
نصر حامد أبو زيد (1943-2010) مفكر مصري متخصص في الدراسات الإسلامية والعلوم الإنسانية متعمق في دراسة النص القرآني وتأويله. أصدر كثيرا من الأعمال منها: إشكاليات القراءة والتأويل، مفهوم النص، الخطاب والتأويل. أصدر كتاب "نقد الخطاب الديني" عام 1992 وقدم فيه قراءة نقدية للخطاب الديني المعاصر. وبسبب مضامين الكتاب واجه الكاتب حملة شرسة من خصومه، واتهم بسبب أبحاثه بالردة والإلحاد، وفرّقت محكمة الأحوال الشخصية بين المؤلف وزوجته على أساس أنه لا يجوز للمرأة المسلمة الزواج من غير المسلم. اضطر إلى مغادرة مصر 1995 والهجرة إلى هولندا، مواصلا عطاءه الفكري الذي لم ينقطع حتى رحيله عن عالمنا.
ونعرض هنا الكتاب في طبعته الثانية الصادرة عن دار سينا، القاهرة، عام 1994، ويقع في 225 صفحة من القطع المتوسط. وقد تصدرها تمهيد طويل بعنوان "تعليق على ما حدث" ناقش فيه ما أثير من اعتراضات واتهامات على الكتاب ومؤلفه وردّه عليها. يتضمن الكتاب مقدمتين، وثلاثة فصول. عرض المؤلف في الفصل الأول: الخطاب الديني المعاصر، آلياته ومنطلقاته الفكرية. وطرح في الفصل الثاني: قراءة نقدية في مشروع اليسار الإسلامي. وعالج في الفصل الثالث: قراءة النصوص الدينية، دراسة استكشافية لأنماط الدلالة.
استرعت الكاتب ظاهرة المد الديني الإسلامي في تسعينيات القرن الماضي، ورأى أن الاتجاهات العامة للدراسات والأبحاث بشأنها ثلاث، الأول: اتجاه المؤسسة الدينية الرسمية للدولة، ممثلة في الأزهر، وبعض رجال الدين الذين يصنفون في صفوف المعارضة الدينية، الثاني: الاتجاه الذي تعامل مع الظاهرة بوصفها تعبيرا حضاريا عن واقع جديد يرفض التبعية والهيمنة الغربية، وممثلو هذا الاتجاه ينتمون إلى تيار اليسار السياسي والفكري. الثالث: اتجاه الرافضين لمشروع "الإسلام هو الحل"، لعلّ أبرز ممثليه "التنويريون" ويطلق عليهم أيضا "العلمانيون".
إن المعركة في نظر الباحث هي معركة قراءة النصوص الدينية، طبقا لآليات العقل الإنساني التاريخي، لا العقل الغيبي الغارق في الخرافة والأسطورة. وهي ليست مجرد معركة حول قراءة النصوص الدينية أو حول تأويلها، بل هي معركة شاملة تدور على جميع المستويات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. ويطرح المؤلف مشروعا استكشافيا هو: تحديد طبيعة النص الديني وآلياته في إنتاج الدلالة، تخلصا من عقدة التأويل والتأويل المضاد، لأن النزال بين قوى التقدم والعقلانية وقوى الأسطورة والخرافة يتم غالبا بآليات السجال الإيديولوجي دون البدء في تحقيق وعي علمي بطبيعة النصوص الدينية، وبطرائق قراءتها، ولهذا تظل الغلبة في هذا السجال للديني على العقلاني. إن الدين -وليس الإسلام وحده- يجب أن يكون عنصرا أساسيا في أي مشروع للنهضة. والخلاف حول المقصود من الدين؛ هل هو كما يطرح ويمارس بشكل أيديولوجي نفعي من جانب اليمين واليسار على السواء، أم الدين بعد تحليله وفهمه وتأويله تأويلا علميا ينفي منه الأسطورة، ويستبقي ما فيه من قوة دافعة نحو التقدم والعدل والحرية (ص 61- 64).
الخطاب الديني المعاصر، آلياته ومنطلقاته الفكرية
تعتمد الدراسة في الفصل الأول مجمل الخطاب الديني موضوعا لها دون التفريق بين "المعتدل" و"المتطرف" فالفارق بين هذين النمطين من الخطاب فارق في الدرجة لا النوع، ويتجلى تطابقهما في اعتماد نمطي الخطابة على عناصر أساسية غير قابلة للنقاش أو المساومة، أهمها عنصران: النص والحاكمية. وكما يتطابق نمطا الخطاب من حيث المنطلقات الفكرية يتطابقان كذلك في الآليات. ويطرح المؤلف الآتي:
أولا: آليات الخطاب
1- التوحيد بين الفكر والدين: منذ اللحظات الأولى في التاريخ الإسلامي كان ثمة إدراك مستقر أن للنصوص الدينية مجالات فعاليتها الخاصة، وأن ثمة مجالات أخرى تخضع لفعالية العقل البشري والخبرة الإنسانية. والخطاب الديني يمد فعاليته إلى كل المجالات، ويوحّد بطريقة آلية بين هذه النصوص وبين قراءته وفهمه لها، ويقوم بإلغاء المسافة المعرفية بين الذات والموضوع، ويدعي القدرة على الوصول إلى القصد الإلهي في النص، أي الحديث باسم الله. الخطاب الديني يبدو وكأنه يصدر عن مسلّمات لا تقبل النقاش، فالجميع يتحدثون عن الإسلام دون أن يخامر أحدهم أدنى تردد أنه يطرح فهمه للإسلام أو لنصوصه، وحتى الاستناد لآراء القدماء واجتهاداتهم أصبح استنادا إلى الإسلام (ص 78- 79).
2- ردّ الظواهر إلى مبدأ واحد: يعتمد الخطاب الديني في توظيفه لهذه الآلية على ذلك الشعور الديني العادي، فيوظفها على أساس أنها إحدى مسلّمات العقيدة التي لا تناقش. كل العقائد تؤمن بأن العالم مدين في وجوده إلى علة أولى أو مبدأ أول- هو الله في الإسلام- والخطاب الديني يقوم بتفسير كل الظواهر الطبيعية والاجتماعية بردّها إلى ذلك المبدأ الأول. فهو يقوم بإحلال "الله" في الواقع العيني المباشر. وفي هذا الإحلال يتم تلقائيا نفي الإنسان ويتم إلغاء القوانين الطبيعية والاجتماعية ومصادرة أي معرفة لا سند لها من الخطاب الديني (ص 81).
3- الاعتماد على سلطة "التراث" و"السلف": توظف هذه الآلية عن طريق تحويل أقوال السلف واجتهاداتهم إلى "نصوص" لا تقبل النقاش أو إعادة النظر وصولا إلى التوحيد بين تلك الاجتهادات وبين الدين في ذاته. يتجاهل الخطاب الديني جانبا آخر من التراث، مستبعدا منه "العقلي" ليكرس الرجعي المتخلف. وهو موقف نفعي إيديولوجي، كما أن الطرف الآخر يستخدم نفس السلاح، مستندا إلى العقل المستنير في التراث، متصورا أنه يستطيع هزيمته بنفس السلاح (ص 85).
4- اليقين الذهني والحسم الفكري: تتلاحم هذه الآلية مع آلية التوحيد بين الفكر والدين. والتلاحم بين الآليتين في الخطاب يقود أصحابه إلى تجهيل الخصوم أو تكفيرهم. وهذا الخطاب لا يتحمل أي خلاف جذري، فهو يزعم امتلاكه الحقيقة المطلقة الشاملة. و حين يزعم امتلاكه وحده الحقيقة يحتمي بدعوى الحقيقة المطلقة التي يمثلها، ويلجأ إلى لغة اليقين والقطع. يفترض الخطاب الديني أن الإسلام تمّ عزله وإقصاؤه عن حركة الواقع، وعلى هذا الافتراض يتم تحديد المشاكل ويرى في العودة إلى الإسلام حلا لكل تلك المشاكل. وهكذا تبدو القضية بديهية بالنسبة له ولا ينشغل بطرح التساؤلات: لماذا، كيف، متى تم إقصاء الإسلام عن واقع المجتمعات الإسلامية (ص 90).
5- إهدار البعد التاريخي: تبدو هذه الآلية واضحة في وهم التطابق بين المعنى الإنساني -الاجتهاد الفكري- الآني، وبين النصوص الأصلية. ويؤدي التوحيد بين الفكر والدين إلى التوحيد مباشرة بين الإنساني والإلهي، وإضفاء صفة القداسة على الزماني والإنساني. تبدو هذه الآلية واضحة كذلك في تصور التطابق بين مشكلات الحاضر وهمومه، وبين مشكلات الماضي وهمومه وافتراض صلاحية حلول الماضي للتطبيق على الحاضر. إن رد كل أزمة من أزمات الواقع في المجتمعات الإسلامية إلى البعد عن منهج الله هو في الحقيقة عجز عن التعامل مع الحقائق التاريخية وإلقاؤها في دائرة الغيبي والمطلق (ص 95).
ثانيا: المنطلقات الفكرية
الحاكمية: يرى المؤلف أن دعوة الإسلام كانت في جوهرها دعوة لتأسيس العقل في مجال الفكر، والعدل في مجال السلوك الاجتماعي بوصفهما نقيضين للجهل والظلم. وقد ظل الخطاب الديني في تاريخ الثقافة الإسلامية حريصا على نفي أي تعارض يمكن أن ينشأ -بحكم حركة الواقع وثبات النصوص- بين الوحي والعقل. وأن أولى محاولات إلغاء العقل لحساب النص، حسب رأيه، هي حادثة رفع المصاحف، فهي نقلت الصراع من مجاله السياسي والاجتماعي إلى مجال آخر هو مجال الدين والنصوص. وحين يتحول الصراع الاجتماعي السياسي من مجال الواقع إلى مجال النصوص يتحول العقل إلى تابع للنص وتتحدد مهمته في استثمار النص لتبرير الواقع أيديولوجيا. ويؤدي تحكيم النصوص في مجال الصراع الاجتماعي السياسي إلى "الشمولية" في فعالية النصوص. إن مبدأ تحكيم النصوص يؤدي إلى القضاء على استقلال العقل بتحويله إلى تابع يقتات على النصوص. وإن الهجوم على التفكير العقلي ورفض التعددية يمثل أساسا من أسس مفهوم الحاكمية. والأساس الثاني والأخطر هو وضع الإلهي مقابل الإنساني، والمقارنة الدائمة بين المنهج الإلهي ومناهج البشر وتؤدي المقارنة إلى عدمية الجهود الإنسانية، ولكي تتعمق الهوة بينهما يتم إعادة صياغة المفاهيم الدينية بإعادة تأويلها لتصب في أيديولوجية "الحاكمية". إن النتائج الخطيرة التي تترتب على طرح مفهوم الحاكمية هي: إهدار دور العقل منتهيا إلى تكريس أشدّ الأنظمة الاجتماعية والسياسية رجعية وتخلفا حيث يكون الوطن ملكا للحاكم (ص 101-117).
النص: يرى المؤلف أن الخطاب الديني يتجاهل البعد التاريخي للنصوص، الذي يتعلق بتاريخية المفاهيم التي تطرحها النصوص من خلال منطوقها، وذلك نتيجة طبيعية لتاريخية اللغة التي صيغت بها النصوص، فتاريخية اللغة تتضمن اجتماعيتها. وهذا يؤكد أن للمفاهيم بعدها الاجتماعي الذي يؤدي إهداره إلى دلالات النصوص ذاتها. إن النصوص محكومة بقوانين ثابتة، والمصدر الإلهي للنصوص لا يخرجها عن هذه القوانين لأنها تأنسنت وتوجهت بمنطوقها ومدلولها إلى البشر في واقع تاريخي محدد، فالنصوص ثابتة في المنطوق، متغيرة في المفهوم (ص 118-119).
التراث بين التأويل والتلوين، قراءة في مشروع اليسار الإسلامي
تناول الباحث في الفصل الثاني قراءة في مشروع اليسار الإسلامي، الذي يمثله، حسب رأيه الدكتور حسن حنفي، مستشهدا بكتاباته المتوزعة في أكثر من كتاب ثم يقوم بنقدها. وقبل الدخول في موضوع القراءة طرح المؤلف تعريفه لمفهومين استخدمهما في قراءته وهما: التأويل والتلوين.
التأويل: تتضمن الدلالة اللغوية بُعدين: الأول: من الفعل آل ومشتقاته ومعناها العودة والرجوع، فالتأويل هو إرجاع الشيء أو الظاهرة موضوع الدرس إلى عللها الأولى. الثاني: معنى الوصول إلى الغاية -غاية الشيء- بالرعاية والسياسة والإصلاح آل مالَهُ إيالة، إذا أصلحه وساسه. والائتيال: الإصلاح والسياسة. يقارن علماء القرآن بين الدلالة الاصطلاحية لمفهوم "التأويل" مع مفهوم "التفسير" ويحددون العلاقة بينهما بأنها علاقة الخاص بالعام، فالتفسير يتعلق عندهم بالرواية فيما يتعلق التأويل بالدراية. التفسير بتعلق بالنقل والتأويل بالعقل. والنقل يعني مجموعة العلوم الضرورية واللازمة للنفاذ إلى عالم النص وفضّ مغاليقه وصولا لتأويله. وبدون هذه العلوم ينفسح المجال بلا حدود أو ضوابط أمام الفرد والجماعة لإسقاط أيديولوجيتها على النص، أي للوثب من "التأويل" إلى "التلوين" (ص 140-141).
التلوين: ما دام التأويل فعالية ذهنية استنباطية، فمن البديهي أن يكون للذات العارفة دور لا يمكن إنكاره أو تجاهله. فالقارئ محكوم معرفيا بآفاق الزمان والمكان. وهكذا تتعدد دلالات النصوص. يرى الباحث ضرورة التفريق بين القراءة "غير البريئة" والقراءة "المغرضة". إن انعدام البراءة في قراءة النصوص أمر له تأويله المعرفي، ما دام فعل المعرفة لا يبدأ من فراغ شامل مطابق لحالة البراءة الأصلية على افتراض وجودها، أمّا القراءة المغرضة فلا تأويل لها إلّا في الأيدولوجيا. إن التعامل مع النصوص أو تأويلها يجب أن ينطلق من زاويتين: زاوية التاريخ: لوضع النصوص في سياقها من أجل اكتشاف دلالتها الأصلية وزاوية السياق الاجتماعي والثقافي الراهن الذي يمثل دافع التوجه إلى التأويل، وذلك من أجل التفرقة بين الدلالة الأصلية التاريخية وبين المغزى الذي يمكن استنباطه من تلك الدلالة. القراءة المغرضة لا تنتج سوى التلوين. والتلوين ينتج عن النزعة الذاتية النفعية في التعامل مع النصوص، وينتج كذلك عن نزعة شكلية تخفي توجهاتها الأيدولوجية تحت شعار الموضوعية العلمية (ص 142-143). إن المغزى أو محاولة الوصول إليه يمثل الغاية والهدف من فعل القراءة، وهذه الغاية لا يمكن الوصول إليها إلا عبر اكتشاف الدلالة. إن التأويل حركة بندولية وليست حركة في اتجاه واحد، هي حركة بين الدلالة والمغزى، وبدونها تتباعد القراءة عن أفق التأويل لتقع في وهدة التلوين. وبعد التعريف بمصطلحات البحث تناول المؤلف دراسة مشروع اليسار الإسلامي كتطبيق لما طرحه سمّاه: القراءة المنتجة.
اليسار الإسلامي وأولويات الخطاب الديني
يرى الباحث أن مفهوم "اليسار" ونقيضه "اليمين" ينطلقان من نفس الثوابت المعرفية التي تطرحها النصوص الدينية. ويشير إلى أن مصطلح اليسار الإسلامي طرحه الدكتور حسن حنفي بداية الثمانينيات. ويرى الباحث أن ما يفسّر نبرة التردد في الخطاب السياسي لليسار الإسلامي اتباعه مبدأ "التقيّة". وإن المبدأ المفسّر لطريق مواجهته اليمين الإسلامي هو "التوفيقية" على مستوى الخطاب الفلسفي| الديني، فاتهم بالماركسية والعمالة من جانب النظام والمد الديني، واتهم بالتلفيقية والتبريرية من جانب قوى اليسار. ويرى الباحث أن "التوفيقية" جزء أصيل في بنية اليسار الإسلامي، وهي بوصفها نهجا فكريا تلتقي مع التقية بوصفها نهجا سياسيا، فيلجأ المفكر اليساري أحيانا إلى التقية على مستوى الفكر، ويمارس التوفيقية على مستوى الخطاب السياسي (ص 149-150). وحول الموقف من التراث فقد تحول لدى السلفيين إلى إطار مرجعي، بينما تحول عند العلمانيين إلى غطاء وسند. وفي كلتا الحالتين فقد التراث وجوده الموضوعي لحساب التلوين الأيديولوجي النفعي. وفشل كلا الاتجاهين في تأسيس معرفة علمية بالواقع أو بالتراث، وفشلا في إحداث أدنى تغيير كيفي في الوعي المعاصر (ص 154).
الماضي والحاضر، الأصل والفرع
ثم تطرق المؤلف إلى تصور الفكر الديني للعلاقة بين الماضي والحاضر. وبرأيه فإن الفكر الديني -اليميني بصفة خاصة- يهدر العلاقة الجدلية بينهما، ويجعل للماضي أولية وجودية ومعرفية بحيث يصبح هو الجوهر الثابت، وتتحول علاقة الحاضر به إلى علاقة تبعية وخضوع. ويسعى الخطاب الديني السلفي إلى إعادة صياغة الحاضر وفقا لصورة الماضي. أما اليسار الإسلامي فإنه يطرح تصورا يتوازى مع الطبيعة التوفيقية التي تمثل استراتيجية الخطاب اليساري (ص 156). فالماضي يتداخل في تشكيل الحاضر بعد أن يتحول إلى "مخزون نفسي" للجماهير، وهذا التراث المخزون من منظور اليسار الإسلامي هو الأساس النظري لبنية الواقع. لا يحلل اليسار الإسلامي علاقة التشابه لقيم ومفاهيم التراث ماضيا وحاضرا بل يثب بطريقة ميكانيكية من الماضي إلى الحاضر.
مفهوم التراث في خطاب اليسار الإسلامي أنه نتاج الواقع الذي نشأ فيه وهو يقع خارج دائرة القداسة، لهذا يعمل فيه آليات تجديده توطئة لإعادة بناء المخزون النفسي للجماهير ومن ثم إحداث التغيير في بنية الواقع . يرى الباحث أن اليسار واليمين يتصوران كلاهما أن حل مشكلات الواقع الراهن يقبع في التراث. كلاهما يجعل الماضي أصلا والحاضر فرعا. إن قراءة الحاضر في الماضي تأسيسا على أن التراث "مخزون نفسي" تؤدي إلى إهدار الحاضر بسجنه في أسر الماضي. ويؤكد الباحث أن قراءة الحاضر في الماضي بالطريقة التي عالجها الخطاب اليساري هي قراءة مغرضة، وأن مقولة "التراث مخزون نفسي" غامضة تحتاج للمراجعة (ص 162).
التراث: بناء شعوري أم بناء تاريخي
ويستطرد الباحث في بيان رأيه بالحركة الصاعدة من الحاضر إلى الماضي، والتي تمر عبر وسيط "الشعور" المقابل لمخزون "الوسيط النفسي" في حركة الهبوط. في هذه الحركة ينكشف تصور اليسار الإسلامي للتراث بوصفه بناء شعوريا. إن البناء الشعوري على عكس البناء التاريخي يتعامل مع الفكر عموما والتراث خصوصا على أساس من استقلال الفكر عن الواقع، وهذا التصور لاستقلال الفكر عن التاريخ وعن حامليه يجعل الحركات والتيارات الفكرية التاريخية في التراث مجرد "ردود أفعال" واستجابات فكرية لأنماط من الفكر سابقة عليها. ومنهج الشعور في الخطاب اليساري مجاله الكشف عن الواقع الكلي بمستوياته العديدة والمتشابكة، وهي دعوة يراها الباحث مغرقة في المثالية (ص 167).
التراث: إعادة بناء أم إعادة طلاء
يرى الباحث أن الهدف النهائي لمشروع اليسار الإسلامي هو إعادة بناء العلوم التراثية. ويستشهد بقول حنفي الذي يرى أن التراث والتجديد كله ما هو إلا شروح على الماضي، وهذا ليس تحصيل حاصل وإنما هو إعادة بناء الموضوعات ذاتها على أساس من أبنيتها المعاصرة. ويردّ الباحث أن إعادة البناء تستلزم تفكيك البناء القديم أولا واختبار مكوناته. كما يرى أن التوحيد بين المنظومات الفكرية المختلفة في بنية علم الكلام يؤدي بمحاولة إعادة البناء إلى العكوف على الصورة الخارجية طلاء وتجديدا فقط. إن هذا البناء في حقيقته حسب رأي الباحث هو تفكيك للمنظومات الفكرية للفرق والاتجاهات وإعادة ترتيب جزئياتها لا يخلو من دلالة أيديولوجية تعطي الصدارة لبنية المنظومة الأشعرية، إخفاء للبنية المعتزلية. وإن إبقاء بنية العلم كما صاغتها العصور المتأخرة على غرار البنية الأشعرية أصاب مشروع اليسار في مقتل وجعل التجديد إعادة طلاء لا إعادة بناء (ص 168-169).
النصوص: تأويل أم تلوين
ونتيجة التسليم بمشروعية البنية المنطقية الصورية الأشعرية لعلم الكلام تمّ التعامل مع الأفكار والنصوص معزولة عن سياق منظوماتها الفكرية، وهذه النتيجة أدّت إلى نتائج سلبية كثيرة، أوّلها المسارعة إلى إصدار أحكام ذات طابع تلويني على بعض النصوص والأفكار. إن التلوين على مستوى النصوص والأفكار يعتمد آلية التحويل الدلالي عن طريق توسط الشعور، لا عن طريق استثمار إمكانات الدلالة الأصلية (ص 178-179). وإن منهج الشعور في التعامل مع النصوص ينتهي إلى التعامل معها بوصفها صورا عامة فارغة قابلة للامتلاء بالمضمون الذي يفرضه المنهج، منهج الشعور الذاتي. وإن الأفكار الجزئية إذا فصلت عن سياق منظوماتها الفكرية فقدت دلالتها الجزئية، وبالمثل فإن فصل المنظومة عن سياقها التاريخي| الاجتماعي يفقدها دلالتها الكلية. وفي كلتا الحالتين لا بد أن يقع التأويل في وهدة التلوين (ص 184).
التوفيقية: النجاح والإخفاق
ويقيّم الباحث مشروع اليسار الإسلامي فيراه أقرب إلى الإخفاق منه إلى النجاح، فهو يسعى إلى التوفيق بين أطراف لم ترصد جوانب الخلاف أو الاتفاق بينها بدقة، ويجمد الحاضر في الماضي، ويتجاهل السياق التاريخي| الاجتماعي للتراث (علم الكلام) ويتعامل معه بوصفه بناء شعوريا مفارقا لزمانه ومكانه. علما حقق المشروع أيضا إنجازات في دراسة التراث، فهناك جهد واضح لمحاولة تأويل العقائد، وهي محاولة مشروعة لتحويل اللاهوت إلى انثروبولوجيا والإلهيات إلى إنسانيات، كذلك الإصرار على تاريخية واقعة الوحي. وينتقد الباحث هاجس "التوفيق" و "التوحيد" لدى اليسار في توحيد اتجاه التراث. إن المشروع اليساري يدافع بحرارة عن منهج العقل ويهاجم بضراوة عبدة النصوص، يقوده تردده إلى نقد منهجه العقلي والدفاع عن منهج النص في سياق التردد النابع من الطبيعة التوفيقية للمشروع كله (ص 185-192).
قراءة النصوص الدينية. دراسة استكشافية لأنماط الدلالة
وضّح المؤلف في الفصل الثالث أن الفكر البشري بما في ذلك الفكر الديني نتاج طبيعي لمجمل الظروف التاريخية والحقائق الاجتماعية لعصره. والفكر الديني ليس بمعزل عن القوانين التي تحكم حركة الفكر البشري عموما، ولا بدّ من التمييز بين الدين والفكر الديني؛ فالدين هو مجموعة النصوص المقدسة الثابتة تاريخيا، أمّا الفكر الديني فهو الاجتهادات البشرية لفهم تلك النصوص وتأويلها واستخراج دلالتها (ص 197). ويرى الباحث أنه بسبب الطبيعة السجالية الأيدولوجية للعلاقة بين خطاب التنوير والخطاب السلفي، لم يستطع التنويريون أن ينقطعوا عن السلفيين بإنتاج وعي تاريخي علمي بالنصوص الدينية ذاتها، وظلت الرؤية اللاتاريخية للنصوص الدينية هي الرؤية المسيطرة عند كلا الفريقين على السواء. ويوضح الباحث ما المقصود بإنتاج وعي تاريخي علمي بالنصوص الدينية، إن ما يعنيه بالوعي التاريخي العلمي بالنصوص الدينية يتجاوز أطروحات الفكر الديني قديما وحديثا، ويعتمد على إنجازات العلوم اللغوية وخاصة في مجال دراسة النصوص (ص 200). ويدعو المؤلف إلى عدم الوقوف عند المعنى في دلالته التاريخية الجزئية، وضرورة اكتشاف "المغزى" الذي يمكن أن يؤسس عليه الوعي العلمي التاريخي. ويوضح قراءته في أربع فقرات:
1- النصوص الدينية نصوص لغوية تنتمي إلى بنية ثقافية محددة تمّ إنتاجها طبقا لقوانين تلك الثقافة التي تعد اللغة نظامها الدلالي المركزي. يوضح الباحث الفرق بين "اللغة" و"الكلام". فاللغة هي النظام الدلالي للجماعة في كليته وشموله، وهي المخزن الذي يلجأ إليه الأفراد في صناعة "الكلام". إن دلالة النصوص الدينية لا تنفك عن النظام اللغوي الثقافي الذي تعد جزءا منه، فاللغة ومحيطها الثقافي هي مرجع التفسير والتأويل، وتدخل في مرجعية التفسير والتأويل كل علوم القرآن. إن اللغة ليست ساكنة ثابتة، بل تتحرك وتتطور مع الثقافة والواقع. ويفرق الباحث بين الخاص والعام في دلالة النصوص، فالخاص هو الجانب الدلالي المشير مباشرة إلى الواقع الثقافي التاريخي لإنتاج النص، والعام هو الجانب الحي المستمر القابل للتجدد مع كل قراءة. و يرى أن هناك ثلاثة مستويات للدلالة في النصوص الدينية: الأول: مستوى الدلالات التي ليست إلّا شواهد تاريخية لا تقبل التأويل المجازي أو غيره. الثاني: مستوى الدلالات القابلة للتأويل المجازي. الثالث: مستوى الدلالات القابلة للاتساع على أساس "المغزى" الذي يمكن اكتشافه من السياق الثقافي| الاجتماعي الذي تتحرك فيه النصوص، ومن خلاله تعيد إنتاج دلالتها (ص 203-210).
2- يعرض الباحث نمطا دلاليا أصبح شاهدا تاريخيا، فيستشهد بمثال تجارة العبيد التي كانت جزءا جوهريا من البناء الاقتصادي للمجتمع العربي قبل الإسلام، وكان من الطبيعي أن ينعكس هذا الواقع في النص دلالة ولغة وأحكاما، مثل أحكام الزواج، الزنا، كفارات بعض الذنوب. وهذه الأحكام أسقطها الواقع التاريخي وألغاها، ومثلها مسألة الجزية وأهل الكتاب. ومن النصوص التي يجب أن تعتبر دلالاتها من قبيل الشواهد التاريخية النصوص الخاصة بالسحر والحسد والجن والشياطين. فهذه مفردات في بنية ذهنية ترتبط بمرحلة محددة من تطور الوعي الإنساني (ص 210-215).
3- يرى الباحث أن الانطلاق من معطيات النص الحرفية والتمسك بالدلالات التي تجاوزتها الثقافة وتخطتها حركة الواقع يكشف عن بعده الأيديولوجي في إصرار الخطاب الديني على جعل العلاقة بين الله والإنسان محصورة في بعد "العبودية". ويوضح أن الدال اللغوي لمفهوم العبودية ما يزال مستعملا رغم أن النظام الاجتماعي الاقتصادي لم يعد له وجود. والخطاب الديني يحصر العلاقة بين الله والإنسان في بعد العبودية مصرا على تأكيد الدلالة الحرفية. ويرى المؤلف أن النص القرآني لا يصوغ العلاقة بين الله والإنسان على أساس "العبودية" بل على أساس "العبادية" المشربة بالحب والرحمة (ص 215-220).
4- يهدف الباحث إلى اكتشاف دلالة بعض الأحكام التشريعية معتمدا على السياق الدلالي الداخلي للنصوص من جهة، وعلى السياق التاريخي الاجتماعي من جهة أخرى؛ فيفرّق بين "المعنى" و"المغزى" فالمعنى يمثل المفهوم المباشر لمنطوق النصوص الناتج عن تحليل بنيتها اللغوية في سياقها الثقافي، فهو يمثل الدلالة التاريخية للنصوص في سياق تكوّنها وتشكلها. أمّا المغزى فهو محصّلة لقراءة عصر غير عصر النص. وإذا لم يكن المغزى ملامسا للمعنى ومنطلقا من آفاقه تدخل القراءة دائرة "التلوين" بقدر ما تتباعد عن دائرة "التأويل" كما أن المعنى يتمتع بقدر ملحوظ من الثبات النسبي، والمغزى ذو طابع متحرك مع تغيّر آفاق القراءة (ص 220-221).
نلاحظ أنه رغم مرور ثلاثة عقود على ظهور الكتاب، فإن أفكاره تسجل حضورها واستمرارها في المعترك الثقافي الاجتماعي، وتشتد الحاجة بعد التغيرات العاصفة في المنطقة إلى مواجهة الخطاب الذي يسعى للهيمنة على حياة الناس باسم الدين. وقد اعتمد المؤلف في كتبه ودراساته على منهج نقدي منفتح على الفكر الإنساني مستخدما السيميولوجيا والهرمنيوطيقا. وأكّد أبو زيد في كتاب لاحق طروحاته، موضحا "سلطة الخطاب" بالقول: أن الخطابات تتبادل عناصر التأثير والتأثر مهما تباعدت منطلقاتها الفكرية وتناقضت آلياتها التعبيرية والأسلوبية. والخطابات من خلال تصارعها مع بعضها البعض تتبادل استعارة العناصر التي تساعدها على إعادة تكييف بنيتها وتنشيط خصائصها وتجديد بعض منطلقاتها لكي تستطيع مواجهة نقيضها. والخطابات في سياق ثقافي حضاري تاريخي بعينه تتشارك نفس الإشكاليات وتواجه نفس التحديات. وهي تستعير أدوات بعضها البعض، وتسمح لنفسها باستعارة مقولات الخطاب الخصم وتعيد تأويلها لتتمكن من توظيفها في سياقها الخاص(1).
الهوامش
1- نصر حامد أبو زيد، الخطاب والتأويل، ط 1، الدار البيضاء، المركز الثقافي العربي، 2000، ص 5-6.