أيلول/سبتمبر 15
   
   يحفلُ هذا الموضوع بأهمية خاصة، فالحديث عن تلك الحقبة لا زال مستمراً، وسيبقى كذلك على ما نعتقد، والعِلة أنها كانت حقبة استثنائية، فقد سقط النظام الملكي العراقي سقوطاً مدوياً وقتها، وقام بعده نظام آخر مغاير، اذ قامت الجمهورية مكان الملكية التي حفرت قبرها بيدها كما أثبتنا في دراسة صدرت لنا (1). وبعد قيام الجمهورية بدأت هذه الحقبة التي وصفناها بـ "الإشكالية" بسبب تداعياتها الداخلية والخارجية أيضاً، فقد أحدثت زلزالاً مدويّاً، لتحتل مكانة خاصة في الصراعات الدولية آنذاك(2).
سنُسلّط الضوء، في هذا المقال، على موقف الحزب الشيوعي العراقي من الزعيم عبد الكريم قاسم، لما يحتله هذا الموقف من أهمية، فقد كان هذا الحزب خير معين للثورة وزعيمها، وبقي كذلك الى أن لقي الزعيم حتفه على يد الانقلابيين في 8 شباط 1963، رغم أنه وجّه ضربات قاسية لهذا الحزب، وهنا تبرز أهمية هذا الموضوع.
 
تمهيد
دخل الفكر الاشتراكي الى العراق على يد حسين الرحال، هذا الرجل الذي استمع لخطب روزا لوكسمبورغ وكارل ليبنخت(3) وكان له دور كبير في هذا المجال ليُطلَق عليه "رائد الفكر الاشتراكي". لكنه ـ على حد قول بطاطو ـ مال الى الراحة واستسلم لحياة كسولة روتينية بعد حضوره في المظاهرة ضد السير ألفرد موند(4). وقد أعرب في أيامه الأخيرة ـ عام 1973 ـ عن خيبة أمل عميقة(5).
يُعتبر اجتماع الحادي والثلاثين من آذار 1934 ذا أهمية رئيسة في تطور الحزب الشيوعي في العراق، فقد اتفق الحاضرون فيه على تنظيم "لجنة مكافحة الاستعمار والاستثمار" بقيادة عاصم فليح(6). ويرى عزيز سباهي أن تأسيس الحزب قد تم في النصف الثاني من عام 1934، وأخذ شكله النهائي بعد عودة عاصم فليح في آب 1934(7).
اضطلع فهد بعملية بناء الحزب وفق المبادئ اللينينية بعد عودته الى العراق في 31 كانون الثاني 1938، يقول سالم عبيد النعمان: لقد كانت عملية البناء هذه صعبة ومعقدة لا يقدر عليها إلا أولئك الرجال الموهوبون من الذين يتحلون بعزيمة راسخة ومبدئية عالية تصمد أمام المحن والصعاب وتتغلب عليها، وكان يوسف سلمان يوسف (فهد) الموهوب تتوافر فيه كل مؤهلات القيادة والمبدئية العالية، لقد تفاعل فكره الماركسي اللينيني مع واقع الحياة العراقية وواقع أوضاع بلدنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية(8).
ويذكر يوهان فرانزن: يقاد فهد الحزب بقبضة من حديد حتى إعدامه شنقاً في عام 1949، وتحت قيادته أصبح الحزب حزباً سياسياً من نوع جديد، وقد أدخل جهازه الحزبي والسري نمطاً جديداً للتنظيم السياسي في العراق، والذي كان في العقود المقبلة نموذجاً للنجاح(9).
كانت نهاية فهد وزميليه زكي بسيم وحسين الشبيبي (10) على يد حكومة نوري السعيد، فقد تم اعدامهم شنقاً فجر يومي 14 و 15 شباط 1949، فقام النظام الملكي بدق المسمار الأول في نعشه بتنفيذ هذه الأحكام(11).
لم تكن الضربة التي تلقاها الحزب الشيوعي بالهينة، وقد تسلّم بهاء الدين نوري قيادة الحزب في حزيران 1949، يقول د. طارق يوسف إسماعيل عنه: شاب كردي عديم الخبرة كان يستخدم اسماً مستعاراً "باسم" ويبلغ من العمر 22 عاماً لم يكمل دراسته الثانوية.. لقد صعد بهاء الدين نوري الى قمة قيادة الحزب في أقل من أربع سنوات على انضمامه للحزب، وسرعان ما بدأ عملية إعادة تنظيم وهيكلة على كل المستويات(12).
ويقول فرانزن: وعلى الرغم من صغر سنه وقلة خبرته الثورية، فقد أثبت بهاء نوري أنه زعيم قدير نجح في إيقاف الحزب على قدميه (13).
تم اعتقال بهاء نوري في نيسان 1953، فأُحيل الى محكمة عسكرية قضت عليه بالسجن المؤبد في تموز 1953، فشكّل عبد الكريم أحمد الداود القيادة، ثم تسلّم حميد عثمان القيادة في 16 / 6 / 1954(14).
يصف صلاح الخرسان قيادة حميد عثمان: تميزت قيادة حميد عثمان بالدعوة الى تصعيد المجابهة مع السلطة وذلك بالدعوة الى الإضرابات العامة واللجوء الى الكفاح المسلّح، وهي أساليب مستوحاة من أفكار الزعيم الصيني ماوتسي تونغ (15).
حاسبت اللجنة المركزية حميد عثمان على قضايا عدة أبرزها النهج الفردي، وتقرر تنحيته عن سكرتارية اللجنة المركزية في حزيران 1955 وانتخاب سلام عادل لها(16).ولسلام عادل دور كبير في تاريخ الحزب الشيوعي العراقي ، يذكر د. طارق يوسف إسماعيل: برز الحزب الشيوعي العراقي تدريجياً بشكل أكثر وضوحاً كحزب معتدل وموحد سياسياً الى حد كبير بفضل جهود حسين أحمد الرضي "سلام عادل"(17).
ويقول د. عبد الحسين شعبان: يمكن القول ان من اهم إنجازات سلام عادل هي تمكنه من استعادة وحدة الحزب وتجميع قواه، خصوصاً بقدرته على استيعاب التنظيمات المختلفة وضمّها الى الحزب مُشخصاً النواقص والأخطاء لدى جميع الفرقاء(18).
تزامن صعود سلام عادل مع أحداث خطيرة على الساحة العراقية، فقد تشكلت حكومة المراسيم السعيدية من أجل خنق المعارضين وعقد الأحلاف الاستعمارية(19)، ثم قيام العدوان الثلاثي على مصر، وقد كان موقف الحكومة السعيدية مخجلاً ، اذ كانت في الظاهر مع مصر، وفي السر مع بريطانيا وضرب عبد الناصر(20). وقد كان عام 1956 مهم في حياة العراقيين، فهو بمثابة التمرين الأخير الذي سبق ثورة 14 تموز 1958 كما أشار صالح مهدي دكله(21).
 
المحور الأول: موقف الحزب من قيام الثورة الى أحداث كركوك في تموز 1959
كان للحزب الشيوعي دور في انبثاق جبهة الاتحاد الوطني عام 1957 التي هيأت الجماهير لاستقبال ثورة 14 تموز واحتضانها(22)، وكان له دور في الاعداد والتحضير للثورة عبر اتصالاته مع الضباط الأحرار وخصوصاً عبد الكريم قاسم عن طريق رشيد مطلك ، وقد بدأت هذه الاتصالات في صيف عام 1956 عندما ارسل عبد الكريم قاسم رشيد مطلك الى الحزب الشيوعي ليخبره عن عزمه الإطاحة بنظام الحكم الملكي(23). وقد كان له دور أيضاً في تأمين الدعم الخارجي للثورة من خلال سلام عادل ووعد الزعيم السوفيتي نيكيتا خروشوف بوقوف الاتحاد السوفيتي مع الشعب العراقي في ثورته (24). وكان أغلب أفراد اللواء التاسع عشر والعشرين ينتمون الى الحزب الشيوعي، وكان للضباط الشيوعيين الذين تسلمّوا أوامر من الحزب مساهمة فعّالة في اليوم الأول للثورة(25).
وقد أرسل الحزب الشيوعي برقية تهنئة الى قيادة الثورة مُوقعة من قِبَل سلام عادل.
بغداد ـ مجلس السيادة للجمهورية العراقية
رئيس مجلس الوزراء السيد عبد الكريم قاسم
نهنئكم من صميم قلوبنا على خطواتكم المباركة التي وضعت نهاية حاسمة لعهد طويل من المآسي والمحن ... ان اللجنة المركزية لحزبنا الشيوعي العراقي تضع قوى الحزب الى جانب مؤازرتكم وللدفاع عن جمهوريتنا البطلة.
سكرتير اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي
14 تموز 1958(26).
ثم أرسل الحزب برقية أخرى في اليوم التالي فيها تأكيد على ضرورة المحافظة على النصر السريع المتحقق، مع ذكر أمثلة للاعتبار بها في لحظات نشوة النصر(27).
لكن حدث ما لم يكن متوقعاً ، فقد تم استبعاد الحزب الشيوعي من المشاركة في حكومة قاسم الأولى، يذكر عزيز سباهي: رغم أن الحزب الشيوعي قد لعب دوراً كبيراً في النضالات التي مهّدت الى الثورة ... برغم هذا كله فقد استُبعد عن المشاركة في السلطة دون أن يكون هناك سبب جدّي لهذا الموقف سوى نزوع البورجوازية الوطنية على اختلاف فصائلها الى الاستئثار بالحكم والتردد في اطلاق طاقات الجماهير والقوى الراديكالية فيها ولا سيما الحزب الشيوعي ، جرياً على تقاليد البورجوازية في كل مكان ، وتقاليد البورجوازية الوطنية في العراق بالذات(28).
ويقول د. مناف الخزاعي: استُبعد الحزب الشيوعي من المشاركة في الحكومة على الرغم من أنه كان أقوى الأحزاب وأوسعها نفوذاً وأكثرها تأثيراً في جبهة الاتحاد الوطني، وعُد تعيين إبراهيم كبة ممثلاً عن الحزب الشيوعي وناطقاً باسمه، على الرغم من أنه لم يكن شيوعياً وإنما كان ماركسياً مستقلاً (29).
لم يتسبب هذا الموقف غير المبرر سياسياً ـ بحسب سباهي ـ في نكوص الحزب عن مساندة الثورة أو فتوره على الأقل في دعمها، وبسبب هذا الاستبعاد، فقد عزم الحزب على مدّ نفوذه بين الجماهير(30).
وفعلاً فقد ساند الحزب الثورة مساندة فعّالة، وطالب في بيانه الأول بتشكيل قوات المقاومة الشعبية، تقول بشائر المنصوري: يمكن عد الضغط الشيوعي العامل المباشر الأكثر تأثيراً على الزعيم عبد الكريم قاسم لتشكيل المقاومة الشعبية (31).
ما ان نجحت الثورة وقضت على النظام الملكي، حتى انتهى السبب الذي كان جامعاً للقوى المؤتلفة، فبرزت الخلافات على السطح، وكانت خلافات قاتلة أدت الى انتكاس الثورة لاحقاً.
بدأ الخلاف بين قائدي الثورة، عبد الكريم قاسم وعبد السلام عارف حول الوحدة الفورية مع العربية المتحدة، ولا نريد الآن التوسّع في هذا الموضوع فقد ناقشناه في موضع آخر، وأثبتنا أن الطرف القومي لم يكن صادقاً بضجيجه حول الوحدة(32). ما يهمنا الآن هو "موقف الحزب الشيوعي" من الصراع الدائر بين القائدين، أو بالأحرى بين قاسم والقوميين.
إلتزم الحزب الشيوعي جانب قاسم في هذا الصراع، وكان له دور في كشف البرقية التي أرسلها عارف الى عبد الناصر في 18 آب 1958، وقد نصت هذه البرقية على نية عارف اعلان الوحدة حتى وان كلفه ذلك حياته، وأنه سيقضي على قاسم ان وقف بوجه هذه الفكرة. يقول الخزاعي:
لقد كان للحزب الشيوعي الدور الواضح والأساس في كشف البرقية ونقلها الى قاسم من خلال زغلول عبد الرحمن مسؤول المخابرات في سفارة الجمهورية العربية المتحدة في بغداد الذي سلّم صورة من البرقية الى عزيز شريف الذي أوصلها بدوره الى قاسم(33).
انتهى المطاف بعارف الى اعفائه من منصب معاون القائد العام للقوات المسلحة، ثم الى اقصائه نهائياً بتجريده من كافة مناصبه في 30 أيلول 1958(34).
وقد كان للحزب الشيوعي الدور الواضح في كشف محاولة انقلاب رشيد عالي الكيلاني، حيث كان أول من نبّه الى وجود مؤامرة تُحاك من قِبَل الكيلاني، وسيتم تنفيذها يوم 28 تشرين الثاني 1958، وأكّد الحزب مرة أخرى يوم 5 كانون الأول 1958 معلناً عن وجود مؤامرة يديرها بعض القوميين بالاتفاق مع بعض رؤساء العشائر، وأن تنفيذها تأجل الى يوم 7 كانون الأول 1958(35).
كانت محاولة انقلاب العقيد عبد الوهاب الشوّاف 8 آذار 1959 من أبرز وأخطر الأحداث التي شهدها عهد الزعيم من حيث الصدى الإعلامي الذي احتلته، وقد كان للحزب الشيوعي الدور الواضح والمتميز في كشف وإجهاض المحاولة(36).
تبين الآن الموقف، فقد أثبت الشيوعيون انهم خير ظهير لقاسم في نزاعه مع القوميين(37). ولكن ما هو موقف الزعيم هنا؟ يقول بيتر سلوغلت: لقد وجد قاسم نفسه مضطراً للاعتماد كلياً تقريباً على دعم الجماهير في وضع كانت فيه تلك الجماهير متعاطفة مع اهداف ومبادئ الشيوعيين أكثر من أي مبادئ أو حزب آخر. ولقد فرض الأمر الواقع نفسه على قاسم فوجد أن لا خيار له سوى اجراء ترتيب مع الشيوعيين، وهو ذلك الترتيب الذي كان حماسه له فاتراً بشكل واضح بسبب كونه اصلاحياً وليس ثورياً(38).
ويذكر د. البوتاني: اضطر قاسم وجهاز حكمه الاعتماد على الشيوعيين، فاستعان بالحزب الشيوعي وجماهيره الواسعة لتوفير غطاء جماهيري وإيجاد سند يحميه من التيار القومي ، وقد أسهم الحزب الشيوعي في توفير هذا الغطاء وتقديم الدعم الكامل لقاسم دون شروط مسبقة مدفوعاً بتفضيل الطابع الوطني للحكم على المستلزمات الضرورية الأخرى التي كان يترتب عليه ان يفرضها على قاسم لقاء دعمه له ... اذن نظام حكم قاسم لم يتعاون مع الحزب الشيوعي ويفتح له أبواب النشاط بدافع من اعتراف بشرعية هذا النشاط او لقناعته بأن الحزب وطني يجب أن يتمتع بحقوقه كاملة ، بدليل حرمانه من الاشتراك في أول وزارة ، وعدم منحه إجازة العمل في شباط 1960(39).
ألا يعني هذا بأن الحزب قد "بالغ" في الدعم اللامشروط لقاسم؟ لن نستبق الأحداث الآن، وسيتضح الموقف لاحقاً.
دفعت حركة الشوّاف الحزب الشيوعي الى المطالبة بشكل صريح للاشتراك في مسؤوليات الحكم، وقد كتب سلام عادل في 31 آذار 1959 رسالة الى الزعيم جاء فيها:
 
الأخ الكريم
تحية طيبة وتقدير
نود الإشارة فقط الى الفعالية المشرفة التي قام بها حزبنا بكل نكران ذات وأمانة وإخلاص. لقد برهنت الأحداث كلها بضرورة وأهمية تضامننا بشكل أوثق مما هو عليه الآن مع سلطات الجمهورية ومعكم شخصياً، ولكن المؤسف للغاية ان لا توجد بيننا حتى الآن رابطة تتناسب مع عظم مسؤولية الأوضاع بشكل يسمح فيه ابداء وجهات نظرنا في المسائل الوطنية المختلفة اليكم بصورة مباشرة وفي الأوقات المناسبة ... نقول بأسف شديد اننا لا زلنا حتى الآن ضحية التمييز بين القوى الوطنية وأن الفرص المتاحة لحزبنا هي أقل بكثير مما تستوجب مصلحة الجمهورية اتاحتها لنا(40).
وقد وصف قاسم في معرض رده على سلام عادل الحياة الحزبية بأنها رجس من عمل الشيطان كما ذكرت ثمينة ناجي يوسف وقد علّقت بالآتي: كانت تلك هي بداية الارتداد، أعقبها هجوم على الحزب الشيوعي الذي أدرك قبل غيره خطورة تلك الخطوة على الثورة وجميع القوى الوطنية دون استثناء(41).
ونتيجة لهذا الموقف المتصلب من الزعيم، أعلن المكتب السياسي للحزب الشيوعي إيقاف حملته للاشتراك في السلطة. ويذكر الخزاعي بأن الحزب قد برّر هذه الخطوة بأن خصومه سيتوحدون ضده وأن تمسكهم بالشعار سيؤدي الى حرب أهلية، ليعقب بأن تبريرات الحزب لم تكن منطقية(42). لكن قاسم قد أقدم بعدها على اجراء تغيير وزاري في تموز 1959 ضم د. نزيهة الدليمي المنتمية للحزب الشيوعي، وأن هذا الاختيار قد جاء كتكتيك لإسكات الحزب الشيوعي بحسب الخزاعي(43).
 
المحور الثاني: موقف الحزب من أحداث كركوك حتى انقلاب شباط 1963
قد يتساءل القارئ الكريم عن علّة وضع أحداث كركوك كحدٍ فاصل في موقف الحزب الشيوعي العراقي من الزعيم قاسم؟ ونحن في معرض الإجابة لا بُد من التأكيد على أهمية هذه الأحداث وما أفرزته على صعيد العلاقة بين الحزب وقاسم، يقول د. صلاح الحلي: كانت حوادث كركوك نقطة الافتراق بين قاسم والحزب الشيوعي، وقد وفّر ذلك لقاسم ما كان ينتظره من أجل تحطيم قوى الحزب الشيوعي وإقصائه تماماً، فأعلن حربه ضدهم وأطلق نيرانه عليهم، وبادر الى شجب المجزرة وتعهّد بإنزال أقصى العقوبات بمرتكبيها (44).
ويذكر جرجيس فتح الله: لم يؤثر عن قاسم في خطبه وتصريحاته لهجة عنف وتهديد، لكنه بدا هنا عنيفاً جداً، وردّ فعله كان سريعاً على غير المعهود، سواء بخطبته في كنيسة مار يوسف أو في مؤتمره الصحافي أو في حديثه مع وفد الاتحادات والنقابات العمالية في 4 آب ... وفقد قاسم توازنه وانساق بعاطفة جائحة أنسته ما اعتاده من حذر وأناة(45).
فمن يتحمل المسؤولية هنا؟ يرى حبيب الهرمزي بأن الأحداث لم تكن بنت ساعتها، بل كانت مجزرة مدبرة نُفذت بحق المواطنين التركمان(46). ويذهب مجيد خدوري الى أنها كانت محاولة من الحزب الشيوعي للاستيلاء على كركوك وإخضاعها لنفوذه(47). وتقول وثيقة بريطانية بأن الاضطرابات قد بدأت عندما أضرم جمهور من الأكراد النار في مقهى للتركمان(48).
يتفق سلوغلت ودان وبوتاني على عدم معرفة البادئ بالاستفزاز يومها(49). ويذهب بوتاني الى عدم وجود دليل قانوني صادر من المكتب السياسي للحزب الشيوعي أو من اللجنة المركزية للحزب في كركوك لتنفيذ مخطط مذبحة، ويرى بطاطو بأن من المؤكد على أن احداث كركوك لم تكن مدبرة من زعماء الحزب الشيوعي ولا هم قد سمحوا بها ، واللوم يقع على الأكراد المتزمتين ، وقد شارك الشيوعيون فيها كأكراد لا كشيوعيين ، وهو ما ذهب اليه فتح الله أيضاً(50). اما القيادي الشيوعي الذي كان على رأس اللجنة المحلية في كركوك عزيز محمد، فيعطي تفسيراً للأحداث:
لم يكن يخطر في بالنا أن يحصل ما حصل ... سمعنا صوت اطلاق للنيران على المظاهرة مع عدم معرفة مصدر هذه المصادفة ... كنت في العادة أحمل مسدسي الشخصي ولكن من قبيل الصدفة لم يكن معي لكوننا لم نتوقع تفجر الوضع ولم نسع اليه ... وقد لعبت شركات النفط دوراً خطيراً بعد مطالبة الشيوعيين بضرورة تأميم الشركات النفطية(51).
وما دمنا نتحدث عن دور شركات النفط، فقد ذكرت وثيقة بريطانية مؤرخة في 18 تموز 1959 تحت عنوان "الموقف الداخلي في العراق" وفي النقطة الأولى، بأن اضطرابات كركوك لم تؤثر على المستخدمين في شركة نفط العراق والعاملين في حقول النفط (52).
الذي نراه أن أحداث كركوك قد تم تهويلها للنيل من الحزب الشيوعي، يقول الخزاعي: هُولت أحداث كركوك من قِبل أعداء الحزب الشيوعي والأكراد معاً، وشجع قاسم ذلك التهويل وتلك المبالغة لغرض كبح جماح الحزب، وليبرهن أن قيادته القوية ضرورية للحفاظ على تماسك المجتمع العراقي(53).
بعد خطاب الزعيم المدوي في كنيسة مار يوسف يوم 19 / 7 / 1959، أصدر الحاكم العسكري العام أوامره باعتقال المتسببين في حوادث الموصل أثناء حركة العقيد الشوّاف، وحوادث كركوك، ليقول الخرسان في كلمة دقيقة مؤثرة:
وبذلك دخل الشيوعيون لأول مرة في سجون العهد الجمهوري ولما يمضي على سقوط الملكية غير عام واحد(54).
عقدت اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي اجتماعاً موسعاً في 15 تموز 1959 ، وصدر عنه تقرير شامل بالنقاط التي توصل اليها في 29 آب 1959 ، يقول سباهي: لكن موجزاً لهذا التقرير صدر في 3 آب 1959 ، وهو من وضع عامر عبد الله ، وكان هذا الموجز سيء الصياغة على حد وصف محمد حسين أبو العيس ، شدد على أخطاء الحزب وبرّزها دون أن يراعي الظروف التي جاءت فيها هذه الأخطاء ، ودون أن يأخذ في الاعتبار ما استجد من أوضاع بعد ان شرّعت السلطة في هجومها على الحزب مستعينة بكل القوى المعادية للشيوعية ، والتي وجدتها هذه فرصة ذهبية لملاحقة الحزب وتشديد الهجوم عليه(55).
ويذكر فتح الله: وكان في هذا التقرير من الصراحة أكثر مما أمله خصوم الحزب، لقد أُسيء توقيت هذا الاعتراف، ويزيد في سوء توقيته سوءاً أنه كان بمثابة محاولة لتهدئة غضبة الدكتاتور واتقاء صولته(56).
ويقول الخزاعي: عُد نشر وقائع الاجتماع الموسع وقراراته بصورة علنية في جريدة الحزب اتحاد الشعب، واستخدام مصطلح "جلد الذات" وهو أكثر قسوة من النقد الذاتي، نقطة ضعف سُجلت على قيادة الحزب بحيث أصبحت سلاحاً بيد المعارضة والسلطة معاً(57).
وقد تمخض عن هذا الاجتماع ظهور الكتلة الرباعية التي ضمت: بهاء الدين نوري وزكي خيري وعامر عبد الله ومحمد حسين أبو العيس. حاولت هذه الكتلة إزاحة سلام عادل عن منصبه لكنها فشلت، الا أنها تمكنت من إيجاد منصب جديد هو "السكرتير الثاني للحزب" انتُخب له زكي خيري(58).
تراجعات كبيرة بعد ذلك كانت من نصيب الحزب الشيوعي، ويروي جاسم العزاوي بأن الزعيم قد كلّفه بمهمة الحد من نفوذ الشيوعيين داخل الدولة، فنقل كبار الضباط الشيوعيين الى ضباط تجنيد في مناطق مختلفة من العراق، ليُمهد بهذه التصفية الطريق أمام الضباط القوميين للسيطرة على كتائب الدبابات. ونفس الشيء في الإذاعة والتلفزيون، اذ عزل المدير الشيوعي وعيّن مكانه بعثياً(59).
واللافت للنظر هنا ونحن في سياق تراجعات الحزب الشيوعي أمام قاسم، أن محاولة الاغتيال التي تعرض لها الأخير في تشرين الأول 1959 جعلت السلطات توجه الاتهام الى الحزب الشيوعي بوصفه منفذ العملية لولا بقاء جثة عبد الوهاب الغريري(60).
وقد ساءت العلاقة بين قاسم والحزب الشيوعي لدرجة أن صًرّح جلال الأوقاتي في عام 1961: لو أصبح قاسم سكرتيراً للحزب الشيوعي العراقي فيجب ازاحته لأنه سيدمرنا ويدمر نفسه (61). طبعاً مع ضرورة التأكيد هنا على تباين المواقف داخل الحزب الشيوعي نفسه، فموقف سلام عادل مثلاً، يختلف عن موقف عامر عبد الله صديق قاسم، من حيث الموقف الراديكالي والموقف البراغماتي.
أصدرت حكومة قاسم قانون الجمعيات في 2 كانون الثاني 1960، وقد حجب قاسم الترخيص عن الحزب الشيوعي، ودعم حزباً كاريكاتورياً مكانه برئاسة داود الصائغ. وقد اتصل قاسم بمهدي كبة وغيره وأوضح لهم بأنه قد تخلى أخيراً عن الشيوعيين، وأنه سيقضي عليهم نهائياً (62). وقد حاول الحزب الشيوعي الحصول على ترخيص وزارة الداخلية وقدّم الطلب باسم زكي خيري وليس باسم سلام عادل خشية إثارة قاسم، ولكن الأخير كان عازماً على عدم إلاعتراف بهم(63).
وبعد أن اندلعت الحرب بين حكومة قاسم والأكراد في أيلول 1961، وجّه الحزب الشيوعي نقده لحكومة قاسم كونها:
تستثمر الحملة العسكرية الانتقامية في كردستان لتصفية ما تبقى من مظاهر الديمقراطية ولضرب الحركة الوطنية الديمقراطية في جميع أرجاء البلاد. ويرى سيف القيسي بأن هذا النقد لا يخلو من انتقاد لمظاهر خسارة الشيوعيين لمواقعهم حتى في المناطق الكردية نتيجة سياسة قاسم تجاههم. ويقول أيضاً: ظل موقف الحزب الشيوعي ومنهجه ثابتاً تجاه القضية الكردية، لا سيما بعد توتر الوضع بين الحكومة والقوى الكردية(64).
وعليه فقد ضَحّى الزعيم بأنصاره "الشيوعيين" في سياق المبدأ المعروف الذي رفعه: أنا فوق الميول والاتجاهات. وهو مبدأ أثبتنا فشله في دراسة سابقة، وإلا فهل من العقل والمنطق التضحية بأنصاره وزجهم في السجون، ليتقرب من أعدائه القوميين؟!(65).
 
خاتمة
تَبيّن أن الحزب الشيوعي "حزب وطني نضالي"، وقد كان له دور مهم في التحضير والدعم لثورة 14 تموز، وقد دعم السلطة التي تمخضت عنها باعتبارها "سلطة بورجوازية وطنية". لكنه أخطأ في تقديم الدعم غير المشروط لهذه السلطة ممثلة بالزعيم، فقد استُبعد من المشاركة في الحكم منذ اليوم الأول بدون سبب جدّي حقيقي، ورغم هذا الاستبعاد وهذه الضربات، فقد بقي وفيّاً لقاسم وحكومته باعتبارها سلطة وطنية، وهي سلطة وطنية فعلاً، لكنها أخطأت كثيراً، وخصوصاً مع هذا الحزب الذي أغفل قضية استلام السلطة في خطأ فظيع غير مبرر كما ذكر بوتاني(66)، ونحن معه بكل تأكيد.
 
معاذ محمد رمضان: باحث في تاريخ العراق المعاصر
 
الهوامش 
  1. معاذ محمد رمضان: النظام الملكي العراقي وإشكالية البقاء ـ هل كان من الممكن لهذا النظام أن يبقى على قيد الحياة؟ بغداد، دار البيارق، 2024.
  2. عن هذه القضية يُنظر: نجم محمود: المقايضة برلين بغداد ـ ثورة 14 تموز العراقية في السياسة الدولية، بيروت، منشورات الغد، 1991.
  3. عامر حسن فياض: جذور الفكر الاشتراكي التقدمي في العراق 1920 ـ 1934، بغداد، مكتبة النهضة العربية، ص153 الى 162
  4. حنا بطاطو: العراق، الكتاب الثاني، الحزب الشيوعي، ترجمة: عفيف الرزاز، ط3، بيروت، مؤسسة الأبحاث العربية، 2003، ص49.
  5. طارق يوسف إسماعيل: صعود الحزب الشيوعي العراقي وانحداره، ترجمة: عمار كاظم محمد، تقديم: حسقيل قوجمان، اشراف: ماجد علاوي وحسين علي حاجبي، ط1، بغداد، دار سطور للنشر والتوزيع، 2020، ص25 و 26.
  6. المصدر نفسه، ص63، وصلاح الخرسان: صفحات من تاريخ العراق السياسي الحديث "الحركات الماركسية" 1920 ـ 1990، ط1 بيروت، العارف للمطبوعات، 2001، ص20.
  7. عزيز سباهي: عقود من تاريخ الحزب الشيوعي العراقي ج1، ط2، بغداد، دار الرواد المزدهرة، 2007، ص154.
  8. سالم عبيد النعمان: الحزب الشيوعي العراقي بقيادة فهدـ إعادة تأسيسه واكتمال بنائه ودوره الفاعل في الحركة الوطنية، ط1، دمشق، دار المدى، 2007 ص51.
  9. يوهان فرانزن: نجمة حمراء في سماء العراق ـ الشيوعية العراقية ما قبل صدام، ترجمة: سعود معن، تقديم: كاظم حبيب، ط1 بغداد، مكتبة النهضة، 2022، ص98.
  10. يذكر أحمد الحبوبي بأن الشبيبي كان أستاذاً له في المدرسة الابتدائية، وأنه لم يكن يضيع دقيقة من الدرس، فيقضي المدة كلها قراءة وشرحاً، يُنظر: مذكرات أحمد الحبوبي ـ رسالة اعتذار الى الشعب العراقي، ط1، لندن، دار الحكمة، 2018 ص23.
  11. رمضان: النظام الملكي، ص174 و175.
  12. إسماعيل، ص106.
  13. فرانزن: المصدر السابق ص126.
  14. الخرسان، ص72 و73 و74.
  15. المصدر نفسه، ص75 و76.
  16. ثمينة ناجي يوسف ونزار خالد: سلام عادل سيرة مناضل، ج1، ط1، دمشق، دار المدى، 2001، ص99 و100.
  17. إسماعيل، ص111.
  18. عبد الحسين شعبان: سلام عادل الدال والمدلول وما يمكث وما يزول ـ بانوراما وثائقية للحركة الشيوعية، ط1، بغداد، دار ميزوبوتاميا، 2019، ص20.
  19. عن حكومة المراسيم السعيدية يُنظر: رمضان: مصدر سابق، ص214 وما بعدها.
  20. المصدر نفسه، ص228.
  21. صالح مهدي دكلة: من الذاكرة: سيرة حياة، تقديم: نزيهة الدليمي، ط1، بيروت، دار المدى، 2000، ص52.
  22. ليث عبد الحسن الزبيدي: ثورة 14 تموز في العراق، ط2، بغداد، دار اليقظة العربية، 1981 ص76.
  23. المصدر نفسه، ص76 و77.
  24. ثمينة ناجي: ج1، ص210.
  25. مناف جاسب الخزاعي: السنوات الحمر والسنين السوداء / الحزب الشيوعي العراقي 1958 ـ 1963، ط1، بغداد، دار عدنان، 2023، ص274 و275.
  26. ثمينة ناجي: ج1، ص224 و225.
  27. سباهي: ج2، ص281 وما بعدها.
  28. المصدر نفسه، ج2، ص287 و288.
  29. الخزاعي: ص278.
  30. سباهي: ج2، ص288.
  31. بشائر محمود مطرود المنصوري: قوات المقاومة الشعبية في العراق 1 آب 1958 ـ 29 تموز 1959، إشراف: فرات عبد الحسن كاظم الحجاج، كلية التربية ـ جامعة البصرة، رسالة ماجستير غير منشورة 2017، ص38 و 50.
  32. معاذ محمد رمضان: الزعيم عبد الكريم قاسم في كتابات السياسيين العراقيين المدنيين والعسكريين، مراجعة وتقديم: د. معن فيصل القيسي، بغداد، دار البيارق، 2024، ص181.
  33. الخزاعي: ص282 و289.
  34. صلاح هادي عبادة الحلي: الاقصاء السياسي في العراق 1953 ـ 1968، إشراف: يحيى كاظم حمود المعموري، كلية التربية ـ جامعة بابل، أطروحة دكتوراه غير منشورة، 2019 ، ص155.
  35. الخزاعي: ص284 و287.
  36. المصدر نفسه، ص293.
  37. الحلي: ص159.
  38. ماريون فاروق سلوغلت وبيتر سلوغلت: من الثورة الى الدكتاتورية ـ العراق منذ 1958، ترجمة: مالك النبراسي، منشورات الجمل، ص89.
  39. عبد الفتاح البوتاني: العراق دراسة في التطورات السياسية الداخلية 14 تموز 1958 ـ 8 شباط 1963، ط1، دمشق، دار الزمان، 2008 ص109.
  40. خليل إبراهيم حسين: الصراعات بين عبد الكريم قاسم والشيوعيين ورفعت الحاج سري والقوميين، موسوعة 14 تموز ج2، بغداد، دار الحرية، 1988، ص180 و181. وقد كانت هذه الرسالة بداية صراع سافر بين الحزب الشيوعي وقاسم بحسب تعقيب المؤلف في الصفحة الأخيرة.
  41. ثمينة ناجي: ج2 ص12.
  42. الخزاعي: ص 309 و310 و311.
  43. المصدر نفسه، ص315 و316.
  44. الحلي: ص192 و193.
  45. جرجيس فتح الله: العراق في عهد قاسم / آراء وخواطر 1958 ـ 1988 ج2، ط1، بغداد- أربيل، دار آراس ودار الجمل، 2014 ص277 و278.
  46. حبيب الهرمزي: مجزرة كركوك 1959 الحدث المروع في تاريخ العراق، ط3 بغداد، دار آشور، 2021، ص6 و7.
  47. مجيد خدوري: العراق الجمهوري، ط1، ايران، الشريف الرضي، 1418، ص173.
  48. العراق في الوثائق البريطانية، ترجمة وتعليق: خليل إبراهيم حسين، مراجعة: عبد الوهاب القصاب، ج4، ط1، بغداد، دار الحكمة، 2002، ص42.
  49. سلوغلت: ص108، البوتاني: ص225، أوريل دان: العراق في عهد قاسم، ترجمة وتعليق: جرجيس فتح الله، ط1 بغداد- أربيل، دار آراس ودار الجمل، 2012 ص293.
  50. البوتاني: ص226، بطاطو: العراق، الكتاب الثالث، ص223 و224، فتح الله: ص262.
  51. عزيز محمد يتحدث ـ صفحات من تاريخ العراق الحديث، حوار وتعليق: د. سيف عدنان القيسي، ط1، بغداد، مكتبة النهضة، 2019 ص64 و65.
  52. العراق في الوثائق البريطانية، ج4 ص42.
  53. الخزاعي: ص320.
  54. الخرسان: ص93.
  55. سباهي: ج2، ص450.
  56. فتح الله: ص269.
  57. الخزاعي: ص146.
  58. المصدر نفسه، ص147.
  59. مذكرات العميد المتقاعد جاسم كاظم العزاوي ـ ثورة 14 تموز أسرارها ـ أحداثها ـ رجالها حتى نهاية عبد الكريم قاسم، بغداد، شركة المعرفة، 1990، ص235 و236 و237.
  60. الخزاعي: ص328 و329.
  61. ثابت حبيب العاني: صفحات من السيرة الذاتية، 1922 ـ 1998، ط1، بغداد، دار الرواد المزدهرة، 2014، ص260.
  62. البوتاني: ص250 و253.
  63. الخزاعي: ص166 و167.
  64. سيف عدنان القيسي: الحزب الشيوعي العراقي والقضية الكردية/ دراسة في أرشيف الوثائق السرية والعلنية للحزب 1935 ـ 1975، ط1، بغداد، دار سطور، 2022 ص159 و164.
  65. رمضان: ص202.
  66. البوتاني: ص109.