مقدمة
تشهد البلدان التي ترسخت فيها الديمقراطية خصوصا الأوروبية منها والولايات المتحدة الأمريكية مشكلات بنيوية سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية، وتشهد كذلك حالة من تراجع الثقة بالعملية الديمقراطية ومؤسساتها وبالأحزاب والنخب السياسة. أما البلدان النامية التي تُعد تجربتها في تبني النظام الديمقراطي في العموم قصيرة، فهي تواجه مشكلات أكثر تعقيدا في هذا السياق، كل ذلك دعا كثيرا من المفكرين والباحثين الغربيين وغير الغربيين إلى إطلاق مفهوم "أزمة الديمقراطية" في البلدان الرأسمالية. لذلك، نُشر عدد غير قليل من الكتب باللغة الإنكليزية ولغات أخرى تعالج هذه الموضوعة، منها، على سبيل المثال، "السوق الديمقراطية: كيف يمكن لاقتصاد أكثر مساواة أن ينقذ مُثُلنا السياسية؟" (2025) و"الديمقراطية الأوروبية في أزمة"، (2018) و"الأزمة ونوعية الديمقراطية في أوروبا الشرقية"(2012)، و"أزمة الديمقراطية الأمريكية"، (2006)، إضافة إلى الدراسات والبحوث والمقالات ذات العلاقة، علما أن الجزء الأكبر من هذه المشكلات نشأ تاريخيا نتيجة الترابط الذي أريد له أن يكون بين الديمقراطية والرأسمالية، وكأن لا ديمقراطية بدون رأسمالية، وأسباب ذلك مفهومة. والمفارقة أنه على الرغم من الأزمة التي تعيشها الأنظمة الديمقراطية، والتي ساهمت في صعود الأحزاب والشخصيات الشعبوية واليمينية الفاشية المتطرفة، - تعتبر النظرية الماركسية عادة أن الرأسمالية أو الليبرالية هي منشأ الفاشية -، إلا إننا نلاحظ ضعف اليسار عموما رغم ما حققه من نجاحات صعودا وهبوطا في الفترة الأخيرة.
أما تصدير الديمقراطية على النمط الغربي أو "دمقرطة"، البلدان النامية سلما أو حربا والذي تتحمس له بعض الدول الأوروبية والولايات المتحدة، دون الأخذ في الاعتبار التباينات في البنى الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، فسنجد مصالح اقتصادية وسياسية لهذه الدول تقف من ورائه.
هذا لا يعني بأي شكل من الأشكال أن الأنظمة المستبدة هي بديل الديمقراطية؛ إذ على الرغم من المشكلات التي تظهر في سياق العملية الديمقراطية، لكن يمكن معالجتها بإحداث تغييرات جذرية سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية تكون ساندة لهذا التغيير، وفي المقدمة منها الحد من تعمق التفاوت الطبقي وتحقيق العدالة الاجتماعية، وكذلك فك الارتباط بين الديمقراطية والرأسمالية.
وفي هذا الصدد يشير رالف ميليباند:"يمكننا القول ان الديمقراطيات الرأسمالية اقل الانظمة التسلطية قسوة، ولكن حقيقة كون سجلات الديمقراطيات الرأسمالية فيما يخص الحقوق المدنية والسياسية افضل من سجلات الانظمة التسلطية يجب ان لا تنسينا المظالم التي تشكل جزءاً من الحياة اليومية لكثير من الناس الاشد فقرا في هذه المجتمعات"(1).
سنتعرف في هذه المقالة على بعض الجوانب النظرية التي تخص الديمقراطية وأزمتها والتي تفيدنا في التحليل، ثم نستعرض المشكلات التي تعيشها الديمقراطيات الرأسمالية، وتطبيقا لذلك، نتطرق إلى البلدان الأوروبية والولايات المتحدة والبلدان النامية، وأخيرا نستعرض تجربة العراق في زرع ديمقراطية مشوهة بواسطة الاحتلال وما تمخض عنه من مشكلات معقدة ما زال العراق يدفع ثمنها.
بعض المفاهيم النظرية
توجد كثير من المفاهيم النظرية المتعلقة بالديمقراطية، لكن نستعرض هنا ما يتعلق بموضوعنا قدر الإمكان. من الملاحظ، ظهرت الفكرة الحديثة للمبادئ الدستورية كاستجابة للاستبداد. وكان العنصر الأكثر أهمية وما زال هو أن السلطة السياسية لها حدودها، لا يمكنها ممارسة الحكم بطريقة تعسفية. لذلك ليست السلطة هي التي تصنع القانون، لكن على العكس السلطة تستند إلى القانون(2) .
عرّف كولن كراوتش مفهوم "ما بعد الديمقراطية" باعتباره حالة تتراجع فيها جودة الديمقراطية على الرغم من بقاء المؤسسات الديمقراطية الأساسية سليمة ظاهريا. ففي هذه المرحلة، يرى كراوتش أنه لم يعد للمواطنين المكانة التي يستحقونها في ظل الانتخابات الديمقراطية، وبهذا، أصبحت القرارات تُتخذ في الشركات العالمية المرتبطة بالنخب السياسية(3)، أي هناك ترابط وتخادم في المصالح، خصوصا في مرحلة الليبرالية الجديدة والعولمة.
طور العلماء الماركسيون نقدا أكثر منهجية للرأسمالية الأنكلوسكسونية؛ إذ في نظرهم لا يوجد شيء غير تعمق عدم المساواة وتمتع أصحاب رأس المال بحقوق الملكية على حساب أصحاب المصلحة الآخرين في الشركات. وأشار النقد إلى أن أنماط "الديمقراطية الاجتماعية" مرتبطة بالرأسمالية الراينية(4) Rhenish capitalism وأشاروا كذلك إلى أن إدخال نظام أصحاب المصلحة في حوكمة الشركات في الاقتصادات الأنكلوسكسونية من شأنه أن يؤدي إلى تأثيرات مماثلة. علما أنه بحسب كارل ماركس كانت الرأسمالية الشركاتية corporate capitalism المنظمة للغاية بمثابة اشتراكية داخل الرأسمالية ــ نوع من تأميم الرأسمالية، حيث أصبح الملاك الغائبون أكثر فأكثر غير ضروريين(5).
إن ما يُعدّ أزمة تمر بها الديمقراطية الليبرالية المعاصرة الناتجة من ترابط تقليدين هما التقليد الديمقراطي والتقليد الليبرالي مع انتشار الشعبوية اليمينية في البلدان الغربية ليس بظاهرة جديدة كليا، بل هو من تجليات ما يمكن تسميته أزمة دائمة للديمقراطية في ظروف جديدة(6). وهي في الوقت نفسه أزمة الرأسمالية كنظام التي تكرر بشكل دوري كما حللها ماركس بعمق.
يقترن مفهوم الديمقراطية التوافقية بعالم السياسة الأمريكي (من أصل هولندي) أريند ليبهارت الذي بدأ محاولته بمناقشة النظرية الديمقراطية وتطبيقاتها في كتاب نشره بعنوان "سياسات الاستيعاب". وقد خصص حيزا مهما لمناقشة التقسيم الذي قدمه عالم السياسة الأمريكي غابرييل ألموند للنظم الديمقراطية، من أجل محاولة تطوير نظرية للديمقراطية في المجتمعات "المنقسمة"، تقوم على ما سمّاه "سياسات الاستيعاب". وتقوم الديمقراطية التوافقية، بحسب ليبهارت، على "تحالف النخب"، الممثّلة لجماعاتها الإثنية أو الدينية أو العرقية(7). وقد تعرضت هذه النظرية للنقد على اعتبار أنها تُسهم في تقسيم المجتمعات عموديا خصوصا في البلدان النامية.
كما يشير تحليل ماركس لنمط الإنتاج، إنه كلما زاد إنتاج العامل في نظام الإنتاج الرأسمالي، صار أكثر اغترابا عن منتجه ما دام هذا المنتج ليس له بل للرأسمالي، وباستخدام المقاربة ذاتها، يمكن القول أنه كلما اندمجت الأقليات في "النظام" السياسي التوافقي، اغتربت عن هويتها ما دامت لم تُنتَج للأقليات بل أُنتجت لـ "النظام" الذي يطلب منها(8). وهذا ينطبق بجلاء على الوضع في العراق كما سنرى.
مشكلات الديمقراطية الرأسمالية
استقطبت مشكلات الديمقراطية دوائر البحث الأكاديمية والرسمية والإعلامية والشعبية، وانتجت عددا غير قليل من الأدبيات التي تعالج هذه الموضوعة، خصوصا في البلدان الرأسمالية المتطورة في أوروبا الغربية والولايات المتحدة.
يُحذر المنظرون السياسيون والفلاسفة السياسيون اليساريون من إفقار الديمقراطية وانتهاكها. وقد حثوا على "تعميق الديمقراطية" و"دمقرطة الديمقراطية" منذ أفلاطون. ونالت الديمقراطية التمثيلية نصيبها من البحث خلال القرن العشرين. وكان خطاب الأزمة مترافقًا على نحو منتظم مع التطورات الجديدة التي تشهدها الديمقراطية. فخلال الحربين العالميتين، تعرضت الديمقراطية لانتقادات، بسبب التمسك بالشكليات والنزعة النخبوية، إضافة إلى تدني الثقافة السياسة الديمقراطية، وحتى الجنوح الأخلاقي. فقد مثّل انهيار جمهورية فايمار وصعود هتلر مؤشرات على أن الأزمة السياسية مرتبطة بالضعف الداخلي للديمقراطية(9).
وينبه ميليباند:"بداية، ان الرأسمالية، خلال الجزء الاكبر من تاريخها، لم تكن مرتبطة بالديمقراطية بأي معنى من المعاني، وان جميع المحافظين والليبراليين المدافعين عن النظام الرأسمالي كانوا دوما مصممين على مقاومة تقدم الشكل الديمقراطي... لقد احتاجت الرأسمالية في البداية حريات معينة من أجل ان تتطور. وقد ارتبط هذا تاريخيا بمطالبة البرجوازية بهذه الحريات من اجل كبح الاستبداد وحماية الافراد، وخاصة ذوي الملكيات، حمايتهم من ابتزاز الدولة ورقابتها. ورغم اهمية هذه الحريات إلا انها ابقت سواد الشعب تحت ظروف قاسية من الكبت الاقتصادي والسياسي. وكانت هذه الديمقراطية، بالشكل الذي تحققت فيه، ديمقراطية تقتصر على من يملك ثروة". ويضيف "إن فكرة كون المجتمعات الرأسمالية ديمقراطية تنتمي الى اساطير السياسة، وليس الى واقع هذه المجتمعات"(10) التي تعيش مشكلات كثيرة اقتصادية وسياسية واجتماعية وثقافية مترابطة.
في العقود الأخيرة، أحدثت قوة الرأسمالية العالمية تحولات أثرت في الديمقراطية، وغيرت طبيعة المجتمع السياسي، ومؤسساته، وأحدثت تحولات في شروط السياسة الديمقراطية والحوكمة. فقد فاقمت العولمة الاقتصادية التوتر بين الديمقراطية، كنظام حكم متجذر إقليميًا وعمليات الأسواق العالمية وقوة الشركات وشبكاتها العابرة للحدود الوطنية. وفقدت الحكومات قدرتها على تنظيم القوى العابرة للحدود الوطنية وفقا لما يفضله مواطنوها، كذلك هددت جوهر الديمقراطية، أي أن الاستقلال أصبح معرضا للخطر بشكل واضح(11). وهذا جلي بالنسبة إلى البلدان النامية التي فرضت عليها الليبرالية الجديدة.
وترى ليزا هيرزوغ مؤلفة كتاب "السوق الديمقراطية" (2025)، نحن لسنا مواطنين ولكننا أقنان في نظام إقطاعي، نحن نعتمد على اقتصاد قسري ونخشى الانهيار بسبب فقدان الوظائف. لذلك ليس من المستغرب أن يعلق الناخبون العاجزون آمالهم على الشعبويين(12) الذين يعلقون جميع الأشكال الجادة للسلطة مثل العدالة والصحافة والعلوم(13).
ويذكر توماس بيكيتي أن "الديمقراطية الحقة والعدالة الاجتماعية تستلزمان وجود مؤسسات بعينها، وهي ليست مؤسسات السوق، ولا يمكن أيضا اختزالها في المؤسسات البرلمانية والديمقراطية الرسمية"(14). إن منح حق الاقتراع للجميع، وإنهاء الامتياز الانتخابي، قد قضى على الهيمنة السياسية القانونية من قِبل حائزي الثروات. ولكنه مع ذلك لم يهدم بحد ذاته القوى الاقتصادية التي من شأنها أن تؤدي إلى مجتمع من أصحاب الريوع(15).
وثمة نقطة هامة وهي: دون شفافية حقيقية في الحسابات وفي الأمور المالية، ودون معلومات متاحة، لن توجد ديمقراطية اقتصادية. وبالمقابل، لن تفيد الشفافية في شيء إذا لم يتوفر حق التدخل في القرارات (مثل حقوق التصويت للعاملين في مجالس الإدارة). ويُفترض بالمعلومات أن تغذي المؤسسات المالية والديمقراطية، حتى تتمكن الدمقراطية يوما ما من استعادة لجام الرأسمالية(16). وهذه النقطة لها علاقة بالتهرب الضريبي الذي تمارسه خصوصا الشركات الكبرى.
وثمة من يرى أن الترابط التاريخي بين الديمقراطية الليبرالية والرأسمالية وفر للثانية التبرير السياسي وحمى الأسواق الرأسمالية من تهديد بقايا الاقطاع والطبقة العاملة. ويُظهر هذا الترابط التاريخي، بأن الديمقراطية الليبرالية على الأقل سمحت بحرية واسعة للأسواق، لكن يمكن لها أيضا أن تقمع الحريات الفردية والجماعية(17)، وهذا حدث مثلا عبر استعمار البلدان النامية ودعم الأنظمة المستبدة فيها من قبل دول تدعي إنها ديمقراطية.
تُعد الديمقراطية التمثيلية، باعتبارها حكم مجموعة صغيرة، الشكل الأكثر انتشارا في الغرب. وقد جرى نقدها، كونها تستبعد حكم الشعب وتقود من ثمّ إلى الاستبداد، ما يشكل انحطاطا للديمقراطية. وفي هذا الصدد، تعرّض مفهوم الديمقراطية لتغيير دلالي مستمر، وذلك من خلال شموله أفكارا عن المستقبل. وفي إطار عقلنة المفاهيم الديمقراطية، يقر كلاوس فون بايمه بوجود فجوة بين المشاركة الديمقراطية والناتج العقلاني للقرارات الديمقراطية المتخذة، حيث لم تعد المشاركة أمرا مهما كما هو الحال في النظريات الديمقراطية المعيارية، إضافة إلى تشكيك العقلانية في قدرة الديمقراطيات على التوفيق بين مطالب المواطنين(18). وهذا ناتج من تراجع العدالة الاجتماعية مفهوما تطبيقا وإلقاء اللوم على قدرات الأشخاص وتقاعسهم فيما يعيشونه من ظروف صعبة وليس على بنية النظام السياسي.
لم تُعد الحكومة البرلمانية تلبي أو تلبي بطريقة غير مكتملة، في الظروف الجديدة التي أوجدها التحول الاجتماعي - الاقتصادي لعملها، حاجات الشعوب السياسية التي انبثقت منها، أما لأنها توحي إليها أنها لا تتلاءم مع أمنياتها وأما لأنها تعطيها الشعور بأنها عاجزة عن الحكم، وإما الاثنين معا(19).
وقد تتبع باحثون الأسباب الرئيسة لما بدا وكأنه انحدار تدريجي للديمقراطية، ولخصوا بعض الملامح البنيوية التي دعمت في الأصل الديمقراطية، لتكون ناجحة خلال 25 سنة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، وبعد ذلك أصبحت مولدة لنظام "الديمقراطية اللاأدرية"(20).
أفصحت التحديات في البلدان المذكورة عن وجود ما سمي بأزمة الديمقراطية، ومن مظاهرها انخفاض نسبة المشاركة في الانتخابات، وتراجع عضوية الأحزاب والنقابات، وتدهور مكانة السياسيين في المجتمع، وقلة الثقة بالمؤسسات العامة، وازدياد الشعور بأن السياسة هي نشاط يتسم بالخداع وخدمة المصالح الشخصية، وكان من شأن ذلك ابتعاد الشباب عنها وانخراطهم في الأنشطة والحركات الاجتماعية(21) التي كثرت في السنوات الأخيرة خصوصا في أوروبا.
يوضح ما ورد في التقرير السنوي لوحدة معلومات مجلة الإيكونوميست عام 2016 من أن الديمقراطية في حالة تردٍ، وأنه في هذا العام تراجع الالتزام بالقيم الديمقراطية في 72 دولة، وأن عدد الدول التي شهدت مثل هذا التراجع يفوق تلك الدول التي شهدت تحسنا بنسبة 2 إلى 1(22).
وأشار التقرير السنوي لهيئة "فريدم هاوس" الأمريكية عام 2017 إلى أن مستقبل الديمقراطية في العالم مظلم، وأن خصوم الديمقراطية يتقدمون باطراد لإقامة النظم السلطوية؛ مما يجعل الدول الديمقراطية المتقدمة تواجه أكبر تحد لها منذ نهاية الحرب الباردة. وأشار التقرير الى أن عام 2017 كان العام الثاني عشر على التوالي الذي تشهد فيه النظم الديمقراطية تراجعا، وأشار أيضا إلى خطورة تنامي الاتجاهات غير الليبرالية في عدد من الدول خصوصا في شرق أوروبا(23)، وتقدم الأحزاب القومية ذات التوجه اليميني المتطرف مثل ما حدث هنغاريا.
بالنسبة إلى المجتمعات الهشة التي تعاني انقساما عموديا في بنيتها الاجتماعية، فإن الأحزاب السياسية في هذه المجتمعات غالبا ما تكون أحزابا ممثلة لمكوناتها الطائفية والإثنية وليست أحزابا سياسية وطنية عابرة للمكونات. وفي النتيجة، فليس ثمة من يمثّل الأقليات في بنية تلك الكتل الحزبية، حتى لو وجد بعض مرشحي الأقليات فيها؛ فوجود هؤلاء متماه تماما مع سياسة تلك الكتل؛ نظرا إلى أن الممارسة الانتخابية هي، في الغالب، ممارسة تستند إلى المكونات تصوت فيها الجماهير لممثلي مكوناتها وليس لبرامج سياسية(24). وهذا ما أريد له أن يُطبق في العراق لخدمة المصالح السياسة والاقتصادية والاجتماعية للأحزاب والكتل المتنفذة وارتباطاتها الإقليمية العالمية.
البلدان الأوروبية
بحسب هاوك برونكهورست خلال الثلاثين عاما الماضية من الهيمنة العالمية لليبرالية الجديدة، تحول التوازن الهش بين الديمقراطية والرأسمالية على نحو دراماتيكي لصالح الرأسمالية. وخلال الفترة نفسها من العولمة تحولت أقوى الدول في التاريخ - الديمقراطيات الغربية - إلى وكالات لتحصيل الديون لصالح الاوليغارشية العالمية من المستثمرين(25)، وهذا يعكس الطابع الطبقي للدولة كما حللته الماركسية بعمق.
مع تصاعد حالة عدم الاستقرار الاقتصادي وتباطؤ النمو الاقتصادي من ناحية، وأزمة نموذج الرفاه الاجتماعي من ناحية التكاليف والبيروقراطية، من ناحية أخرى، كان هناك تصاعد في الهجوم على دولة الرفاه الاجتماعي وتدهور في السياسة المالية والاجتماعية للدولة. هذه التغييرات تعني في الوقت نفسه التحول إلى الليبرالية الجديدة في السياسات الاقتصادية والمالية والاجتماعية على المستوى العالمي، والأوروبي ومستوى الدولة - الأمة. إضافة إلى ذلك، جرى دعم التحول إلى الليبرالية الجديدة بواسطة سقوط جدار برلين الذي حرر الديمقراطيات الغربية من الحاجة لدعم شرعيتها عبر إعادة توزيع الرفاه الاجتماعي على نحو فعال(26). وهذا يرتبط بحقيقة معروفة أن تبني نموذج الرفاه الاجتماعي في الدول الأوروبية كان من دوافعه الأساسية منافسة البلدان الاشتراكية في نموذج الضمان الاجتماعي والاقتصادي الذي توفره لمواطنيها.
نتج عن التحول الذي حدث في الرأسمالية الليبرالية نحو الليبرالية الجديدة الأزمة العالمية الحالية وأزمة منطقة اليورو. ويستند هذا الطرح على فكرة تقول أن إجراءات التقشف التي تمثّل آلية الليبرالية الجديدة لا تستطيع التغلب على الأزمة، والعودة إلى دولة الرفاه الاجتماعي، هذا يعني ضرورة إحداث أشكال جديدة من الرفاه الاقتصادي واستراتيجيات سياسية للتنمية. هذا ليس مهم فقط للتغلب على الأزمة، لكن أيضا لتقليص التفاوت المفرط على المستوى الوطني والإقليمي والعالمي، وحماية حقوق الإنسان والحق بحياة كريمة لكل شخص.
تضع أزمة منطقة اليورو وإجراءات التقشف في خطر توقعات الرفاه الاجتماعي لمواطني البلدان الأوروبية، ومن ثم تهدد الشعور بالانتماء إلى الاتحاد الأوروبي، وعموم هويته السياسية. ويتطلب التغلب على الأزمة والتحول إلى الانتعاش، وتنظيم الحكم إحياء أفكار "أوروبا الاجتماعية" وممارساتها، وعكس إجراءات التقشف(27) للتخفيف عن كاهل الفئات محدودة الدخل.
وترى المنظّرة نانسي فريزر وهي من أهم ممثلي الجيل الثالث للنظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت، أنّ "فهم أزمة الديمقراطية، مثلا، لا يكون إلاّ بفهم أشمل للأزمة الاجتماعية الكلية، وبالارتباط الوثيق بالسيرورة الاقتصادية والاجتماعية للنظام الرأسمالي النيوليبرالي القائم على الأمولة العابرة للحدود الوطنية"(28).
الولايات المتحدة الأمريكية
أحد الملامح المتميزة للحياة السياسية الأمريكية يتمثّل في إضفاء الطابع المؤسسي لنظام الحزبين لنحو 155 عاما تقريبا. لم يُمكّن تاريخيا الضعف الكبير للحركة العمالية الأمريكية من تأسيس حزب سياسي مستقل خاص بها. وبقيت الحياة السياسية تحت هيمنة حزبين برجوازيين، هما الحزب الديمقراطي والحزب الجمهوري، وخلال ذلك جرت السيطرة على المصالح السياسية للطبقة العاملة واحتوائها لفترة أكثر من قرن.
ولتقصي التطور التاريخي لكلا الحزبين، ينبغي القول وبوضوح تام بأن مركز ثقل سياسة البرجوازية الأمريكية تحول بشكل جذري نحو اليمين. في حين أن الليبرالية الاجتماعية واتجاهها الذي ساد أكثر من نصف قرن توقف نشاطها فعليا. هذا الاتجاه ينبغي أن يُفسر في النهاية من وجهة نظر الأسباب الموضوعية. وعلى الرغم من كل الضجة التي أحاطت بقوة الرأسمالية الأمريكية، فإنها أصبحت أقل قدرة على تلبية مطالب الإصلاح الاجتماعي من قبل الطبقة العاملة(29). وهذا واضح من تراجع القوة الاقتصادية للولايات المتحدة وصعود قوى منافسة قوية مثل الصين، وما إجراءات ترامب في فرض رسوم جمركية عالية على الدول الأخرى إلا محاولة لتقليل هذا التراجع لا عكس اتجاهه.
وبدون تقديم أي شيء يتعلق بالإصلاحات الاجتماعية، يستمر الحزب الديمقراطي بتقديم نفسه بأنه المدافع عن مصالح العاملين الأمريكيين. ومن جهة أخرى، أصبح الحزب الجمهوري، على نحو أكثر وضوحا، منظمة لليمين المتطرف. إذ أن الجشع الجامح للشرائح التي لا ترحم من النخبة الحاكمة التي تشمل أولئك الأشخاص الذين استمدوا ثروتهم من طفرة السوق في الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي، يجد تعبيره الأكثر مباشرة في انتماء هؤلاء للحزب الجمهوري(30)، لأنه من الناحية الموضوعية يدافع عن مصالحهم الطبقية.
على الرغم من نجاة الديمقراطية الأمريكية من رئاسة ترامب الأولى، إلا أنها أصيبت بجروح بالغة بسببها؛ إذ في ضوء إساءة استخدام ترامب الشنيعة للسلطة، ومحاولته سرقة انتخابات في عام 2020 وعرقلة الانتقال السلمي، والجهود الجارية على مستوى الولايات لتقييد الوصول إلى صناديق الاقتراع، خفضت مؤشرات الديمقراطية العالمية سلم الولايات المتحدة بشكل كبير منذ عام 2016. واليوم، فإن نتيجة الولايات المتحدة في مؤشر الحرية العالمي لفريدوم هاوس أصبحت على قدم المساواة مع بنما ورومانيا، وأقل من الأرجنتين وليتوانيا ومنغوليا.
يبدو أن الولايات المتحدة تتجه نحو نظام غير مستقر. ومن شأن مثل هذا السيناريو أن يتسم بأزمات دستورية متكررة، بما في ذلك انتخابات متنازع عليها أو مسروقة وصراع حاد بين الرؤساء والكونغرس، والقضاء (مثل الجهود الرامية إلى تطهير المحاكم أو اختيارها)، وحكومات الولايات (مثل المعارك الضارية حول حقوق التصويت وإدارة الانتخابات). ومن المرجح أن تنتقل الولايات المتحدة ذهابا وإيابا بين فترات الديمقراطية المختلة وفترات الحكم الاستبدادي التنافسي التي يسيء خلالها شاغلو المناصب استخدام سلطة الدولة، ويتسامحون مع التطرف العنيف أو يشجعون عليه، ويعملون ضد منافسيهم في العملية الانتخابية(31)، مثلما حدث عندما اقتحم انصار ترامب الكونغرس لتعطيل التصويت على نتائج الانتخابات السابقة، وهو ما عد محاولة انقلابية غير مسبوقة مدفوعة من ترامب لتبرير فشله في الفوز بولاية ثانية في وقته.
البلدان النامية
تتوفر الديمقراطية الرأسمالية (التمثيلية) بصفة عامة على الصفات الآتـية في بلدان العالم الثالث: تشكيل حكومات أقلية في تناقض صارخ مع مبدأ الأغلبية، وفشلها في تعبئة الناس للمشاركة الواسعة في العملية السياسية. وتشجيع الرجعية على المستوى الوطني والعالمي، واجهاض التغيير والثورة من اجل المساواة. وتفاقم الفجوة بين الغني والفقير باسم الديمقراطية. وتشترك الحكومات التمثيلة والدكتاتوريات العسكرية التي اعقبت بعضها البعض على نحو متواتر ومذهل في خداع الجماهير من أجل إبقاء الأخيرة خارج السلطة الاقتصادية والسياسية لإبقاء الوضع الراهن المتسم بالفظاعة. وتحت مسمى مناهضة الشيوعية، قُمعت واستغلت الجماهير العزلاء. لقد صورت الاشتراكية على أنها أكثر أنواع الأنظمة دكتاتورية التي عرفها الإنسان، بينما في الممارسة العملية أسست نظاما شموليا رأسماليا وهو أسوأ من أي نظام آخر على وجه الأرض(32). ودخلت هذه البلدان مرحلة أسوأ عندما فُرضت عليها الليبرالية الجديدة التي فاقمت من حدة الفوارق الطبقية ودفعت المزيد من الجماهير نحو الهامش.
لقد سقطت البلدان المستقلة الجديدة في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية عموما من المقلاة إلى النار؛ إذ افسح الاحتلال الأجنبي المجال لدكتاتوريات محلية أو محلية الصنع تحت مسمى الديمقراطية "التمثيلية" اعقبتها أو سبقتها انقلابات عسكرية بناء على طلب القوى الاستعمارية السابقة. وقد فشلت الحكومات التمثيلية في توزيع ثمار التنمية على نحو عادل. تُنظم الانتخابات من وقت إلى آخر، لكن أوراق الاقتراع تستخدم أكثر لوقف عجلة التقدم بدلا من نقل السلطة إلى الشعب. ويستخدم الاقتراع كأداة لرد الفعل بدلا من آلية للتغيير. لم تغير الانتخابات عدا نقل السلطة من نخبة حاكمة إلى أخرى. وكل عملية انتخابية تجرى في أحد بلدان العالم الثالث توصف بالانتصار "للديمقراطية" من قبل الغرب الرأسمالي وهذا أمر مفهوم(33)، لأن هذا النموذج يتوافق مع المصالح السياسية والاقتصادية لبلدان هذا المعسكر.
وفي هذا الصدد، يذكر الباحث صالح ياسر، "كان مسار التشكل التاريخي للطبقات السائدة في (التشكيلات العالم ثالثية) ليس سوى مولد لميكانيزمات تحكم ديمقراطي فحسب، بل أن نشأته غير ممكنة أيضا إلا على أساس تحطيم الممكنات الديمقراطية في صلب هذه التشكيلات تحطيما كاملا. يحدث ذلك وكأن الثورة الصناعية والنمو والعصرنة لا يمكن أن تتجسم إلا في تناف مع الثورة الديمقراطية، أي أساس حكم معاد للديمقراطية"(34). وما تجربة العراق في ديمقراطيته المشوهة إلا خير دليل على ذلك.
تواجه النظم الديمقراطية - خصوصا الديمقراطيات الجديدة - تحديات أساسية منها: تحدي الحفظ على الإجماع العام بين الفاعلين السياسيين على قواعد العملية الديمقراطية في مواجهة النزاعات الإثنية، والأصوليات الدينية التي تتعامل مع الآخرين بمنهج الإقصاء والتهميش، واستخدامها الديمقراطية لتحقيق أهداف غير ديمقراطية. وتحدي غياب العدالة وتكافؤ الفرص الناشئ عن الارتباط بديناميات النظام الرأسمالي في عصر العولمة(35). وما تجربة العراق إلا مثال ساطع لذلك.
تحكم القوى الاستعمارية الغربية على النظام السياسي بمقياس ما يسمى الصحافة الحرة، وجود أحزاب معارضة، انتخابات برلمانية دورية، سلطة تنفيذية مسؤولة أمام الشعب أو البرلمان، دستور يوزع السلطات بين أقسام الحكومة المختلفة وقضاء مستقل عن السلطة التنفيذية. تستند جميع هذه المعايير على مبدأ حكم الأغلبية وهو أكثر أسطورية من الحقيقة(36)، حيث أن الحكومات في الغالب تمثل الأقلية وليست الأكثرية بحكم آليات العمليات الانتخابية وعزوف كثير من الناس عن المشاركة في الانتخابات والنظر بعدم جدواها، لأنها لم تغيّر أوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية والخدمية نحو الأفضل.
العراق وتصدير الديمقراطية
كان بعض الأوروبيين البارزين قد اقترح أنه يجب ألا تحول الحدود والثقافة الأوروبيتين دون توسع اتحادهم الديمقراطي. فقد اقترح اللورد رالف داريندورف في خطاب شهير له في ميونخ، أن على الاتحاد الأوروبي أن يتمتع بطموح لتوسيع نفسه، لا ليشمل تركيا وأوكرانيا فقط، بل حتى سنغافورة ونيوزلندا – بالسير على خطى الإمبراطورية البريطانية، كما علق أحد المعلقين. بينما تحدث بيار مانيه، وهو فرنسي بارز صاحب نظرية، بقلق عن تصميم الأوروبيين إنجاز ما سماه "الإمبراطورية الديمقراطية". كما أصبحت الولايات المتحدة منشغلة بسياسة "دمقرطة" العالم. لكن الأحداث الأخيرة، وخاصة في العراق، عمقت الشكوك، وقوّت من الانتقادات الموجهة لهذا المشروع الطموح. فما السر إزاء الصيغة الليبرالية الغربية للديمقراطية الذي يمنح الحق لمحاولة زرعها بديلا من الأنظمة القائمة ذات السمات المختلفة؟ وكيف يمكن تفادي سياسة كهذه، تفادي ما سيكون، في أفضل الأحوال، صيغة أبوية للإمبريالية من جانب القوى الديمقراطية العظمى؟ ومتى سيكون شرعيا استخدام القوة المسلحة في السعي لتحقيق هذه السياسة؟(37). إن القوى الاستعمارية لا تقيم وزنا لأي مصدر للشرعية أو حقوق الإنسان عندما تريد تنفيذ سياساتها التي تخدم مصالحها الاقتصادية والجيواستراتيجية، والدليل على ذلك أن الولايات المتحدة لم تعر أي اهتمام للمعارضة الواسعة على مستوى العالم ضد احتلال العراق.
بعد احتلال العراق عام 2003 وإسقاط النظام وتفكيك مؤسسات الدولة، والذي جاء تنفيذا للسياسة المذكورة أعلاه، أرادوا أن يثبتوا أن العراق بعد صدام كان بالفعل ديمقراطية ناشئة. ولكن محاولة تجميل القوانين والإجراءات الانتخابية الجديدة كانت تهدف إلى إخفاء حقيقة بعيدة كل البعد عن الديمقراطية.
قبل عشر سنوات من الغزو، عملت الولايات المتحدة مع مجموعة من العراقيين في الخارج ومولتهم، وقد اجتمعوا عدة مرات لتصور عراق ما بعد صدام. وفي تلك الاجتماعات، بدأوا في ابتكار نظام لا يحل محل النظام القديم فحسب، بل يضمن سلطتهم أيضا. وهذا النظام يحكم العراق الآن. لقد أدى ذلك إلى تأجيج الانقسامات الطائفية، وترسيخ الفساد، وسحق المعارضة، كل ذلك مع الحفاظ على مصالح النخب السياسية التي سارعت لملء الفراغ الذي تركه صدام. ولكن هذا النظام لا يستطيع ولا يريد أن يقيم ديمقراطية حقيقية في البلاد، وذلك ببساطة لأنه لم يتم تصميمه للقيام بذلك. إن دعم النخبة من قبل القوى الدولية الفاعلة على حساب المؤسسات والمصلحة العامة لن يعزز الديمقراطية في العراق، بل سيستمر في إضعافها(38). وهذا ما سماه صالح ياسر أعلاه بـ "تحطيم الممكنات الديمقراطية".
الديمقراطية التوافقية
الممارسة السياسية في العراق ممارسة مكوناتية وليست ديمقراطية توافقية سياسة، تدعو فيها الأغلبية من أحزاب المكونات الكبرى والصغرى أنصارها إلى الانتخاب على أساس الخلفيات المكوناتية لا البرامج السياسية، وهكذا تم حصر السياسة داخل حدود المكونات، وإغلاق المجال الاجتماعي العام أمامها. السياسة هنا ليست فعلا له القدرة على استيعاب الديناميات الاجتماعية وتنظيم نتائجها وتطويرها لبناء دولة حديثة، بل هي أداة تحافظ على الوضع الراهن وتمنع النظام الطائفي، من أي "انهيار إيجابي". إنها ليست أداة تغيير هنا بل ماكنة إنتاج مستمرة للثقافة المكوناتية (الطائفية، الإثنية، الدينية، اللغوية... إلخ) حتى يستمر الانقسام الطائفي والإثني، ويستمر معه تصويت جماهير تلك الطوائف والإثنيات لأحزابها الطائفية والإثنية. ففي كل مرة تقترب فيها الانتخابات، تبدأ أحزاب المكونات حملة تخويف وتحريض شديدين ضد الآخر لتضمن أصوات أتباعها وولاءهم لها(39). وهذا واضح من الحملات التي تشن حاليا مع قرب موعد الانتخابات في تشرين الثاني/ نوفمبر من هذا العام، خصوصا تشويه سمعة القوى الوطنية الديمقراطية، لأنها تملك مشروعا وطنيا عابرا للمكونات لبناء دولة مدنية ديمقراطية على نقيض المشروع الطائفي - الإثني للأحزاب والكتل المتنفذة.
من جانب آخر، إن أحزاب الأقليات غير مستعدة للمغامرة بمكاسبها السياسية التي حققتها في ظل الديمقراطية التوافقية "المحاصصة"، وأن أي دعوة منها لمقاومة النظام الحالي هي دعوة لمقاومة وجودها وتفكيكه. لذا، فإن أحزاب الأقليات جزء شريك وأساس في جعل الأقليات أقليات سياسية وليس مكوناتية فقط، وذلك من خلال مشاركتها، راغبة أو مرغمة، في العملية المكوناتية المسماة بالديمقراطية التوافقية(40)؛ لأن رؤساء الأحزاب والكتل التي تشكلت على أساس مكوناتي باتت لهم مصالح سياسية واقتصادية واجتماعية مترابطة مع الأحزاب والكتل المتنفذة، أي أن هناك تخادما في المصالح.
وينبغي التمييز هنا بين التوافق على أساس مكوناتي والتوافق على أساس سياسي، حيث أن الأول يستمر في تمزيق المجتمع عموديا، ويُمكن أن يُمهد مستقبلا لظهور نزعات انفصالية أكثر قوة، أما التوافق الثاني فهو معمول به حتى في الديمقراطيات الراسخة.
وارتباطا بذلك، يذكر عزمي بشارة "إن الأحزاب في حالة الدولة الريعية تعدّ الدولة أداة سيطرة ومصدر دخل للإنفاق على المجتمع، ومن ثمّ اكتساب قواعد اجتماعية عبر منظومة زبائنية متكاملة الوظائف؛ ما زاد من حدة التنافس للسيطرة على الدولة كأنها غنيمة، بدلاً من العمل تحت سقف الدولة بوصفها تعبيرا عن كيان الأمة جمعاء"(41). وهذه النزعة تحكم الأحزاب والكتل والمتنفذة في العراق والتي تستخدم الانتخابات كآلية لاقتسام غنيمة الدولة، وهي بالتالي تغذي الفساد الإداري والمالي والسياسي والذي بات متفشيا على نطاق واسع في مفاصل الدولة والمجتمع على الرغم من الادعاء بمحاربته.
إن الأحزاب الشيعية في العراق ليست منشغلة بإعادة هيكلة الدولة وتاريخها من منطلق طائفي سياسي حزبي فحسب، بل إنها منخرطة أيضا في جهد لإعادة تعريف من هو الشيعي "الحقيقي". فالشيعي عندها هو الشيعي سياسيا، والذي يشكّل قاعدتها. وهذه حال الطائفية السياسية في كل مكان؛ فهي تميّز بين ابن الطائفة "الحقيقي"، أي المؤيد للطائفية السياسية، و"غير الحقيقي" الذي لا يعرّف نفسه طائفيا عبر الطائفية السياسية(42)؛ أي هنا يجري انكار التنوع الفكري والسياسي الذي هو حالة طبيعية في داخل أي مكون سواء كان دينيا أو طائفيا أو إثنيا. ما يجعلنا نقول أن البلد سائر ومنذ عام 2003 وبتخطيط محلي وخارجي على نهج لبننة العراق.
يصعب الحديث عن ديمقراطية توافقية، في ظل وجود ميلشيات يقوم مبدؤها على الردع والتغلب. والتوافق في هذه الحالة يكون سلبيا أشبه بالهدنة إذا حصلت، ولا يؤسس نظاما سياسيا توافقيا. يضاف إلى ذلك أن توجه الأحزاب الطائفية هو نحو فرض نظام أكثري طائفي، وليس نحو التوافق، أما الدستور فلا يذكر التوافق(43)، علما أن الدستور يجري خرقه بانتقائية تتوافق مع مصالح القوى المتنفذة.
الهوامش :
1- رالف ميليباند، "الرأسمالية والديمقراطية"، الثقافة الجديدة، العدد، ايلول – تشرين الأول 1997، ص 13 -17.
2- Miodrag A. Jovanovic & Dorde Pavicevic (eds.), Criss and Quality of Democracy in Eastern Europe (The Hague: Eleven, 2012), p. 62.
3- نهيلة صوفي، "من مرحلة ما بعد الديمقراطية إلى مرحلة الديمقراطية الجديدة"، مراجعة كتاب كلاوس فون بايمه، سياسات عربية، العدد 68، 2024، ص 143.
4 نموذج يتميز بالتمويل المعتمد على البنوك، والشراكة الاجتماعية بين النقابات وأصحاب العمل، وتوازن القوى بين أصحاب المصلحة (بما في ذلك الموظفين) والإدارة.
5- Miodrag, pp. 23-24.
6- عزمي بشارة، "الشعبوية والأزمة الدائمة للديمقراطية"، سياسات عربية، العدد 40، أيلول| سبتمبر 2019، ص 9.
7- حارث حسن، "التجربة التوافقية في العراق: النظرية والتطبيق والنتائج"، سياسات عربية، العدد 23، تشرين الثاني| نوفمبر 2016، ص 40.
8 - سليم سوزه، "الديمقراطية التوافقية في العراق: إعادة إنتاج الأقليات الإثنية والدينية واللغوية بوصفها أقليات سياسية"، سياسات عربية، العدد 51، تموز| يوليو 2021، ص 52.
9- Miodrag, p.31.
10 - ميليباند، ص 13 -17.
11- Miodrag, p. 20.
12 - للمزيد راجع: هاشم نعمة، "في سمات الشعبوية"، الثقافة الجديدة، العدد 447، أيلول| 2024.
13- NRC Handelsblad, 25 September 2025.
14 - توماس بيكيتي، رأس المال في القرن الحادي والعشرين، ترجمة وائل جمال وسلمى حسين، التنوير، د. ت. ص 453.
15 - بيكيتي، ص 453
16- بيكيتي، ص 632.
17- Miodrag, pp. 20-21.
18 - صوفي، ص 140.
19 - مارسيل غوشيه، نشأة الديمقراطية II أزمة الليبرالية ، ترجمة جهيدة لاوند، بغداد، دراسات عراقية، 2011، ص 138.
20- Miodrag, p 1.
21- علي الدين هلال، الانتقال إلى الديموقراطية: ماذا يستفيد العرب من تجارب الآخرين؟، عالم المعرفة، الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، 2019، ص 206.
22 - هلال، ص 206-207.
23 - هلال، ص 207.
24 - سوزه، ص 49.
25- Hauke Brunkhorst et al., European Democracy in Crisis (The Hague: Eleven, 2018), p. 56.
26-Ibid., p. 55.
27- Ibid., p. 53.
28 - سمير بوسلهام، مراجعة كتاب الرأسمالية الكانيبالية، لنانسي فريزر، تبيُّن، العدد 50، خريف 2024، ص237.
29- David North, The Crisis of American Democracy, United States: Mehring Books, 2006, pp. 28-29.
30- Ibid., p. 29.
31 -Foreign Affairs, 20 January 2022.
32 -Hans Kochler, (ed.), The Crisis of Representative Democracy, Frankfurt am Main: Verlag Peter Lang, 1987, pp. 170-71.
33-Ibid., p. 171.
34 - صالح ياسر حسن، الدولة، السلطة، الطبقات الاجتماعية، بغداد: بيت الكتاب السومري، 2019، ص 279.
35- هلال، ص 205- 206. 207.
36- Kochler, p. 170.
37 - زولتان باراني وروبرت موزر، هل الديمقراطية قابلة للتصدير؟، ترجمة جمال عبد الرحيم، بيروت: جداول للنشر، 2012، ص 47-48.
38- Foreign Affairs, 20 March 2023.
39 - سوزه، ص 54.
40 - سوزه، ص 58.
41- عزمي بشارة، الطائفة، الطائفية، الطوائف المتخيلة، بيروت، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2018، ص 729.
42 - المصدر نفسه، ص 736.
43 - المصدر نفسه، ص 754.