
مقدّمة
في العام 1928 أصدرت الكاتبة اللبنانية نظيرة زين الدين كتابَها «السفور والحجاب»، الذي تضمّن رؤيتها لتحرير المرأة المسلمة من أغلال الحجاب – النقاب، الذي كان يفرض على النساء «القرار في البيوت» والاحتجاب عن الأنظار، وعدم الاختلاط، وصولاً إلى حرمانهنّ من التعليم والعمل، والخروج إلى الفضاء الخارجي. وتلا كتاب «السفور والحجاب» كتاب «الفتاة والشيوخ» الذي صدر عام 1929، وجاء يوثّق ردودَ الفعل المتضاربة حول طروحاتها.
أشاد بطروحات زين الدين، التنويريون والنهضويون والسفوريون، وهاجمها بضراوة لا مثيل لها، السلفيون والمحافظون والحجابيون، بعضهم شهّر بها على منابر الجوامع، وصادر كتبَها المعروضة في المكتبات وأشعل النار فيها، وقام بتهديد كل من يؤيّد السفور بالقتل، وتعرّضت هي نفسها لمحاولة قتل.
تدلّ هذه الوقائع الحادّة، على جدّة خطاب نظيرة السفوري، وفرادته، قياساً للخطاب الذي كان سائداً في بلاد الشام حول السفور، والذي كان متخلّفاً عن الخطاب حول السفور الذي تأسّس في مصر على يد قاسم أمين في كتابه «تحرير المرأة» 1899، وترجمت تنفيذه على أرض الواقع هدى شعراوي ورفيقاتها.
عربياً، لم تكن نظيرة أولَ من طالب بالسفور وبإنصاف المرأة، والاعتراف بحقّها في الخروج إلى الحياة العامة، والانخراط في الثقافة الاجتماعية، ككائن مكتمل، ولكنّها كانت أولَ امرأة لبنانية وعربية تُخصّصُ كتاباً كاملاً لهذا الموضوع، وهي تفوّقت بذا، على كاتبات عديدات كتبنَ مقالات مطوّلة في قضايا المرأة ولكنّ مجموع أفكارهنّ لم يشكّل مشروعاً فكرياً متكاملاً.
وهنّ لم يتطرّقنَ إلى موضوعات محرّمة يفتي فيها الرجال، كالحجاب والاختلاط وأحكام الزواج، ونظام التعدّد، وأحكام الشهادة والميراث والطلاق، وسلطات رجال الدين، وأخطاء الفقهاء، وحق كل مسلم ومسلمة في الاجتهاد، لأنّ الأمر يعرّضهنّ لمواجهة ذاتية مع فقهاء، اعتبروا حقّهم في التفسير والإلزام مقدّساً.
وهي كانت أول امرأة عربية تستند في مشروعها التحرري إلى التراث، في الوقت الذي لم يشكل فيه التراث مرجعية خطاب النساء التحرري الوحيدة، معتمدةً منهجاً علمياً متكاملاً، على أسس التفسير الفقهي، مرتكزةً إلى مرجعيتَي التراث الأساسيتين «الكتاب والسنّة»، وطبقاً للقواعد الفقهية المتوافَق عليها، مقتفيةً على هذا المنوال أثرَ المنهج الذي وضعه جمال الدين الأفغاني(1)، واعتمده وطوّره الشيخ محمد عبده، ويُعَدُّ كتابها «السفور والحجاب»، بعد حوالي مائة عام على صدوره، الوحيدَ الذي كتبته امرأة في تفسير الآيات القرآنية التي تخصّ بنات جنسها، ويُحسَب لنظيرة أنّها أسّست لمفهوم «المساواة القرآنية» بين الجنسين، وأنّها سوّغت للمرأة المسلمة حق الاجتهاد الديني.
إنّ العودة إلى كتابات نظيرة زين الدين ليست بكاءً على الأطلال أو انتقاماً لمساهمة معيّنة، بل بحث عن تراكم معرفي حول الإشكاليات المفاهيمية الحقوقية التي كانت تعترض علاقة النساء بالرجال الشخصية والاجتماعية، والحلول التي حاول النساء والرجال وضعها لها، كلّ وفق مرجعياته الثقافية وتجاربه، ومدركاته، ومفاهيمه، وتطلّعاته.
الحجاب فريضة بشرية
تفترض نظيرة أنّ الحجاب – النقاب ليس فريضةً دينيةً، بل بشرية، ابتدعتها العقلية الذكورية، في سبيل تحجيم أدوار النساء، والتحكّم بحيواتهنّ، وحرمانهنّ حقهنّ في الحرية، والاعتراف، والمساواة، عدا عن كونه أداةً حسيةً لإمحاء تمايز النساء الشكلي بعضهنّ عن بعض، وإلغاء فرادتهنّ، وتعطيل وظائف حواسهنّ، ومنعهنّ من الرؤية، والتنفّس، السليمين، والكلام...
أثبتت نظيرة أنّ الحجاب – النقاب ليس فريضةً دينية، معتمدةً منهجاً علمياً متكاملاً، على أسس التفسير الفقهي، ارتكزت فيه إلى مرجعيّتَي التراث الأساسيتين، الكتاب والسنّة، دون الأخذ بتفاسير الفقهاء المتناقضة، والمليئة بالمغالطات، مراعيةً القواعد الفقهية المتوافَق عليها وهي:
- التيسير لا التعسير.
- لا ينكر تغيّر الأحكام بتغيّر الأزمان.
- إذا تعارضت الحجج بلا مرجع تساقطت، ويقتضي ذلك الرجوع إلى الكتاب والسنّة(2).
وإثر إثباتها أنّ الحجاب – النقاب ليس فريضةً دينية، ولا حتى الحجاب بالمطلق، وأنّ «آيات الحجاب» تتوجه إلى نساء النبي دون غيرهنّ من المؤمنات، دعت نظيرة زين الدين إلى سفور الوجه واليدين، مستندةً في استنتاجها إلى حديثين نبويين صحيحين، الأول موجّه إلى أسماء بنت أبي بكر، والثاني إلى هند بنت أبي سفيان(3)، علماً أنّ النبي قال بعدم الأخذ بما يخالف الكتاب، علّها اقتفت أثر قاسم أمين الذي اكتفى بسفور الوجه واليدين، أو اقتنعت بالتدرّج في السفور.
كشفت نظيرة آثارَ الحجاب – النقاب الوخيمة على سيرورة النساء، فهو يعيق نموهنّ العقلي والنفسي، ويحرمهنّ من المعرفة والاختبار، والاكتساب، والترقي، ويمنعهنّ من الانخراط في «مدرسة العالم»(4). وهي لم تكتف بالاعتراض على مفاعيله العقلية والنفسية المسيئة للمرأة، بل اعترضت على الحجاب – النقاب كحاجبٍ لحواس المرأة ومعطّل لها، فالحجاب – النقاب يعطّل بنظرها حاسة النظر، والشمّ، والسمع، والذوق، والقدرة على الكلام(5)، وهي حشدت، للدفاع عن أطروحتها، كمّاً من البراهين الدينية والمدنية، مستلّةً هذه الأخيرة من بنود شرعة حقوق الإنسان، ومنجزات الحداثة، مفترضةً تطابق المدنية الإسلامية مع المدنية الغربية.
اجتهدت نظيرة في بيان أضرار الحجاب – النقاب، بعد إثباتها عدم مشروعيته الدينية، فما الذي يُبرّر الإصرار عليه من قبل الحجابيين؟ وما هي حججهم؟
كان الحجابيون في تلك المرحلة لا يشدّدون على مشروعية الحجاب – النقاب الدينية، بعد أن تمّ التشكيك فيها من قبل قاسم أمين، بقدر تركيزهم على عوامل أخرى تدفعهم إلى التمسّك بالحجاب وبقوة، تجعل مشروعيته الدينية من عدمها، أمراً ثانوياً.
واستكمالاً لمسيرتها في رفض الحجاب – النقاب، فنّدت نظيرة زين الدين حججَ الحجابيين حجةً حجة، وكانت جلّ هذه الحجج تدور حول مسألتَي «الفتنة» و«النقصان الأنثوي الماهوي»، استناداً إلى المقولة الدينية المشكوك في صحتها «ناقصات عقل ودين».
بيد أنّنا ونظراً إلى محدودية المساحة المخصصة للمقالة، فقد اخترنا التوسّع في كيفية معالجة نظيرة لإشكالية «الفتنة» فحسب، لسببين: الأول هو أنّ حجة «الفتنة» هي «الركيزة الأساسية» في نظرية الحجاب الإسلامي، وهي كذلك بالنسبة إلى الحجابيين الذين نافحوا عن الحجاب – النقاب بكل ما أوتوا من قوة، والسبب الثاني لأنّ نظيرة أولت هذه المسألة اهتماماً بالغاً في ردودها على معارضة الحجابيين، لإدراكها أنّ نزع فتيل الفتنة هو الخطوة الأولى في مسيرة النضال الفكري من أجل السفور. فما هي الاستراتيجية التي اعتمدتها نظيرة لتفكيك منظومة المفاهيم التي تدور في فلك براديغم الفتنة ولتسفيه مسلّمات ومزاعم الحجابيين وأفكارهم المسبقة؟
أولاً: في تعريف مفهوم الفتنة
وفق تعريف ابن منظور في «لسان العرب»، يحمل الدال «الفاتنة» معاني سلبية، تنطلق من المادي نحو المعنوي والرمزي، وصولاً إلى القدسي، من تذويب الفضة والذهب، لتمييز الرديء من الجيد، إلى الابتلاء، والامتحان، والاختبار، والمعصية، والكفر، والاحتراق والعذاب.
كما أنّه يعني الوله والحب، والفجور، في آنٍ معاً، والخداع، والغرور، وتزيين المعاصي، دون إغفال تشبيه اختلاف الآراء، والتحزّب، بالفتنة، فيقال «الفتن» و«الحروب» للدلالة على الاضطرابات السياسية وحالات التمرّد والرفض، والاختلاف في الرأي.
ترجع اللفظة، في غالبية معانيها، إلى المنطق الديني القائم على الثواب والعقاب، مع ترجيح كفة العقاب الأليم، المرتبطين بمرتكزات واشتراطات النظام الإلهي الإسلامي، في الاجتماع والسياسة.
بأية حال، وفي معظم دلالاته الرمزية المعيارية، ينطوي مفهوم «الفتنة» على حالة الخروج عن النظام السائد، الممهور بالإرادة الإلهية، وعلى تهديد مضمر بالعذاب والعقاب، موجّه إلى كل من يعصي القوانين الإلهية، ويخالف المحظورات والمحرمات الاجتماعية العاكسة للإرادة الإلهية.
لقد ارتبطت كلمة «المرأة» عند العرب بكلمة الفتنة، فيقال «امرأة فاتنة» لا «رجل فاتن»، كما يقال «افتُتنَ»، لا «افتُتنَتْ»، والمرأة «العروب» المشتقّة من كلمة «عرب» نفسها، هي المرأة الفصيحة، والضحاكة، والمغوية والعاصية لزوجها، والفاضحة لأمره، والوله بالمرأة يقود إلى الفتنة والاضطراب، ولحماية الرجال من النساء، ومن وقوع هؤلاء في الإثم والمعصية، كان لا محيد من عزل المرأة بعيداً عن أعينهم، وعن المجتمع، وذلك بتغطيتها ولعنها، كما تُلَفّ القنابل الخطرة، وتعطيل قدرتها على الإغواء تعطيلاً كاملاً.
ورثت الثقافة العربية الإسلامية الفكرة القديمة التي ألصقت تهمة الشيطنة بحواء وبالنساء أجمعين من بعدها، ومن الأمثلة الشائعة عند العرب «ما اجتمع رجل وامرأة إلا وكان الشيطان ثالثهما»، ولقد ركّزت هذه الثقافة على اللذة التي يشعر بها الرجل إزاء المرأة، وعلى صعوبة مقاومته لجاذبيتها، مقابل قدرتها على إيقاع هذا الرجل في شرّها، وفي مكائدها.
وفي حال أقدمت المرأة على إغواء الرجل، أصبحت كأمّها حواء، التي تسبّبت بخروج آدم من الجنة، وحرمته نعمة الخلود، أو كزليخة امرأة العزيز التي حاولت مراودة يوسف عن نفسه، وأخفقت، أو كعشتار، ربّة الغرائز الوهاجة والعشق، والتي حاولت إغواء جلجامش المهجوس بالخلود والعظمة، وأخفقت هي الأخرى.
والرجل من جهته، وإن كان ينطوي على شهوة جنسية طاغية، ولا يحاول ضبطها وترويضها، والسيطرة عليها، فهو لا يمارس الإثم، إلا بسبب فتنة المرأة، وإيحاءاتها الشيطانية، وهذا يجعله يمارس ما لا يحق له، كما يمنعه أيضاً من التفكير في الله والدين والعلم، والإسهام في بناء الحضارة، وعليه فالزواج «نصف الدين»، ويقي الرجل من فقدان العقل والسيطرة على الذات، والإتيان بالمنكرات.
ولكنّ فقه «الفتنة» لا يكتفي بحماية الرجل وتحصينه بالزواج، من مفاسد الفتنة التي تسبّبها المرأة، فيضرب حول هذه الأخيرة حصاراً حديدياً.
ولكنّ هذه الرؤية أدّت إلى مفارقات معيارية، فبدل تعميق الموانع النفسية الفردية لدى الجنسين، يتمّ أخذ تدابير جذرية إلغائية، تقضي بمنع كلّي أو جزئي للاختلاط، والأفضل للمتشدّدين أن يُمنَع الاختلاط كلياً وأن يتم الفصل بين الجنسين، وأن توضع المرأة تحت الإقامة الجبرية.
لم يُعْنَ فقه «الفتنة» بتطبيع العلاقة بين الجنسين، والارتقاء بتواصلهما، الحتمي اليومي، إلى درجة التواصل الإنساني البحت، المنزّه من الشهوة المستعرة، كما أنّه لم يُعْنَ بحثّ الرجل على المجاهدة في سبيل تهذيب النفس، وضبط غرائز الجسد، ونزعاته، عملاً بالمبدأ الديني «الجهاد الأكبر» الذي يعلو، كما يفيد اسمه، على «الجهاد الأصغر»، وهو القتال في سبيل الإسلام، وضدّ أعدائه.
تُكرّس منظومة دلالات مفهوم الفتنة، المرأة ككائن جنسي مليء بالإيحاءات الجنسية، وهذه الإيحاءات غير حيادية، بل مصدر لافتتان الرجال، المدفوعين تحت ضغط الغريزة، إلى مخالفة النظام القائم، فيما هم مكلّفون بالحفاظ على النظام والتوازن، والتركيز على الفعل المجدي، وإعمال العقل، وبناء الحضارة، خلافاً للنساء.
إلا أنّ هذه الرؤية المؤثمة للجنس المحرّم، امتدّت على كينونة المرأة وبرّرت النظرة الدونية إليها، فهي كتلة غرائز هوجاء ولا تعقل.
ولعل اللوحة المعجمية التي وضعتها “فتنة آية صباح” في كتابها “المرأة في اللاوعي المسلم”(6)، تجسّد هذه الازدواجية المعيارية.
المبدأ الذكري |
المبدأ الأنثوي |
العقل |
الرغبة |
النظام |
الفوضى |
الله |
الشيطان |
المسيطِر |
المسيطَر عليه |
لقد قمنا بالتعريف الأولي المعجمي لمفهوم الفتنة، بالإشارة إلى دلالاته المباشرة، انسجاماً مع طبيعة استعمالات نظيرة نفسها للمفهوم، والتي اقتصرت على دلالاته الأولية، أمينةً بذلك لتعريفها له، بقولها:
«أما الفتنة ففيها أمران: إما الخوف من وقوع الإثم في قلب الرجل فحسب، أو الخوف من أن تبلغ من نفسه الفتنة حدّ الفجور».
والحال، يشتبك مفهوم الفتنة مع مفاهيم محايثة، من مثل مفهوم الإحصان، والزنى، والتأكيد على الأبوة البيولوجية، والنسب الأبوي، ومشكلة المواريث، وارتباط كل هذه المفاهيم بالنظام الأبوي بشقّه الذكوري، القائم على سيادة الذكر وتبعية النساء والذرية له.
ويُعَدّ التحكّم بجنسانية المرأة، حجرَ الزاوية في بنيان النظام الأبوي، ومفهوم «الفتنة» نقطة الدائرة في منظومة المفاهيم التي يتأسّس عليها هذا النظام ويدوم، ويُعمّر.
ثانياً: المرأة والرجل كائنين معنويين
يستهدف الحجاب الجسدَ كوعاء للكينونة، وكشكل للإقامة على الأرض، متسللاً إلى العقل والوجدان، مسهماً في تشكيل صورة محدّدة عن الذات، تُستدخل وتُستبطن حتى تصبح أحد مكوّنات الشخصية. وباستهدافه شمولية الجسد الأنثوي، يُعبّر الحجاب كعلامة عن أيديولوجيا متكاملة تتعلق، في آنٍ معاً، بالنظرة إلى هذا الجسد، وعلاقته بالجسد الآخر، وعلاقتهما معاً بمنظومة أخلاقية معيارية تقوم على تشيئ جسد المرأة وتأثيمه وتبرئة الرجل.
كما تقوم هذه المنظومة الأخلاقية على التباس تجاه رغبات المرأة، فهي شهوانية، فاتنة ومُفتنة وتُسأل عن افتتان الرجل بها، وعن افتتانها به، وهو بريء من الافتتان ومحاذيره، وعليها وحدَها أن تتخذ التدابير الوقائية للحيلولة دون هذه الفتنة التي لا تتأكد هذه المرة سوى بإشهار عفّتها بالحجاب، وبتقديس التقاليد والأعراف التي ترسم لها الوسائل اللازمة للوقاية من الفتنة، من دون إشراكها بالفهم والتفسير وبالقرار. وهذه الأعراف والتقاليد والمفاهيم والقوانين ترسم وتحدّد كل تفاصيل حياة النساء ومساراتها تحت عنوان الوقاية من الفتنة والحرص على العفة، فما هي مقومات هذه الرؤية التي تؤول إلى الحجاب وتستقر من دونه لأنّها تتعلق بالذهنيات أتجسّدت بالحجاب أم لا؟
في منظور أنصار الحجاب، يُعَدّ إخفاء الجسد أو إلغاء معالمه الظاهرة المدخلَ إلى عالم الروح، مفترضين أنّ الحجاب الذي يُخفي الجسد أو يُبعد تأثيره عن ذهن الآخرين، يؤدي تلقائياً إلى مزيد من الروحانية في فكر المرأة وسلوكها. إلا أنّ الانطلاق من ازدواجية الروح والجسد كماهيتين منفصلتين والدعوة إلى إلغاء الجسد للسمو بالروح قد تؤدي إلى نقيضها، وإلى نتائج معكوسة تتساوى بين التحجيب والسفور والتبرّج المفرطين، كما يستنتج أحدهم:
وهكذا لا يكفّ دعاةُ إنصاف المرأة عن التشكيك في صحة نظرية الحجاب، مُوازين بينه وبين التبرّج المفرط، معتبرين وبشكل مفارق المتاجرة بجسد المرأة في وسائل الإعلام والإعلان وفي الموضة، الوجه الآخر للحجاب، القائم على تعزيز الجانب الإيروتيكي. هذه النظرة الإيروتيكية البحت إلى كينونة المرأة وعتها نظيرة زين الدين واجتهدت لتشذيبها وتصويبها.
تستهجن الكاتبة تحويل المرأة إلى غرض جنسي وتشييئها، وحصر قيمة وجودها بمواصفاتها الخارجية الفيزيقية، بجسدها ومظهرها الخارجي، على حساب ما قد تتمتّع به من خصال وفضائل رمزية، وتحويلها إلى كائن إيروتيكي محض.
ففي معرض ردّها على رأي للشيخ سعيد البغدادي(7) الذي يربط فيه بين حبّ الرجل لزوجته وتثمينه لجمالها وحمايتها وصونها بالحجاب، تدعو الكاتبة إلى إيلاء أهمية رئيسة لصفات المرأة العقلية والأخلاقية التي تُضفي على كينونتها أبعاداً غير إيروتيكية، تسمو بها إلى المعنوي، والرمزي، والروحي، فتخاطب الشيخ البغدادي قائلةً: «أوليس للرجال أدلّة يؤيدون بها حبّهم لنسائهم؟ وهل الآباء والأبناء والأخوة المسلون لا يحبّون بناتهم وأمهاتهم وأخواتهم، ولا يرغبون فيهنّ ما لم يكنّ جميلات؟ والفضيلة يا سيدي المرشد؟ الشرف، الناموس، كرم الخلق، العفاف، الحياء، الإباء، الوفاء، الإخلاص، عزة النفس، أدب القلب، أدب اللسان، خوف الله، علو الهمة، الصدق، الصراحة في القول، الأمانة، النزاهة، الاستقامة، الرأفة، الحلم، الوقار، الرصانة، الاعتدال، البر، التقوى، الطاعة، حسن التدبير، محبة الأهل، محبة الوطن، محبة الأمة، حب الخير العام، أكلّ هذه الفضائل لا شيء؟ أولا تستحقّ النساء من أجلها شيئاً من الحب الخالص لهنّ، ومن الرغبة فيهنّ؟ أم أنّ كلّها من خصائص الروح لا تهمّك، بل إنّما يهمّك جمال الجسد وحده؟»(8).
إنّ الصفات التي تسمّيها نظيرة، وتكاد تؤنّثها، هي صفات عابرة للجنس، وتُعَدُّ تقليدياً من مواصفات الذكورة اللازمة واللازبة، كي يستحقّ الذكر الانتساب إلى جنسه، وإلى أبعاد الذكورة المعنوية والرمزية، بيد أنّ النظام المعياري القائم لا يكترث للمرأة التي تتمتع بهذه المواصفات، ويحشر هذه الأخيرة في أبعاد جسدها.
ترفض الكاتبة إذن، المسلّمة المضمرة القاضية بتحويل المرأة، جسماً وروحاً، إلى غرض جنسي بحت، ولكنّها تستدلّ على أنّ هذه الرؤية لا تستثني الرجل وتُحوّله هو الآخر إلى كائن جنسي، بحيث تتمّ إحالتهما معاً إلى البُعد البيولوجي، الأمر الذي يستدعي الارتقاء بالنظرة إليهما معاً، ووضع استراتيجيات تربوية لهذه الغاية، تقوم على تطبيع العلاقة بين الجنسين منذ الصغر: «فعوّدوا النساء منذ الصغر يا سادتي الرجال أن ينظروا إليكم نظرهنّ إلى منبع عقل وأدب، عوّدوهنّ أن ينظرنَ إليكم من حيث الروح لا من حيث الجسد، وعوّدوا أنفسكم الشرف والإباء والنبل عند مقابلتهنّ»(9).
كما تلفت إلى أنّ النظرة إلى المرأة، ككائن إنساني مكتمل، ومنزّهة من الشهوة، ممكنة، ما دام هذا الرجل المتشدّد يتعامل بحيادية مع غير المسلمات السافرات، وهنّ لسنَ أشرف فطرةً من المسلمات المحجبات، كما مع المسلمات القرويات، فتخاطب الرجال المزدوجي الموقف قائلةً: «إنّكم تعوّدتم مقابلة السيدات الشريفات غير المسلمات سافرات، وتعوّدتم احترامهنّ، وتعوّدت أولئك السيدات مقابلتكم واحترامكم احتراماً روحياً نزيهاً وشريفاً، فيمكن والحالة هذه أن يكون أمركم كذلك مع السيدات المسلمات الشريفات إذا تعوّدتم أن تروهنّ سافرات، فالسافرات اليوم لسنَ أشرف فطرةً منهنّ. ألا ترونَ أنّ مقابلاتكم المسلمات من القرويات وهنّ سوافر، وهنّ يزدنَ على المتديّنات أضعافاً، لا تؤذيكم ولا تؤذيهنّ أدباً ونبلاً، فلماذا تتوقعون الأذى في مقابلة المسلمات المدنيات؟»(10).
ولذلك ترى الكاتبة أنّ هذه الاستراتيجيات تتناقض مع مفهوم «الجهاد الأكبر» المتوقَّع من المسلم بما هو السيطرة على النفس وعلى الرغبات، ومع التدابير المفروضة على المرأة من أجل منع الفتنة، إذ يجب على الآخر المفتون تحمُّل المكابدة المتوخاة والمجاهدة. وفي هذه الحالة تتعذّر الفتنة، كفعل غير محمود، ولا تعود هناك حاجة إلى تغطية المرأة وعزلها.
وعندما تنادي الكاتبة باستبدال النظرة الإيروتيكية البحت إلى العلاقة بين الجنسين كردٍّ على فرض الحجاب ومنع الاختلاط، فهي تثير مشكلة عامة كامنة في الثقافة العربية الإسلامية التي تطمس الدور الإنتاجي الاقتصادي والسياسي للجسد لصالح الإيروتيكي: «إذ إنّ النظر إلى المرأة كغرض جنسي كلياً، عتمّ (إن لم نقل طمس)، البُعد الاقتصادي، مقابل تضخيم البُعد الإيروتيكي للمرأة الذي يفضي إلى جنسنة الجسد الذكري، وغالباً العلاقات بين الجنسين من جهة، وطمس المشاكل التي تتعلق بمجالات أخرى»(11).
يقوم هذا الخطاب الإيروتيكي الطاغي والمهيمن، بنوع من البتر، على مستوى البيئة الإنسانية، حيث يؤدي إلى تحجيم كلّ المجالات التي تربط الإنسان بمحيطه، وخصوصاً المجال السياسي، مستبدلاً الصراع السياسي بالصراع من أجل السيطرة على الآخر، واحتجازه في حقل واحد هو الحقل الجنسي.
وعلى هذا المنوال، يختزل الحجاب المرأة بأنوثتها البيولوجية، والرجل بذكورته البيولوجية هو الآخر، فيتم اختزال علاقتهما الإنسانية المركّبة بهذا البُعد، دون الأبعاد الأخرى الوجودية والاجتماعية.
ثالثاً: تواطؤ الضحية
تُكرِّسُ الثقافة الذكورية المقدّسة المرأة، كغرض جنسي آثم وشيطاني عليه أن يستترَ ويتوارى عن الأنظار، درءاً للفتنة، وحفاظاً على النظام الاجتماعي، ولكن على هذا الكائن الملتبس أن يتقمّصَ شخصيةً مضادةً في الداخل، فالمرأة المأمورة بألاّ تفتن في الخارج مأمورة بأن تفتن الزوج في الداخل، وأن تلبّي رغباته.
تتكيّف المرأة مع هذه المعادلة، ولا تألو جهداً في سبيل إغراء الزوج وإغوائه، وإيقاعه في فتنتها، فتتزيّن وتتجمّل وتتبرّج لأجله، ولكنّ هذا الأخير لا يلبث أن ينقلبَ عليها، ويتّهمها، وبسبب سعيها إلى إرضائه، بعدم الأهلية، وعدم استحقاقها المطالبة بحقّ واحد من حقوق الرجل، وهذا ما قرّره الشيخ مصطفى الغلاييني حين قال في كتابه «الإسلام روح المدنية» متهكّماً: «ما دامت المرأة تضيع ثلاثة أرباع الوقت إن لم يكن أقل بتسعة أعشاره في اللبس والزينة، وتقضي معظم العشر الباقي في الكلام عن الأمرين، فهي لا يمكنها المطالبة بحقٍّ واحد من حقوق الرجل. ولو أوكل أمر تدبير هذا الكون للنساء فقط، لكان اليوم قفراً هذا إن بقي»(12).
لم يفت نظيرة الانتباه إلى هذه الازدواجية التي تسم موقف الرجال الذكوريين من المرأة، ولا افترائهم عليها، فتبادر إلى مناقشة الشيخ الغلاييني وإلى دحض حجته، ولومه، فتخاطبه قائلةً: «يا لجور الرجل، إنّه يُكرهها على التبرّج له، ويُعوّدها على ذلك قسراً، ثم يتخذه حجةً له عليها، ولا ينظر نظرةً إلى العالم السافر الراقي، حيث إنّه قام مقام تلك المرأة المتبرّجة، امرأة جديدة هي شقيقة الرجل، وشريكة الزوج، ومربّية الأولاد، ومهذّبة النوع، هي المرأة الحائزة لجمال المرأة، وعقل الرجل»(13).
لا تقفز نظيرة فوق الحقيقة الموضوعية، وتعترف بواقع انشغال المرأة المفرط بمظهرها دون عقلها وروحها، مضطلعةً بالدور المرسوم لها كموضوع جنسي بإتقان، ولكنّها تُحمّل الرجل مجدداً مسؤولية لامبالاة المرأة، وسذاجة طموحاتها، وتردّ هذا الانشغال إلى الأدوار العتيقة المرسومة لها، فتطالب الرجل بإطلاق حريّتها كي تتمكّنَ من لعب أدوار أخرى لائقة ومجدية، تستعمل لأجلها مهاراتها العقلية والنفسية، فتخاطب الشيخ الغلاييني مجدداً قائلةً: «إنّ المرأة تطلب حريّتها واستقلالها لتنشغل بتزيين روحها المرضية بالعلم والآداب، بدلاً من أن تبقى لدى الرجل مكرهةً على الانشغال بتزيين جسدها له اشتغالاً يُميت فيها روحها الناطقة، أجل إنّ الرجل يتطلّب منها ذلك كرهاً، إذ لا يعترف لها بقوة تدفع عنها ضرره، وتجفف شرّه، إلا بتزيين جسدها له...”(14).
رابعاً: نظرية المرأة – الجوهرية
ومن جهة أخرى، لا تنخدع الكاتبة بزيف العبارات التي ما زالت تمتدح الدور التقليدي للمرأة، وتُبرّر تالياً استراتيجيات عزلها، والتي توحي بالإطراء، ولكنّ باطنها النفاق، كتشبيهها بالجواهر التي تجب صيانتها والحرص عليها، هذا التشبيه الذي يُبرّر ضرورةَ المحافظة على المرأة في إطارها العائلي الخاص، بعيداً عن تعقيدات الحياة وصعوبات المجتمع، وبعيداً عن «رذائل معيّنة»، ينطوي على تشييء المرأة، أي إحالتها إلى شيء ينبغي أن يُحفظ ويُصان، حتى يظلَّ، في نظر مالكه، محتفظاً بقيمته.
تقوم الكاتبة بتفكيك الخلفية التي تحكم هذه العبارات البرّاقة، التي تُضمر عكسَ ما تُظهر، والتي أتت في ذاك العصر على لسان الشيخ عبد القادر المغربي، في صيغة نظرية اعتبر فيها حجب المرأة عن الأنظار ومنعها من مخالفة الرجال «إنّما هو التبجيل والتكريم، لا الإهانة والتحقير، وكيف يكون حجب المسلم لامرأته تحقيراً لها وإهانة، وهو بسبب هذا الحجاب أصبح خادماً وحابساً نفسه على قضاء حاجاتها؟ إنّه يَعدُّها جوهرةً نفيسةً، فيحفظها في خزانته تكريماً لها لا تحقيراً»(15).
يستفزّ الكاتبة تشبيه المرأة بشيء مادي خالٍ من الروح، ولو كان يُعَدُّ ثميناً كالجواهر، فتطالب بأن يعامَل الرجل بالمثل، وترى أنّ مبدأ حجب المرأة عن الأنظار جدير بالمجرمين والمجرمات، ولا يمتّ بصلة إلى التكريم، عدا عن أنّ الأخذ بهذا المبدأ يُفضي منطقياً إلى تحجيب الرجل على حدّ سواء.
«أيجوز تشبيه المرأة من جهة المعاملة بالجواهر المادية التي لا روحَ لها؟ وهل كلّ مسلمة جوهرة نفيسة مملوكة مادة لكل مسلم ليحرمَها نعمتَي الحرية والإرادة، ويُنزلها إلى درك الجماد؟ وإن كانت المرأة جوهرة الرجل، فلماذا لا يكون الرجل جوهرة المرأة، فتخفيه مثلما يخفيها تبجيلاً وتكريماً؟ وهل سمع في الدنيا أنّه يحبس ويحجب الأنظار ويمنع من الاختلاط إلا المتهمون والمتهمات، والمجرمون والمجرمات؟ فكيف يكون ذلك الحبس والمنع تبجيلاً وتكريماً للمسلمات؟»(16).
وبالمنطق ذاته، تنتقد الكاتبة الإيرانية «شاهدروث جافان» مبدأ تحجيب المرأة وعزلها عن الفضاء العام، بحجّة الحرص المفرط عليها وتثمينها وتبجيلها، ولكنّ شاهدروث تضيف أمثلةً أخرى تُظهر أنّ ما يخفيه المرء هو كل ما يخجل به، وليس فقط الحالات الإجرامية، مستنكرةً أن يكون جسدُ المرأة، الذي هو قوام وجودها، مصدرَ خجل وعار، فتتساءل: «ألا نخفي ما نخجل منه؟ عيوبنا، ونقائصنا، وتقصيراتنا، وضعفنا، وحرماننا، وشذوذنا، وتشوّهاتنا، وعجزنا، ودناءاتنا، وخورنا، وأخطاءنا، ودونيتنا، وخمولنا، وسرقاتنا، واغتصاباتنا، وخطايانا، وجرائمنا»(17).
خامساً: نظرية الرجل – الذئب
لتبرير تنقيب المرأة وعزلها عن الحياة العامة، وتقييد اختلاطها بالجنس الآخر، يلجأ الحجابيون إلى وصم الرجل بالتوحّش والهمجية، واستعداده للافتراس والانقضاض على النساء، الأمر الذي يستدعي وفق هذه النظرية الحذر والاحتراس والتحصّن بالحجاب. تدحض الكاتبة هذه الذريعة أو التهمة التي لا يتردّد الرجل في نسبها إلى نفسه، على الرغم من سلبيتها، لأنّها تُحقّق له مكاسب أكبر، يضحّي لأجلها بصورته أمام المرأة.
لم تنفِ الكاتبة وجود الذئاب، ولكنّها نفت أن يكون الحجاب رادعاً لهم، ما لم يكن على الأرجح محفّزاً، كما أنّها نفت أن يكون هذا الحجاب درعاً واقياً للمرأة من سوئهم، لأنّه يجعل هذه الأخيرة تستهين بنفسها، وتخور أمام التحديات، عكس المرأة السافرة المنفتحة على العالم، وعلى التجارب، والواعية بذاتها.
فهي ترى أنّ الحجاب هو الذي يجعل الرجل ذئباً، بقدر ما يُحوّل المرأة إلى «نعجة»، والنعجة في المخيال الشعبي هي رديف الكائن الهشّ، الواهن، الساذج، والسهل الانسياق، فالمرأة المحجّبة، التي تواري وجهَها وبدنَها خوفاً من الرجل، وتهرّباً منه، تحسب نفسها، كالنعجة، رهينة افتراس الذئب اللئيم، «حين يلتقيان تصغر له نفسها، وتهن إرادتها فتهون»(18)، على عكس السافرة «التي راضت الذئاب والسباع وداست رؤوسهم دوساً، وأثبتت أنّ أقوى الفتيات على السباع أكثر رؤية لها»(19).
بكلمات أخرى، ترى نظيرة أنّ الخوف من الرجل الذي يتمّ زرعه وتنميته في نفس المرأة، هو الذي يجعلها تخور، وتتهاون، وتنصاع لأوامر الذئب وأهوائه، الذي يستغلّ خوفها، ويتغرغر بذئبيته، بينما المرأة التي ألفت حضور الرجل، واعتادته، هي وحدَها القادرة على الإمساك بزمام الأمور والمواجهة.
إنّ هذا التحليل مثير للاهتمام من منظور علم النفس، فهو ينبني على افتراض أنّ صورةَ الآخرين عن الشخص، ما هي إلا انعكاس لصورة هذا الشخص عن ذاته، فإذا كانت المرأة تنظر إلى ذاتها بوصفها جسداً قابلاً للانتهاك فحسب، فهي تشجّع الآخرين على النظر إليها كغرض جنسي سهل المنال، وكنعجة إذا استخدمنا مصطلح نظيرة، ترتعش خوفاً، من أن ينقضَّ عليها الذئب.
ثم إنّ نظرية الرجل – الذئب، والتي تنضاف إلى لائحة الأسباب الرائجة لتبرير فرض الحجاب – النقاب على المرأة المسلمة، تسيء إلى الرجل المسلم، كما إلى الامتيازات الجندرية التي انتزعها عبر التاريخ وجعلته قوّاماً على المرأة.
يفترض انتزاع الرجل لامتياز «القوامة»، أنّه يتمتّع بقوة الإرادة، والعزم، بينما المرأة بالليونة، والهشاشة، والضعف، فتأتي نظرية الرجل – الذئب لتنفي عنه هذه الصفات، المحايثة لاستحقاقه، شرف «القوامة»، بما تستلزم هذه الأخيرة من قدرة على التحكّم بنوازع الذات، كشرط لازب للتحكّم بالآخرين وقيادتهم.
في ظلَ نظرية الرجل – الذئب، يتحوّل الرجل في منهج نظيرة التحليلي، إلى مصدر «خوف وخشية»، تضطرّ المرأة إلى الهروب منه، بسدل النقاب على وجهها، وهذا التدبير من قبلها، يدينه، دالاً على عدم رقيّه وتهذيبه، وفساده، وعلى عدم استحقاقه شرف «القوامة»، فتقول محاجِجةً: «إذا كان الرجل مصدرَ خوف وخشية، فهذا دليل على أنّه غير مهذّب وغير راقٍ، فيتحوّل الحجاب حينئذٍ إلى حجّة ضدّه، فهو يعني هروب المرأة من الرجل ومجابهتها إياه بسدل النقاب على وجهها وتحويلها ظهرها إليه. وهذا يعني، وهو قوّام، أنّه خائن، سارق أعراض لا يجوز أن يُؤمنَ شرّه، بل يجدر بالمرأة أن تهرب منه هرباً»(20).
إلاّ أنّ المدافعين عن نظرية الحجاب لا يأبهون لما يلحق بالرجل من إهانات جراء هذا التدبير، ويفضّلون قبول تهمة «الذئب» لتبرير الإجراءات المتّخذة بحقّ النساء، على ألا ينتقصَ من سلطانهم وهيبتهم المرجوّة.
خاتمـــة
في الحصيلة، لم يتوقّف مشروع نظيرة زين الدين التحرري على السفور الشكلي، بل تجاوزته إلى جملة المفاهيم التي تحصر كينونة المرأة ووجودها بجسدها، وتؤدي فوق ذلك إلى تأثيم هذا الجسد وشيطنته، فردّت على هذه التصورات العتيقة الراسخة برفض جوهرة الفتنة والتأثيم وتأنيثهما، وبرفض مفهومَي المرأة – الجوهرة والرجل – الذئب، وبتصويب مفاهيم العفّة وآلياتها، وبالدعوة إلى الفصل بين الفتنة والاختلاط، لتنادي في الآن نفسه بعدم تجنيس الفضيلة، وتأنيثها وتذكيرها، والكيل بمكيالين، الأمر الذي يؤدي إلى تمييز إضافي تتحمّل وزره المرأة ولا يُرضي العقل والمنطق.
عدا عن كون هذه المفاهيم والاستراتيجيات تعني أنّ الرجل عاجز عن السيطرة على نزواته، ونزعاته الغريزية، وعن المجاهدة المتوقَّعة منه دينياً ومدنياً، للخروج من هذا المأزق الافتراضي، الذي يسيء إلى قدراته الأخلاقية، وإلى أهليته كقوّام، فهي تعني من منظور آخر أنّ قوة المرأة هي التي تجعل الرجل يهابها، فيقوم بتطويعها.
إنّ موضوعة «الفتنة» موضوعة إشكالية بامتياز، وتستحقّ النظر والتفكيك من عدة زوايا، للوصول إلى الحقيقة، التي يحاول الذكوريون طمسَها بطلب النجدة من السماء والغيب.
د. عايدة جوهري أستاذة جامعية وكاتبة في اللغة الفرنسية وآدابه
الهوامش:
(1) أنظر: محمد كامل ضاهر، الصراع بين التيارين الديني والعلماني في الفكر العربي الحديث والمعاصر، الطبعة 2، دار البيروني، بيروت 2009، ص154.
(2) نظيرة زين الدين، السفور والحجاب، دار المدى، بيروت 1998، ص62.
(3) المصدر نفسه، ص63.
(4) أنظر: عايدة الجوهري، رمزية الحجاب مفاهيم ودلالات، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2007، ص155-164.
(5) المصدر نفسه، ص 40.
(6)Fatna Aït Sabbah, La femme dans l’inconscient musulman (Paris: Le Sycomore, 1982), p.102.
(7) جاءت هذه الآراء في معرض ردّها على معارضة الشيخ سعيد البغدادي في رسالته «السيف في عنق المارق» بيّن فيها «حكمة الحجاب للنساء»، وطُبعت سنة 1328 في بغداد.
(8) نظيرة زين الدين، السفور والحجاب: محاضرات ونظرات مرماها تحرير المرأة والتجدد الاجتماعي في العالم الإسلامي، مراجعة وتقديم بثينة شعبان، رائدات الكتابة، ط2 (دمشق: دار المدى، 1998)، ص224.
(9) المصدر نفسه، ص129.
(10) المصدر نفسه، ص129-130.
(11) Fatna Aït Sabbah, La femme dans l’inconscient musulman (Paris: A. Michel, 1980), pp.33.
(12) نظيرة زين الدين، السفور والحجاب، مصدر سابق، ص207.
(13) المصدر نفسه، ص279-280.
(14) المصدر نفسه، ص280.
(15) المصدر نفسه، ص204.
(16) المصدر نفسه، ص205.
(17) شاهدروث جافان، فليُنزع الحجاب، ترجمة فاطمة بالحسن ([د.م.]: منشورات رابطة العقلانيين العرب، 2003)، ص8. وصدر لأول مرة تحت عنوان:
Chahdortt Djavann, Bas les voiles!, collection blanche (Paris: Gallimard, 2003).
(18) المصدر نفسه، ص144.
(19) المصدر نفسه، الصفحة نفسها.
(20) المصدر نفسه، ص114.