
يُعَدّ كتاب الاقتصادي الفرنسي توماس بيكيتي رأس المال في القرن الحادي والعشرين أحد أكثر الكتب التي أثارت اهتمامًا عالميًا بين مؤلفات الاقتصاد السياسي الصادرة في العقود الأخيرة، وغالبًا ما يُقارَن بأعمال كارل ماركس وجون مينارد كينز. يعتمد بيكيتي في كتابه على بيانات وأبحاث أُجريت على مدى أكثر من ثلاثة قرون، وبمساهمة أكثر من ثلاثين باحثًا من مختلف دول العالم، بدءًا من القرن السابع عشر وحتى القرن الحادي والعشرين.
في المقدمة
"لا يمكن للتمايزات الاجتماعية أن تقوم إلا على المنفعة العامة"
إعلان حقوق الإنسان والمواطن، المادة 1، 1789، الثورة الفرنسية
تُعَدّ قضية توزيع الثروة من أكثر القضايا المثيرة للجدل في عصرنا. هل يؤدي تراكم رأس المال الخاص إلى تركزه في أيدي قلة، كما اعتقد ماركس في القرن التاسع عشر؟ أم أن التطور الاقتصادي والتنمية بمختلف أشكالها تسهم في تقليل اللامساواة وتعزيز الانسجام بين الطبقات، كما تصور سايمون كوزنتس في القرن العشرين؟ ما الذي تعلمناه من تطورات القرنين الماضيين، وأي اتجاه تسير فيه الأمور؟ (ص 9).
يسعى بيكيتي إلى تقديم تحليل يمتد لثلاثة قرون ويغطي أكثر من عشرين دولة، فضلًا عن طرح إطار نظري جديد لفهم أعمق لآليات توزيع الثروة. لقد نجح الاقتصاد المعاصر في تفادي النبوءة الكارثية لماركس، لكنه لم يغيّر البنية العميقة لرأس المال واللامساواة كما توقع البعض خلال العقود المتفائلة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، وهو ما يقوض جذريًا قيم الجدارة التي تقوم عليها المجتمعات الديمقراطية. (ص 9).
الأدب واللامساواة
انعكست اللامساواة في روايات بلزاك وجين أوستن (1790–1830)، التي قدمت تصورًا دقيقًا لهرم الثروة في بريطانيا وفرنسا، ودورها الخفي في حياة الرجال والنساء، وهو منظور لا يمكن لأي تحليل إحصائي أن ينقله بذات الدقة. إن توزيع الثروة مسألة في غاية الأهمية، بحيث لا يمكن تركها للاقتصاديين والمؤرخين والفلاسفة وحدهم، إذ إنها تمس الجميع. فاللامساواة المادية واضحة للجميع بالعين المجردة، مما يولّد أحكامًا سياسية متناقضة؛ إذ يرى الفلاح والنبيل، والعامل وصاحب المصنع، العالم من مواقع مختلفة، وهو ما يغذي الصراعات السياسية التي لا يمكن إسكاتها بتحليلات "جمهورية الخبراء" التي تحاول أن تحل محل الديمقراطية. لذا، فإن مسألة توزيع الثروة تستحق دراسة منهجية دقيقة، بعيدًا عن الأحكام المطلقة. (ص 10).
نظريات التفاوت الاقتصادي عبر التاريخ
في أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر، أصبح توزيع الثروة قضية جوهرية بسبب التغيرات العميقة في البنية الاجتماعية والاقتصادية وتأثيرها على التوازن السياسي الأوروبي. كان النمو السكاني، وفقًا لمالثوس، هو التهديد الرئيسي. أما ريكاردو وماركس، الأكثر تأثيرًا في القرن التاسع عشر، فقد توقعا أن ملاك الأراضي والرأسماليين الصناعيين سيطالبون بنصيب متزايد من الدخل، مما سيؤدي إلى تراجع نصيب بقية السكان. لكن الواقع خالف هذه التوقعات، إذ انهارت أسعار الأراضي بدلًا من ارتفاعها. ومع ذلك، فإن فكرة الندرة لم تندثر، بل تحوّلت من الأراضي إلى العقارات في المدن والنفط في العقود الأخيرة (ص12).
أما ماركس، في كتابه رأس المال عام (1867) فقد ركّز على القوى المحركة للرأسمالية الصناعية، وليس على الندرة الزراعية. ورأى أن نمو الاقتصاد زاد من بؤس الطبقة العاملة مقارنةً بالعمال الزراعيين، مما أدى إلى قصر أعمارهم، كما انعكس ذلك في روايات البؤساء وجيرمينال وأوليفر تويست، وأيضًا في كتاب إنجلس أوضاع الطبقة العاملة في إنكلترا (1845). ومع استمرار ارتفاع مستويات اللامساواة، بدأ التساؤل حول فائدة التقدم الصناعي إذا كان يؤدي إلى تدهور أوضاع الجماهير، مما أسهم في صعود الحركات الاشتراكية والشيوعية (ص15).
لقد كان ماركس مقتنعًا بأن الرأسمالية تنتج حفاري قبرها، وأن انهيارها وانتصار البروليتاريا أمران حتميان. وقد ميز نفسه عن الاقتصاديين السابقين مثل آدم سميث وريكاردو وجان بابتيست ساي، حيث رأى أن تراكم رأس المال الصناعي لا حدود له، مما سيؤدي إما إلى تراجع مستمر في معدل الربح وتصاعد التنافس بين الرأسماليين، أو إلى استحواذ رأس المال على نصيب متزايد من الدخل القومي، مما سيؤدي في النهاية إلى ثورة العمال. غير أن نبوءة ماركس لم تتحقق، إذ شهدت العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر ارتفاعًا طفيفًا في الأجور، رغم استمرار التفاوتات الكبيرة. كما أن الشيوعية لم تظهر في أقوى الاقتصادات الرأسمالية، بل في أضعف حلقاتها (ص 18).
"أهمل ماركس قوتين كانتا، إلى حد ما، قادرتين على تشكيل ثقل مضاد لعملية تراكم رأس المال الخاص. كان السبب في ذلك هو عدم توفر البيانات لدى ماركس. رغم ذلك، يبقى تحليل ماركس ساريًا في العديد من الجوانب. فكرة التراكم التي قدمها ماركس ما زالت سارية المفعول اليوم كما كانت في السابق. رغم أن قلة النمو السكاني لا يمكن أن توازن التراكم اللانهائي لرأس المال وفقًا لماركس، إلا أن هذا يبقى مقلقًا "(ص 19).
اللامساواة في القرن العشرين
خلال القرن العشرين، قدم سايمون كوزنتس رؤية مختلفة، حيث اعتقد أن اللامساواة في الدخل ستتراجع تلقائيًا في المراحل المتقدمة من الرأسمالية، بغض النظر عن السياسات الاقتصادية أو الفوارق بين الدول. وفي عام 1955، طرح كوزنتس ما يُعرف بـ"فرضية المنحنى"، والتي تنص على أن اللامساواة تزداد في البداية مع النمو الاقتصادي، لكنها تنخفض لاحقًا، متبعةً منحنى على شكل ∩. وقد استندت نظريته إلى بيانات إحصائية من الولايات المتحدة على مدى 35 عامًا ( ص 22).
لكن نتائج الأبحاث الحديثة تدعو إلى الحذر من الحتمية الاقتصادية فيما يتعلق بتفاوت الثروة. إذ لم يكن انخفاض اللامساواة بين عامي 1910 و1950 نتيجة تطور طبيعي، بل جاء بسبب تأثير الحروب وسياسات التكيف مع صدماتها. وبذلك، تظل اللامساواة ناتجًا مشتركًا لكل الفاعلين في المجتمع، وتخضع لعوامل سياسية واجتماعية بقدر ما تخضع لعوامل اقتصادية (ص 29).
هل المعرفة والمهارات قادرة على تقليص التفاوت؟
يُقال إن انتشار المعرفة والمهارات هو العامل الأهم في تقليل اللامساواة داخل الدول وبينها، كما يتجلى ذلك في النمو الاقتصادي لدول مثل الصين. ومع ذلك، فإن تأثير هذا العامل يظل محدودًا مقارنةً بالقوى الاقتصادية التي تدفع نحو مزيد من التفاوت، مثل تركز الثروة عندما يكون النمو الاقتصادي ضعيفًا وعائد رأس المال مرتفعًا.
تشير البيانات إلى أن أغنى 10% من السكان في الولايات المتحدة امتلكوا بين 45% و50% من الثروة في العقدين الأولين من القرن العشرين، ثم تراجعت النسبة إلى 30%-35% في أواخر الأربعينيات واستقرت حتى السبعينيات، قبل أن تبدأ في الارتفاع مجددًا في الثمانينيات، حتى عادت إلى مستوياتها السابقة بحلول عام 2000. هذا يثير تساؤلًا جوهريًا: هل سيستمر هذا الاتجاه التصاعدي في اللامساواة؟ وهل تُعزى هذه الزيادة إلى الكفاءة والمهارات الإنتاجية لأولئك الذين يتقاضون أجورًا مرتفعة، أم أن السبب هو قدرتهم على تحديد مكافآتهم بأنفسهم، بغضّ النظر عن إنتاجيتهم الحقيقية (ص 30).
قوة التباعد والتقارب
تعمل قوة التباعد وفق معادلة بسيطة لكن ذات تأثير بالغ: عندما يكون العائد على المال أعلى من تقدم الإنتاج والدخل، يتسع الفارق بين من يملكون الأصول ومن يعتمدون على العمل كمصدر وحيد للعيش. عندما يتفوق العائد على المال بشكل دائم على النمو الاقتصادي، يتحول التفاوت إلى مسار ثابت يتسع مع الوقت، مما يؤدي إلى تراكم الثروة في القمة وتقلص حصّة باقي المجتمع.
في أوروبا، كانت الثروة الخاصة الإجمالية في نهاية القرن التاسع عشر تتراوح بين ستة إلى سبعة أضعاف الدخل القومي. لكن بعد الحرب العالمية الأولى، انخفضت نسبة رأس المال إلى الدخل إلى ضعفين أو ثلاثة، لتبدأ بالارتفاع مجددًا منذ الخمسينيات، وصولًا إلى خمسة أو ستة أضعاف الدخل القومي في أوائل القرن الحادي والعشرين في فرنسا وبريطانيا. إذا استمر العائد على رأس المال أعلى من نمو الاقتصاد، سيزداد التفاوت بشكل كبير، مما يهدد قيم العدالة الاجتماعية.
تساهم عوامل مثل ارتفاع معدلات الادخار أو زيادة العائد الفعلي على رأس المال في تعزيز التباعد الهيكلي. على الرغم من وجود قوى تقارب، إلا أن قوى التباعد تظل الأقوى في الوقت الحالي. الحل يكمن في تبني سياسات مضادة مثل فرض ضرائب تصاعدية على رأس المال، لكن تأثيرها قد يكون محدودًا.
تقتصر الدراسة على الفترات التي تتوافر فيها البيانات، مع التركيز على الدول الغنية والفقيرة والناشئة. تم تحليل العلاقة بين فرنسا وبريطانيا واستعمار الدول الأخرى خلال "العولمة الأولى" (1870-1914)، حيث بلغ التفاوت مستويات هائلة. أسواق الأسهم في القرن الحادي والعشرين لم تصل إلى نفس النسب التي كانت في باريس ولندن في تلك الفترة (ص 36).
أحد المصادر المهمة لدراسة فرنسا هو هيكلة الثروة التي وُثّقت بتفاصيل دقيقة منذ تسعينيات القرن الثامن عشر. كما أن النمو السكاني المنخفض في فرنسا مقارنة بأمريكا له دلالات مهمة؛ فبينما تضاعف عدد سكان فرنسا خلال قرنين من الزمن (من 30 إلى 60 مليون نسمة)، زاد عدد سكان الولايات المتحدة بمئة ضعف. ومن الضروري النظر إلى الثورة البرجوازية الفرنسية، التي أرسَت بسرعة أسس المساواة القانونية في علاقتها بالسوق (ص 37).
منذ السبعينيات، فقدت العلوم الاجتماعية اهتمامها إلى حد كبير بدراسة توزيع الثروة وقضايا الطبقات الاجتماعية، رغم أن هذه الإحصاءات كانت تلعب دورًا مهمًا في البحث التاريخي والاجتماعي. فالمفاهيم المجردة مثل الدخل، ورأس المال، ومعدل النمو الاقتصادي، والعائد على رأس المال، ليست مجرد حقائق رياضية مؤكدة، بل هي أدوات نظرية تساعد في تحليل الواقع التاريخي.
تمثل المنحنيات نسبة رأس المال إلى الدخل في عدة دول أوروبية، إضافة إلى اليابان. ومن الممكن، في نهاية المطاف، أن تتحد قوى التباعد في القرن الحادي والعشرين لتزيد من حدة عدم المساواة، بل وتخلق أنماطًا جديدة من التفاوت الجذري. ومع ذلك، هناك ظاهرتان مختلفتان يجب التمييز بينهما. وهو تغيير لافت للنظر. والسؤال الذي يطرح نفسه: إلى أي مدى يمكن أن يستمر هذا الاتجاه؟
تُكتب المتباينة الأساسية بين معدل العائد السنوي على رأس المال، شاملاً الأرباح، والتوزيعات، والفوائد، والريع، وجميع الدخول الأخرى الناتجة عن رأس المال، معبرًا عنها كنسبة من قيمته الإجمالية. معدل النمو الاقتصادي، أي الزيادة السنوية في الدخل أو الناتج.
إن إطلاق الرصاص على عمال مناجم البلاتين المُضربين في جنوب أفريقيا عام 2012 للمطالبة بزيادة أجورهم بنسبة 100%، مما أسفر عن مقتل 34 عاملًا وإصابة آخرين، ثم قيام الشركة لاحقًا بعرض زيادة بنسبة 1.5% فقط، يذكرنا دوماً بتاريخ توزيع الدخل بين العمل ورأس المال. لقد كان هذا التوزيع في قلب الصراع الاجتماعي وأساس التفاوت الاقتصادي، وهو تفاوت تفاقم مع الثورة الصناعية، ربما بسبب تركز الإنتاج واستغلال الموارد الطبيعية.
تم إطلاق النار على العمال المضربين في أيار 1886 في شيكاغو، ثم في أيار 1891 في شمال فرنسا، حين كانوا يطالبون بزيادة الأجور. وهنا يبرز السؤال: هل أصبح هذا الأمر من الماضي، أم أنه سيستمر في القرن الحادي والعشرين؟ يتساءل الكاتب. لم يكن إضراب عمال المناجم مرتبطًا فقط بالأرباح الطائلة التي حققتها الشركة والمساهمون، بل كان أيضًا رد فعل على الفوارق الشاسعة بين أجور العمال والمرتبات الخيالية للمدراء.
منذ القرن الثامن عشر، اعتقد الاقتصاديون أن توزيع الدخل بين العمل ورأس المال مستقر نسبيًا، حيث يحصل العمل على ثلثي الدخل القومي، ويذهب الثلث إلى رأس المال. لكن بيانات القرن العشرين كشفت عن تحولات كبيرة بفعل الحروب (1914–1945)، والثورة البلشفية، والكساد الكبير، إضافة إلى السياسات الضريبية في الخمسينيات التي قلّصت من حصة رأس المال.
غير أن رأس المال استعاد نفوذه مع "الثورة المحافظة" بقيادة تاتشر وريغان، ثم تسارع هذا الاتجاه بانهيار الاتحاد السوفييتي وتحرير الأسواق في التسعينيات. في هذا السياق، تحوّل مفهوم رأس المال من العقارات إلى الأصول الصناعية والمالية.
مع ظهور "رأس المال البشري"، كان متوقعًا أن تزداد حصة العمل، لكن البيانات الحديثة تُظهر ضعفها في العقود الأولى من القرن الحادي والعشرين. وإذا استُثني رأس المال البشري، فإن نصيب العمل من الدخل يعود إلى مستويات القرن التاسع عشر. ويظل التفاوت ظاهرة داخلية بالأساس، حيث تُعمّق ملكية رأس المال الفجوة بين الأغنياء والفقراء في البلد الواحد، أكثر من كونها فجوة بين الدول.
لكن تطرح العولمة سؤالًا حاسمًا: ماذا يحدث عندما تصبح بعض الدول مدينة لدول أخرى بشكل مفرط، ويقترب صافي أصولها من الصفر؟
يُحتسب الدخل القومي على النحو التالي:
يُحتسب الدخل القومي على النحو التالي:
الدخل القومي = الناتج القومي + صافي الدخل من الخارج
وعلى المستوى العالمي:
الدخل العالمي = الناتج العالمي (ص53).
وعلى المستوى العالمي:
الدخل العالمي = الناتج العالمي (ص53).
أما رأس المال، فهو يشمل جميع الأصول غير البشرية القابلة للملكية والتداول، كالمعدات، والعقارات، والأصول المالية، ويُستثنى منه ما يُعرف بـ"رأس المال البشري". ففي عام 2010، ورغم ارتفاع متوسط الدخل الفردي في الدول الغنية، لم يكن هذا التوزيع عادلًا، إذ يكسب البعض أقل بكثير، بينما يجني آخرون أضعافًا بسبب تراكم الثروة وتفاوت الأجور.
يدفع المواطنون عادةً ثلث إلى نصف دخلهم كضرائب لتمويل الخدمات العامة. لكن يبقى السؤال الأساسي:
ما هو رأس المال؟
باختصار، سواء كنا نتحدث عن الحسابات على مستوى شركة أو دولة أو الاقتصاد العالمي، يمكن تقسيم إجمالي الإنتاج والدخل إلى مجموع دخل رأس المال ودخل العمل (الدخل المكتسب من العمل).Formulärets överkantFormulärets nederkant
باختصار، سواء كنا نتحدث عن الحسابات على مستوى شركة أو دولة أو الاقتصاد العالمي، يمكن تقسيم إجمالي الإنتاج والدخل إلى مجموع دخل رأس المال ودخل العمل (الدخل المكتسب من العمل).Formulärets överkantFormulärets nederkant
الدخل القومي = دخل رأس المال + دخل العمل
هنا، لا يشمل رأس المال ما يسميه الاقتصاديون "رأس المال البشري"، أي المهارات والقوى العاملة للأفراد. بل يشير إلى مجموع الأصول غير البشرية القابلة للملكية والتداول، مثل رأس المال المالي والمعدات الإنتاجية التي تستخدمها الشركات والوكالات الحكومية، بالإضافة إلى رأس المال الخاص والعام. يتغير تعريف ما يمكن امتلاكه بمرور الزمن وفقًا لمراحل التنمية والعلاقات الاجتماعية في كل مجتمع، إذ تسعى بعض المصالح الخاصة إلى امتلاك أصول في الجو، والبحر، والجبال، وحتى الآثار، مما يجعل مفهوم رأس المال غير ثابت (ص 55).
في أغلب الدول المتقدمة اليوم، تكاد الثروة العامة تكون معدومة أو سالبة بسبب ارتفاع الديون، بينما تُشكّل الثروة الخاصة الجزء الأكبر من الثروة القومية
الثروة القومية = الثروة الخاصة + الثروة العامة
ويمكن تفكيك الثروة القومية إلى رأس مال محلي ورأس مال أجنبي:
الثروة القومية = رأس المال المحلي + صافي رأس المال الأجنبي
حيث يمثل صافي رأس المال الأجنبي الفرق بين الأصول التي يملكها المواطنون في الخارج، وتلك التي يملكها الأجانب في الداخل.
عشية الحرب العالمية الأولى، كانت بريطانيا وفرنسا تملكان فوائض كبيرة في الأصول الخارجية. أما في عصر العولمة منذ الثمانينيات، فتقاربت موازين الأصول بين الدول، رغم استمرار ضخامة حجم الأصول المتبادلة (ص 57 ـ 58).
نسبة رأس المال/ الدخل
يشير الدخل إلى تدفق الإنتاج خلال فترة زمنية معينة (عادة سنة)، بينما يمثل رأس المال المخزون التراكمي للثروة في لحظة زمنية محددة، ويمكن قياسه كنسبة من الدخل القومي.
في الدول المتقدمة، تتراوح هذه النسبة بين 5 و6، حيث يكون معظم رأس المال مملوكًا للقطاع الخاص. فعلى سبيل المثال، في عام 2010، بلغ متوسط دخل الفرد القومي في هذه الدول 30-35 ألف يورو سنويًا، بينما تراوحت الثروة الخاصة بين 150-200 ألف يورو للفرد، أي خمسة إلى ستة أضعاف الدخل السنوي. لكن هذا المتوسط لا يعكس التوزيع الحقيقي، إذ يكسب البعض أقل بكثير، بينما يمتلك آخرون ملايين أو حتى عشرات الملايين. لذا، فإن نسبة رأس المال إلى الدخل لا تخبرنا بشيء عن التفاوت الاقتصادي (ص 59).
التوزيع العالمي للإنتاج
بين عامي 1900 و1980، كانت أوروبا وأمريكا الشمالية تسيطران على 70-80% من الإنتاج العالمي للسلع والخدمات. إلا أن هذه الحصة تراجعت بحلول عام 2010 إلى 50%، وهو تقريبًا نفس المستوى الذي كانت عليه في عام 1860. ومن المرجح أن تستمر هذه الحصة في التراجع، لتصل إلى 20-30% في مرحلة ما من القرن الحادي والعشرين، ما لم يحدث تحول مفاجئ، مثل انتكاسة اقتصادية في الصين. وهذه العودة إلى مستويات ما قبل الثورة الصناعية تعني أن الغرب تمكن، عبر التصنيع، من تحقيق إنتاج يعادل ضعفين أو ثلاثة أضعاف حصته السكانية من الناتج العالمي (ص 68).
اللامساواة العالمية
يتراوح دخل الفرد بين 150 يورو إلى 3000 يورو شهريًا. أدنى مستويات الدخل توجد في جنوب الصحراء الكبرى والهند، حيث يتراوح بين 150 و250 يورو شهريًا، بينما يصل إلى 2500-3000 يورو شهريًا في أوروبا وأمريكا واليابان، أي بين عشرة إلى عشرين ضعفًا من الدخل في البلدان الفقيرة. أما المعدل العالمي، وهو قريب من المعدل الصيني، فيتراوح بين 600 و800 يورو شهريًا، مع وجود هامش كبير للخطأ في هذه الأرقام. إذا تم استخدام أسعار الصرف الحالية، ستظهر اللامساواة بشكل أكبر نظرًا لتأثرها بالسياسات والاستثمارات (ص 71 ـ 72).
التوزيع العالمي للدخل مقارنة بالناتج المحلي
توزيع الدخل عالميًا أكثر تفاوتًا من توزيع الناتج المحلي. الدول ذات الإنتاج المرتفع لا تكتفي بإنتاجها، بل تملك أيضًا حصصًا من رأسمال الدول الأخرى، ما يتيح لها جني دخل خارجي إضافي. وبهذا، يصبح نصيب الفرد من الدخل القومي في الدول الغنية أعلى من نصيبه من الناتج المحلي، فيما يحدث العكس في الدول الفقيرة. تشكّل هذه الظاهرة رافعة للدخل القومي في دول مثل اليابان وألمانيا، حيث يزيد دخل الفرد بنحو 5% عن ناتجه، وتبلغ حصة رأس المال في الدخل نحو 30%، منها 20% مملوكة لمستثمرين أجانب (ص 76).
القوى المعززة للتقارب بين الدول
في عام 1913، امتلكت أمريكا وبريطانيا وفرنسا، إلى حد ما ألمانيا، بين ثلث ونصف الرأسمال المحلي في آسيا وإفريقيا، وأكثر من ثلاثة أرباع رأس المال الصناعي في تلك المناطق. رغم ما تفترضه النظريات الكلاسيكية، لم يؤدِّ الاستثمار الأجنبي في الدول الفقيرة دائمًا إلى تضييق الفجوة مع الدول الغنية. في حالات كثيرة، كما في إفريقيا، ساهم امتلاك المستثمرين الأجانب لجزء كبير من الناتج في ترسيخ التفاوت بدلًا من الحدّ منه.
التجربة التاريخية تُظهر أن النمو الحقيقي تحقق حين اعتمدت الدول على تمويل محلي، كما فعلت الصين وكوريا، إلى جانب استثمار كثيف في التعليم والمهارات. أما الدول التي خضعت للاستعمار أو راهنت على رأس المال الأجنبي فكانت أقل نجاحًا (ص 78).
تشير الدراسات إلى أن المعرفة، لا المال وحده، كانت العامل الحاسم في تقليص الفجوة. فالتجارة الحرة لم تفد الجميع بالتساوي، بل استفاد منها من امتلك أدوات الإنتاج المعرفي. هذه الأدوات لا تُمنح، بل تُكتسب من خلال استثمار منهجي في التعليم والتدريب، وضمان بيئة قانونية مستقرة (ص 80).
تشير البيانات إلى أن تركز الدخل والثروة لم يتعافَ تمامًا من صدمات 1914–1945، حيث انخفض نصيب أعلى 1٪ بين 1950 و1970، قبل أن يعاود الارتفاع بعد 1980. ومع العولمة، لم يعد من الممكن الاكتفاء بقياس هذه الفروقات على مستوى الدول، بل بات ضروريًا النظر إليها عالميًا (ص 107).
يرتبط تراكم الثروة بالنمو الاقتصادي البطيء مقارنةً بأرباح المال، وبالانتقال الوراثي للثروة قبل القرن الثامن عشر، حين كان دخل الأصول يمثل 40٪ من الناتج، وكان ادخار 10٪ كافيًا لزيادة التركز. وقد أدى النظام الضريبي بعد الحرب العالمية الثانية إلى تراجع هذا التفاوت مؤقتًا.
بين اعوام 1987 و2011، ارتفع عدد أصحاب المليارات من 140 إلى 1400، وارتفعت ثرواتهم من 300 إلى 5400 مليار دولار، في وقت بلغ فيه الناتج المحلي العالمي 85,000 مليار (ص 445).
خلال الفترة ما بين عامي 1970 و2010، برزت العلاقة بين الادخار الوطني (الخاص والعام) بوضوح، لا سيما في الدول الصناعية. فعلى سبيل المثال، بلغ معدل الادخار الخاص في إيطاليا نحو 15%، بينما سجّل الادخار العام فيها معدّلًا سلبيًا قدره – 6.5%. أما في اليابان، فكان القطاع العام هو الاستثناء الوحيد بين تلك الدول، حيث بلغ معدل ادخاره 0.1%، في حين سجّلت بقية الدول الصناعية معدلات سالبة في ادخار القطاع العام (ص 196).
خلاصة القول: في اقتصاد السوق القائم على الملكية الخاصة، تسهم المعرفة والتعليم في تقليص الفجوة، لكن تفوق أرباح المال على نمو الدخل يدفع نحو اتساع التفاوت، ما يهدد قيم العدالة والاستقرار. إذ يميل المال المتراكم إلى أن ينمو أسرع من الناتج، ما يُحوِّل صاحب العمل إلى مالك ريع، ويعمّق تبعية من لا يملك سوى قوة عمله. ولتحقيق التوازن، يجب أن يكون نمو الناتج 4–5% سنويًا ولمدة طويلة.
الكتاب: توماس بيكيتي، رأس المال في القرن الحادي والعشرين، ترجمة وائل جمال وسلمى حسين، القاهرة، التنوير، د. ت، عدد الصفحات 653.