نيسان/أبريل 19
  
 
الثقافة الجديدة: نعرف عنك أنّك من المعماريين الذين يهتمون بهوية المدينة. ماهي هذه الهوية المعمارية وما علاقتها بهوية ناسها وإرثهم الثقافي والاجتماعي؟
 
معاذ: اهتمامي بهوية المكان أسميه (جنّي المكان)، وهو اصطلاح يعود للاتينية  genius loci” ومعناه بالعربية روح المكان الخفيفة، وأحيانا روحه الثقيلة. هي ما سميتها في واحدة من محاضراتي السرة الروحية-الاجتماعية التي يتجمع حولها دفء الشمس وضوء القمر في بيئة حارّة ومغبرّة. وهي أيضاً رد الإنسان على تحديات هذه البيئة ومحاولات التناغم معها بطريقة فطرية وعبقرية. (جني المكان) هو عصب هوية العمارة في مكان محدد ويرتبط بهوية الناس وثقافتهم. وفي مفهومي وعملي اعتبر المكان وهويته بالتحديد، شريكا أصيلا في أي منهج لتطويره. لذلك اعتبر الدراسة والمعايشة الخطوة الاساسية والأولى، لكي ادخل الى عالم المعرفة. عليّ أن أعرف، من أنا؟ خلف لأي سلف؟ من أين وصلني هذا المرشِح "الفلتر " الذهني. كيف تفهم الغير وكيف تتخذ موقفاً؟ إذا لم تعرف التركة التي انت مؤتمن عليها، كيف لك ان تفهم الغير، وكيف تتخذ موقعاً او موقفاً؟ في نفس الوقت لا اريد ان أكون على الهامش، متخلف عن الركب الانساني. بالتأكيد لا زلت أبحث عن موقعها في النسق الإنساني. الزمن يسير وعليَ ان أكون مواكباً، لكي أُسعَد وأسعِد. ألا يحق لي ان أفتخر وأتصرف كابن هذه الأرض، وخلف لأبوة عمرها آلاف السنين. كنت في الابتدائية في مدينة الحلة، في الصف الاول الابتدائي، حيث تعلمت الحرف والرقم. في دارنا بلاطة "فرشيه"، بلغة أسطوات بغداد، منقوشة مسمارياً وفي الزمن ذاته. كيف لا أتأثر في موقفي وما تمليها هذه التركة عليَّ من مواقف.. من هنا تصاغ هويتي..
 
الهوية والمعاصرة
 
الثقافة الجديدة: في الوقت الذي نتحدث عن الهوية هناك تحديات المعاصرة التي تزحف على المدن القديمة وتعيد تشكيل هذه الهوية، بل وأحيانا تلغي الهوية القديمة. هل تعتبر هذا التغيير قدراً لا بد من قبوله، أم هناك إمكانيات للتوفيق؟ هل من أمثلة في الجانبين؟
 
 
معاذ: الهوية عاكسة لكل مقومات الذات، أي هي ولادة بيئة متكاملة. ارث وتركة عمرانية وتاريخ ومناخ وتسلسل معرفي لا اكتساب من دون المواكبة مع الإرث الإنساني. انا لا اريد هوية متخلفة تعتمد على تقاليد بالية عفنة لا تتواءم مع الزمن. أبداً، وإلا تكون هوية متخلفة تغمط حق الانسان في العيش الكريم. ما كل هوية مرغوبة، هناك الباطل من المدن، والمدن المالحة" حسب تسمية عبد الرحمن منيف . "مالي وهوية سياحية مثل هوية لاس فيغاس، او سان ستي في جنوب افريقيا. مدن فاقدة للتاريخ والتراكم. هويتي نتاج بيئة متكاملة تعكس تصرف مجموعة في ارض معينة ولا تكون نسخة جامدة من ارث بالي ومتخلف. كل المدن المتقدمة اليوم لها هوية معاصرة، باريس روما وسان بيتسبرغ وموسكو ومدن المانيا واليابان، لها هويتها المعاصرة والمتقدمة.
 
الثقافة الجديدة: أنت الآن تتحدث عن مدينة مثل بغداد لها سمك تاريخي وهوية معمارية متوارثةهل الهوية لازمة أيضًا لمدن حديثة توفر لسكانها سكنا حديثا ومريحا وبيئة عمل معقولة. ما ضرورة الهوية القديمة هنا؟
 
معاذ: نعود الى الجنّي، وهاجس الفريق العامل، في محاولة وضع مناهج لتطوير أرض الأجداد بغداد. ولبغداد وفرة من (الجان) توازي عدد محلاتها فهناك جنّي الكرخ وجنّي الرصافة، بالمناسبة، الفيلسوف الفرنسي باشلار سماه (روح المكان). ومن خلال دراسة الكرخ، كان من أولوياتي وأولوياتهم، معرفة هذا "الجني" فيها. العنوان العمران. ولكن الفضيلة تتحول إلى رذيلة حين نحسب إعادة البناء اعتماداً على جدواه الاقتصادية فقط ونفكر بالمردود دون الأصل. بغداد تستحق إعماراً لذاتها؟  الإعمار ليس (ألق  بغداد) ولا السياحة ولا الاستثمار. العمران هو العيش الكريم كحق مكتسب للإنسان. حين يكون إعمار نجف " توسعة تجارية" وتأهيل البصرة وقتياً لخليج 25 فهذا إعمار تمليه حاجات آنية. كيف تعمر مدينة في بلد وخط الفقر فيه يقارب 40٪ والأمية سائدة، ويسود فيه وعي مزور. هناك الكثير مأواهم زرايب في مقياس البشر، كثافة سكانية لا توفر الحشمة في نمط العيش والترعرع، هناك أطفال يقتاتون من المزابل. وما زال هناك من يفتخر بالتزامه بتقاليد متخلفة وبالية تعيق العمران والتمدن. المدينة التي ننشدها مدينة سعادة وراحة وانتاج. لا باطل فيها. في كتاب المعرفة "الجنيد" عبد الاله بن عرفة يذكر ألق بغداد، في صناعتها وتجارتها وكتبها وتراجمها لكتب الاغريق التي جلبها وفد بغدادي من بيزنطة. نعم، نعمّر عندما يكون عندنا تعليم وعندنا خدمات وحق الانسان في العيش الكريم، وهناك من يشعر بقيم انسانية غير متخلفة. نعم، نريدها مدينة قبل ان تكون حاضرة، توفر الحق الادنى. مقابل ذلك نجد مستثمرين جدد يصبون نحو الربحية والتسابق نحو المكسب الشخصي الاستثماري وكأن بغداد لا تستحق الرعاية. لو احصينا مفردة الاستثمار سنجد سماسرة عقار لا يعرفون ولا يهتمون بالنسق العمراني للمدينة أبداً. نعم يعرفون نسقا جديدا من أبراج تناطح السحاب، تنافس في المولات وابراج المصارف. الرعاية لا تقتصر على تحضير الرسوم والدراسات و المسوحات إن وجدت، وإنما على الإرادة والمشاركة والادامة. المساهمة في البناء والصيانة، وعندما أقول عمران لا أقصد الترقيع كهدف رئيس. شارع الرشيد مثلاً ليس كل بغداد. هناك دراسة وافية لمنطقة الكرخ. مقترح تخطيط مفصل، بـ 25 مشروع تعمير وحفاظ على صوب من المركز. وموجود في امانة العاصمة ونسخ منه في جامعات بغداد. مثال لم يذكره احد، مع العلم هناك تخطيط مفصل لمنطقة الشيخ معروف، يكمل مشاريع التنفيذ. سيدة في امانة العاصمة خبرتني ان الوثائق موجودة، لكنها في سلة المهملات. انا ارفض ان تفقد مدننا ألقها وتتشبه بمدن صدفة ولدت ناضجة متصنعة كونها مدن ملح، فاقدة الحشمة والألق. خوازيق تلغي احتضان دجلة الفذ المعطاء.
 
شارع حيفا
 
 الثقافة الجديدة: أنت كنت أحد المعنيين بشارع حيفا في بغداد. هل تعتبره مثالاً ايجابياً لهذا التوفيق؟ ماذا عن المحلات القديمة التي أزاحها هذا المشروع؟ 
 
معاذ: شارع حيفا تجربة ينبغي أن لا تكرر. السبب أنه تحصيل حاصل. دوري في انشاء شارع حيفا اقتصر على الترقيع، أي انقاذ الكرخ من التشويه. التخطيط الأساسي لمدينة بغداد المعمول به في حينه، كان ينص علـى كثافة سكانية بالهكتار عالية جدا. وما شيد قبل استدعائي، كان بدون تنسيق. ومن غير نسق حضري متكامل شيدت تسعة أبراج بارتفاع خمسة عشر طابقاً. عند استلامنا المشروع كان العمل مباشرا فيه ومُحال على مقاولين. ما قمنا به بداية جديدة، هو إيجاد معايير معمارية توحد الأبنية في نسق معماري ذي مقياس اقل عدائية وبمواد غير عكرة. والهم هو تقليل تشويه المنطقة. تشييد شارع حيفا قرار اتخذ في منتصف الخمسينات من قبل مجلس الاعمار. بدأ الهدم من منطقة (الست نفيسة) و(خضر الياس) عام 1955. من خلال المشروع فقدنا نسيجا فريدا غير موثق لمساجد وحمامات. بعد جهد تمكنّا من إيقاف التهديم وإنقاذ المدينة من كارثة تخطيطية. لذلك انيط بنا اجراء دراسة كاملة لمنطقة الكرخ. والكرخ هي منطقتي وأعرفها جيدا. قدمنا دراسة أحد اهدافها امتصاص الشرخ الحادث من جراء تشييد الشارع. نعم صُنف المشروع كشرخ في النسيج العمراني. لذا بعد الدراسة التفصيلية صدر مقترح التصميم الحضري المعد لأمانة العاصمة والموافق عليه بقانون ينص على الحفاظ على نسق معظم مناطق الكرخ واحيائها وتطويرها واقتراح مشاريع واستعمالات لتلافي تكرار ما حدث في انشاء حيفا، لكن القانون لم يطبق.
 
مثال الخليج
 
الثقافة الجديدة: هناك من يعتبر (الثورة (العمرانية في بلدان الخليج مثالا ووعدا بالتقدم. كيف تقيّم تجربة دبي وأبو ظبي مثلا؟
 
معاذ: عاصرت هذه (الثورة) من بدايات ولادة مدن الصدفة.. هذه التسمية موازية لخماسية الصديق )عبد الرحمن منيف)، مدن تولد بالصدفة وهي ناضجة خدمياً من جراء توفر مصدر تمويل أحفوري. هذه المدن أصبحت ظاهرة وتتوالد من دون معاناة مدينية تواجهها المدن من جراء نموها الطبيعي. مدن تولد خلال فترة قياسية ناضجة بدون ذكرى او تراكم. لا تحتاج الى ممول دائمي. جدواها الاقتصادية متوفرة، لكنها تفتقد الجهد الإنساني الذي يضيف طعماً للحياة. نمط الحياة في هذه المدن يقول بأن كل شيء يشترى ويباع بدون استثناء. من هنا تفتقد هذه المدن الاصالة في مشاركتها الفعالة في بناء التمدن الإنساني. مدن مشاركتها في التقليد الاعمى، لا تفوز بالجوائز وانما تعطي الجوائز. حتى أسماء المتاحف واللوحات تستعار من الأصل. منذ الستينيات عملت في الكويت ودبي والمنطقة. وعلى الرغم من اصالتها في حينه، وجدت من الصعوبة علي ان انتمي إليها، فلي متطلبات عيش متمدن لا توفرها. ربما الآن قد توفر بعض السعادة الاصطناعية. استبدل الزقاق، بمصعد وممر في الطابق العشرين، واستبدل السوق والبازار بمول تسويق ينفث وفرة صناعية في أيام الكرسمس وتحته عاملون اسيويون للتنظيف على طول النهار. المول أصبح كالحديقة العامة وبديلاً عن المكتبة. المشكلة الكبرى أنها، أي هذه المدن، أصبحت بأبراجها مثالا للتقدم. مسؤول كردي في أربيل، وهي مدينة عمرها آلاف السنين، يتمنى ان يحول أربيل إلى دبي ثانية. حقه في توفير الخدمات. ماذا عن تلافيف الزمن والتاريخ. هل من الممكن الآن أن تتنازل عن قلعتك الفذة على المستوى الإنساني.
 
المعماري محمد الأعسم مقيم في الخليج وهو أيضًا عاصر هذه الثورة العمرانية يعقب على ما قاله أستاذه معاذ الآلوسي:
 
محمد الأعسم: الهوية هي مجمل السمات التي تميّز شيئا عن غيره أو شخصا عن غيره أو مجموعة عن غيرها.. هذا ما تقوله (ويكيبيديا)، كل منها يحمل عدة عناصر في هويته. عناصر الهوية شيء متحرك ديناميكي، يمكن أن يبرز أحدها أو بعضها في مرحلة معينة، وبعضها الآخر في مرحلة أخرى. اذن ليست هناك هوية جيدة وهوية سيئة، وانما هناك هوية لكل شيء. ينطبق ذلك على مدن ودول الخليج التي تتغيّر هويتها بسرعة للأسباب التي ذكرها معاذ. هناك مدن تجاهد في الاحتفاظ بشيء من الهوية الاصلية مثل الرياض، وهناك مدن تحاول ذلك ولكن بدون فائدة، مثل ابو ظبي. اما دبي فلها خط مختلف تماماً.  دبي اقتنعت تماما، كما يظهر، بأن لها هوية جديدة وهي فخورة بذلك سواء احببنا هويتها الجديدة او كرهناها. لا اعلم ماذا يعطينا الحق في تصنيف المدن حسب هوياتها ما دام اهلها والمقيمون فيها وزوارها راضين بذلك .. لا تفهموني خطأ، فانا ضد هويتها الجديدة، ولكني مستعد للتعايش معها. اما كم ستصمد هويتها الجديدة؟ لا اود التفكير بذلك لان الجواب قد يكون مرعباً.
 
معاذ: رأي محترم. هناك هوية باطلة. مثل "غوثام "  الخيالية. حيث تزداد الجريمة والفسق. انا عشت في مدينة برازافيل في الكونغو، حيث كل شيء فيها يشي بعيش غير كريم. اغتصاب ونهب ودعارة. في اميركا وفي مناطق في شيكاغو ونيويورك ولوس انجلس لا يمكن المرور فيها الا بمعية البوليس تسمى Combat Zones. مناطق معرفة تنم عن الجنّي غير الصالح، الطالح. اليوم هناك مقاييس للمدن ومدى صلاحيتها للعيش الكريم. هلسنكي على راس القائمة.
 
(مسقط)
 
الثقافة الجديدة: سمعنا، استاذ معاذ، أنك تعتبر مدينة (مسقط) نموذجا للنجاح في التوفيق بين التراث والمعاصرة، هل، وكيف؟
 
معاذ: في منتصف سبعينات القرن الماضي، كلفت ومكتبي الحديث التأسيس في بيروت، بأول عمل في مسقط، وهو مبنى لوزارة المعارف في مسقط. أول ما فعلته هو الذهاب لاستكشاف النسق العُماني. فهو فريد وله حضور قوي. بلد خليجي له تاريخ موغل بالقدم، محافظ على التقاليد. كلفت من السلطنة بتصميم أبنية متعددة. ممارسة مهنية ممتعة تعوض عما فقدته في هجرتي. لذا كررت الزيارات، وتنوعت المشاريع. منها مدينة رياضية. صممتها مستلهما المنطقة، باستعمال خيام شبيهة بخيامنا. صممتها واشرف عليها زميل في مكتبنا "خطار الاتاسي"  بمساعدتي الدورية. ابنية قريبة الى قلبي، وازدادت قرباً بعد زيارتي الأخيرة. هذه الأبنية ما زالت شاخصة. جلست في ظلها: فندق مطرح في مطرح، البنك العربي في مسقط، سفارة دولة الامارات العربية المتحدة، جامع عبد الرضا السلطان، مكتبة الأوقاف، إسكان موظفي البنك العربي، المركز الثقافي في صلالة، البنك المركزي في صلالة.. هذه الأبنية صممت ومنذ البداية بنسق واضح يجمع بين عبقرية المكان وإرادة الباني. نسق يمليه البلد الاصيل، لا حديث النعمة. تركة واضحة لا خلاف معماري عليها، تخاطب بلغة غير دخيلة. نعم، ربما مسقط العاصمة الوحيدة التي لها الهوية المميزة. بعد اكثر من خمسين سنة أعود للمدينة واكتشف أن الجمع بين الأصالة والمعاصرة ممكن وجميل. مدينة حاضرة متطورة متقدمة، نظيفة ذات نسق موحد، هويتها التي اعرفها مؤكدة. واحتشام أهلها بخصوصية وهوية فذة واضحة. والاهم اصيلة بكل معنى الكلمة.
 
 
 
 
زها حديد
 
الثقافة الجديدة: لنقف أمام تجربة (زها حديد)، هناك من يعتبرها عمارة المستقبل، وهناك من يراها قفزة في الحداثة وبعضهم يعتبرها قفزة شكلية لا تهتم بالمحتوى الداخلي الذي يمس حاجات الانسان، أين تضعها أنت؟ لنأخذ البنك المركزي في بغداد مثالا؟
 
معاذ: أعتبرها ظاهرة شخصية تزول برحيل زهاء المبكر. اشبهها بالنجومية وأؤكد انها مستحقة لهذه النجومية. والسبب هو نمط عكس التيار، لا يتفق مع الهوى الإنساني في اكتساب الشخصية والتعريف عن الذات. زها لا تعترف بالنسق المديني لموقع عملها، ولا بالوظيفة او احتياجات الانسان. تعتمد على الصرحية والصدمة في التمتع بالمنجز. أعترف بها وافتخر كونها شخصية فذة حققت لنفسها ولعمارتها مكانة، ليست كحالة وانما كـ مودة. موقعها مهم في مسيرة الابداع الإنساني. مشكلتي معها اكاديمية. فتأثيرها بقدر ما هو ايجابي في اكسبو المدينة الحالي الاستثماري، هو سلبي في التعليم الأكاديمي، وذلك لسهولة اللعب بآلة ذات مفاتيح، مبرمجة بدون إحساس وشاعرية. وإخراج اشكال بارومترية. برامج بعيدة عن الحس المعماري. اتجاه اخر غيّر العمارة التي تخدم العيش الكريم وسعادة الانسان في الوصول الى المدينة الفاضلة. في بعض الاحيان تعمل هذه الظاهرة على التخريب في تشويه النسق المديني. تخريب أجمل شبه جزيرة يهديها دجلة لبغداد وذلك بنصب خازوق في وسط شبه الجزيرة.
 
الثقافة الجديدة: كما اتفقنا أحلت جوابك عن زها حديد للمهندس المعماري ( نعمان منى) وهو أحد العاملين في تنفيذ مشروع البنك المركزي: هذا كان جوابه:
 
نعمان منى: النقاش حول معنى العمارة والترابط بين الشكل والمتانة والفائدة )الوظيفة) مازال مستمراً وسيبقى كذلك مازالت هنالك حاجة للعمران على جميع اشكاله ووظائفه. واذا تجاوزنا هذا النقاش في الوقت الحالي فلا بد لنا ان ننظر الى جانب آخر من تجربة تصميم مبنى البنك المركزي العراقي كمبنى له وظيفة معينة وفي ظروف تستوجب مراعاتها وفي بقعة من العالم لها خصوصياتها من المنطلقات الأمنية والبيئية. لم يكن مكتب زها حديد المصمم الوحيد لهذا المبنى، ولم يكن تصميم المبنى جاهزاً لتلتحق بها المتطلبات الهندسية الأخرى. الفريق المصمم متكون من 12  مكتبا استشاريا، اضافة الى مكتب زها حديد، قدموا اكثر من 22 خدمة استشارية وهندسية متخصصة. كان الفريق يجتمع عموما كل أسبوعين للتنسيق بين المتطلبات والتصميم الأساس مما أدى الى تغيير وتنقيح التصاميم حسب المتطلبات التخصصية. يعتبر مبنى البنك المركزي العراقي بناية ذكية حصلت في التصميم على شهادة البيئة BREEAM من بريطانيا. درس المصممون حركة الشمس في العراق لسنة كاملة لتحديد اتجاه العاكساتFins . وكان لدراسة متطلبات البيئة المحلية انعكاسات عديدة على أسلوب البناء، كما كان للمتطلبات الأمنية تأثيرها على المبنى وحتى تقسيم محتوياته بين القاعدةPodium  والبرج Tower. كل الخدمات والنظم المصممة والاحتياجات الأمنية هي انعكاس لمتطلبات رب العمل، إضافة الى كونها مترابطة تؤثر وتتأثر بما يجري في المبنى لذلك اعتبرناها بناية ذكية. هذا الترابط احتاج الى دراسة أخرى Facilities Management  والتي حددت في استنتاجاتها متطلبات وكيفية إدارة الخدمات في المبنى والتي بدورها اثرت على تكامل التصاميم الخدمية والبيئية". نلاحظ أيضا ان تصاميم الهندسة المدنية Structure  اخذت، الى جانب المتطلبات الهندسية الأخرى، حقيقة تقارب خط الزلزال من الجانب الإيراني الى العراق وتاثيره خلال المائة سنة المقبلة. هذه مقتطفات قليلة لأسلوب اعداد مبنى متكامل تصميماً بين الشكل والمتانة والفائدة الوظيفية. وكانت الدراسة المكثفة لمتطلبات رب العمل ودراسة التجارب الأخرى مثل البنك المركزي في كنساس والبنك المركزي في الكويت والبنك المركزي الأوربي في فرانكفورت في قمة الدراسات واولها. لا بد أيضا ان ناخذ بعين الاعتبار ما حققه المبنى على ارض الواقع في العراق بعد الانعزال الكلي وتوقف النشاط العمراني من نهاية السبعينات من القرن الماضي والى الان. انها مدرسة تستحق الدراسة من قبل جميع المهتمين والمشاركين في التصاميم والتنفيذ. هذا ما جعل البنك المركزي هدفا للفرق المتخصصة التي تزور الموقع باستمرار للاطلاع على هذه التجربة الفريدة في العراق. إن تاثير تصاميم زها حديد واسعة عالمياً، خصوصا في الوسط الطلابي. هناك تجارب أخرى يمكن وصفها شكلية (تركيبة الشكل) مثلArt nouveau  او Art Deco  والتي مازلنا نتحسسها ونتأثر بها بصيغ متعددة بالرغم من انحسارها كحركات، لكنها أصبحت جزءا من التراث العمراني. كمثال اننا نجد الكثير من البيوت البغدادية مصممة بطرازArt Deco . لا يمكن الجزم باستمرارية طراز زها حديد الانسيابي ولكن اعتقد ان تأثيرها الإبداعي سيبقى لفترة طويلة.
 
معاذ: انا لا أقلل من قيمة البنك المركزي كمبنى. أنا أقلل من قيمته بلغة العمران. اي انه خارج نمط السياق. مبنى متسلط بعيد عن الانسانية والشاعرية، يخرب نسق رافديني. يدعو للاغتراب خارج المقياس العمراني. بناية منفردة تدعو وستنجح في تحويل بغداد الى مدينة ملح، ناكرة للتراكم الحضري. لا رومانسية في هذا الطرح. العمارة اسمى من ان تكون مجرد بناء ذي تقنية عالية. اين الانسان؟ نحن نتعامل مع بشر وليس الحجر فقط.
 
 
الفن والعمارة
 
الثقافة الجديدة: ما رأيك بالفكرة التي طرحتها جماعة الباو هاوس  Bau Hous حول الجمع بين الفن والحرفة خاصة في العمارة؟
 
معاذ: هذه التجربة فات زمانها. المفروض أن المعمار على معرفة بالحرفة، وللحرفة ناسها. تعلمت كثيراً من أمور البناء من الأسطوات. وكتبت ذلك من الدرس الاول في الطابوق والنجارة، وكيف تورمت عيني من جراء اللحيم. في المدارس الانكليزية، وبعد فشل "مدارس  الگرامر"  اتاحوا الفرصة للطلبة للتطبيق في ورش للعمل. عند الألمان هناك سنتان للتدريب قبل الدراسة في حقل البناء، وكذلك المدارس التكنيكية. مثل مدرستي، الصيف العملي مطلوب في كل سنة. اي أن السنة ثلاث سمسترات الصيف عملي. بعض الالمام بالفن والمشاركة بين الإثنين ضرورية، وكلما زادت المعرفة من الإثنين كان الناتج أوفق.
 
الضروري والمقدّس
 
الثقافة الجديدة: تجري حالياً عملية تجريف واسعة للمحلات القديمة التي تحيط بالمرقد العلوي في النجف وتصلنا احتجاجات واسعة من سكان المدينة. الصراع يدور هناك بين الضروري والمقدس، كيف تنظر لهذا الموضوع؟
 
معاذ:عندما يجتمع الجهل والجشع لا يبقى مقدس ولا ضروري، ولا تبقى قيم ولا تقاليد. وعندما يصبح المردود المالي والاستثمار هو الأساس يصبح القرار بيد حديثي النعمة الجهلة والمتعجلين على الخمط. لهذا لا تهمهم قدسية المكان ولا أصالة المدينة. الهوية الجديدة المتحركةً هي اللا هوية. مدينة لقيطة لا تمت للتراكم ولا تتناغم من الذات. هذا ينعكس على تصرف البشر. كما يحدث لبغداد ولمدن الخليج.
 
بغداد ليست شارع الرشيد وحسب
 
الثقافة الجديدة: في بغداد شهدنا مثل هذا الصراع حول المركز الحضري للمدينة وشارع الرشيد بالتحديد. الأبنية التاريخية القديمة تتداعى بدون صيانة وتنزرع بنايات حديثة بلا هوية.. ما هي مهمات الدولة للتخطيط، ومن عليها أن تستشير لوضع الخطط؟
 
معاذ: ما يؤلمني هو اختصار العمران في بغداد على تأهيل شارع الرشيد او المتنبي وما يقارب 40% من الشعب العراقي تحت خط الفقر. هناك بالمقابل مشاريع تخريب مستقبلية استثمارية معزولة، في حين ان هذه المدينة تستحق صيانتها والحفاظ على نسقها الذي هو ترٍكة عالمية.. كم مدينة مشابهة لبغداد بتاريخها الحضاري الغني"، بغداد معروضة للاستثمار من قبل سماسرة أراض بنسب من القيمة. هذا المستثمر الجديد يشوه النسق المديني. كما حدث في شارع حيفا عندما أصرّ المستثمر على ان لا يتبع نسق الشارع العام. الإنشاء ضمن رواق ومطار المثنى يتحول الى مشروع استثماري إسكان بوابة بغداد المسخ .الرعاية لا تقتصر على تحضير الرسوم والدراسات و المسوحات إن وجدت، و إنما في الارادة والمشاركة والادامة، في الرغبة في العيش الكريم غير المتخلف. المساهمة في البناء والصيانة، يجب ان لا يكون الترقيع كهدف رئيس. شارع الرشيد ليس كل بغداد. ولا المنطقة المركزية" ولا شارع أبو النواس. المشكلةً هي أن أصحاب القرار في العراق تركوا الأمر بيد حديثي النعمة الذين لا يهتمون فكريا وروحيا بهذا البلد العريق مهد الحضارة.
 
 
معاذ الالوسي معماري وفنان عراقي من مواليد 1938، حائز على بكالوريوس هندسة معمارية 1961 من جامعة الشرق الأوسط التقنية في انقرة، وعلى دبلوم اختصاص أبنية تعليمية في المناطق الاستوائية، في 1964، من مدرسة رابطة المعماريين في المملكة المتحدة. تدرب في المانيا الاتحادية. عمل مع الجادرجي، ومن مؤسسي الاستشاري العراقي. له خبرة تفوق النصف قرن في ممارسة العمارة والتخطيط في انحاء الشرق الاوسط وارمينيا وافريقيا وقبرص.
أكاديميا، عمل كمحاضر وممتحن في الجامعة التكنولوجية في بغداد، وزائرا في جامعات عدة. في الوطن العربي. له بحوث في العمارة المحلية والإسلامية. وساهم في إصدار منشورات ودوريات معمارية.
حائز على جائزة تمييز للإنجاز المعماري مدى الحياة. من مؤلفاته “ نوستوس”  حكاية شارع في بغداد،  "توبوس "حكاية زمان ومكان" .ذروموس" حكاية مهنة، سرد بصري لمعمار عربي. خواطر في زمن الكورونا ـ رسائل معمارية الى وجدان نعمان ماهر وكتاب "ما تبقى". وله بحوث في عمارة المنطقة والهوية المعمارية. اقام في أوروبا ومدن الشرق الاوسط معارض في الرسم والتصوير. سكن في بغداد وانقرة وبيروت واثينا وفرانكفورت. مقيم حاليا في قبرص.