصمت ، سيُنبئك بالكثير وسيشيرُ لك بالقادم المريع !

* * *

  عام 1969 لما أنهيتُ دراستي بجامعة بغداد- قسم الأدب الإنكليزي – كنتُ أحاول ، بين فترة وأخرى ، تحسين وضعي المادي البسيط بكتابة مادة صحفية في جريدة "بغداد أوبزيرفر". أيامها كانت الحرب الأمريكية في فيتنام على أَشُدها.. كتبتُ ، باللغة الإنكليزية، مادة هجائية شديدة اللهجة للسياسة الأمريكية . حملتُ المادة إلى طيب الذكر كمال بطّي ، وقتها كان مدير تحرير الجريدة. بعد اطلاعه عليها هزَّ رأسه متحيراً وقال :" عيني ، روح شوف الأستاذ خالص عزمي ، رئيس التحرير... ورأيه هو الماشي ". دخلتُ في غرفة خالص عزمي، لما قرأ المادة ، رفع رأسه متسائلاً بما لا يخلو من تهكُّم: "شِلَّك بهالبلاوي؟ بابه هذي قضايا أكبر من راسك وراسي.. ليش تورطنا وتورط روحك، إنت بعدك شاب.. شوف مستقبلك.. ؟!".

وقتها كنت لما أزلْ يافعَ الخبرة في تصريف ما حَسِبتُه حينها إهانةً لشاب يساري.. حصلت مشادة، وخرجت ممتعضاً أنني لن أُكرر الكتابة لهذه الصحيفة .

عصراً التقيتُ مسؤولي الحزبي وحكيتُ له ما دار مع خالص عزمي . فأشار عليَّ : لماذا لا تذهب إلى "الثقافة الجديدة" فقد ينشرونها ، لكن دون دفع مالي!

ذهبتُ إلى مكتب "الثقافة الجديدة" الكائن آنذاك في الطابق الثالث من عمارة بالباب الشرقي بزقاق يتفرع من شارع سينما "الخيام". كان هناك الرفاق زكي خيري ونوري عبد الرزاق وماجد عبد الرضا والصديق جعفر ياسين. رحب بي الرفيق ماجد ، الذي يعرفني من خلال العمل الاتحادي والحزبي . سلمته المادة فناولها لزكي خيري . قرأها أبو يحيى ، ثم قلَّصَ عينه ورماني بنظرة مبهمة لا تشي بارتياح أو نفور وقال : المادة لا بأس بها ! لكنني لا أعتقد بصلاحيتها للمجلة، إنما تصلح لمنشور أو صحيفة يومية، ويبقى القرار لصلاح خالص – رئيس التحرير - وسعاد خضر (زوجة صلاح وكان شائعاً سلطتها على صلاح!). فعلَّق ماجد ، شبه هامس : " هذا خوش يحيى .. إحنه ضامّينله فَدْ ضَمَّه .. بعدين أگلَّك !"

خرجتُ من المجلَّة مشغولاً بجملة ماجد .."ضامينله ضَمَّه..!"

لم أفقه الأمر، إلاّ بعد خروجي من "قصر النهاية" بعد أسبوعين، حين إكتشف الجلاوزة أنني لستُ المقصود، يحيى بابان – كان في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية ومن الناشطين في إتحاد الطلبة إثر الانشقاق الذي حصل في الحزب - .. فصدر قرارٌ حزبي بإيفادي إلى براغ لغرض العلاج والعمل مترجماً في مجلة "الوقت – قضايا السلم والاشتراكية"

(ذكرتُ ذلك في كتابيَّ "مطاردٌ بين - الله - والحدود".. و "تقاسيم على وطن منفرد")

ستنقضي بضعُ سنواتٍ ، وسأنتقل إلى مدينة لايبزك بألمانيا الديمقراطية..

في عام 1972 صدرَت في بغداد أسبوعية "الفكر الجديد". بناءً على مبادرة من الرفيق الراحل والمثقف الفذ د. صفاء الحافظ  - كان وقتها يُعدُّ أطروحته للهابيل بجامعة كارل ماركس - جرى في لايبزك تشكيل مكتب صحفي لرفد "الثقافة الجديدة" و"الفكر الجديد" بالمواد .كان المكتب برئاسة د. صفاء وعضوية زهدي الداوودي وممتاز كريدي وكاتب السطور.. وكان من أنشط ما تشكّلَ لاحقاً من مكاتب في بلدان أخرى ، حتى عودتنا سوية ، د. صفاء وإيايَ إلى العراق للعمل في صحافة الحزب العلنية صيف 1973 ، خاصة بعد صدور أوامر بالعفو عن المحكومين غيابياً !

وكأي حزبيٍّ "منضبط" حال ما وصلتُ بغداد ، ذهبتُ إلى مقر "الثقافة الجديدة" في الباب الشرقي – قبل أنْ أتصل بأهلي أو أيَّ شخص آخر، فقد قيلَ لي عليك الذهاب أولاً  إلى "المجلة" او " الفكر.." لتنظيم صلة العمل!

في نفس الصالة إياها (1969) إلتقيتُ الرفيقين الراحلين ألفريد سمعان، الذي كان مدير التحرير حينها ، و هاشم الطعان .. إلى جانبهما يقف أبو گاطع والشاعر عبد الأمير الحصيري بهيئته المعهودة!! سمعتُ هاشم يقول للحصيري :" مو تروح تسكر ، وترهن الملابس من جديد، اللي إشتريناها إلك ، تلوگ لمصحّح بالثقافة الجديدة..!" فرد الحصيري ممازحاً، شبه جاد: يعني الشغوب – كان يلثغ بالراء – حَغام عدكم؟! فردَّ عليه ألفريد : عيني، أمّوري إستر علينه ولا تسويلنه فضيحة جديدة ..! بس إتصحِّح المجلة ، روح سوِّي اللي تريده ، بس مو هنا !

تبرَّع أبو گاطع بإيصالي مع حقائبي، إلى مقر قيادة الحزب الكائن آنذاك بشقة متواضعة في زقاق بمنطقة البتاويين ...  إستقبلني في غرفة صغيرة ر. كريم أحمد و آرا خاتشادور- الذي كان يعرفني جيداً وربطتنا علاقة صداقة جيدة، يومَ كان يمثل الحزبَ في مجلس تحرير مجلة "الوقت". إستمرَّت العلاقة حتى التسعينات ، إذْ خَفَّتْ إثر التصدُّع الذي حصل داخل قيادة الحزب حينها -  همَسَ آرا شيئاً بأذن كريم أحمد، عضو  المكتب السياسي..

بأريحيته المعهودة، باسماً قال لي ر. كريم : "بابه شكو جاي عدنه؟! ما نحتاجك هنا .. روح للجريدة لو للمجلة هناك يحتاجوك.. روح هناك  ينتظرك رزاق  لو أبو نصير، يقصد عبد الرزاق الصافي، رئيس تحرير "طريق الشعب" وعبد السلام الناصري رئيس تحرير "الفكر الجديد"!

 بعدها أوصلني أبو گاطع إلى مطبعة "الرواد" في القصر الأبيض، حيث مقر الجريدة، قبل أن تنتقل إلى شارع السعدون عام 1975..

 مذاك صرتُ مُتفرغاً وغَدَت الجريدة محل عملي وسكناي ..كنت أزور العائلة مرة كل أسبوعين ، حتى وفاة والدي عام 1976 في الكاظمية ..

إنغمرتُ في العمل الصحفي والحزبي ، الذي كان يستهلك قرابة 16 ساعة في اليوم وكنتُ أجدُ فيه متعةً تُعوِّضُ عن الإرهاق .. لكن مع مرور الوقت أحسستُ بحاجة أخرى تعتمل بنفسي ، حاجة لفعلٍ غير العمل اليومي المعتاد، بما يمكن أنْ يطلقَ كوامنَ فكرية كانت تشتغل بداخلي .

تظافرَ أكثر من عاملٍ لدعم ما كنتُ أصبو إليه . إذْ حفَّزني الرفيق والمربي الفاضل د. صفاء الحافظ ، الذي كان صاحب إمتياز "الثقافة الجديدة" وعضواً في هيئة تحرير "طريق الشعب "( ليش مكتفي بالتقارير والأخبار؟ حاول تكتب للمجلة .. وعندك إمكانيات ولغتين ..) ثم جاء عامل آخر بعد عودة خالد السلام إثر حصوله على شهادة الدكتوراه من ألمانيا الديمقراطية وتكليفه بسكرتارية تحرير "الثقافة الجديدة"، إلى جانب استلامه قيادة المنظمة الحزبية التي تعنى بشؤون المثقفين، كتاباً شعراءَ وقصاصين وفنانين رسامين ومسرحيين وموسيقيين وصحفيين ..إلخ وكنت عضواً في مكتبها ، إلى جانب ألفريد سمعان وهاشم الطعان . لم تكن البداية طيعة أو سهلةً لأسباب سياسية – حزبية . إذْ كانت ثمة جفوة بيني وبين خالد، جُسِّرتْ لاحقاً في مجرى العمل المشترك، مَنشؤها خلافات داخل المنظمة الحزبية بألمانيا الديمقراطية ومشادة سياسية حصلت في أحد كونفرنساتها.. وحتى شخصية ، وهو ما أنظر إليه اليوم بعينٍ سَمحَةٍ واقعية دون ضغينةٍ أو مرارة !

صحيح أنه عمل جماعي مُفترض. لكنه لم يخلُ دوماً من نوازعَ وإرتياحات شخصية ، أو  حتى غضاضات أحياناً ، انعكست بأشكالٍ ومواقف سلبية ، ما كان ينبغي لها أنْ تحصل ..حتى على الصعيد القيادي ، وهو ما اتضح بجلاء فيما بعد ! هكذا هي الحال في الحياة العملية..! فحتى المناضلون هم بشرٌ وحيوات لها ماضيها الإجتماعي والفكري وما يسفرُ عنها من ورؤىً متنوعة .. خاصة في ظروف صعبة ، كنا نخوض فيها تجربة جديدة في العمل على كل الصُعُد وما تفرزه من مواقف ، قد لا تكون موضع توافق أو استحسان من قبلِ بعض "الإداريين" في سُلَّم الهرم الحزبي ، الذي لم يكن يألف غير ما تَثبَّتَ من تقاليد العمل السري !ينضافُ إلى ذلك عاملٌ لا يجري التطرق إليه غالباً ، هو أنَّ البعض منهم ينزلقُ أو تستهويه "السلطة"- حتى داخل التنظيم الحزبي – ليسدَّ جزءاً من الغِلِّ الذي تراكم بداخله نتيجة القمع السياسي والاجتماعي وعدم توفر قدر معقولٍ من الثقافة العامة والفكرية ، التي يمكن أنْ تُحصنه ضد هذا المنزلق ذي العواقب السلبية على مجمل العمل النضالي..

كانت "الثقافة الجديدة" - مهرباً - مؤنساً لي من روتين العمل اليومي المرهق في الغالب. أذهب إليها بعد الانتهاء من العمل في صفحة "شؤون عربية ودولية" في الجريدة ظهراً ، قبل أن أواصل النوبة التالية في الصفحة الأولى وأنام في مقر الجريدة والمطبعة .. كنا نتبادلُ في تلك الأوقات بالمجلّة أوضاعاً اجتماعية وفكرية وقراءات لما يصلنا من مطبوعات ومواد وكتب ، وما يقع تحت أيدينا من مصادر لا تتوفر في السوق المحلّية بالإنكليزية والألمانية والفرنسية، التي كانت من شُغل صفاء الحافظ وخالد السلام !

كانت لديَّ حينها مجموعة لا بأس بها من الكتب والمصادر بالإنكليزية والألمانية ، حملتها إلى بغداد بعد عودتي وما كنتُ استجلبه في سفراتي المتعددة. شَرَعتُ بترجمة بعض المواد للمجلة... ما حفَّزني للكتابة، ليس الإعداد والترجمة في المجلّة ، لقاءٌ مع عبد الرحمن طهمازي وخالد السلام . كنتُ أتحدثُ فيه بحماسة عن عملٍ موسوعي لنتاجات ومراسلات فان غوخ صدرَ في ألمانيا الديمقراطية بستة أجزاء من القطع الكبير، وكان حينها (1976) أضخم عملٍ عن فان غوخ طباعةً وإخراجاً يصدر في أوروبا، على الإطلاق ، بعدد محدود باشتراط الدفع المقدم . وكنتُ قد حجزتُ نسخة منه. فقد ضمَّ أكبر عددٍ حينها من لوحاته وتخطيطاته ومراسلاته ...أُعجبَ الطهمازي فقال :" يا أخي شبيك مكَرِّك عالموضوع ! ليش ما تكتب فد مادة للمجلة عن هذا العمل؟!" وكانت الحصيلة مقالتين مطولتين ، إحداهما  على ما أتذكر عن الإلحاد عند فان غوخ . ثم جاءت بعدها دراسة مطولة عن "الطابع الأممي لكومونة باريس" وغيرها مما لم تحفظه الذاكرة أساساً، لأنني لم أتعلَّم الأرشفة مثل كثيرين غيري، أحسدهم عليها! نظراً لتقلُّبِ مسارات حياتي غير المستقرة.. وضياع ما ركنته جانباً – وهو قليل ! إلى جانب ترجمات ومراجعات لمواد ثقافية وفكرية أُخرى كان يحيلها إليَّ خالد السلام خاصة المتعلقة بالخارج، أحياناً دون توقيع، بل باسم "الثقافة الجديدة".

لم تكن "الثقافة الجديدة" مجرد مجلة فكرية تصدر كل شهر، بل كانت ورشة عملٍ فكري وثقافي عام، إلتمَّ حولها عدد كبير من المثقفين والأدباء والباحثين والمؤرخين وأساتذة جامعيين في مختلف صنوف المعرفة الإنسانية والعلمية الصرفة ، لم تكن منتميةً للحزب.. ولم تقتصر على العراقيين وحدهم، بل شارك فيها كتاب ومثقفون متنوّرون من بلدان عربية وأجنبية . وبدون إسفافٍ أو مبالغة كانت مدرسة مهمة قامت بدورٍ مهم في عملية التنوير الفكري – الإجتماعي في البلاد ، رغم ظروف العمل السياسي المعقدة حينها.. بل أزعمُ أنها تجرأت أحياناً على طرح بعض الموضوعات الإشكالية فكرياً ونظرياً ، ونشرت أحياناً اجتهادات "متقابلة"، إنعكاساً لما كان يجري داخل قيادة الحزب من تباينات و"إجتهادات" مبتسرة أحياناً . لاسيما ما يتعلّق بموضوعة "التطور اللارأسمالي" و"نمط الإنتاج الآسيوي" و"مشكلات التنمية" وقضايا الوضع الدولي، فضلاً عما كان يجري من سجال فكري دولي فيما يتعلَّقُ بالحرية والإبداع ومدارسه.

وقد ساهم في بعض اجتماعات مجلس التحرير بعض من قيادة الحزب، وفي موضوعاتِ محدودة ومحدَّدة !

ولا يفوتني ، وأيَّ منصفٍ ، التنويه إلى أنَّ "الثقافة الجديدة"، رغم الإمكانيات المالية والتقنية المحدودة، فضلاً عن صعوبات العمل السياسي وتقلُّباته والتضييق المتزايد على الحزب وصحافته والعاملين فيها ... كانت مدرسةً بحق "خَرّجَتْ" عدداً من الكفاءات المتنوعة ، غدا بعضها مرموقاً في مجال تخصصه ، حتى على الصعيد غير العراقي، مما كان مثارَ "حسد" – كي لا أقولَ شيئاً آخر - من جانب الحكام آنذاك! 

                                                        * * *

تلكَ هي مجرد شَذَراتٌ مما احتفظتْ به ذاكرةٌ ، يَقتاتُ عليها "سرطان في الدماغ".. لكن ثقتي كبيرة جداً بإمكانيات العلم في هذا المجال.. فقد يُصلِحُ ما عَطُبْ .. وأعود!