أيار 02
 
 
الأستاذ رائد فهمي المحترم (أبو رواء)... نرحب بكم ضيفا عزيزا على صفحات مجلتنا (الثقافة الجديدة)، وننتهز فرصة انعقاد المؤتمر الوطني الحادي عشر للحزب الشيوعي العراقي وانتهاء اعماله بنجاح لنتقدم لك وعبركم الى رفيقات ورفاق الحزب كافة بخالص التهاني، مقرونة بأطيب الأماني بعام جديد مليء بالنجاحات من اجل تطبيق ما توصل اليه المؤتمر من قرارات وتوصيات وبرامج.
الثقافة الجديدة: المؤتمرات الوطنية للحزب الشيوعي العراقي عادة ما يشكل انعقادها لحظات مهمة ومحطات نوعية في مسيرة الحزب النضالية، وليس ارقاما تضاف للتاريخ. والمؤتمر الحادي عشر انعقد في ظروف غاية في التعقيد والتشابك، وفي اجواء ازمة بنيوية عميقة وحراك احتجاجي متسع وحراك فكري وسياسي... الخ. وفي مثل هذه الظروف، وغيرها الكثير، انعقد المؤتمر وانهى اعماله بنجاح... هل لكم ان تصفوا لنا الظروف التي انعقد فيها المؤتمر، وما هي ابرز النتائج التي توصل اليها الحزب، بعد مناقشات ثرية وواسعة ومعمقة لمختلف الوثائق المطروحة على المندوبين والمندوبات، وأين تكمن، برأيكم، اهمية المؤتمر الوطني الحادي عشر العتيد؟
 
رائد فهمي: إنّ مؤتمرات الحزب تمثل محطات رئيسية في عمله، فهي من جانب ممارسة وتجسيد للبناء الديمقراطي للحزب كما ينص على ذلك نظامه الداخلي. وكما حرص الحزب منذ مؤتمره الوطني الخامس الذي انعقد عام 1993 وفي مؤتمراته اللاحقة، وصولا إلى المؤتمر الحادي عشر، على تطويرها وتعميقها باستمرار، وذلك بانتخاب هيئاته القيادية على مختلف المستويات، وبما يعزز مشاركة أعضاء الحزب وتحكيم العقل الجماعي في مناقشة ورسم سياسة الحزب وتدقيقها. وفي المؤتمر الحادي عشر، كما في المؤتمرات السابقة جرى تقييم مسيرة الحزب منذ المؤتمر العاشر الذي انعقد أواخر عام 2016 بالارتباط مع استعراض وتحليل معمق للتطورات التي شهدتها البلاد على الصعد السياسية والاجتماعية والاقتصادية ومختلف المجالات المجتمعية الأخرى.
ومن جانب آخر، يقوم الحزب في مؤتمره الوطني من خلال الوثائق السياسية والبرنامجية التي يطرحها للمناقشة بتقديم قراءة تحليلية شاملة للوحة السياسية والاجتماعية والطبقية ومستجداتها وتحديد اتجاهات حركة تطورها واصطفافاتها والتناقضات المحركة لها وما يستتبعها من توازنات قوى سياسية واجتماعية.
وعلى أساس هذه القراءة والتحليل للواقع الموضوعي وفق المنهج المادي الجدلي، يستخلص الحزب المهام الرئيسية للمرحلة ويصوغها برنامجيا ويطرحها كمشروع سياسي واجتماعي متكامل ويحدد استراتيجية تحقيقها وأشكال وأساليب النضال التي يعتمدها وصيغ التعاون والتنسيق والتحالف الاجتماعي والسياسي ما بين الطبقات والفئات والشرائح الاجتماعية ذات المصلحة حاملة المشروع.
وفي المؤتمر الوطني الحادي عشر؛ تناولت الوثائق التي طرحت للمناقشة، أي مشاريع البرنامج والنظام الداخلي ومسودة التقرير السياسي ووثيقة “قدما .. نحو التغيير الشامل”، جميع الجوانب سالفة الذكر. وهي تتضمن حصيلة آراء وملاحظات المناقشات الواسعة للمسودات الأولية داخل تنظيمات الحزب، وفي منابره العلنية لهذه الوثائق، في ممارسة وتقليد ربما يتفرد به الحزب الشيوعي العراقي من بين الأحزاب والقوى السياسية العراقية.
ويمكن توصيف السمات الرئيسية لأوضاع البلاد كما خلصت اليه مناقشات المؤتمر ومخرجاته: أن بلادنا تعصف بها أزمة عامة قادت اليها سياسات القوى المتنفذة القابضة على السلطة والثروة والنفوذ، وباتت تشمل منظومة الحكم والدولة والواقع الاجتماعي والاقتصادي، ولها آثار وتداعيات تهدد حاضر البلاد ومستقبلها.
وقد تمظهر استفحال الأزمة في تفشي الفساد في معظم مفاصل الدولة، إن لم تكن جميعها، وينخر عميقا في أسسها، ما أدى إلى تردي أداء مؤسساتها، وبلغت حالة من الضعف والعجز وإلى ما يشبه الشلل التام، خصوصا في مجال توفير الخدمات الأساسية. وقد كشف تفشي جائحة كورونا على نحو صارخ عن نواحي القصور والخلل الكبير في النظام الصحي وتهالك بناه التحتية وهشاشتها، فضلاً عن انتشار الفساد فيه.
وتنعكس آثار وتداعيات تفاقم الأزمة الشاملة على المجتمع وفي تدهور الظروف المعيشية، ولا سيما بالنسبة لفئاته وشرائحه الأكثر حرماناً وفقراً، وتعمق الهوة بين الغنى الفاحش والفقر المدقع وغياب العدالة الاجتماعية، كما استثار مشاعر سخط شعبي متنامية عبرت عنها أشكال متنوعة من الحراك الاجتماعي والمطلبي انخرطت فيه فئات وشرائح وقطاعات مجتمعية متزايدة الاتساع. بعضها كان بعيدا عن ساحة الفعل السياسي.
وأكدت التجربة والأزمة المشتدة ما سبق أن شخّصه حزبنا أن أس الأزمة يكمن في منظومة حكم المحاصصة الطائفية والإثنية وأن العملية السياسية القائمة عليها باتت مأزومة ومنتجة للأزمات، وعاجزة عن الاصلاح والتصليح.
ومن آثار وانعكاسات وتداعيات فشل منظومة حكم المحاصصة وفسادها واستحواذ قواها المتنفذة وشبكاتها الزبائنية ومنظومات الفساد التي تحتمي بها على حصة متزايدة من المال العام ومن ثروة المجتمع، بحكم احتكارها للسلطة والنفوذ، أن اتسعت فجوة عدم الثقة والرفض للقوى المتنفذة ومؤسسات الدولة التنفيذية والتشريعية التي تقبض عليها من قبل معظم فئات الشعب، كما تؤشره نسبة العزوف والمقاطعة للعملية الانتخابية العالية، وانحسار أعداد المصوتين لجميع هذه القوى. وفي الوقت ضاقت أكثر فأكثر القاعدة الاجتماعية لقوى وأحزاب الطائفية السياسية، وبشكل خاص ضمن المكون أو الطيف المذهبي أو القومي الذي يدعون تمثيله، مما ينزع عنهم شرعية ادعائهم بتمثيله.
ومن خصائص نهج المحاصصة أن تكون الدولة والسلطة وما يصاحبها من نفوذ وامتيازات ومنافع النفوذ ميدانا للصراع والمنافسة من أجل اقتسامها وإعادة اقتسامها، لذا فهي في حالة تشظٍ وعدم استقرار دائم، ومن مظاهر تفاقم أزمة منظومة المحاصصة استمرار حالة التجاذب والمنافسة بين القوى المتنفذة على الحصص ما بين المكونات. كذلك ما بين الأحزاب والقوى في اطار المكون الواحد. وشهدت السنوات الأخيرة اشتداد الاستعصاء السياسي ما بين قوى المحاصصة، وبلغت الانقسامات في ما بينها مستويات غير مسبوقة، بعد الانتخابات الأخيرة، كما نشهده في استعصاءات انتخاب الرئاسات وتشكيل حكومة جديدة. ويشي كل ذلك بصعوبة، بل تعذر، إعادة انتاج حكم المحاصصة وتشكيل الحكومة التوافقية على غرار الدورات السابقة.
ومما يزيد من المخاطر والتداعيات المحتملة لاستمرار هذه الاستعصاءات والانسدادات السياسية الناجمة عنها، أن لمعظم القوى المتنفذة أذرعا مسلحة مع وجود سلاح يوصف بالمنفلت تمتلكه جماعات مسلحة ومليشيات تحتمي بأغطية سياسية داخلية وخارجية، تسمح باستهداف ناشطين وشخصيات وفرض إتاوات، والتجاوز على سلطات الدولة والقيام باعمال خارجة عن القانون من دون محاسبة وعقاب.
وتُلقي الصراعات السياسية واعتماد المحاصصة في بناء المؤسسات العسكرية والأمنية بظلالها وآثارها السلبية على أدائها وفاعليتها، كما دلل على ذلك العديد من الأحداث والتجاوزات والجرائم والخروقات التي تمت بمشاركة وتواطؤ بعض منتسبي القوات الأمنية. وفي بعض الحالات على مستوى قيادات. وما لم تتم إعادة هيكلة وبناء هذه الأجهزة على اساس مبدأ المواطنة والولاء للوطن والكفاءة والاخلاص والنزاهة، فإن خطر الارهاب والسلاح المنفلت خارج الدولة ومؤسساتها والجريمة المنظمة يتنامى، كما يشير الى ذلك إزدياد الخروقات الأمنية والعمليات الارهابية في بعض المناطق، وحدوث النزاعات العشائرية المسلحة، واتساع نطاق تجارة وتهريب المخدرات.
ورصدت وثائق المؤتمر الحادي عشر التغيرات في بنية المجتمع العراقي وعملية التبلور والتشكل الطبقي التي اصبحت أكثر وضوحا، وإن كانت ما تزال في حالة صيرورة، مع تأكيد ضرورة أن يولي الحزب اهتماما مكثفا لمتابعة التطورات والتغيرات التي تطرأ على المجتمع، والناتجة عن اقتصاده الريعي، ونمو رأسمالية دولة المحاصصة الزبائنية وقوى سوق منفلتة غير منظمة.
واستنادا إلى القراءة والتحليل المعمقين للوحة السياسية والاجتماعية – الاقتصادية المعقدة، ورصد وتقييم اتجاهات تطورها، خلص المؤتمر إلى أن التغيير بات ضرورة وليس خيارا وحسب، وأن يشمل التغيير منظومة حكم المحاصصة ونهجها وسياساتها الاقتصادية والاجتماعية، وتقويم عملية بناء الدولة على أساس المواطنة والخلاص من المحاصصة المكوناتية، ومراجعة أسس بناء العملية السياسية القائمة على المحاصصة حاليا. والتغيير المنشود يتطلب ايجاد توازن قوى جديد قادر على إحداثه، وعلى الحزب أن يرسم استراتيجية وتكتيكا يمكناه من أن يلعب دورا رياديا مؤثرا وفاعلا في تحديد قوى التغيير، وفي تجميعها وتوحيد عملها.
ولا يمكن للحزب أن ينهض بمثل هذا الدور ما لم تتعزز قوة تأثيره ونفوذه السياسي والفكري في المجتمع، وعلى الصعيد الجماهيري. ومن هنا حرص المؤتمر على أن تكون مناقشاته حيوية وبحرية تامة، وبروح نقدية جريئة لكل جوانب عمله وسياسته واستخلاص الدروس والاستنتاجات التي من شأنها الارتقاء بدوره وأدائه.
ومن هذا المنظور، سعى المؤتمر في وثائقه وقراراته وانتخاب قيادته، إلى تأكيد سيره على طريق التجديد في الفكر والتنظيم والسياسة، بالارتباط مع التشديد على هويته كحزب ينطلق في سياسته وعمله وخططه وبرامجه من مصالح الوطن والشعب، وشغيلة اليد والفكر من عمال وفلاحين وكادحين وكسبة وفئات وشرائح شعبية مهمشة، وفئات وشرائح وسطى ومثقفين متنورين، يجمعهم التطلع والتغيير نحو بناء الدولة المدنية الديمقراطية، دولة المواطنة والعدالة الاجتماعية. وتجسدت هذه الوجهة في التعديلات التي أجريت على برنامج الحزب ونظامه الداخلي، وما ورد في التقرير السياسي من تشديد على توثيق وتوسيع الصلة بالجماهير، واعتبار المهمة الأساسية للشيوعيين هي الالتصاق بهموم الشعب وكادحيه والدفاع عن حقوقهم ومصالحهم والعمل على بلورة مطالبهم وتنظيمهم وتعبئتهم للنضال من أجلهم والمشاركة ودعم المبادرات والنشاطات والفعاليات الاحتجاجية التي لها مطالب مشروعة، وأن يواصل الحزب دوره النشيط في الحراك الاجتماعي والاحتجاجي، وأن يعمل بشكل دؤوب ومثابر على تطوير صيغ التعاون والتنسيق، وصولا إلى وحدة عمل القوى والجماعات والأحزاب والتنسيقيات والنواب المنبثقين من رحم انتفاضة تشرين الباسلة. وبينها وبين الاحزاب والشخصيات المدنية والديمقراطية، والنقابات والاتحادات ومنظمات المجتمع المدني التي ساندت ثوار ومنتفضي تشرين ومطالبهم، وكانوا معهم في ساحات الاحتجاج.
وانبثقت عن المؤتمر قيادة جديدة للحزب زادت نسبة الشباب فيها على 55 بالمائة في المكتب السياسي، وعلى 42 بالمائة في اللجنة المركزية، مع التوجه نحو تكثيف الجهود في صفوف النساء وزيادة أدوارهن في هيئات الحزب القيادية على مختلف المستويات. وتوقف المؤتمر عند تطوير آليات عمله وتطوير وسائل إعلامه ومنابرها باتجاه مزيد من الانفتاح والتركيز على القضايا والشؤون ذات المساس المباشر بحياة الناس. كما أفرد اهتماما خاصا باستخدام التكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعي في نشاطه الفكري والسياسي والتنظيمي.
 
الثقافة الجديدة: يبدو أن موضوعة التغيير هي الحاضر والهاجس الاكبر في مجموع الوثائق التي ناقشها واقرها المؤتمر الحادي عشر (التقرير السياسي، البرنامج، النظام الداخلي... الخ) والتي تجسدت بتكثيف في وثيقة “قُدُما نحو التغيير”. والعودة هنا الى التاريخ مطلوبة. في المؤتمر التاسع (أيار 2012) تم إقرار شعار “ دولة مدنية ... عدالة اجتماعية!” في حين اقر المؤتمر العاشر شعاره العتيد: “التغيير.. دولة مدنية.. عدالة اجتماعية!”. اما المؤتمر الحادي عشر فتقدم خطوة للامام برفعه شعار: “التغيير الشامل.. دولةمدنية .. عدالة اجتماعية”. وفي الواقع فإن الانتقال من شعار “التغيير” الى “التغيير الشامل” ليس مجرد تلاعب بالكلمات، بل تقف وراءه جملة من الأسباب والمبررات التي دفعت الحزب الى تبني هذا الشعار.
هنا تتدفق الاسئلة: لماذا التغيير الشامل، هل هو خيار ام ضرورة ملحة؟ وهل طرح الحزب الشيوعي العراقي لمفهوم التغيير هو مجرد موضة يريد بها أن “يميز” نفسه عن الآخرين، أم أن هناك اسبابا وعوامل فعلية جعلت مفهوم “التغيير الشامل” يحظى بأولوية نضالية، ويعد شرطا ضروريا لتقدم الحزب نحو الأمام، وما يمكن أن يحدثه من زخم ينبغي بذل اقصى الجهود، وعلى مختلف المستويات التنظيمية والفكرية والسياسية، لاستثماره بشكل صحيح؟
ويبدو ان التغيير الشامل يرتبط بالشقين الاخرين من الشعار. فالتغيير الشامل، الجذري، يستلزم ويشترط دولة من طراز جديد: دولة مدنية وديمقراطية في آن، تمثل نفيا لدولة المحاصصات الطائفية - الاثنية، دولة الهويات الفرعية. وهذه الدولة هي في جوهرها دولة مواطنة، دولة مواطنين احرار وليس دولة رعايا. ومن جهة أخرى، هو يشترط كذلك دولة ديمقراطية. والديموقراطية هنا ليست فقط آلية، أو وسيلة، بل هي معيار وأفق، وهي ملازمة لعدة قيم لا يمكن تجاهلها: الحرية والمساواة والعدالة، وفكرة “المواطنة” هي في الواقع تقوم وتترسخ حينما تغتني بهذه القيم الثلاث.
فالتغيير الجذري المنشود، إذن، لن يتحقق إلا في إطار حاضنة جديدة هي الدولة بشقيها المدني والديمقراطي.
وأخيرا الركن أو الشرط الثالث: العدالة الاجتماعية. نتيجة للبنية المتخلفة والاحادية الجانب والريعية التي يتسم بها الاقتصاد العراقي والتي فاقمتها الازمة البنيوية والمتعددة الصعد، يعاني مجتمعنا من تفاوت اقتصادي وتنموي ومن الإخفاق في تحقيق التنمية القائمة المستدامة، بسبب الرهان على خطابات مقطوعة الجذور عن حركة الواقع، والانخراط في تطبيق استراتيجيات وسياسات تكرس الفقر والتهميش والإقصاء وعدم المساواة. وكل هذا يجعل تحقيق العدالة الاجتماعية هدفا دونه الكثير من التحديات.
إنّ التغيير الجذري إذن لن يتحقق إلا عبر التأسيس لنظام عابر للطوائف والهويات الفرعية، وبناء دولة مدنية ديمقراطية اتحادية عصرية، تقوم على قاعدة العدالة الاجتماعية. وان أي طريق آخر لن يفضي سوى الى اعادة انتاج الازمة واعادة انتاج النظام المحاصصي/ الطوائفي/ الاثني بل وتأجيل تفكيكه الى حين.
هل لكم رفيقنا العزيز أبو رواء ان تتحدثوا عن تلك الاسباب والمبررات التي دفعت الحزب لتطوير الشعار الذي طرحه المؤتمر العاشر والارتقاء الى ذرى جديدة بطرح شعار “معاً.. نحو التغيير الشامل” الذي طرحه المؤتمر الحادي عشر، وما هي رهاناتكم على هذا الشعار الاستراتيجي في ظل تناسبات القوى السائد في اللحظة التاريخية الملموسة؟
 
رائد فهمي: لأجل الفهم السليم للتطور في مواقف الحزب وسياسته وشعاراته، لا بدّ من وضعها في سياقها الزمني وحيثياتها التاريخية. من المفيد التذكير بأن حزبنا أوضح في وثائقه ومواقفه الأسس والمنطلقات التي حدت به إلى قبول عضوية مجلس الحكم والمشاركة في العملية السياسية. فقد نظر الحزب إلى مجلس الحكم ذي الصلاحيات المحدودة وتركيبته التي تكرس مبدأ المحاصصة الطائفية والعرقية، بأنه صيغة جهاز حكم فرضتها موازين القوى القائمة آنذاك في ظل سلطة الاحتلال. واعتبره شكلا لمواجهة الاحتلال وإنهائه، وركنا أساسيا في العملية السياسية التي هدفها النهائي يتمثل في تحقيق استقلال البلاد ووضعها على طريق التطور الديمقراطي، اي تأمين أفضل الظروف لإنجاز عملية الانتقال الديمقراطي.
واستنادا إلى هذه الرؤية الاستراتيجية، تعامل الحزب مع مجلس الحكم كميدان للصراع، ووضع مشاركته في العملية في إطار السعي لأن يلعب دورا مؤثرا أكبر من داخلها لدفعها بالاتجاه السليم نحو تحقيق أهدافها؛ إذ أن ثمة صراعا داخل العملية السياسية وخارجها تتجاذبه أطراف وقوى متعددة ذات رؤى ومصالح ومنطلقات فكرية أيديولوجية مختلفة. وأكد الحزب على الدوام، كما جرى تثبيته في أعمال ووثائق المؤتمر الوطني الثامن عام 2007 وتأكيده في قرارات وتوجهات المؤتمرات اللاحقة، تلازم الصراع الذي يخوضه داخل اطار العملية السياسية، مع العمل خارجه لتعبئة جماهير الشعب لتشكيل قوة ضاغطة للحفاظ على المسار السليم للعملية السياسية. كما كان الحزب مدركا لمخاطر تكريس مبدأ المحاصصة الطائفية والعرقية، وقد رفضه منذ البداية عندما وجد طريقه إلى المعارضة العراقية للنظام الدكتاتوري منذ أوائل التسعينيات، واعتبره مضرا بالوحدة الوطنية في كل الظروف والاحوال.
وبفعل تأثير القوى المتنفذة في الدولة والعملية وتشبثها بنهج المحاصصة الطائفية والعرقية الذي يتيح لها الاستئثار بالمنافع والامتيازات والنفوذ الناجمة عن حصولهم على المناصب العليا والدرجات الخاصة “حصة المكون” الذي احتكروا تمثيله، وانغمار القوى المتحاصصة في صراع يكاد لا ينقطع على السلطة والمكاسب والحصص في الدولة التي ينظرون إليها كغنيمة، توالت الأزمات واستفحلت على صعيد الحكم وعمل الدولة وأدائها، باستشراء الفساد في جميع مفاصلها وفشلها في توفير الخدمات الأساسية المناسبة، لا سيما في مجالات الصحة والتعليم والسكن والكهرباء والنقل، اي البنى التحتية عموما والبنى التحتية المادية والاجتماعية عموما، وتعقدت واشتدت نتيجة لتلك المصاعب والمشاكل المعيشية لأوساط وفئات وشرائح متزايدة الاتساع من الشعب، وخصوصا من الشباب والنساء.
وفي خضم الصراعات الحادة بين القوى المشاركة في العملية السياسية والدموية في مواجهة القوى المعادية لها من إرهابيين واطراف داخلية وخارجية أخرى، والتي محورها الأساس، في المطاف الأخير، التنافس على السلطة والثروة والقرار، وعلى تحديد شكل الدولة ومضمونها اتخذت العملية السياسية مسارا متعرجا، يبتعد أكثر فأكثر عن السكة السليمة، فيما تناسلت الأزمات وتشابكت واتسعت مدياتها مقابل العجز البيّن للقوى المتنفذة عن تقديم الحلول والمعالجات، لتصبح أزمة عامة تلف النظام والحكم وعلاقات القوى.
على خلفيّة هذه التطورات بات واضحا من وجهة نظر الحزب، بأنه لا مخرج من دوامة الأزمات وتحقيق المطالبات الشعبية المتصاعدة بمعالجة المعضلات المعيشية والخدمية التي تطحنهم، وارتباطا بالواقع وتوازنات القوى حينئذ، اي في الاعوام 2011 و2012، إلاّ باصلاح النظام عبر اجراء مراجعة تقييمية ونقدية لمسار العملية السياسية وحصيلتها ولأداء مؤسسات الحكم بغية اصلاحها وتصويبها والعمل على تخليصها من الاعتماد على نهج المحاصصة الطائفية – الاثنية أس المشكلة، وذلك وفقا لمعايير وأسس وتوازنات واصطفافات سياسية جديدة تنبذ نهج المحاصصة.
وفي المؤتمر الوطني التاسع عام 2012، رفع الحزب في ضوء تحليله لمتغيرات الواقع السياسي، والاجتماعي-الاقتصادي، وللأزمة العامة المستفحلة في البلاد، ولمسار العملية السياسية القائمة على نهج المحاصصة وضرورة اصلاحها، شعارا استراتيجيا يعبر عن المشروع الوطني الديمقراطي الكفيل بوضع البلاد على طريق الاستقرار والاعمار والبناء والتقدم؛ “دولة مدنية ديمقراطية اتحادية.. عدالة اجتماعية”. وهذا الشعار يشترط تحقيقه إحداث اصلاح وتغيير عميقين في العملية السياسية، وفي الدولة وفي الواقع الاجتماعي والاقتصادي وفي الوعي. وطرح الحزب فكرة اطلاق حوار وطني شامل، تشارك فيه القوى المؤسسة والمشاركة في العملية السياسية، تمهيدا لعقد مؤتمر وطني يتولى مراجعة وتصويب مسار العملية السياسية.
ولم يكن خافيا على الحزب بأن مثل هذه المراجعة الاصلاحية لا تستهوي القوى المتنفذة، وتتطلب ممارسة أقوى ضغط شعبي ممكن عليها للدفع باتجاه الاصلاح. وانسجاما مع وجهة الحزب في الجمع ما بين العمل داخل اطار العملية السياسية وخارجها، وضع الحزب في مقدمة مهامه تعزيز امكانيات الحزب وتوطيد بنائه التنظيمي والارتقاء بنشاطه الجماهيري وتعزيز نشاط قوى وشخصيات التيار الديمقراطي ووحدة عمل القوى المدنية الديمقراطية.
ففي الظروف المحيطة بالمؤتمر الوطني التاسع وموازين القوى القائمة ومستوى تطور الحراك الشعبي حينذاك والمواقف غير الموحدة للقوى ضمن العملية السياسية كان يتيح إمكانية اجتذاب تأييد بعضها لفكرة الحوار الوطني الشامل واجراء مراجعة للعملية السياسية، وعلى سبيل المثال، كان رئيس الجمهورية الراحل جلال الطالباني مؤيدا لفكرة عقد مؤتمر وطني، إلاّ أن معظم القوى المتنفذة لم تستجب لفكرة الحوار الوطني بغية اجراء مراجعة نقدية للعملية السياسية، واستمرت في تعنتها واستمرارها على ذات النهج، ما أدى كما هو متوقع إلى استمرار الأزمة وتعمقها وتفاقم معاناة الفئات والشرائح الشعبية من آثارها، وارتفاع معدلات الفقر والبطالة والأمية وانتشار الفساد، وشموله المؤسسات المدنية والعسكرية، وتصاعد عمليات واختراقات قوى الارهاب واتساع رقعة المناطق الواقعة تحت سيطرتها لترتفع إلى ثلث مساحة العراق بعد سقوط الموصل في حزيران 2014. وفي صيف 2015 اطلقت قوى وشخصيات مدنية حراكا احتجاجيا بمشاركة شعبية واسعة، لا سيما من الشباب، انخرط فيه لاحقا التيار الصدري، ورفع شعارات اصلاح النظام ومحاربة الفساد والمفسدين ومطالب تتعلق بتحقيق قدر من العدالة الاجتماعية، واستمرت الفعاليات الاحتجاجية المنتظمة اسبوعيا، والتي شملت عددا من المحافظات، لقرابة سنتين.
وفي هذه الاجواء، انعقد المؤتمر الوطني العاشر في كانون الأول من عام 2016، حيث اشتدت الأزمة العامة في البلاد، وعجزت منظومة حكم المحاصصة عن اجراء اي اصلاح، بل على العكس من ذلك أجهضت اي محاولة او خطوة اصلاحية جدية، وخصوصا في ما يتعلق بنبذ المحاصصة ومحاربة الفساد وحصر السلاح بيد الدولة ومنع التدخلات الخارجية. ومقابل ذلك تصاعد الحراك الشعبي وتنامى التذمر والرفض لمنظومة الحكم وارتفاع مستوى الوعي لدى فئات وشرائح اجتماعية اوسع وانخراطها في ميدان الفعل الاجتماعي والسياسي الجماهيري.
ومع تزايد الفجوة بين القوى المتنفذة وأوسع قطاعات الشعب، وتشبث هذه القوى بمصالحها ومواقعها وبنهج المحاصصة الضامن لهذه المصالح، بات التغيير أكثر الحاحا مع فشل وتعذر اجراء اصلاحات حقيقية في ظل المنظومة الحاكمة. لذا قام المؤتمر العاشر بتحريك الشعار الاستراتيجي بالتأكيد على التغيير كضرورة للسير على طريق تشييد الدولة المدنية الديمقراطية الاتحادية القائمة على العدالة الاجتماعية. والمقصود بالتغيير، هو الخلاص من نهج المحاصصة ومنظومته السياسية. ويمكن تلخيص عوامل تحريك الشعار وإدراج التغيير فيه هو باشتداد الأزمة العامة في البلاد وعجز منظومة الحكم عن الاصلاح وعدم استعدادها للتخلي عن مواقعها والتنازل عن امتيازاتها وتغيير نهجها ونمط تفكيرها، وتصاعد الرفض الشعبي واتخاذه أشكالا احتجاجية متنوعة، تشمل فئات وشرائح وفئات اجتماعية مختلفة.
وجاءت انتفاضة تشرين الباسلة لتحدث تغييرا مهما، وإن يكن غير حاسم، في معطيات اللوحة السياسية ومعادلاتها. فبفضل شجاعة واصرار ثوار الانتفاضة وتقديمهم لمئات الشهداء وآلاف الضحايا من أجل أهداف ومطالب عادلة ذات طابع وطني واجتماعي، من اجل العدالة والعيش الكريم والكرامة، تمت التعرية التامة لكثير من القوى ورموز المنظومة الحاكمة وكشفت عن القوة الجبارة التي تملكها قوى الشعب التي تعاني من القهر والحرمان والتمييز والتهميش عندما تتوحد إرادتها وتتصلب في فعل جماهيري ذي مطالب مشروعة وعادلة، تقف السلطات الحاكمة عاجزة عن ردعه بالوسائل القسرية. وعلى الرغم من الانحسار الذي شهدته الانتفاضة لاحقا، إلاّ أن آثارها وتردداتها ما تزال فاعلة في المجتمع ووعيه، وأنها سجلت حدثا تأريخيا فاصلا لا يمكن اغفاله أو الالتفاف عليه وعلى دلالاته. فما بعد تشرين لا يمكن أن يكون كما قبله، والتغيير اصبح لا مناص منه، ويفرض نفسه على الواقع السياسي.
فانتفاضة تشرين طرحت ضرورة التغيير وأشرت تجربتها على إمكانية تحقيقه، في حال استمرار عناصر وأسباب تفجر الانتفاضة ومعالجة بعض النواقص والثغرات التي شابت تنظيمها وقيادتها وبرامجها. ولم يعد التغيير المنشود مقتصرا على منظومة المحاصصة ونهجها، بل لا بد أن يشمل التغيير في الشخوص والنهج والسياسات الاجتماعية والاقتصادية، ومراجعة عملية بناء الدولة واسسها واجراء التعديلات الضرورية في الدستور، وفي المنظومة الانتخابية.
إنّ تشرين بينت ضرورة التغيير والاصلاح الجذري، وإن عمق الأزمة وشدّتها وشموليتها تستدعي تغييرات شاملة تقابلها، تشمل منظومة الحكم وبناء الدولة ومؤسساتها ونهجها الاقتصادي والاجتماعي نحو تعزيز الطابع المدني الديمقراطي للدولة، والنهوض بالاقتصاد الوطني وتغيير بنيته الريعية وحشد الموارد نحو تحقيق تنمية مستدامة وتوزيع أكثر عدلا للدخل والثروة؛ فمجموع هذه العوامل والمتغيرات في واقع البلاد يفسر تبني المؤتمر لشعار التغيير الشامل نحو تحقيق شعاره الاستراتيجي.
 
الثقافة الجديدة: بينت تجارب التسعة عشر عاما الأخيرة ان البلاد ليست بحاجة الى اعادة النظام المحاصصي/ الطائفي/ الاثني بل تحتاج حقا الى بديل آخر، يشكل نفيا لنظام المحاصصات الحالي.
ومن المؤكد ان التغيير المطلوب لن يتحقق إلا ببناء بديل يكسر محاولات احتكار السلطة المستندة الى الهويات الفرعية وإعادة إنتاجها، ويؤسس لوعي اجتماعي جديد. ان تحقيق هذا البديل يحتاج الى أفق أوسع والى قوى جديدة وتحالفات تكون قادرة على احداث تغيير حقيقي في تناسبات القوى الفعلي وليس اعادة انتاج النظام الراهن، المحاصصي – الطوائفي/ الاثني الذي اصبح عائقا امام بناء الدولة المدنية الديمقراطية العصرية، دولة المواطنة.
وهنا يطرح السؤال الاتي: برأيكم، ما هي القوى الاجتماعية والسياسية المحركة والقادرة على تحقيق مهمات المرحلة الانتقالية المتعثرة؟ وما هو موقع القوى المدنية والديمقراطية والوطنية في هذه المرحلة؟ وكيف يمكن لها ان تكون قطبا مهما ومؤثرا في الصراع الدائر حول شكل ومضمون الدولة الجديدة، وتقديم بديل يشكل نفيا للنظام المحاصصي؟
 
رائد فهمي: كما أوضحنا في إجابتنا على الأسئلة السابقة، أن النهج السياسي والاجتماعي والاقتصادي لحكومات المحاصصة الطائفية التي تتولى قيادة العملية السياسية خلال المرحلة الانتقالية أدى، من خلال الامتيازات المفرطة التي منحتها لنفسها قوى المحاصصة الماسكة بمفاتيح السلطة والقرار، مع استفحال الفساد في الدولة الذي تقف وراءه وتحتضنه أحزاب وقوى الطائفية السياسية ذات الوزن والصوت المقرر في تحديد سياسات الدولة وسلطاتها، وعلى اختلاف مسمياتها وعناوينها وانتماءاتها، “بالتحالف” والشراكة والتواطؤ مع شركات وتجار ومقاولين وسماسرة من القطاع الخاص المحلي والأجنبي، أدى إلى الاستحواذ واختلاس وسرقة ما يزيد على ثلاثمائة مليار دولار، فشل وتعطيل أكثر من ستة آلاف مشروع للدولة. وكان الوجه الآخر لحصيلة نهج المحاصصة ومنظومته السياسية، الفشل الذريع في أداء الدولة وفي توفير الخدمات العامة الاساسية من تعليم وصحة وكهرباء وماء وخدمات بلدية لسائر أبناء الشعب بصورة مرضية وعادلة، تضمن حدا أدنى من العيش الكريم . وفي المقابل تنامت الثروات الفلكية بيد قلة من الأفراد والجماعات، تنتمي إلى الأحزاب والقوى المتنفذة، كما تمركزت لديهم السلطة السياسية، حيث يتم تناقلها وتداولها ما بينهم عبر صراع مستمر على الحصص وعلى السلطة والنفوذ. وفي المقابل ازدادت الفوارق في الدخل والثروة عمقا في المجتمع العراقي، وتحايثت مظاهر الثراء الفاحش وظواهر الفقر المدقع وعمالة الأطفال ومعدلات البطالة التي تزداد ارتفاعا وتتسع مدياتها لتشمل شريحة الشباب على وجه الخصوص، ومن خريجي المعاهد والجامعات وحملة الشهادات العليا.
وانتجت مسارات حكم قوى المحاصصة وسياساتها والمصالح الفئوية الضيّقة التي تخدمها، عملية فرز على المستويين الاجتماعي والسياسي، تمظهرت في انحسار القاعدة الاجتماعية للسلطة، وتصاعد الحراك الشعبي الاحتجاجي الرافض لها والحامل لدعوات الاصلاح والتغيير لمنظومة المحاصصة والفساد، شخوصا ونهجا. وقد توالت الاحتجاجات بوتائر متذبذبة ولكن بخط ميله تصاعدي لتتفجر في انتفاضة تشرين بعنفوان وجرأة وتصميم قض مضاجع منظومة الحكم وفرض سقوط الحكومة وتغيير مفوضية الانتخابات وتمرير قانون جديد للانتخابات وتنظيم انتخابات مبكرة.
وقد بيّنت الانتفاضة أن طيفا واسعا من القوى الاجتماعية قد ساندها ودعم مطالبها وتبنى شعاراتها وعبر عن تضامنه الفعال معها، أبرزها واكثرها اندفاعا وجرأة الشرائح الشبابية والطلابية التي ينتمي اجتماعيا جزء كبير منها إلى القطاع غير المنظم من عمال مياومين وكسبة صغار، ومعهم شباب من الشرائح الوسطى الباحثين عن عمل رغم حصولهم على شهادات عليا. اما العمال والفلاحون والمهنيون وتنظيماتهم النقابية والمهنية المستقلة فقد كانوا من مؤيدي الحراك والانتفاضة، ولكن بصورة غير حاسمة.
أما القوى المتبلورة سياسيا بصيغة أحزاب وتنسيقيات وكتل نيابية، فقد وقفت معظم القوى المدنية بوضوح وبشكل قاطع مع الانتفاضة، وشاركت في الاحتجاجات والتنسقيات، إلا أن معظمها تنقصه التجربة والخبرة والتجربة السياسية، كما دللت على ذلك الشعارات والمواقف الانعزالية حتى وقت قريب لبعض قوى الحراك، والصراعات الثانوية التي تعيق توحدهم، بل وحتى تطوير التعاون والتنسيق في ما بينهم، وبينهم وبين القوى والأحزاب الوطنية والمدنية الديمقراطية.
وإذ تؤكد الأحداث والتطورات عجز قوى المحاصصة عن إعادة انتاج نمط حكمها خلال الفترات السابقة، وكذلك عدم قدرتها على الاصلاح بحكم المنافسة والنزاع المستمر ما بين اطرافها، ما بات يولد حالة استعصاء سياسي على أكثر من مستوى، ابرزها الفشل في تشكيل حكومة، فإن العنصر الغائب الأكبر الذي يديم حالة الاستعصاء العام في البلد الذي يحول دون تخلصه من الأزمات بصورة نهائية، هو تفتت قوى التغيير وعدم اقدامها بشكل جدي على توحيد عملها بخطوات مدروسة وعلى وفق اسس فكرية وسياسية مشتركة.
في ظل انصراف القوى المتنفذة للصراع بشأن تشكيل الحكومة وانشغالها عن الاهتمام بهموم ومعاناة الناس، فعلى القوى المتطلعة والعاملة من أجل التغيير الفعلي، أن تضاعف من جهودها واتصالاتها وحواراتها لبلورة رؤى وتصورات وتحليلات مشتركة تشكل اساسا لوحدة عملها وتحركها. كما تتوفر الفرصة والظروف لأن يلقى البرنامج الذي ستتفق عليه قوى التغيير، صدى واسعا على الصعيد الشعبي ولدى العديد من القوى السياسية، شريطة أن يتم التداول فيه وحسمه في أقرب وقت. ومن ثم الترويج له على أوسع نطاق. ولكن ينبغي ألاّ يغيب عن ذهن القوى المتصدية لعملية التغيير، بأن تعديل موازين القوى لصالح قوى التغيير، يشترط الانفتاح على الجماهير وتوثيق الصلة بمحتشداتها وبتنظيماتها المختلفة، مع التشديد على دور الحزب المنظم الحامل للفكر والمنهج العلمي والثوري في رسم التوجهات السليمة وفي اشاعة الوعي.
وإنّ فشل دولة المكونات، ورفع ثوار تشرين لشعارات ومطالب تؤكد انشدادهم لدولة عابرة للطوائف والمكونات لخصها شعار: نريد وطن، يهيئ تربة اكثر خصوبة لانتشار شعار دولة المواطنة، الدولة المدنية الديمقراطية الاتحادية القائمة على العدالة الاجتماعية.
 
الثقافة الجديدة: في احدى وثائقه توصل الحزب الى استنتاج في غاية الاهمية، نظريا وتطبيقيا، حيث اشار الى انه “في ظل التوازنات السياسية الداخلية والدولية الدافعة بقوة لصالح التطور الرأسمالي بصورته الليبرالية الجديدة الاكثر غلوا، ينصب نضالنا في المرحلة الراهنة على تجنيب شعبنا مصائب رأسمالية متوحشة، وانجاز طابع وطني عام عبر اوسع تحالف اجتماعي سياسي”. لقد تجلّت الليبرالية الجديدة في بلادنا في صور وتجليات عدة في مقدمتها الخصخصة تحت رايات المؤسسات المالية والنقدية الرأسمالية الدولية، وفي مقدمتها صندوق النقد الدولي والبنك الدولي. واخيرا ما جسدته “الورقة البيضاء” من مشاريع “اصلاحات” كانت ذات آثار مدمرة على الاقتصاد والمجتمع العراقيين. فقد اصر المتنفذون على السير نحو الطريق الليبرالي الجديد برغم كل نتائجه المريرة. ويحاجج “منظرو” الخصخصة والتكييف الهيكلي على ان لا طريق أمام بلادنا سوى “بناء اقتصاد مترابط متين يستند الى مبادئ السوق، تقوده ببراعة وابداعية المؤسسات الخاصة”، كما قال (بول بريمر) ذات يوم في منتصف عام 2003 وهو يدشن المشروع الاقتصادي لسلطة الاحتلال.
لقد أشار التقرير السياسي الصادر عن المؤتمر الوطني الحادي عشر الى ان عملية “الاصلاحات” المستندة الى “وصفات” المؤسسات الدولية اقترنت بسياسة اقتصادية، هدفها الرئيسي زيادة انتاج النفط الخام وتعظيم ايراداته. وقد وجدت هذه السياسة تعبيرها الأبرز بجولات التراخيص الخمسة. وساهمت هذه الحصيلة في النهاية في ترسيخ الطابع الريعي للاقتصاد والدولة. حيث نشأت عنها حالة هجينة، بل وحتى مشوهة، يمكن ان يطلق عليها مجازاً “رأسمالية الدولة الريعية”. ان دولة “الرأسمالية الريعية” هذه شديدة المركزية من ناحية سياساتها المالية العامة. لكنها من ناحية اخرى، تتصارع مع ميل مستفحل لإضعاف الطابع المركزي لإدارة الدولة، ولعمل اجهزتها ومؤسساتها. وذلك لأنها اقترنت منذ البداية بتعددية مصادر القرار، والمعبر عنها بأشكال متنوعة من المحاصصة، خصوصا المكوناتية منها، ووجود السلاح المنفلت. ان هذا التناقض، بين المركزية المالية المستندة على الريع النفطي وبين نهج المحاصصة، تسبب في تشظٍ بنيوي في تكوين الدولة، وساهم مساهمة كبرى في اضعاف عمل مؤسساتها. فمصالح القوى السياسية التي امسكت بزمام السلطة بعد 2003، قامت على دعامتين: الاولى نهج المحاصصة، والثانية تعميق الطابع الريعي للدولة والمجتمع.
والتجربة التي نحن شهودها منذ 2003 اكدت ان الديمقراطية لم ولن تتحقق في العراق طالما ظل الاقتصاد ريعيا – مشوها واحادي الجانب، وستبقى البلاد تواجه حالات استعصاء دائمة طالما ظلت اسس الدولة الريعية – الاستبدادية قائمة.
فقد أعطت التطورات السياسية التي عرفتها البلاد منذ 9 /4 /2003، وعبر كل التجارب الانتخابية والاستشارية، ديمقراطية ناقصة، مشوهة، مبتورة، لأن طبيعة وبنية السلطة في العراق والتوازنات التي تحكمها تجعل منها غير قابلة للتداول بالمعنى الديمقراطي الصحيح.
نطمح منكم رفيقنا العزيز الى تعليق معمق يسهم في فك “ألغاز” هذه اللوحة من القضايا، ويوضح لقراء المجلة ما يميز موقف الحزب الشيوعي العراقي من هذه الاشكاليات، في ضوء ما توصل إليه المؤتمر الحادي عشر من استنتاجات وتحليلات بهذا الخصوص.
 
رائد فهمي: كثيرا ما يعبر مختصون ومتابعون للاقتصاد العراقي بعد التغيير عام 2003 عن حيرتهم في توصيف طبيعته وهويته وعدم انطباق خصائص وسمات الأنظمة الاقتصادية المعروفة عليه، فلا هو بالاشتراكي ولا بالرأسمالي، إذ يبدو المشهد الاقتصادي فوضويا تتحكم بمفاصله منظومات مصالح وفساد تدعمها قوى وجهات نافذة في السلطة أو جماعات، تملك سطوة السلاح ما يضفي عليه، في ظل ضعف دور الدولة ومؤسساتها، ملامح الاقتصاد المافيوي.
وقد أولى حزبنا على الدوام أشد الاهتمام لتحليل بنية الاقتصاد العراقي من أجل تحديد طبيعته بأدق ما يمكن، وتاليا تشخيص التناقضات المحركة له ومواقع ومصالح الطبقات والفئات الاجتماعية ومواطن الصراع والالتقاء ما بينها، ويعتبر الحزب القيام بمثل هذا التحليل ومخرجاته مقدمة ضرورية، يرسم في ضوئه سياسته، ويحدد أولويات الصراع وأهداف نضاله، ويرسم استراتيجيته وتكتيكه.
وتتسم اللوحة الاقتصادية والاجتماعية - الطبقية في العراق بالتعقيد لكون الاقتصاد العراقي، كما مجمل بنيته السياسية والاجتماعية، تعيش حالة انتقالية إثر الانهيار شبه الكامل لمؤسسات الدولة مع سقوط النظام السابق، وخضوع الأوضاع في العراق لتدخلات خارجية حاكمة، نتيجة الاحتلال وضعف الدولة ووجود امتدادات سياسية داخلية للقوى الخارجية الاقليمية والدولية. فيمكن القول إن الدولة والاقتصاد العراقي ما يزالان في حالة صيرورة وميدان صراع حول طبيعتهما ومضمونهما، ولم يتخذا بعد شكلا مستقرا.
ما هو ليس موضع خلاف واختلاف، الطبيعة الريعية للاقتصاد العراقي الذي يشكل المورد النفطي فيه ما يقارب ستين بالمائة (%60) من ناتجه القومي الاجمالي، وما يزيد على تسعين بالمائة (%90) من تمويل الموازنة العامة. ولكون العائد النفطي يعود للدولة حصرا، ولأهمية الانفاق الحكومي كمحرك أساس للانشطة الاقتصادية، العامة والخاصة، يمكن توصيف الاقتصاد العراقي برأسمالية دولة ريعية مركزية. وتوصيف راسمالية دولة ينطبق أيضا على اقتصاد النظام السابق الذي يوصفه البعض خطأً بالاشتراكي، إذ قام النظام حينذاك بفسح المجال واسعا لنمو وتوسع الرأسمال الخاص في مختلف القطاعات الاقتصادية، وخاصة لفئات وحلقات رجال الأعمال والمستثمرين القريبين والموالين للنظام.
وإذ كانت المركزية الشديدة السمة الأبرز للنظام ما قبل 2003، فقد تغيرت الوجهة في ظل سلطة الاحتلال الأمريكي بعد التغيير نحو اطلاق العنان لاقتصاد السوق المنفلت من خلال التوجه نحو الخصخصة وفتح الحدود والغاء الضوابط والقيود أمام انتقال السلع ورؤوس الأموال، وتقليص وتحجيم دور الدولة وحجب جزء كبير من الدعم والحماية الذي تقدمه الدولة للانتاج الوطني، فيما اطلقت عملية سياسية لاعادة بناء الدولة وإدارة عملية الانتقال على اساس المحاصصة الطائفية والإثنية.
وإذ أدى التوجه الليبرالي الجديد نحو اقتصاد سوق غير منظم إلى انهيار القطاعات الانتاجية المحلية، الزراعية والصناعية، وتعمق الطبيعة الريعية للاقتصاد، احدث نهج المحاصصة تناقضا ما بين المركزية الناجمة عن امتلاك الدولة للريع ولحق التصرف به، وبين التشظي والترهل والفساد وعدم التماسك وغياب الانسجام في بنية الدولة المعاد بناؤها على اساس التقاسم المحاصصي، واصبح الاستحواذ على أكبر حصة ممكنة من الريع، هدفا للتنافس والصراع ما بين الأحزاب والقوى المتحاصصة، ووفرت المحاصصة بيئة حاضنة للفساد، توافقت القوى المتحاصصة والمتنافسة على امتصاص اكبر قدر من موازنات الدولة الانفجارية لصالحها؛ احزابا وشخوصا وأقارب ومريدين.
وعلى مدى ما يقارب العقدين من حكم المحاصصة، راكمت قوى وأحزاب وجماعات الطائفية السياسية الماسكة بآليات سلطة دولة المكونات، ثروات ضخمة عبر امتصاص نسبة متعاظمة من الريع النفطي. وبفضل ليبرالية السوق المنفلت من اية ضوابط تنظيمية وتجارية، تسربت الأموال إلى الخارج ودول الجوار لتودع أموالها كادخار أو لتوظيفها في الاسواق المالية أو لاستثمارها في العقارات وفي مشاريع تجارية وصناعية، ما أدى إلى تشظي السوق العراقية لتندمج مع أسواق دول الجوار التي تحاكيها مذهبيا وإثنيا. وبعض هذه الأموال ذات المصادر غير الشرعية، تهرب الى الخارج لتعود إلى السوق العراقية بصيغ مختلفة مشرعنة لتقيم مشاريع خدمية وتجارية تفتقد مقومات الربحية، غرضها الأساس تبييض تلك الأموال.
 فحصيلة النهج الليبرالي لرأسمالية الدولة الريعية المركزية هي تقويض فرص توظيف الريع النفطي لأغراض تنمية الانتاج الوطني وتحقيق تنمية اقتصادية واجتماعية وايجاد بديل عن ذلك اقتصاد توزيعي واستهلاكي مندمج بالأسواق الخارجية، ونمو سوق حر مالي نشيط مقابل فشل الاقتصاد الحر في تنمية القطاعات الانتاجية لغياب البنى التحتية المادية والمؤسسية. وافرزت توليفة رأسمالية الدولة الريعية المركزية ذات التوجه الليبرالي مع نهج المحاصصة الطائفية والإثنية نموا متسارعا للرأسمالية الطفيلية والبيروقراطية والكومبرادورية التجارية العابرة للانتماءات الطائفية والإثنية، وثيقة الصلة والارتباط والتداخل مع منظومة المحاصصة الحاكمة والمستأثرة بمعظم مفاصل سلطات الدولة، لتشكل حكم أقلية اوليغارشية تحاول استدامة حكمها بالاستناد إلى تغذية وشحذ مشاعر التعصب للهويات المكوناتية. ونجم عن فشل التعشيق بين رأسمالية الدولة الريعية والنهج الليبرالي الجديد من جهة، ونهج المحاصصة في الحكم من جهة أخرى، استفحال الفوارق في الدخل والثروة وتنامي الشرائح الاجتماعية المستثناة عمليا من دائرة توزيع الريع النفطي والتي تعيش وتتحرك وتعمل في ظروف بالغة الصعوبة على هامش النظام السياسي والاقتصادي القائم على الريع النفطي، وتعاني من الاهمال والإقصاء.
ونخلص من هذا الاستعراض التحليلي الى أن الاقتصاد العراقي ذا الطبيعة الريعية المركزية يمر بمرحلة انتقالية نحو اقتصاد سوق رأسمالي، وقراءة الحزب لموازين القوى الداخلية وفي المنطقة المحيطة بالعراق في أعقاب الاحتلال تميل كليا لصالح مسار التطور الرأسمالي وبصيغته المتطرفة والمتوحشة، بسبب انفلات قوى السوق من الضوابط والقيود. وعلى أساس هذا التقييم والتقدير لموازين القوى، حدد الحزب الأهداف المرحلية القريبة لنضاله في العمل من أجل فرض قوانين وأطر تنظيمية وتشريعية على عمل قوى السوق تحد من آثارها السلبية على الفئات والشرائح الاجتماعية الأكثر هشاشة، وذلك عبر تشريع وانفاذ قوانين وتشريعات العمل العادلة، وتشريع قوانين ضمان اجتماعي وصحي، وتنشيط دور النقابات والاتحادات والعمل على أن تلعب دورا فاعلا في الرقابة وفي الدفاع عن حقوق منتسبيها وعن حرية العمل والتنظيم داخل الجامعات والمعامل وفي مواقع العمل.
ولهذا الصراع بُعد وطني ديمقراطي من جانب، وبُعد طبقي من جانب آخر. ومن شأن تحقيق تقدم في أي من هذه المسارات سيصب في صالح توفير قدر أكبر من العدالة الاجتماعية، وظروف معيشية أفضل، وتأمين مساحات أكبر للمشاركة في الشأن العام.
وبقدر ما تنمو وحدة عمل قوى التغيير، وتتعزز مكانة ودور وتأثير الحزب والقوى المدنية الديمقراطية، تتعزز امكانية الارتقاء بسقوف المطالب والشعارات.
 
الثقافة الجديدة: من ضمن القضايا التي شهدتها اروقة المؤتمر هي النقاشات التي دارت حول سياسات الحزب التحالفية التي مارسها، بعد المؤتمر الوطني العاشر (اواخر 2016) وحتى لحظة انعقاد المؤتمر الوطني الحادي عشر، وخصوصا التحالف الانتخابي للحزب ضمن (سائرون). وكان السجال حول التحالف الأخير ساخنا ومتوترا بعض الاحيان، لكنه كان جاداً ومسؤولاً. وقُدمت مقاربات مختلفة ورؤى متعددة عبّرت عن الحرص الشديد للشيوعيين على ان يكون أداؤهم على مستوى التحالفات السياسية والانتخابية سليما وصحيحا ومعللا ويسهمون في اغناء تجاربه، وخصوصا في ميدان التحالفات، واساليب تطبيقها في ظل ظروف ملموسة، كما هو عليه الوضع في العراق. ورغم ان التقرير السياسي الذي اقره المؤتمر الحادي عشر قدم عرضا وتحليلا ضافيا لتجربة التحالف الانتخابي ضمن (سائرون) وأسبابه وجذوره ومبرراته الا انه مع ذلك ما زال هناك من يعتقد ان هناك “بقعا” غير واضحة او غير معللة...الخ. نطمح منكم رفيقنا العزيز تقديم اضاءة مكثفة لطبيعة التحالف ضمن (سائرون) ولماذا عُقد وجذور ذلك، وما هي “الارباح السياسية” التي حققها الحزب على هذا الصعيد، وهل تحمل الحزب بعض “الخسائر السياسية” المرتفعة جرّاء تحالفه مع (سائرون)، كما يرى البعض؟
وإذ نطرح هذه الاسئلة فاننا ننطلق من قناعة أكيدة بأهمية دراسة هذه التجربة بعين ثاقبة وذهن متفتح، بعيدا عن أية احكام مسبقة. فالمهم هو ليس هجاء التاريخ وتجاربه قدر توظيف دروسه الثرية بشكل صحيح. فالثوريون الحقيقيون هم اولئك الذين يتعلمون من الصعوبات والثغرات مثلما يستفيدون من نجاحاتهم للتقدم الى الامام واكتساب مواقع جديدة.
 
رائد فهمي: لقد أثار تحالف الحزب الشيوعي في انتخابات عام 2018 مع التيار الصدري في اطار “سائرون”، الذي ضم أيضا اربعة أحزاب أخرى يغلب عليها الطابع المدني، جدلا واسعا، ما يزال متواصلا الى حد ما، في الأوساط المدنية ولدى الكثير من المراقبين، كما كان محط نقاشات معمقة داخل الحزب، طرحت خلالها وجهات نظر مختلفة بشأنه. وقد خصص التقرير السياسي الصادر عن المؤتمر الوطني الحادي عشر فقرات ضافية له عرضت خلاصة التقييمات والاستنتاجات التي توصلت اليها مناقشات المؤتمر والتي طرحت فيها الآراء بكل حرية وبروح انتقادية مبدئية ومسؤولة.
وتوزعت الآراء بين مؤيد ومشكك ومتحفظ وناقد ورافض للتحالف. وبشكل عام تمحورت الآراء والمواقف الناقدة لهذه التجربة في صفوف القوى المدنية، وانعكاساتها داخل الحزب، على عدد من من القضايا سأتناولها بإيجاز.
بعض المآخذ التي يثيرها بصور أساسية بعض أعضاء الحزب واصدقائه، تنصب على الآلية والطريقة التي تم من خلالها اتخاذ قرار المشاركة في التحالف، فهم يرون أن القرار لم يسبقه تشاور ومناقشة كافيان، واتسم بتعجل وتفرد، إلاّ أن اصحابه لا يطعنون في أصل فكرة إيجاد أشكال متقدمة من التنسيق والتعاون مع التيار الصدري، وصولا إلى التحالف الانتخابي على وفق شروط مناسبة.
في هذا النقد جانب من الصحة، إذ أدى ضغط عامل الزمن الذي فرضته توقيتات مفوضية الانتخابية لتشكيل القوائم الانتخابية، إلى عدم توفر الفسحة الزمنية اللازمة لمواصلة وتوسيع دائرة النقاش، داخل حزبنا، وبينه وبين القوى والأحزاب المدنية الأخرى لانضاج الموقف ولخلق قناعات مشتركة، ما كان له آثار سلبية لاحقة على مجمل عملية التحالف وفهم مرتكزاتها السياسية والفكرية.
ولكن تحميل قيادة الحزب مسؤولية التفرد في اتخاذ قرار التحالف ينطوي على تجنٍ، فلم يتخذ القرار إلاّ على وفق الآليات الديمقراطية المنصوص عليها في النظام الداخلي، نظمته اللجنة المركزية، وبعد إجراء استفتاء حزبي داخلي، شاركت فيه كوادر الحزب داخل الوطن وخارجه، كانت حصيلته تأييد أغلبية كبيرة خيار التحالف في إطار “سائرون”. كما أنه خلال الفترة من آب 2018 وحتى أواخر عام 2019، عُقِد اجتماعان للجنة المركزية والعديد من الاجتماعات الموسعة للجان المحلية والأساسيات، كرست لمناقشة التحالف مع سائرون، وكانت حصيلتها التأييد الواسع للتحالف.
ولعل المواقف الأكثر حضورا بين معارضي تجربة تحالف سائرون من المدنيين، هي التي ترفض من حيث المبدأ التحالف مع تيار إسلامي، ومع التيار الصدري على وجه الخصوص بسبب التعارض في الفكر والتقلبات في مواقف التيار وعدم استقرارها، إلى جانب امتلاكه تنظيما مسلحا، ولدوره وممارساته إبان فترة الاحتراب الطائفي.
وفي هذا الشأن نشير الى أنه سبق للحزب الشيوعي أن خاض تجربة تحالفية مع التيار الاسلامي ابان فترة المعارضة للنظام الدكتاتوري، وذلك في اطار لجنة العمل المشترك أوائل تسعينات القرن الماضي. كما عمل بصورة مشتركة مع قوى اسلامية في اطار المؤتمر الوطني لفترة قصيرة واستمر التعاون معها بعد خروجه من المؤتمر اواسط التسعينات. فمن حيث المبدأ، لا يحول الاختلاف الايديولوجي من نشوء أشكال من التعاون والتنسيق والتحالف مع قوى اسلامية في ظروف معينة على أساس برنامج سياسي لتحقيق اهداف مشتركة محددة، شريطة أن يكون التحالف قائما على اساس الاستقلالية التنظيمية والفكرية والسياسية، لكل طرف في التحالف، مع التأكيد بأن التحالف لا يشمل الميدان الايديولوجي، وان تكون اسس التحالف وأهدافه منسجمة مع مشروع الحزب الوطني والمدني الديمقراطي طويل الأمد.
والجدير بالأخذ بعين الاعتبار، أن هذه الدعوة للتحالف التي توجه بها التيار الصدري الى القوى والأحزاب المدنية، ومنها حزبنا، لم تأت فجأة ومن دون مقدمات امتدت لحوالي سنتين، ومن دون مقدمات مهدت لها مشاركته الواسعة الى جانب القوى المدنية والحزب في الاحتجاجات التي اطلقتها القوى المدنية في تموز عام 2015 والتي استمرت لما يقارب السنتين، وفي مجراه نشأت وتوطدت في ساحات الاحتجاج وفي فعاليات الحراك، علاقات تعاون وتنسيق وتوافق على شعارات ومطالب مشتركة، تدعو للإصلاح والتغيير ومحاربة الفساد وتوفير الخدمات وتخفيف معاناة الفئات الشعبية، واقامة دولة المواطنة - الدولة المدنية الديمقراطية على قاعدة العدالة الاجتماعية.
وانطلق الحزب في علاقته مع التيار الصدري من نظرته له كحركة اجتماعية – سياسية تتمحور حول شخصية رمزية قائدها وتراث عائلته ليس لها أيديولوجية وبرنامج واضح المعالم. وهي بالتالي غير متجانسة وإن غلب على تركيبتها الاجتماعية الفئات والشرائح الاجتماعية المهمشة وصغار الكسبة والشباب في المناطق والأحياء الشعبية الكثيفة السكان التي تعاني من الفقر ونقص الخدمات. وهي حركة شهدت فرزا وغادرتها مجموعات متشددة شكلت حركات وتنظيمات مستقلة. ومن المتوقع أن يستمر هذا الفرز والتمايز داخلها ارتباطا باتجاهات تطور وجهتها السياسية، وليس هناك من حتمية في أن يكون الفرز دوما لصالح التوجهات الأكثر اعتدالا.
 لذا وجدنا في مبادرة التيار الصدري، الذي يمثل أكبر حركة وتنظيم سياسي ذي تأثير ونفوذ جماهيريين واسعين في محافظات وسط وجنوب العراق، وله هوية إسلامية ومذهبية، في التوجه نحو القوى المدنية، وحزبنا بشكل خاص، لتشكيل تحالف انتخابي من دون أن يجعل الاختلافات العقائدية والايديولوجية مانعا للاتفاق على مشتركات سياسية وطنية، وعلى اساس الاحترام المتبادل للخصوصية الفكرية لكل طرف، انعطافا ايجابيا في الموقف والعلاقة بين قوى وحركات سياسية اسلامية ذات دلالة سياسية وفكرية وثقافية وذات ابعاد أوسع من نطاق العلاقة بين الحزب الشيوعي والتيار الصدري، وتستحق الدعم والتكريس لما تمثله من اعتراف وقبول بالتنوع والاختلاف والاستعداد للتعامل والتعاون مع المدنيين والشيوعيين من قبل الحركة الصدرية، ومن شخصية سياسية واسعة التأثير تمتلك الصفتين الدينية والسياسية. ويمكن لهذا الموقف أن تكون آثار وتداعيات سياسية وثقافية مجتمعية تتجاوز العلاقة بالحزب والقوى المدنية.
كما إن هذا الانتقال في موقف التيار الصدري يعكس فرزا وتباينا في المواقف والتوجه السياسي، ويؤشر اختراقا للاصطفافات والتكتلات السياسية القائمة على أساس الانتماءات المكوناتية والطائفية السياسية، اي البنية السياسية لنهج المحاصصة. ولم يأت هذا التطور في موقف التيار الصدري بمعزل عن اشتداد الأزمات في البلد والفشل البيّن لنهج المحاصصة وازدياد الوعي بالطبيعة الاجتماعية والاقتصادية العابرة للهويات الدينية والمذهبية والقومية، وتنامي الحراك الشعبي واتساع قاعدته. ويمكن لهذا التطور أن يساهم في عملية التغيير في موازين القوى لصالح أي مشروع إصلاحي، كما كان مطروحا في حينها، بعيدا عن نهج المحاصصة وما يصاحبها من فساد وفشل وأزمات.
وقد قام تحالف سائرون على الأسس السالفة الذكر، اي تحديد المشتركات السياسية، التي تبلورت معظمها خلال الحراك الاحتجاجي الذي انطلق صيف عام 2015 ضد الفساد ونهج المحاصصة وغياب العدالة الاجتماعية وتردي الخدمات والمطالبة باصلاحات جذرية ومدنية الدولة. كما تم تثبيت مبدأ احترام الاستقلالية التنظيمية والفكرية والسياسية للأحزاب والقوى المتحالفة. كما تضمن النظام الداخلي للتحالف تشكيل الهيئات القيادية المشتركة، والتزاما بقانون مفوضية الانتخابات وتعليماتها وبقانون الانتخابات، الذي ينص على وجوب تحديد رئيس واحد للتحالف، تم الاتفاق على أن يكون امين عام حزب الاستقامة المدعوم من التيار الصدري، رئيسا للتحالف.
و”يتهم” معارضو تحالف سائرون الحزب بانه فرّط بالتحالف مع القوى المدنية في اطار “تقدم” لصالح التحالف مع التيار الصدري.
نشير بداية الى أن تشكيل هذا التحالف جاء منسجماً مع سياسة الحزب التي رسمها مؤتمره الوطني العاشر اواخر 2016، ومع التوجهات التي جرى اعتمادها في مجال التحالفات بعد انعقاده. وقد عملت قيادة الحزب على أن تشارك القوى المدنية المؤتلفة في “تقدم” مجتمعة وموحدة في التحالف، وأن يكون للتحالف برنامج اقرب ما يكون لدولة المواطنة ونبذ نهج المحاصصة ومحاربة الفساد ويتضمن توجهات اجتماعية - اقتصادية واصلاحات تعزز البناء الديمقراطي للدولة وسيادتها واعتماد سياسات لصالح أوسع الفئات الشعبية، وتحقيق قدر أكبر من العدالة الاجتماعية. وإذ تم الأخذ بالأسس والتوجهات التي دعا لها الحزب، وضمنت في الوثائق الاساسية لـ “سائرون”، ظهر الخلاف بين أطراف “تقدم”، وخصوصاً بشأن رئاسة التحالف التي طالب الصدريون أن تكون لحزب استقامة.
اعتبر الحزب مطلب الصدريين متوقعا بسبب امتلاكهم اكثر من ثلاثين مقعدا برلمانيا، كما أن نظام الانتخابات ينص على ضرورة وجود رئيس واحد للتحالف له مهام إجرائية وتمثيلية بالأساس. وبالتالي لم يعتبر هذا الاعتراض كافياً لرفض التحالف الجديد. وبذل الحزب مساعي جدية مع التيار ومع اطراف “تقدم” والتيار الاجتماعي لإيجاد صيغة توافقية ولكنه لم ينجح، فيما مارس وفد حزب استقامة والتيار الصدري ضغطا للإسراع في أن تقدم الأطراف المدنية جوابا لكي يتم تقديم القوائم إلى المفوضية لوجود مواعيد زمنية واجبة الاحترام. ولم يكن هناك اعتراض جوهري من قبل معظم قوى تقدم على مبدأ التحالف الانتخابي، وإنما على شروطه وآلياته، مع العلم ان بعض الأطراف المدنية كانت ممتنعة عن الانضمام إلى تحالف “تقدم” لوجود الحزب الشيوعي، وانضمت لاحقا الى التحالف المدني الديمقراطي بعد انسحاب الحزب الشيوعي منه، كتنظيم الدكتور غسان العطية، كما أن عددا من اطراف “تقدم” انضمت إلى تحالف سائرون او عبرت عن تأييدها له.
ولا شك في ان الضغط وعامل الوقت لم يوفرا الفسحة الزمنية اللازمة لمواصلة وتوسيع دائرة النقاش لانضاج الموقف، ولخلق قناعات مشتركة.
وبالنسبة للحزب، لم يكن التحالف في إطار سائرون عائقا امامه لمواصلة جهوده من أجل تطوير التعاون والتنسيق مع القوى والشخصيات المدنية والديمقراطية والسعي لتحقيق وحدة عملها.
ومن جانب آخر، وجد لهذا التحالف تنظير لدى بعض المثقفين اليساريين الماركسيين يستند إلى مفهوم الكتلة التاريخية للمفكر الماركسي الايطالي غرامشي، إلاّ أن الحزب لم يعتمد هذا المفهوم في تحليلاته، وفي التأسيس الفكري لموقفه من التحالف لاختلاف الظروف والشروط التي ترتبط بفكرة الكتلة التاريخية في ظل نظام رأسمالي متقدم.
كان الحزب يرى في تحالف سائرون تحالفا انتخابيا يمكن أن يتطور إلى تحالف سياسي أطول أمدا، ويحقق إنجازات ملموسة على مختلف الصعد في حال تم الالتزام ببرنامجه وآليات نظامه الداخلي وتوسيع قاعدته الجماهيرية، إلاّ أن هذه الامكانية لم تتحقق.
كما اوضحت في ما تقدم، ان نظرة الحزب لأبعاد هذا التحالف ومرتكزاتها النظرية والسياسية تتعدى المنظور الأضيق له الذي يمكن قياس “أرباحه” و”خسائره” كما، من دون اهمال حساب وتقدير آثار ونتائج التحالف على أوضاع الحزب ومكانته وشعبيته ونشاطه.
فما يندرج في خانة الايجابيات ارتفاع مجموع الأصوات التي حصل عليها مرشحو الحزب مقارنة بالدورات الانتخابية السابقة، اذ بلغ مجموع اصواتهم ما يزيد على ثمانية وتسعين ألف (98000) صوت مقابل خمسة وستين الف (65000) صوت في الانتخابات التي سبقتها، وقد حصلت شخصيا كمرشح عن محافظة بغداد ما يزيد على تسعة عشر ألف صوت (19000)، والرفيقة هيفاء الأمين حصلت على أكثر من اثني عشر ألف (12000) صوت في الناصرية.
وبعد بدء الدورة البرلمانية الرابعة، حدث توسع في مساحة الحضور السياسي والاعلامي للحزب، وكنت بمثابة المتحدث الرئيس باسم كتلة سائرون في وسائل الاعلام وبدون أي تدخل أو ضغط من نواب استقامة والتيار. كما زاد بشكل كبير ظهور شخصيات حزبية قيادية في القنوات الفضائية. وعلى صعيد العمل البرلماني والتشريعي، كان لنائبي الحزب دور مؤثر في مجلس النواب، إذ تولت الرفيقة هيفاء الأمين رئاسة لجنة المرأة، كما كان لنا دور قيادي في لجنة متابعة البرنامج الحكومي، كما كان للحزب دور في تقديم مقترحات ناضجة لقوانين مهمة كمشروع قانون الضمان الصحي، ومشروع قانون المحكمة الاتحادية وفي اصدار قرار برلماني بشأن معالجة مشكلة السكن في العراق. وفي اطار عمل كتلة سائرون، كان النائبان الشيوعيان يتمتعان بتقدير واحترام كبيرين من قبل أعضاء كتلة تحالف سائرون، ولمساهماتهما ولآرائهما قبول وتأثير ملموس في مداولات الكتلة.
وكان ممثلا الحزب في مجلس النواب يتخذان المواقف بحرية واستقلالية إلى حد التقاطع احيانا مع موقف كتلة سائرون، كما حدث ذلك عندما انسحب رفاقنا من جلسة التصويت على تعديل النظام الانتخابي لصالح سانت – ليغو المعدل الذي رفضه الحزب، بخلاف موقف نواب حزب استقامة الصدريين المؤيدين للتعديل.
ومن ايجابيات التحالف التي لم تستثمر كما ينبغي، الظروف الأكثر انفتاحا وحرية العمل ونشاط المدنيين والشيوعيين ومبادراتهم في المناطق والأحياء الشعبية الكثيفة، كما ساهم هذا التحالف في سحب البساط من الدعوات المتطرفة لتكفير الشيوعيين والمدنيين.
بالمقابل، اقسام غير قليلة من الجمهور المدني، بما في ذلك بعض رفاق الحزب، كانت ترفض من حيث المبدأ تحالف الحزب مع قوى اسلامية عموما، ومع التيار الصدري لمواقفه التي تعتبرها غير ثابتة ولأعمال جيش المهدي ودوره أثناء الاحتراب الطائفي، وتجد في هذا التحالف محاولة لاحتواء الحزب والنشاط المدني. وبعض أصحاب مثل هذا الموقف من الرفاق، وخصوصا الشباب، قرر الاستقالة من الحزب رغم أن الحزب لم يحاسب رفيقا أو رفيقة على رأيه/ ـا، وإنما تمت المساءلة الحزبية على الخروقات المرتكبة للنظام الداخلي ولضوابط التعبير عن الاراء المخالفة لسياسة الحزب ولنقل الصراع الفكري إلى خارج المنابر الحزبية.
إنّ المخاوف والهواجس التي يعبر عنها أصحاب هذه الآراء المناوئة أو المتحفظة على التحالف لم تكن غائبة عن تفكير قيادة الحزب عندما دعت إلى خوض تجربة التحالف، وهي تدرك تمام الادراك بأن التحالف وحدة وصراع وأن لكل طرف مصالحه وخططه واهدافه التي يسعى إلى تحقيقها من خلال التحالف. لذا كان يصر الحزب على مبدأ الاستقلالية التنظيمية والفكرية والسياسية في تحالفاته، وعلى تثبيت آليات عمل تضمن المشاركة المتكافئة في إدارة وقيادة التحالف. وقد توفرت هذه الشروط في تحالف سائرون، وعمل بموجبها الحزب عندما اقتضت الظروف ومصلحة الحزب ذلك. واشرنا إلى اتخاذ النائبين الشيوعيين مواقفهما بحرية واستقلالية الى حد التقاطع احيانا مع موقف أغلبية نواب سائرون عندما تعلق الأمر بتمرير تعديلات على قانون الانتخابات من شأنها تهميش الأحزاب والكتل الأصغر عددا، وتكريس هيمنة القوى والأحزاب الطائفية السياسية على المجلس.
وقد حرص الحزب في اطار التحالف على امتلاك حرية القرار في الاستمرار في التحالف أو الخروج منه. وهذا ما قام به الحزب بعد اندلاع الانتفاضة وعدم قيام مجلس النواب بدوره في وضع حد لقمعها ومساءلة واستجواب رئيس الحكومة والقادة الأمنيين، وعدم اتخاذ كتلة سائرون الموقف الحازم في دعم الانتفاضة، معلنا بالوقت نفسه انتهاء مشاركته في تحالف سائرون.
لقد كان الحزب حريصا على ترسيخ التحالف الانتخابي عبر الالتزام ببرنامجه ونظامه الداخلي والعمل جديا على تحقيق اصلاحات عميقة على المستويين التشريعي والتنفيذي باتجاه نبذ نهج المحاصصة ومحاربة الفساد وتوجيه السياسات العامة نحو التنمية الاجتماعية والاقتصادية وتأمين مستوى أفضل من العدالة الاجتماعية، وأن تتم إدارة الصراع والاختلاف في اطار التحالف طالما كانت المحصلة تميل لصالح الايجابيات. ولكن عندما تبرز مظاهر ضعف وخلل في عمل وإدارة التحالف، انحسرت على اثرها الايجابات المتوقعة والمخططة للتحالف، يكون الخيار الأسلم فض التحالف.
لقد استغرقت المناقشات بشأن تحالف سائرون وقتا طويلا نسبيا في أعمال المؤتمر الحادي عشر، توصلت إلى استخلاص عدد من الدروس، من أهمها امكانية التعاون والتنسيق في قضايا معينة مع قوى سياسية أخرى كالتيار الصدري، من دون دفع ذلك إلى أطر تحالفية، لأنها تحتاج إلى مقاربات أخرى لها علاقة بمنهج الأداء السياسي وطبيعة الأطراف ونمط ادارتها، ولا يكفي في هذا الشأن تشابه المنحدر الاجتماعي لطبيعة جمهور القوى المتحالفة.
ونرى أن لم يمض وقت كاف على انتهاء التحالف لتحديد نتائجه السلبية والايجابية، كما أن انتهاء تحالف انتخابي لا يعني فشل التجربة، فالتحالف الانتخابي مؤقت بطبيعته وله أهداف محددة ضمن الفترة الزمنية للدورة الانتخابية، وهو قابل للتطور إلى تحالف سياسي أشمل من البعد الانتخابي في حال توفير شروط معينة سبق ذكرها بالنسبة لتحالف سائرون، والتي لم تتوفر لكي يتطور إلى تحالف سياسي استراتيجي.
 
الثقافة الجديدة: طيلة التاريخ النضالي المديد للحزب الشيوعي العراقي كان لشريحة المثقفين من شيوعيين ووطنيين وديمقراطيين الدور البارز في بلورة مشاريع التغيير ونشر قيم التنوير والحداثة التي طرحها وروجها الحزب. ومن خلال تجارب الحزب الملموسة بشأن المسألة الثقافية والمثقفين عموما كيف ينظر الحزب – في وثائقه التي اقرها البرنامج – للعلاقة بين الشيوعيين العراقيين والثقافة والمثقفين ولدورهم في المسألة الثقافية وفي نشر افكار الحداثة والديمقراطية عموما، وذلك ارتباطا بشعار “التغيير الشامل” الذي أقرّه المؤتمر 11؟
رائد فهمي: إنّ السؤال يركز على نظرة الحزب الراهنة للعلاقة بين الشيوعيين والثقافة والمثقفين، لذا يعفيني السؤال من الاستعراض التاريخي لهذه العلاقة المتميزة وتوضيح أسبابها والتي ينفرد بها الحزب الشيوعي من دون اي حزب او حركة سياسية أخرى والتي تجد تعبيرها المكثف في الصورة الراسخة في الوعي العام للمجتمع بأنه حزب مثقفين، وللحضور المؤثر للحزب في اوساط المثقفين والمبدعين حتى يومنا هذا.
اشير بداية إلى أن برامج الحزب في مختلف مراحل مسيرته، تضع ضمن أولويات عمل الحزب وأهدافه ضمان حرية الثقافة والابداع، واحترام التعددية الفكرية والسياسية في ثقافتنا الوطنية والعمل على ازدهارها، ورعاية الثقافة والمثقفين. وظل هذا النهج ثابتا لا يحيد عنه الحزب رغم تقلب الأوضاع وتعقد ظروف عمله في ظل الأنظمة الدكتاتورية.
وقد أعارت وثائق المؤتمر وأعماله التحضيرية في إعدادها، ولاحقا في مناقشات المؤتمر اهتماما كبيرا لتشخيص وتقييم الواقع الثقافي في البلاد بكل جوانبه، واستخلاص المهمات والأولويات التي يجب أن ينصب عليها نضال الحزب وعمله في المرحلة الراهنة، وارتباطا بذلك بحث سبل تعزيز وتطوير وتجديد أساليب وآليات عمل الحزب وخطابه من أجل زيادة تأثيره.
لقد خلصت قراءة وتحليل الحزب ومناقشات المؤتمر الحادي عشر للواقع الثقافي في العراق وسيرورته منذ التغيير عام 2003 إلى أن قطاع الثقافة في العراق قد أصابه التدهور ويعاني من أزمة بنيوية، شأنه في ذلك شأن بقية قطاعات المجتمع، كما أن الأزمة الثقافية هي جزء من الأزمة الاجتماعية.
فمن ناحية الدولة، أهملت الحكومات المتعاقبة قطاع الثقافة، بصورة يمكن توصيفها بالممنهجة من منطلقات فكرية وأيديولوجية غير مصرح بها. وتمظهر ذلك بتناقص ميزانية وزارة الثقافة إلى أقل من خمسة بالألف (%0,5) من عموم ميزانية الدولة، ويأكل الفساد نصيبا كبيرا منها، وبتخلي الدولة عن مسؤوليتها في انشاء البنى التحتية للثقافة وتوفير شروط ازدهارها، وفي اهمال الامكانيات البشرية من خلال عدم تقديم الدعم الحقيقي من جانب الدولة ومؤسساتها للإنتاج الابداعي، وتغييب دور المثقفين.
وقد خلقت هذه الاجواء المحيطة بالمشهد الثقافي لدى المثقفين احساسا بالتهميش على يد الحكام المتنفذين وتصوراتهم الشعبوية المبتذلة في فهم دور المثقف وخصوصيته، وشعورا بانسحاق المثقف تحت وطأة الاحساس بالإحباط والعزلة وطاحونة اللهاث وراء العيش على نحو يستنزف طاقته الابداعية.
 لذا جاء التأكيد في وثائق المؤتمر على الاصلاح الثقافي باعتباره ضرورة ملحة كجزء من الاصلاح كقضية مجتمعية، بما يعنيه ذلك من توفير شروط نمو الثقافة وتطورها، ومن إعادة الاعتبار إليها كجزء اساسي من حياة الناس، ومصدر لا ينضب لمتعتهم وفائدتهم.
ويقتضي الاصلاح الثقافي، إعادة بناء المشهد الثقافي الإبداعي في بلادنا. واحد العناصر الأساسية في هذه العملية هو اعتماد استراتيجية ثقافية وطنية تكرس الرؤية للثقافة باعتبارها جزءاً أساسياً من حياة الناس وحاجاتهم، وشرطا لارتقاء الانسان ونهوض المجتمع، وينبثق منها مشروع ثقافي وطني يكون حاضنة للتيارات الداعية الى بلورة هوية وطنية منفتحة متجددة، تحترم التعددية الثقافية والفكرية، وتتفاعل مع سائر روافد الفكر العالمي وتياراته.
وإذ نشدد على المطالبة باستقلال الثقافة، نشاطا وانتاجا، وعدم تدخل الدولة في العمل الثقافي وكف أجهزة الدولة عن التدخل في العمل الثقافي، ندرك جيدا أن المجال الثقافي الذي يتشكل في رحابه الوعي للفرد والمجتمع، ميدان أساسي للصراع الإجتماعي والأيديولوجي والسياسي، والقوى المتنفذة تعي ذلك جيداً وحشدت موارد وطاقات مادية وبشرية هائلة، وتوظيف نفوذها وتحكمها بمفاصل الدولة وبالمؤسسات و”أجهزة الدولة الايديولوجية” على حسب تعبير المفكر الماركسي الفرنسي ألتوسير، من أجل التضييق على منافذ ومنابر ووسائل نشر ثقافة وأفكار التنوير ومناهج التفكير العلمي النقدي، وبالمقابل نشر الوعي المزيف وتكريسه بغية إدامة هيمنتها الفكرية والاخلاقية والايديولوجية وشرعنة حكمها وسلطتها.
ونجد يوميا ومن خلال ممارسات مختلفة مظاهر الصراع المحتدم في حقل الثقافة والاعلام. وليس الصراع الفكري المباشر والصريح بين حملة فكر التنوير والمدنية والحداثة بمدارسه المختلفة، واصحاب الفكر المحافظ والتقليدي الذي ينظّر للتعصب الديني والطائفي، ليس إلا الجزء الظاهر من الصراع على الهيمنة الفكرية في المجتمع، فعناصر ومجالات الصراع الأخرى نجدها في اختيار اسماء المدن والمحلات والشوارع، وفي تحديد العطل والمناسبات الرسمية، وفي اختيار النُصُب وشكل العمارة، وفي طريقة اجراء المراسيم والطقوس واحياء المناسبات الدينية والاجتماعية، إلى جانب محتوى المناهج الدراسية والبرامج في الاعلام السمعي والبصري وفي الصحافة والادب والشعر وحقول الابداع المختلفة.
وفي بنية اجتماعية - اقتصادية ركيزتها الريع، وتنحسر فيها مساحة ودور الانشطة الانتاجية، ويسود فيها الاقتصاد التوزيعي، تزداد أهمية الوزن النسبي في المجال الفكري والثقافي، بالمفهوم الواسع للثقافة، كوجه أساسي من أوجه الصراع الاجتماعي - الطبقي، ولا يمكن تصور احراز نجاحات راسخة على طريق الاصلاح والتغيير الشامل، من دون أن تترافق عملية توحيد الجهد السياسي والتعبوي لقوى التغيير، بجهد ونشاط منسق وموحد يقوم به المثقفون والمبدعون لكشف وتعرية وتقويض الوعي المزيف وعوامل وآليات إنتاجه وإعادة إنتاجه من أجل تحرير العقل والسماح بالخيار الحر والواعي للمواطن والمواطنة.
ومن هنا تكتسب اهمية اضافة التغلب على مشاعر الاحباط واليأس والانكفاء المنتشرة لدى أوساط غير قليلة من المثقفين والمبدعين.
الثقافة الجديدة: واخيرا، من خلال المشهد السياسي/ الاقتصادي/ الاجتماعي المعقد بل البالغ التعقيد الذي حدّد معالمه الكبرى التقرير السياسي الذي اقره المؤتمر الوطني الحادي عشر، نود الاشارة هنا الى ان الانتقال في اتجاه التغيير الشامل يجب ان يستند إلى تغييرات عميقة في أسس وبنية النظام السياسي الاقتصادي العراقي، والتطلع إلى نزع هيمنة الأحزاب والقوى الطائفية والمحاصصاتية التي تحوّل تحالفهما إلى عائق أساسي أمام التغيير وأمام الاستجابة لمصالح القوى الاجتماعية المتضررة من نهج وممارسات القوى الطائفية والمحاصصاتية في بلادنا. ومن الضروري الاشارة الى ان النظام المحاصصي/ الطوائفي قد بلغ مداه الاعلى بالمعنى الاستراتيجي، ولا بدّ من الدفع في اتجاه تغييره وإرساء ديمقراطية حقيقية وتحويل الاقتصاد الريعي وبذل اقصى الجهود لبناء الاقتصاد الانتاجي وتحقيق العدالة الاجتماعية. ومن هنا بات وقف هذا المسار مهمة وطنية راهنة أمام قوى التغيير وليس مهمة حزبية صرفة.
وهنا في ظروف النضال الوطني والمجتمعي/ الديمقراطي الذي يخوضه شعبنا بمختلف قطاعاته وطبقاته وفئاته وشرائحه الاجتماعية، تبرز الأهمية المحورية للعمل الجماهيري وضرورات المشاركة الواسعة في إطاره والتأثير على اتجاهاته الرئيسية، باعتباره إحدى روافع النضال الأساسية، التي لن يكون بمقدور الحزب الشيوعي العراقي أن يؤدي رسالته التاريخية، إلا إذا اعتمد بجدارة على الجماهير الشعبية واجتذبها الى ساحات النضال من منطلق الأهداف والمهمات والشعارات التي تنسجم مع المصالح والحاجات الحيوية لهذه الجماهير في اللحظة التاريخية الملموسة، ولكن غير المقطوعة عن أفق المستقبل وخياراته الكبرى.
ومن المهم الاشارة هنا الى ان الطابع الطبقي للحزب يقاس بمدى قدرته على الدفع الصبور، يوما بعد يوم، للنشاط الواعي والمنظم والواسع للناس حول ابسط مصالحهم الحقيقية والمادية والانسانية اليومية، واكتشاف طرق واشكال توحيد هذه الانشغالات في خضم الصراع من اجل بناء عراق ديمقراطي حر ومستقل وسيد نفسه.
ومن جهة اخرى فان نجاحكم – كحزب شيوعي - في تطوير الحركة الاحتجاجية وتوسيع قاعدتها وتعظيم فعلها وتأثيرها وتوسيع قاعدة المشاركين فيها انما يعتمد على عدة عوامل من بينها بل وأهمها وضع استراتيجية للتغيير بهدف تحويل المجتمع، وبناء نظام مدني- وطني- ديمقراطي، وان تعتمد التكتيكات المناسبة التي يجب ان تكون خادمة لتلك الاستراتيجية وليس عبئا عليها.
وفي كل ذلك وفي اطار الصراع الاجتماعي المتوتر تبرز اهمية التأكيد على الحفاظ على الوجه الطبقي/ الوطني المستقل للحزب الشيوعي وطرح برنامجه والتوجه الى الجماهير على هذا الأساس. علما ان هذا لا يعني بالمقابل عدم الانخراط في اعمال ميدانية حول مطالب مجتمعية او تحالفات ميدانية شرط وضوح برامجها ومدى اقترابها من مشروع الحزب الرامي في جوهره الى تفكيك نظام المحاصصات الطائفية – الاثنية وليس تأبيده.
والسؤال هو كيف يمكن ان يكون الحزب قادرا على لعب هذا الدور الطبقي والوطني المؤثر في العمل الجماهيري والاحتجاجي؟ وما هي الاليات التي بلورها الحزب، والاجراءات التي صاغها عند مناقشته هذه القضايا في مؤتمره الحادي عشر؟ ومن المؤكد ان انتفاضة تشرين 2019 كانت حاضرة على جدول المناقشات، وبالتالي ما هي الدروس المستخلصة من هذه الانتفاضة وهل سيراهن الحزب على اندلاع انتفاضات مماثلة مستقبلا وان تكون رافعة جدية وحقيقية للتغيير المطلوب؟
رائد فهمي: تشهد البلاد بعد مضي خمسة شهور على انتخابات مبكرة، أزمة سياسية خانقة تعبر عنها الاستعصاءات التي تواجهها عملية انتخاب رئاستي الجمهورية ومجلس الوزراء وتشكيل حكومة جديدة. ويؤشر استمرار الاستعصاءات وفشل محاولات رأب التصدعات في “البيوت السياسية المكوناتية” عمق أزمة نهج المحاصصة وعجز منظومتها السياسية عن إعادة انتاج التوافقات ما بينها لانتخاب الرئاسات وتشكيل الحكومة، كما في الدورات السابقة، ويؤكد الحاجة إلى الخلاص من نهج المحاصصة المنتج للأزمات ووضع البلاد على سكة التغيير نحو نمط حكم بديل يقوم على مبدأ المواطنة والعدالة الاجتماعية، إلاّ أن هذا البديل لا يزال في حالة مخاض وصيرورة. لذا فان المحور الأساسي للصراع، حسب ما بينته أعمال المؤتمر، يكمن في مضمون التغيير المطلوب وكيفية تحقيق موازين القوى اللازمة لانجازه.
وإزاء تعنت قوى المحاصصة في موقفها المتمسك بنهج المحاصصة الطائفية والإثنية، وعدم قدرتها أو استعدادها لإحداث اي اصلاح حقيقي يحاسب الفاسدين ويتصدى لعوامل انتاج الفساد ويضع حدا للسلاح خارج سيطرة الدولة الفعلية، فيما تتفاقم معاناة قطاعات شعبية واسعة، بات التغيير ضرورة، ويشمل تغييرا في نهج الحكم بعيدا عن المحاصصة الطائفية والإثنية، وفي مضمونه ووجهته وسياساته على الصعد السياسية والاجتماعية والاقتصادية والمضي في عملية تقويم واصلاح جذرية لبناء الدولة ومؤسساتها المدنية والعسكرية على أساس مبدأ المواطنة والولاء للوطن وتعزيز مقومات سيادة الدولة واستقلالية القرار الوطني واحترام الدستور نصا وروحا، والسير حثيثا نحو دولة القانون والمؤسسات والعدالة الاجتماعية.
ومثل هذا التغيير الشامل لا يمكن أن يتحقق من دون ضغط شعبي وتغيير في موازين القوى قادر على تمكين مشروع التغيير. وقد كشفت انتفاضة تشرين الباسلة عن القوة الهائلة الكامنة في الشعب عندما تتوحد إرادته وتنخرط اقسام وفئات وشرائح واسعة منه في عملية الصراع والفعل السياسي المباشر. وتؤكد التطورات الأخيرة، ان الحراك الاحتجاجي الشعبي وإن تراجع مستواه عما كان عليه إبان الانتفاضة، إلاّ أنه مستمر حيث تتواصل نشاطات ومبادرات احتجاجية من قبل فئات وقطاعات اجتماعية ومهنية مختلفة وفي العديد من المحافظات، إذ نشهد احتجاجات للفلاحين وللخريجين والعاطلين عن العمل والمتعاقدين مع وزارة التربية والوزارات الأخرى والعاملين في بعض الشركات الصناعية المملوكة للدولة التي يراد تصفيتها، ولأهالي العديد من المناطق، الذين يطالبون بالخدمات، ما يؤكد أن عوامل تفجر الانتفاضة لا تزال قائمة وتتفاعل دون توقف، وبغض النظر عن تصاعد وتراجع زخم أنشطتها.
وإزاء التحديات التي تواجهها البلاد، رسم الحزب في الوثائق التي اقرها المؤتمر الحادي عشر، استراتيجيته الهادفة إلى مراكمة عناصر القوة والتمكين للعامل الذاتي حامل مشروع التغيير وما تلقيه من مسؤوليات ومهام على عاتقه، وتحديد الوسائل والآليات وتكتيكات العمل النضالي الكفيلة بتوفير مستلزمات وأدوات عملية التغيير بالارتباط مع نضوج الشروط الموضوعية وبالاستفادة من دروس نجاحات وإخفاقات انتفاضة تشرين.
ونحن ندرك جيداً بان الشرط الأول والأساسي لتنفيذ أي من الأهداف المرتبطة بشعار التغيير الشامل، هو الارتقاء بعمل وأداء الحزب عبر تعزيز دور الشيوعيين ومبادراتهم في الحراك الشعبي وتوسيع صلاتهم الجماهيرية وتوثيقها، وتلمس حاجاتها، وعلى وجه الخصوص مطالب الشغيلة والكادحين والكسبة والمهمشين وذوي الدخل المحدود، والمساهمة النشيطة في صياغة وبلورة مطالبها والمبادرة الى تنظيمها وتعبئتها لتحقيقها على مختلف المستويات. واستلهاما لدروس الانتفاضة، لا بد من العمل على تطوير صيغ مرنة وفاعلة لتوحيد القوى المتنوعة المشتركة في الحراك الاحتجاجي وساحاته ومجالاته ومناطقه وقطاعاته الممتدة جغرافيا واجتماعيا داخل الوطن، وتوفير قيادة سياسية لنضالاته، وتوفير الحصانة له والقدرة على افشال مساعي القوى المتنفذة لاحتوائه وضربه وتشتيت قواه وتضبيب رؤيته والتشويش على أهدافه وأساليب عمله.
فكل ذلك يشكل شروطا مسبقة واجبة التوفر لكي تتحول الحركة الشعبية إلى القوة الدافعة الأساسية للتغيير.
ان نجاح الحزب في تحقيق هذه المهام يتطلب أولا تطوير آليات وأساليب عمل الحزب التنظيمية، والسعي إلى مزيد من الانفتاح في خطابه وعمله وعلاقاته، وتنشيط دور الشيوعيين في الاتحادات والنقابات العمالية والمهنية وفي المنظمات الديمقراطية والجماهيرية، والتوجه نحو المرأة والشباب والطلبة والتعبير عن همومهم ومطالبهم وتحسين ظروفهم وضمان مستقبلهم وحقهم في العمل والسكن والعيش الكريم وإزالة الحواجز والمعوقات وجميع أشكال التمييز التي تحول دون توسيع مشاركتهم في الحياة السياسية وتولي المسؤوليات القيادية على صعيد أجهزة الدولة وفي الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني والأهلي.
ويسعى الحزب إلى تعبئة قواه وصلاته الجماهيرية وزجها في العمل وفق التوجهات السالفة الذكر، وبالتلازم مع هذا السعي يعمل الحزب بدأب ونشاط ومثابرة من أجل توحيد عمل القوى والأحزاب والحركات والتنظيمات المتبنية والمساندة لهدف ومشروع التغيير بمضامينه السياسية الوطنية والديمقراطية والاجتماعية الداعية إلى دولة المواطنة المدنية الديمقراطية القائمة على العدالة الاجتماعية. وقوى التغيير تشمل طيفا واسعا من الأحزاب والقوى والحركات المدنية، والأحزاب والجماعات والتشكيلات المنبثقة من انتفاضة تشرين والحراك الشعبي، بما في ذلك النواب المستقلون الذين فازوا في الانتخابات الأخيرة. كما يشمل معظم الاتحادات والنقابات العمالية والمهنية ومنظمات المجتمع المدني التي تلتقي أهدافها ومصالح منتسبيها مع أهداف ومضامين مشروع التغيير.
إن تحقيق وحدة العمل والمشروع بين هذا الطيف الواسع من القوى ليس يسيرا ويصطدم بمعوقات التنافس والتنازع على مواقع الصدارة والقيادة والطموحات الشخصية وبعض الممارسات والأفكار الاقصائية وقلة الاطر الجامعة للحوار وللنقاش وانضاج أرضية وشروط العمل المشترك. ولكن ثمة وعي متنامي وواعد بضرورة السعي الدؤوب لتذليل معوقات وحدة العمل، وتحققت خطوات عملية بهذا الاتجاه، لكنها بحاجة إلى توطيد وتطوير.
وفي سياق هذه التوجهات، يعمل الحزب مع أحزاب وقوى مدنية أخرى على استنهاض وتطوير التيار الديمقراطي، وأحرز تقدما ملموسا في الأسابيع الأخيرة بانعقاد المؤتمر الثالث للتيار وتشكيل هيئات قيادية على الصعيد الوطني وفي المحافظات بمشاركة قوى جديدة وعناصر شبابية. كما تشكل المجلس التشاوري الذي يضم حركات تشرينية وأحزابا مدنية وممثلي نقابات عمالية ومهنية، وهو اطار للتشاور والحوار الهادف الى تعيين وتوسيع قاعدة المشتركات وبلورة صيغ عمل ومبادرات سياسية وجماهيرية مشتركة. وإذ يرى الحزب في هذا الأطر صيغا تحالفية قابلة للتوسيع والتعميق والتطوير نحو صيغ ائتلافية وسياسية أكثر تقدما.