تشرين2/نوفمبر 28
   

تمهيد

     لا ندعي في هذه الورقة، من خلال تناولنا لموضوع السوسيولوجيا والديمقراطية، إضافة أفكار واستنتاجات سبق أن أدلى بها سوسيولوجيون كبار (ألكسيس دو توكفيل، بيير بورديو وألان تورين…) بشأن العلاقات المتشابكة بين المعرفة والحرية، السوسيولوجيا والديمقراطية؛ وحول الأدوار التي يمكن أن تلعبها السوسيولوجيا أو العلم الاجتماعي بشكل عام في نمو وازدهار ورفاهية المجتمعات والانسانية جمعاء.

إننا نود بشكل مقتضب إعادة إثارة هذا الموضوع الذي يبقى ذا راهنية متجددة، خاصة في ظل ظرفية عالمية صعبة مطبوعة بتصاعد جغرافيات التوتر والنزاعات، وتزايد مساحات الشك واللايقين تجاه الديمقراطية سواء في البلدان العريقة أو تلك التي تتطلع إلى الديمقراطية كحل سحري لكل مشاكلها وانتظاراتها.

فعندما نتناول العلاقات والتفاعلات بين السوسيولوجيا والديمقراطية تواجهنا جملة من التساؤلات المهمة سواء على الصعيد النظري أو العملي؛ فعلى الصعيد النظري فإن السؤال البديهي الأول الذي يطفو على السطح يخص طبيعة هذه العلاقات المفترضة أو الممكنة بين المفهومين: فهل يجوز لنا منطقيا المقارنة بين السوسيولوجيا والديمقراطية؟ وهل بالإمكان الربط والوصل بين موضوعين ليسا من نفس الفئة المعرفية، وبالتالي متمايزين من حيث التعريف والخصائص والوظائف؟ وإذا كان الأمر كذلك هل تتحدد علاقتهما بالاتصال أم بالانفصال؟ بالتكامل أو بالتعارض؟

بينما على الصعيد العملي تطرح أمامنا التساؤلات الاتية: ما القيمة المضافة التي تأتي بها السوسيولوجيا حين تحشر أنفها في كنف الديمقراطية؟ هل تساهم في تطوير أم في إعاقة الديمقراطية؟ وهل تستعصي الديمقراطية على التشريح السوسيولوجي؟ وبالتالي تمتلك الحصانة الذاتية عن المساءلة باعتبارها تجسد الفضيلة المثلى على الأرض؟ ألا تستحق الديمقراطية كظاهرة اجتماعية شمولية ذات أبعاد اجتماعية واقتصادية وسياسية وثقافية أن تدخل إلى مطبخ السوسيولوجيا شأنها شأن أي واقعة اجتماعية؟ وبالمقابل، أليست الديمقراطية هي الحاضن الرئيسي لازدهار المعرفة السوسيولوجية؟ بحيث لا تستطيع السوسيولوجيا أن تعيش وتترعرع وتتنفس هواء الحرية الأكاديمية والإبداع والنقد في غياب الديمقراطية؟

 

السوسيولوجيا والديمقراطية: دلالات متمايزة

من نافلة القول، أن السوسيولوجيا علم إنساني، تسري عليه أحكام وقواعد العلم من موضوع مخصوص تتحدد به، ومفاهيم وفرضيات ومسلمات ومناهج وتقنيات تتناسب مع طبيعتها، من الاستدلال إلى الاستقراء والمقارنة والملاحظة والتفسير والفهم، وصولا إلى تحقيق النتائج والخلاصات والرؤى الإستشرافية. وهذه الترسانة من القواعد والخطوات والإجراءات، غايتها بلوغ الحقيقة والموضوعية حتى تكتسب الشرعية العلمية. فإذا كانت السوسيولوجيا تعرف بما سبق ذكره، فالأجدر من الناحية المنطقية أن تقارن بغيرها من العلوم كعلم النفس أو التاريخ أو الأنثروبولوجيا؛ لا أن يتم وضعها في مواجهة مفهوم الديمقراطية الذي لا ينتمي إلى دائرة العلم الإجتماعي.

أما بالنسبة للديمقراطية، كمفهوم نظري وكنظام اجتماعي، فهي تندرج في إطار الظواهر الفلسفية والسياسية والثقافية الكبرى، وقد تنتمي حتى إلى الحقل الايديولوجي، وبالتالي فهي بالضرورة موضوع توافق أو تنازع، وموضوع تعريفات وتأويلات متعددة، قد تكون متقاربة أو متباعدة بل ومتضاربة. إن الديمقراطية الشعبية ليست هي الديمقراطية التمثيلية، ولا الديمقراطية التشاركية ولا حتى التشاورية. إن ديمقراطية الانتخاب لا تتطابق مع ديمقراطية الإجماع والتداول والحجاج، لا من حيث الأسس والمنطلقات ولا من حيث الوسائل والغايات؛ ومفهوم الديمقراطية الغربية قد يقترب أو يبتعد عن مفاهيم وتجارب الحكم في مناطق متفرقة من العالم، ففي المجتمعات الإسلامية تبلورت مفاهيم في الحكم مخالفة أو معارضة للمفهوم الغربي للديمقراطية، سواء من حيث المرجعيات أو القواعد المؤسسة للاجتماع السياسي كالأمة والخلافة والشورى والبيعة والحاكمية.

 إن الديمقراطية هي كذلك تنظيم اجتماعي وسياسي وقيمي أبدعته البشرية منذ قرون في محاولاتها الدؤوبة من أجل ابتكار أرقى تنظيم عقلاني إنساني للعلاقات المادية والرمزية بين البشر؛ وهي بذلك مقولة تاريخية/ سياسية أيضا، لأنها تجر وراءها تاريخا طويلا من الصراعات المادية داخل المجتمعات الغربية بالأساس، تواجهت فيه القوى والجماعات والطبقات الرئيسية المشكلة لها. وهي كذلك نتاج تاريخ من صراعات المعاني والرموز والألفاظ بين هذه القوى، استقرت منذ عقود، على إقرار واعتماد معاني وتأويلات معينة لها، هي ما نعرفه اليوم عنها، من ديمقراطية ليبرالية، أعتلت مسرح التاريخ بعد أفول التعريفات ذات الحمولة المساواتية التي كانت تنافسها وتواجهها بالفكرة والفعل، الأمر الذي حذا ببعض المحللين للإعلان عن انتهاء التاريخ البشري، أي توقف العقل والمجهود الإنساني عن ابداع وابتكار الأشكال التنظيمية الأكثر رقيا للعيش والعمل والتفكير البشري.

لكن إذا كان لكل مفهوم منهما حقله الدلالي والوظيفي المتمايز، فهل يعني ذلك غياب أي مشترك بينهما، وبلغة فلسفية إذا كان كل واحد منهما بمثابة جوهر مستقل بذاته، فهل من المحال وجود علاقات وتشابكات بينهما سواء على صعيد الوجود بالقوة أو الوجود بالفعل؟ أم على العكس من ذلك، بالإمكان استجلاء علاقات صريحة تأخذ صيغة تأثيرات متبادلة وترابطات وتقاطعات مؤكدة.

 

السوسيولوجيا ومشروعية دراسة المجتمع والسياسية

إنّ مواضيع السوسيولوجيا هي من التنوع والتعدد بما لا يمكن حصرها في لائحة محددة مهما توخينا الدقة والشمول، فباعتبارها دراسة الظواهر والعلاقات والتفاعلات الاجتماعية التي تحدث بين الأفراد في إطار المجتمع ومؤسساته وتنظيماته، فإن مواضيعها من الشساعة بمكان تمتد من أصغر وحدة وهي الذات أو الفرد إلى أكبر مؤسسة كالدولة والحضارة، ومواضيعها من التنوع غير المحصي، فهي تنتقل من القواعد الكبرى لتنظيم الحياة  الاجتماعية إلى ما يبدو تافها ومبتذلا وهامشيا وغير ذي بال: الجسد، المرض، العواطف، المشاعر، الوشم، الأكل، الذوق، الموضة... إن السوسيولوجيا تشمل كل ما ينتمي للمجتمع من ظواهر وعلاقات ومؤسسات وتفاعلات وترابطات وانتظامات، من خلال تأكيد وجهة نظرها؛ فليس هناك موضوع يدخل في دائرة المجتمع إلا والسوسيولوجيا تدلي بدلوها فيه، وتدعي مشروعية مقاربتها العلمية لمواضيعه. فحتى ما كان ينظر إليه كشأن شخصي ذاتي ونفسي ستتم سسلجته. إن الأب المؤسس للسوسيولوجيا إميل دوركايم ظل خلال مساره المهني يدعو إلى "تفسير الاجتماعي بالاجتماعي" باعتبارها أول قاعدة لولوج السوسيولوجيا، وحتى الظواهر التي كانت مغرقة في التفسيرات النفسية أو البيولوجية سيتم ردها إلى عوامل اجتماعية محضة، من قبيل الانتحار... والمرض كانحراف بيولوجي يمس أعضاء الجسم وتختص بتشخيصه وعلاجه العلوم البيوطبية، فإن السوسيولوجيا ستحشر أنفها فيه بجدارة وكفاءة، وتنازع الطب في مشروعية دراسته وتشخيصه وتحليل مكوناته وأبعاده وتداعياته سواء على الفرد أو المجتمع أو المؤسسات العلاجية والوقائية، من خلال تبني مقاربات سوسيو اجتماعية وثقافية وسياسية لظواهر الصحة والمرض. هذه الصلاحية العلمية ستشمل كذلك مجالات أخرى ماكرو سوسيولوجية كالطبقات الاجتماعية والثقافة والدولة والسلطة بمعناها الشامل. من هنا فإن الظواهر السياسية المتعددة كالديمقراطية ومثيلاتها كالحرية والليبرتارية أو أضدادها كالاستبداد والتسلط والتوتاليتارية والأوتوقراطية والتيوقراطية، باعتبارها مفاهيم مرتبطة بالممارسة البشرية التي تقع في دائرة الشأن السياسي وتدبير العلاقات بين الحاكمين والمحكومين، فإنها كلها تظل مواضيع للدراسات السوسيولوجية بامتياز. إلا أن هذا المستوى من المقاربة السوسيولوجية ليس كل ما في الموضوع، فهناك مسائل أخرى ذات أهمية تُظهر درجة الترابط الموضوعي بين السوسيولوجيا والديمقراطية وحاجة كل طرف منهما للآخر. يتعلق الأمر بابراز أهمية الديمقراطية في ازدهار السوسيولوجيا، وفي نفس الوقت اثبات القيمة المضافة للسوسيولوجيا، بمختلف تفريعاتها، في الدفع بنظرية الديمقراطية وتطويرها.

 

ازدهار السوسيولوجيا رهين بالديمقراطية

إن المسألة الأهم تتعلق بالقيمة المضافة للسوسيولوجيا، بمختلف تفريعاتها، وأدوارها في تطوير وتجويد أو إصلاح وتثوير نظرية الديمقراطية؟ وبالعكس ما جدوى وما أهمية الديمقراطية  بالنسبة السوسيولوجيا؟ بالنسبة للسؤال الأخير، يمكن التأكيد بداهة بأن السوسيولوجيا بحاجة ماسة إلى الديمقراطية فلسفة ونظام حكم، باعتبار هذه الأخيرة هي الإطار الفكري والمؤسساتي لانبثاق السوسيولوجيا، وقد يقول قائل إن الديمقراطية أساسية لانبثاق كل العلوم والمعارف والفكر والفلسفة بشكل خاص، وأن المسألة ليست حكرا على السوسيولوجيا وحدها، وهو قول صحيح، ذلك أن الفكر والعلوم لا ينشآن في بيئات منغلقة وذات بنيات سياسية معادية للديمقراطية والحرية وخاصة حرية التعبير والإبداع والابتكار. فالعلم ظاهرة جماعية/ مؤسساتية، (ففي أثينا التي ازدهرت فيها الديمقراطية وحرية التعبير والنقاش العام بين الرجال الأحرار في فضاء الأغورا، ازدهرت كذلك فيها الفلسفة والعلوم). وليس ظاهرة فردية أو محصلة الابداع والنبوغ الفردي (فلو كان الأمر اجتهادا ونبوغا فرديا لكان ابن خلدون الذي عاش في القرن الرابع عشر الميلادي مؤسسا للسوسيولوجيا قبل دوركايم). وكلنا نعلم معاناة مفكرين وعلماء في بيئات وأزمنة مختلفة واجهوا سلطة الفكر الأحادي والحقيقة المطلقة ومسلمات الكنيسة والمؤسسات الدينية والأنظمة الاستبدادية، فغاليليو حوكم بتهمة الهرطقة من طرف الكنيسة الكاثوليكية بسبب قوله بمركزية الشمس، وابن رشد أحرقت كتبه، وابن حنبل عاش المحنة مع موقفه من مسألة خلق القرآن، في ظل الصراع السياسي الذي شهده العهد الإسلامي المبكر، وغيرهم كثير حوصروا وتم التحريض عليهم واتهموا بالهرطقة والسفسطة، ونصبت لهم محاكم التفتيش.

 لئن كان لهذا القول صدقية لا غبار عليها فيما يخص تأكيد علاقة الفكر والعلم بالبيئة المجتمعية الحاضنة لهما، فإن صدقيته تبدو مضاعفة بشكل أكبر فيما يخص علاقة السوسيولوجيا بالسياق الاجتماعي والسياسي ، فإضافة إلى ما سبق ذكره، تحتاج السوسيولوجيا إلى مناخ أكثر حرية وانفتاحا، فهي تزعزع المعتقدات الراسخة  والأوهام والأساطير غير العلمية حول العالم المادي،  بل وتزعزع العالم المادي أيضاً، فهي تزعزع القيم الراسخة والسلط الثابتة والأفكار المستقرة ومقولات الحس العام  le sens commun حول المجتمع والثقافة والسياسة والدين. إنها علم مزعج لصانعي الأوهام ومروجي الأكاذيب وأصحاب المال والجاه والسلطة. إنها ضد السلطان بالمعنى العام، ضد مقولات الهيمنة وأنماط العنف المادي والرمزي، ومقولات الفكر المبتذلة. ومن ثمة فإنها بحاجة إلى بيئة ديمقراطية سليمة لكي تترعرع وتنمو وتزدهر، حيث حرية النقاش والتواصل ومقارعة الحجة بالحجة وأخلاق العقل التواصلي كما شرحها يورغن هابرماس، هي الفيصل بين المواقف والتوجهات والبرامج والسياسات.

 

 السوسيولوجيون مناصرو الديمقراطية والعقلانية

وحتى لو تم التنقيص من قدر السوسيولوجيا بالدفع بكونها هي نفسها منقسمة على ذاتها وتخترقها تناقضات وتجاذبات المصالح والمزايا والأفكار والايديولوجيات، وتنافس التخصصات الفرعية. وأنها ليست كلها في حاجة ماسة إلى مناخ الحرية والديمقراطية، إلا إذا كانت سوسيولوجيا نقدية تجاه الذات والمجتمع والسلطان، بينما هناك سوسيولوجيات عديدة تغلب عليها نزعة المحافظة على الوضع القائم وحراسة التقليد، إن شئنا القول، كسوسيولوجيا النظام والاندماج والنسق، فلا حاجة لها للديمقراطية حكما وفكرا وممارسة وعلاقات اجتماعية، مادام أن هذه السوسيولوجيا تنتصر للجماعة مقابل الفرد، للضمير الجمعي مقابل الوعي الفردي، لمصلحة وديمومة النظام  الاجتماعي والجنوسي والثقافي والسياسي غير الديمقراطي، لسلطة الكبار على الصغار داخل العلاقات الأسرية والتربوية، لقواعد التقسيم الجنسي التراتبي للعمل والأدوار… إلا أن هذا القول يبقى مردودا عليه، ولا يمتلك مقومات الرصانة والصدقية. ويكفينا الرد عليه بالقول بأنه لولا انبثاق فكر عقلاني تنويري تحريري لما نشأت السوسيولوجيا، في أول الأمر في مجتمعات حداثية ديمقراطية نجحت في إقبار النظام السابق بفعل ثورات علمية وسياسية واجتماعية، على يد سوسيولوجيين كبار كأوغست كونت وإميل دوركايم وفيبر وآخرين، والذين عادة ما يتم حشرهم في خانة المحافظة ورفض التغيير. إن هذا الحكم المجحف، لا يعفي من حقيقة أن المثال الديمقراطي ظل هاجسا لدى هؤلاء الرواد. لقد بشرت وضعية أوغست كونت بالتقدم والتحرر المادي والعقلي للبشرية تاركة وراءها ماضي الإنسانية اللاهوتي والميتافيزيقي، حيث كانت غارقة في الحجر والوصاية واستعباد الكائن البشري. أما دوركايم فما كان يقلقه ليس الظواهر والعلاقات الجديدة التي أفرزتها الحداثة والتصنيع والتخصص في الوظائف والمهام وتقسيم العمل من انحلال الروابط الاجتماعية واختلال التنظيم الاجتماعي وتراجع قوة الضمير الجمعي وصعود الفردانية والأنانية وظواهر الأنوميا، وإنما كان يقلقه تأثير هذه الظواهر الجديدة على التجانس والتماسك الاجتماعي، أي على استقرار وتوازن المجتمع ككلية، وأدائه لوظائفه من خلال أنساقه الفرعية بفعالية ونجاعة. ومن هنا فإن معارضته للمذهب الفردي الليبرالي ونظريات الاختيار العقلاني التي كانت رائجة في وقته لدى علماء الاقتصاد السياسي، لم تكن معارضة للتحرر الفردي ولقواعد النظام الديمقراطي الناشئ من مواطنة ومشاركة وتعددية وتسامح وحريات… إن ما كان يهمه كسوسيولوجي هو كشف تأثيرات وتداعيات هذه الأشكال الجديدة من التضامن العضوي والعلاقات الأخلاقية والسياسية على سير واشتغال المؤسسات والعادات الاجتماعية داخل المجتمعات الغربية، وتفسير التحولات الجارية بفعل الحداثة والتقنية والعلمنة داخل المؤسسات والعلاقات وأشكال التضامن والأخلاق وأنماط الوعي والتي لا بد أن تنعكس في المؤسسات والوقائع والعلاقات السياسية. بينما لم تنفصل أعمال ريمون آرون عن دفاعه المستميت عن الليبرالية والحرية ضد الأنظمة الشمولية والاستبدادية. أما تالكوت بارسونز فقد كانت نظريته السوسيولوجية بمثابة دعوة إلى التجانس والتساند الوظيفي للأنساق الفرعية مع التنظيم الاجتماعي الأكبر، كتكامل النسق السياسي والنسق الاقتصادي والنسق التربوي، حيث يؤدي تمايز وتكامل الأدوار بين المؤسسات السياسية والأحزاب والحكومات والبرلمانات من جهة أولى، والمؤسسات الاجتماعية كالأسرة والمدرسة والمنظمات الإنتاجية من جهة ثانية، إلى استمرارية وتجانس الكل الاجتماعي. هذا الكل الاجتماعي عكسته وجسدته حالة الرفاه والإزدهار والتقدم والديمقراطية التي عاشتها أمريكا ابتداء من الخمسينيات من القرن الماضي، من جراء النتائج الإيجابية لما عرف بالصفقة الجديدة (1933-1936) التي ساهمت رغم استمرار التفاوتات الاجتماعية والتمييز العنصري في توفير فرص الشغل والتأمين والضمان الاجتماعي والاعانات للفقراء والعاطلين عن العمل، والرفع من الإنتاج. أما ماكس فيبر المعروف بتشريحه لظاهرة السلطة والدولة من خلال تصنيفه الثلاثي لأنماط الشرعية (التقليدية، الكاريزمية، العقلانية)، فنراه مدافعا ومتبنيا لنمط المشروعية العقلانية التعاقدية الذي يقوم على مبادئ وأسس الحداثة السياسية والحكامة البيروقراطية والنظام السياسي الديمقراطي الذي يقوم على الانتخاب والاستحقاق والتنظيم العقلاني. ولا بد من الإشارة إلى المساهمة الرائدة لأحد الأعلام المؤسسين للسوسيولوجيا وهو ألكسيس دو توكفيل الذي كان مهتما لدرجة كبيرة بموضوع  الديمقراطية والمؤسسات السياسية، حيث من خلال معاينته للنظام الديمقراطي كما تطور في الولايات المتحدة الأمريكية، خلص إلى أن الديمقراطية ليست النظام القائم على المساواة السياسية كما تجسدت في الفكر الليبرالي، والتي ترتكز على حرية التصويت والاجتماع والتنظيم والتعبير والمساواة أمام القانون والمسؤوليات العمومية …بل هي النظام الذي يضمن الحرية من جهة والمساواة الاجتماعية من جهة ثانية، وهذا الفهم لا ينبغي أن يجعل النظام الديمقراطي رديفا للمساواة بالمعنى الماركسي الذي يحصرها في البعد الاقتصادي، بل المقصود هنا تسوية الشروط الاجتماعية، أي كل ما يتعلق بالمكانة والمنزلة الاجتماعية والسمعة والجاه والعرق والطبقة والجنس.

نلخص إذن أنه رغم الاختلافات البارزة بين النظريات والاتجاهات والمناهج السوسيولوجية، في دراسة وتحليل وتفسير الظواهر الاجتماعية التي أفرزتها التحولات السياسية والاقتصادية والثقافية، فقد كانت جميعها تشترك في مناصرة الحداثة السياسية والفكرية والعقلنة والديمقراطية.

 

السوسيولوجيا والتساؤل النقدي حول الديمقراطية

إن السؤال الذي يحظى بالأولوية يتعلق بالقيمة المضافة التي تأتي بها السوسيولوجيا، بمختلف تفريعاتها، في دراسة وتحليل الديمقراطية، ومدى مساهمتها في تطوير وتجويد أو إصلاح وتثوير نظرية الديمقراطية. فما مدى تأثير السوسيولوجيا في ممارسة الديمقراطية؟ وما الفائدة التي تجنيها الديمقراطية من الإنصات للدرس السوسيولوجي؟ وما مدى حاجة الديمقراطية للسوسيولوجيا؟ وهل ضرورة السوسيولوجيا للديمقراطية تعبر عن حاجة موضوعية أم مجرد ترف فكري؟ أليست الديمقراطية قائمة بذاتها في استقلال عما سواها؟ ألا تغنيها مبادئها ومقولاتها وأحكامها وتنظيماتها ووقائعها التاريخية عن اللجوء إلى أي مبحث أو خطاب خارج دائرة السياسة سواء كان خطابا فلسفيا أو سوسيولوجيا؟ وإذا كان الجواب بالإيجاب ألا يؤدي ذلك إلى جعل الديمقراطية جوهرا وروحا مطلقا متعاليا على الشرط البشري والتاريخي والمعرفي؟ وبالتالي يسقطها في شراك المتعالي والإيديولوجيا واليوتوبيا؟ أليس العكس هو ما يجب أن يحدد الديمقراطية باعتبارها ظاهرة زمنية تاريخية بشرية، وإن جسدت أرقى شكل تاريخي بلغته البشرية في تنظيم وضبط علاقات الأفراد والمؤسسات في ما بينهم دون اللجوء إلى ضوامن ميتا بشرية تتموقع خارج عالمهم المعيش كالدين، أي بالاكتفاء بعلاقات وتعاقدات وتوافقات ومصالح بشرية زمنية، فإنها تبقى مع ذلك بحاجة دائما إلى النقد والمراجعة والتصحيح. إن هذا الإقرار بالطابع البشري والتاريخي والتعاقدي والتفاوضي للديمقراطية هو ما يمنح مشروعية التورط السوسيولوجي في هذه الظاهرة باعتبارها ظاهرة اجتماعية ذات أبعاد كلية، حيث تؤكد السوسيولوجيا أنه أينما وجدت الظواهر السياسية والعلاقات السلطوية وجدت المصالح والمزايا والحاجيات والصراعات والتوترات والنزاعات والمساومات والايديولوجيات، وحيث خفت هاجس الحقيقة والمعرفة الموضوعية لصالح الانحياز والولاء، وبالتالي الهيمنة والسيطرة. وهنا مكمن المعرفة والتحليل السوسيولوجيين. يقول بورديو في حوار له أن "علم الاجتماع يزعج بكشفه للآليات غير المرئية التي تستمر بها الهيمنة. علم الاجتماع يزعج، قبل كل شيء، أولئك الذين يستفيدون من هذه الآليات، أي المسيطرون. كما أنه يزعج أولئك، من بين المثقفين، الذين يحوّلون أنفسهم إلى شركاء متواطئين، على الأقل ضمنياً وسلبياً، مع هذه الآليات والذين يرون في عالم الاجتماع عِتاباً حياً لا يحتمل. بينما هو يقوم بعمله فقط، العمل الذي كُلف به اجتماعياً، ويعمل على قول الحقيقة حول العالم الاجتماعي"(1).

إن السوسيولوجيا إذن لا تستحق الاهتمام إن كانت لا تقدم أية خدمة لصالح دوام واستمرار وترسيخ الديمقراطية، ليس من باب تمجيدها والدعاية لها، وتوفير الغطاء الايديولوجي؛ وإنما من باب نقدها وتفكيكها وخلخلتها إن على صعيد الأسس والمرجعيات أو على صعيد التطبيق والممارسة. إذا كانت السوسيولوجيا بنت الحداثة بما في ذلك الحداثة السياسية التي فتحت المجال أمام زوال المقدس وتدهير الزمان والمكان وعقلنة التفاعلات والانتظامات البشرية التي تحدث داخلها، فإنها اليوم وأمام إفراطات الحداثة القصوى أو المتسارعة وتجلياتها في كافة المجالات سواء التكنولوجية أو الاجتماعية أو السياسية أو المعرفية وعلى رأسها العقلنة الأداتية والبيروقراطية والتقنوقراطية والشعبوية والفردانية والاستهلاك المفرط والرقمنة والذكاء الاصطناعي…  مطالبة اليوم بتجديد الديمقراطية وتعزيزها تنظيرا وممارسة.  

لقد ظلت السوسيولوجيا تتأرجح منذ ولادتها خلال القرن التاسع عشر بين الحياد الموضوعي الذي يصف الواقع ويصنفه ويركبه ويستخلص قوانينه وانتظاماته من جهة، والالتزام السياسي والانخراط في الاشكالات المجتمعية دون التفريط في قواعد العلم ومتطلباته من جهة ثانية. لكن الممارسة أظهرت أن الحيادية قد تنحرف إلى مساندة ودعم صريح أو ضمني للواقع كما يريده المسيطرون أن يكون، أو سكوت عن سلطة الحقيقة لصالح حقيقة السلطة، من مظاهر ذلك سيطرة النزعة العلموية والنخبوية لدى المثقف والعالم المنكفئ على ذاته في برجه العاجي. وقد يؤدي الحياد إلى تجنب التحليل الملموس للواقع والاكتفاء بالوصف السطحي، والتناول الجزئي والتجزيئي للظواهر، بحيث لا تغدو السوسيولوجيا سوى خطاب ثاني وثانوي، أو خطاب مؤسساتي نفعي واحيانا تسلطي حول علاقات وممارسات وخطابات وتمثلات الأفراد والجماعات، بشكل يخدم النظام القائم ويعيد إنتاجه. وكأي خطاب علمي/ اجتماعي يعي وضعه الابستمولوجي وحدوده النظرية والمعرفية ضمن شبكة المنظومات الرمزية، التي تتوخى دراسة العالم الاجتماعي، ظلت السوسيولوجيا تكافح من أجل بلوغ الحياد والموضوعية، متجنبة السقوط في شباك الايديولوجيا ومقولات الحس المشترك، وقد بذلت الكثير في هذا المسعى، إن على صعيد الموضوع أو  المنهج (دون أن يعني ذلك النجاح في مهمتها). إن دوركايم الأب الروحي للسوسيولوجيا أول من دعا إلى اعتبار الظواهر الاجتماعية كأشياء وذلك من أجل إقصاء الذاتية وبناء العلمية، وقد كان مثال العلوم التجريبية هدفا لكل بحث سوسيولوجي، فانتشرت تقنيات البحث العلمي من مقارنة وملاحظة وتكميم وتفسير سببي، ونزعة امبريقية. لكن النتائج لم تكن دائما مطابقة للطموحات، ما أدى إلى السقوط في شراك الذاتية والسوسيولوجيا التلقائية للأفراد، والفئوية وأحيانا الطبقية والنزعة المحافظة، الأمر الذي جعلها تعيد النظر باستمرار في  منطلقاتها ومصادرها وأساليبها، وذلك بتجديد نظرتها إلى القضايا التي تدخل في نطاق العلم  كالموضوعية والنسبية، الفهم والتفسير، النظرية والتجريب، الذات والموضوع، الفرد والمجتمع، الميكرو والماكرو.

كان من نتائج إعادة النظر هذه تغير النظرة إلى علاقة الذات بالموضوع، فعلى العكس من السابق أصبح ينظر إلى أن تورط الباحث في موضوعه قد لا يشكل عائقا أمام تحقيق الموضوعية، بل قد تكون مشاركته لموضوع دراساته والوعي بها سندا إضافيا لفهم دلالات الوقائع والتفاعلات التي تحدث في مجتمع الدراسة، فعلم الإناسة كان رائدا وسباقا في هذا المجال، حيث مارس باحثون ينتمون إلى مجتمع الدراسة هذا التخصص بجدارة وعلمية، رغم مشاركتهم المعنى الذي يمنحه الأفراد لسلوكياتهم ومواقفهم (نذكر على سبيل المثال الأبحاث الرائدة لعبد الله حمودي وحسن رشيق في المغرب).

إن السوسيولوجيا ظلت أيضا ومنذ اللحظات الأولى مسكونة بهاجس الإصلاح والتغيير، ومأخوذة ضمن اشكالات الفهم والتفسير والتنديد. لقد كان الرواد الاوائل منتبهين لأوضاع مجتمع انتقالي عاش ثورات متتالية ومتقاربة؛ سياسية واقتصادية وعلمية، أدت إلى تحولات كبرى خلخلت النظام القديم في أسسه المادية والرمزية، فطرحت تساؤلات جديدة حول انتظام المجتمع، حول تماسكه وانسجامه حول السلطات والمرجعيات حول أنماط الحكم والمشروعيات السياسية والدينية. وهي تغيرات وتحولات لم يكن لها أن تجعل علماء الاجتماع غير مبالين بها. فغني عن البيان أن أغلب علماء الاجتماع الكلاسيكيين والمعاصرين كانوا منخرطين في قضايا وإشكالات مجتمعاتهم، وجسدوا صورة المثقف العضوي الذي لا يكل عن الدفاع عن القضايا الإنسانية العادلة. فدوركايم على سبيل المثال لا الحصر، الذي اعتاد التقليد السوسيولوجي على إدراجه في خانة الوظيفية المحافظة، يمكن أن نعثر عنده على آراء ملتزمة سياسيا، كمواقفه تجاه قضية الضابط دريفوس، كما ساهم في تأسيس رابطة الدفاع عن حقوق الإنسان(2). نفس الشيء يقال عن علماء اجتماع كثر زاوجوا بين الجهود العلمية والالتزامات السياسية، من إدغار موران إلى الآن تورين وبيير بورديو، واللائحة تطول، حيث كان الربط بين النظرية والممارسة يشكل جوهر الدرس السوسيولوجي عندهم، فهؤلاء وآخرون عارضوا اختزال دور السوسيولوجيا في الهندسة الاجتماعية أو في أدوار نفعية تقنوقراطية؛ إن السوسيولوجيا عندهم منخرطة بالضرورة في الصراعات الاجتماعية والسياسية لعصرها. إن بورديو مثلا يدعونا إلى التعامل النقدي مع المشكلات المجتمعية بنزعها من حالتها الميتافيزيقية والقدسية واللاعلمية التي تنتج عن الإدراك الأولي أو يقترحها الوعي المشترك أو بعض الفلسفات الاجتماعية الرائجة، وتحويلها إلى مشكلات قابلة للمعالجة العلمية وفي نهاية المطاف السياسية(3) وعلى عكس السوسيولوجيا الوضعية المشبعة بالنموذج العلمي الامبريقي empirique  للقرن 19 والتي كانت تنظر إلى السياسة والأخلاق كعوائق أمام تحقق العلم الاجتماعي؛ بينما في الحقيقة كانت هي نفسها تعبيرا عن مطامح سياسية، ينطلق بورديو من قناعة مفادها بأنه "داخل المجتمعات المنقسمة إلى طبقات اجتماعية يصعب فصل مشكل المعرفة عن المشكل السياسي"(4)، لذلك فإن علم الاجتماع بالنسبة إليه هو علم سياسي إلى حد بعيد، "من حيث أنه يهتم أساسا بخطط وآليات اشتغال السيطرة الرمزية التي يوجد هو ذاته تحت رحمتها. إن العلم الاجتماعي لن يستطيع أن يكون محايدا، منفصلا، مترفعا عن السياسة وذلك بالنظر إلى طبيعة موضوعه ووضع الذين يمارسونه"(5).  هكذا نجد أن بورديو يتطرق لعلاقة المعرفة بالالتزام السياسي من منظور نقدي يميز فيه بين المثقف الحقيقي أو العضوي والمهندس الاجتماعي. هذا الأخير الذي احتل الفضاء العمومي في العقود الاخيرة، أصبح يتمظهر في صورتين متكاملتين: صورة الخبير الذي يشتغل في الظل ويعد البرامج والوصفات التقنية بواسطة الاعتماد على لغة الأرقام والإحصائيات الرياضية والتجريد والصورنة؛ وصورة مستشار "الأمير" أو الحاكم المختص في التواصل، والذي يقوم بتوظيف رأسماله الثقافي الذي اكتسبه من اشتغاله الأكاديمي والجامعي لخدمة الطبقات المهيمنة. وبالتالي يؤكد على تلازم المعرفة النقدية بالممارسة الميدانية: فالمعرفة أيا كانت اقتصادية أو سوسيولوجية لن تكون لها من قيمة إذا لم تكن موجهة نحو الفعل والعمل اللذين يهدفان إلى تغيير أو تصحيح أو التنديد بأوضاع تعسفية. أما بالنسبة لآلان تورين، فإن السوسيولوجيا لا يمكن أن تنفصل عن الفعل، وعن الفاعل الجماعي، مجسدا في الحركات الاجتماعية، تنظيرا وممارسة، بل تساهم في دفعها إلى الارتقاء والتقدم والتحرر من خلال رفع قدرتها على الفعل التاريخي. إن عالم الاجتماع "يعي بأن أبحاثه تساهم في توسيع حقل الدمقرطة واستبدال وهم النظام بحقيقة النقاش، بالصراع والتفاوض. باختصار بإظهار أن المجتمع هو حقل سياسي"(6).

 

بورديو يُسائل كفاءة الديمقراطية

إن نظرية بورديو في تناولها للقضايا السياسية وعلى رأسها الديمقراطية وما يرتبط بها من أفكار وقواعد وتنظيمات ومؤسسات سياسية حديثة، هي نظرية غايتها إماطة اللثام عن الشروط الاجتماعية الفعلية لممارسة الديمقراطية.  فهي لا تنكر شرعية المبادئ الديمقراطية، بقدر ما تحاول سبر العلاقات الفعلية والواقعية التي يقيمها المواطنون مع السياسة والإجراءات والمفاهيم الديمقراطية. إن رؤيته النقدية تحاول إبراز الفوارق المهمة التي تفصل الديمقراطية المجردة أو المثالية التي يرسمها الخطاب المؤسساتي عن الديمقراطية العملية، ديمقراطية الفعل التي ينجزها المواطنون في الملموس عبر فعل التصويت. فما يمكن نعته بالتدخل السوسيولوجي لا يمكن أن يبقى معزولا عن النقاش السياسي حول الانتخاب والتمثيل السياسي وغيرها من القضايا المرتبطة بالمشكل الديمقراطي(7).

إن بحث علاقة الناخب بالديمقراطية على عكس الخطاب الديمقراطي الرسمي الذي يدعي أن المواطنين متساوون وأحرار وقادرون على الاختيار وتكوين رأي شخصي في كل المسائل السياسية ذات علاقة بالشأن العام، يجب أن يكشف لنا حقيقة وجود كفاءة سياسية لدى الناخبين وهي كفاءة متفاوتة من ناخب لآخر ومن وسط اجتماعي لآخر ومن طبقة لأخرى، بمعنى آخر إن الكفاءة السياسية تتحدد تبعا لتقسيمات العالم الاجتماعي وطبيعة الرساميل الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والهابوتسات(8) الفردية والجماعية الموزعة على المواطنين المحتلين لمواقع مختلفة داخل الحقول الاجتماعية(9).

إنه على العكس مما تصوره النظرية الديمقراطية معززة بمفاهيم نظرية الاختيار العقلاني وبنتائج مؤسسات استطلاعات الرأي والتي تنتج جميعها خطابات وهمية حول الكفاءة السياسية للناخب العقلاني الواعي باختياراته السياسية والمسؤول عنها؛ على العكس من ذلك تؤكد النظرية السوسيولوجية لبورديو على ان الكفاءة الديمقراطية تتوزع بشكل غير متساو وسط الساكنة(10). إن النتيجة المباشرة لهذه اللامساواة هي إقصاء أو تهميش الأغلبية الكبرى من المواطنين غير المحظوظين اجتماعيا وثقافيا من المساهمة في تدبير الشأن العمومي، والتي تتجلى في ارتفاع نسبة العزوف عن  التصويت، واللامبالاة أمام الشأن السياسي العام والمحلي (عدم الاهتمام بقضايا تدبير الجماعات الترابية والبلديات)؛ الأمر الذي يترك المجال مفتوحا أمام تخصيص أو خوصصة السياسة، من خلال ترك المجال أمام مهنيي واختصاصي ومحترفي السياسة للتداول / التنافس، في/ على المناصب والمسؤوليات والمؤسسات، وهي الغاية التي كانت أمل العديد من منظري الفكر الليبرالي وعلى رأسهم جوزيف شومبيتر في تصوره المختزل للديمقراطية باعتبارها نظاما تنافسيا لانتخاب القادة من حين لآخر والذين يعهد إليهم اتخاذ القرارات السياسية والمصيرية التي تهم المواطنين بمعزل عن آرائهم ومصالحهم. لذلك فإن من نتائج هذه النزعة النخبوية تكريس فقدان الثقة من طرف المواطنين، والعزوف عن السياسة، والتي تجسدها مسألة عدم تلاؤم الشرعية القانونية (الانتخاب) والمشروعية الديمقراطية/ السوسيولوجية (تمثيل الاتجاهات والآراء)، ذلك أن مصداقية النظام الديمقراطي لا تنشأ من كفاءة وحكامة مؤسساته والتزامها بالقوانين والتشريعات، وإنما من ثقة المواطنين واعتقادهم بجدارة وقدرة النظام السياسي على التعبير عن مصالحهم وتطلعاتهم.

يبقى أن نسجل، أن مساهمة بيير بورديو في تحليل العلاقات والروابط القائمة بين الديمقراطية والسوسيولوجيا، من خلال وساطة المعرفة السوسيولوجية، ترتبط أيما ارتباط بنظريته في الممارسة، حيث لا تسلم بقدرية وحتمية خضوع الأفراد للبنيات الموضوعية والهابتوسات المحددة للحقل السياسي الديمقراطي، بل تصر على استراتيجيات تغيير الواقع السياسي من خلال التركيز على دور الوعي الفردي والجماعي بميكانيزمات وآليات الهيمنة والعنف الرمزي في تحرير الأفراد والجماعات من سطوتها. إن الوعي السوسيولوجي بآليات اشتغال وتنظيم المجتمع والنظم والأنساق والقيم والعلاقات المادية والرمزية، يساهم لا محالة في التحرر من هيمنتها على العقول والأجساد، وبالتالي في تطوير الحرية في مختلف تجلياتها وعلى رأسها الحرية السياسية المتمثلة في النظام الديمقراطي. إن السوسيولوجيا تستحق منا كل الاهتمام والتقدير باعتبارها ذلك العلم الاجتماعي الذي يحشر نفسه في عالم السياسة والسلطة، مسلحا بنظرياته ومناهجه، وادواته المعرفية، ليساهم في كشف الأوهام والمعتقدات السياسية الراسخة، ورهانات اللاعبين والمتنافسين على مزايا ومصالح الحقل السياسي؛ وليفكك أسس وثوابت الهيمنة السياسية ومقولاتها وهابتوساتها وآليات إنتاج وإعادة إنتاج المسرحية السياسية السائدة بشخوصها وتمثلاتها وأقانيمها.

 

 الهوامش :

 1- مجلة الجامعة النقابية، عدد 510، تشرين الثاني/نوفمبر 1999. أجرى الحوار فرنسيس غييو. 

2 - Wieviorka Michel, « Neuf leçons de sociologie », Ed Robert Laffont, S.A, Paris, 2008, p. 67

3- Bourdieu, Pierre « Questions de Sociologie »,Ed Minuit, Paris, 1980 , p. 49

4- Idem, p. 209.

5 ـ بورديو. ب،  فاكونت.ج. د، "أسئلة علم الاجتماع "، في علم الاجتماع الانعكاسي، ترجمة عبد الجليل الكور، دار توبقال للنشر،1997، ص 34.

6 - Touraine. Alain « l’inutilité idée de  société », dans De la campagne. J et Magioni. R (dir), Phiolsopher. Les interrogations contemporaines, Paris, Fayard, 1981, p. 242.

7 - S/D de Gisèle Sapiro , « Dictionnaire  International : Bourdie », Ed CNRS, Paris, 2020, p. 1397.

8 ـ الهابتوس أو السمت حسب بعض الترجمات، يعني عند بورديو "الصيرورة المزدوجة لاستدخال الخارجي وتخريج الداخلي"، فهو مجموع الاستعدادات الجسدية والذهنية الدائمة والمغيرة لموضعها Transposable والتي يتم تقمصها داخل وعي الأفراد، وهو نتاج صيرورة التنشئة الاجتماعية، وبشكل أكثر دقة نتاج صيرورة استدخال البنيات الموضوعية التي توكل إلى مؤسسات مختلفة بدءا من الأسرة والحي والجماعة إلى المدرسة والمشغل والدولة، ثم تخريجها في شكل ممارسات. إن الهابتوس هو نقطة الارتباط الممكنة بين البنيات والوكلاء، إنه الآلية التي من خلالها تتم عملية توضيع البنية داخل وعي وتمثلات الأفراد، "ذلك أن السمت آلية مبنينة (بكسر الياء)، تشتغل من داخل الفاعلين" بحيث يسمح بتكييف وتقويم التصرفات الذاتية مع المجتمع لتبدو كما لو أنها تستجيب لمحددات فردية، أو كما لو أنها ناتجة عن وعي فردي بعناصر الفعل وآثاره وأهدافه.  أنظر Bourdieu. P « Esquisse d’une Théorie de la Pratique », Paris, Droz, 1972, p. 175.ـ بورديو.ب، فاكونت.ج.د  "أسئلة علم الاجتماع الانعكاسي"، مرجع سابق، ص  20 (يفضل المترجم لفظة سمت في مقابل اللفظ الفرنسي Habitus).

9- Lilian Mathieu, «  La politique comme compétence », Pierre Bourdieu et la démocratie  ?, Contretemps, Numéro Trois, Ed sylepse, Février, 2002, p. 138.

10- Idem, p. 139.