تولد الديوانية العراق، عام 1972. دكتوراه كلية الآداب جامعة الإسكندرية - مصر 2018. ماجستير في الانثروبولوجيا، كلية الآداب جامعة بغداد 2011. عضو مجلس أدارة مركز "رواق بغداد للسياسات العامة"، ورئيس تحرير مجلته "الرواق". من أبرز انتاجاته الفكرية كتاب "الايقونة الشيعية-2011"، بالإضافة الى العديد من الأوراق البحثية.
الثقافة الجديدة: تمرُّ العلوم الاجتماعية والإنسانية في العراق بأزمة منهجية ومعرفية عميقة. فهل الباحث العراقي في هذه المجالات قادر على الإنتاج المعرفي في ظل شح المعطيات الحالية؟ أين تكمن المشكلة بالضبط؟
د. علاء: تأسست العلوم الاجتماعية في العراق بعد ظهور الدولة الوطنية، وهذا يقودنا نحو التساؤل عن دواعي هذا التأسيس، وهل جاء ضمن سياق الحاجة أو لبناء تخصصات تقوم بوظيفة البحث والتحليل لكي توفر رؤية ودراية لمن هو في السلطة. ثم أن العلوم الاجتماعية لم تخرج من تأثير السلطة وتوجهاتها في أحايين كثيرة، بل كانت توظف لكي تدعم هذه التوجهات. ومن جانب آخر بقيت هذه العلوم واختصاصاتها مرتبطة بنشاط أفراد معينين والمثال البارز حينما نذكر علم الاجتماع سوف يتبادر الى أذهاننا الدكتور علي الوردي، وكذا الحال ينطبق على بقية الاختصاصات. وهذا الامر يؤشر خللا في عمل ووظيفة هذه الاختصاصات، فالاكتفاء بالأشخاص على حساب الاختصاص يكشف عن انفصال ما بين المعرفة والبحث في العلوم الاجتماعية والمجتمع. فحين يغيب الشخص المعبر عن مجال معين في العلوم الاجتماعية هذا يتوقف حضور هذا المجال. الباحث العراقي بالعلوم الاجتماعية أنه يعمل بشكل ذاتي وشخصي وبعيد جدا عن أي جانب مؤسسي، هو من يعمل على بناء موضوعه البحثي وتوفير مصادره والتكفل بمتطلبات البحث المادية والمعنوية، وفي الوقت نفسه يكشف عن قابليات الباحثين وإمكانياتهم المعنوية والمادية.
الشحّة والانقطاع
كذلك تقع العلوم الاجتماعية في أدنى سلم الاهتمام الحكومي والاجتماعي. وهناك أعداد غير قليلة من الباحثين في مجال العلوم الاجتماعية، ولكن على المستوى النوعي نواجه شحة وقلة. فضلا عن ذلك هناك في حالة شبه انقطاع عن التطورات المعرفية والمنهجية في العلوم الاجتماعية في العالم. لعلي لا أبالغ اذا قلت ان نمط المعرفة الاجتماعية في العراق يكاد يتوقف عند مرحلة الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي. لذلك أخذت هذه العلوم وتدريسها في حالة اشبه بالانفصال عن السياق الاجتماعي العام. فحين نبحث عن تأثير ما يكتب من بحوث ودراسات عن فهم وتحليل المجتمع العراقي قد لا نجد الكثير، بل هناك قلة وتكاد تنحصر بعدد معين من الباحثين الذين عملوا على بناء قدراتهم البحثية والمنهجية بشكل ذاتي؛ فمثلا حين نرصد صلة نتاجات هذه العلوم بقضايا المجتمع العراقي ماذا نجد؟ لقد دخلنا في مسار كمي مع القليل النوعي، وهذا يظهر أننا حولنا العلوم الاجتماعية الى عمل وظيفي، الغاية من دراستها هي الحصول على عمل حكومي أو أهلي إنْ وجد.
وحين نفحص سياقات البحث الاجتماعي في العراق لاسيما بعد 2003 نكتشف أننا أمام غياب شبه تام لهذه السياقات العلمية؛ فعندما نسأل: كيف يقوم الباحث ببحثه؟ ولمن يعده؟ وهل هناك مؤسسات أكاديمية ترعى البحوث الاجتماعية؟ كل ما تقدمه الأكاديمية الحكومية هو ثلاثة أنواع من البحوث: بحث التخرج، رسالة الماجستير، أطروحة الدكتوراه. وهنا نصطدم بكمية ما ينتج من بحوث اجتماعية وبمستوى ارتباطها بما يجري في المجتمع العراقي من قضايا وظواهر اجتماعية. من جانب آخر نجد ان اغلب منجزات العلوم الاجتماعية في العراق هي في مرحلة الستينيات والسبعينيات. اغلب ما كتب وألف في هاتين المرحلتين وما بعدهما تكرس للتأليف في المجال الأكاديمي التعليمي. علماً أن العلوم الاجتماعية منذ بداية تأسيسها كانت واقعة تحت تأثير التوجه البريطاني ثم التوجه المصري الذي هو في الأساس اخذ من البريطاني المنهجية واختيار الموضوعات، ولهذا نلاحظ طغيان التوجه البنائي الوظيفي، وهذا التوجه حدد اختيار الموضوعات مسبقا.
حتى الآن نجد ان العلوم الاجتماعية في العراق لم تحدد هويتها العلمية والمعرفية. في مرحلة التسعينيات اخذت هذه العلوم تغادر نوعا ما التوجه البريطاني والمصري وتتجه صوب التوجه الأميركي في اختيار الموضوعات والمنهجية، ولهذا أخذت تظهر موضوعات الإثنية والجماعات الثقافية والاجتماعية وليس كما كان سابقا من تركز على القرى والتقاليد الاجتماعية. تعزز بعد 2003 هذا التوجه، وبات يشبه في تأثير التوجه البريطاني وكأن هناك إعادة معكوسة لما كان يجري في الثمانينيات من القرن العشرين. كما تعاني العلوم الاجتماعية في العراق من غياب التخصصات الدقيقة في مجالاتها بمعنى ليس هناك متخصص في النظرية الاجتماعية أو في علم المنهجيات او الحركات الاجتماعية.. تاريخ العلوم الاجتماعية في العراق يبدأ من الجامعة وينتهي الى السلطة السياسية والعكس صحيح لا سيما في مرحلة استيلاء البعث على الحكم. ولهذا أصبحت الأيديولوجيا البعثية هي الموجه النظري والمعرفي لما يكتب في هذا العلوم الاجتماعية او بمعنى آخر هي إطار معرفي حاضر وضاغط على البحث الاجتماعي. وإذا عمل الباحث على تجنب (الأيديولوجيا) البعثية يتحتم عليه ان لا يصل إلى نتائج تخالف مقولاتها. نحن أمام ميراث لم يراجع وينتقد في مبانيه وتأثيراته. هناك تصفير لأي تراكم حصلت عليه العلوم الاجتماعية منذ تأسيسها وحتى الآن وهذا يضعنا مرة أخرى أمام السؤال عن دور ووظيفة هذا العلوم في فهم وتحليل ما يمر به المجتمع العراقي. وقد لا يقبل بعض المتخصصين بالعلوم الاجتماعية بهذا التشخيص. العلوم الاجتماعية في العراق أنتجت جزءا من النقد والمعرفة على مستوى فردي لا سيما منذ أواخر التسعينيات ثم أخذت تنمو بعد 2003، ولكنها بقيت فردية ولا ترقى إلى مستوى تكوين توجه معرفي داخل هذه العلوم.
أزمة ما بعد 2003
الثقافة الجديدة: كيف لنا اليوم أن نحدد ما تغير في العلوم الاجتماعية قبل وبعد 2003؟
د. علاء: المتغير الأساسي ضمور الأيديولوجيا وتحولها الى نموذج آخر يقترب من نموذج سياسات الهوية. منذ سبعينيات القرن الماضي باتت العلوم الاجتماعية (في العالم) تسير نحو التكامل وتساند في المعرفة والفهم والتحليل، فالباحث في هذه العلوم عليه ان يطلع على ما يطرح في بقية التخصصات المجاورة لاختصاصه، فما تتم صياغته في الفلسفة سوف يؤثر على الاجتماع والأنثروبولوجيا وبقية التخصصات، لان العلوم تحتاج الى نموذج معرفي (براديم) تكوّن من خلاله منهجها ومقاربتها العلمية، لو أخذنا هذا الكلام وفحصنا به العلوم الاجتماعية في العراق هل نجد نموذجا معرفيا واضحا يؤطر توجهاتها البحثية؟ المفارقة ان هذه العلوم ظلت رهينة في بناء منهجيتها وتوجهها المعرفي إلى ثلاثة عوامل هي: السلطة، البنية الأكاديمية من أساتذة ومواد، ووعي الباحث الدارس لهذه العلوم.
المدخل الأنثروبولوجي
الثقافة الجديدة: يرى بعض المهتمين، ان واقعا معقدا ومتشابكا، كما هو حال المجتمع العراقي حاليا، بحاجة الى مقاربات منهجية مركبة ومتكاملة، تعمل معا على وصفه، وتحدد سماته ومعالمه الرئيسية. هل يمكن للمدخل الأنثروبولوجي وحده ان يكون قادراً على المساهمة في هذه المنهجية المركبة؟
د. علاء: ربما نقارب هذا السؤال من زاوية أخرى، هي اننا في بحث مستمر عن توصيف المجتمع العراقي اجتماعيا وثقافيا، عندما نتملك هذا التوصيف نستطيع حينها تعيين المنهجية المناسبة. منذ سبعينيات القرن الماضي اخذ البحث عن انثروبولوجيا تناسب المجتمعات التي لم تصل الى مرحلة التضامن الميكانيكي، الذي يكون فيه الفرد أساسا في العمل والتفاعل. ولهذا اخذت تزدهر أنثروبولوجيا التنمية التي تبحث عن فهم أسباب عدم تطور تلك المجتمعات. في العراق لم يكن التطور والتنمية هاجسا اجتماعيا وعلميا، انما ارتبط بطبيعة السلطة ونظرتها للمجتمع العراقي. ربما نحن بحاجة أولا لفهم طبيعة العلوم الاجتماعية في العراق ثم بعد ذلك نعمل على توفير المنهجية التي تناسب دراسة الواقع العراقي. هناك تأثر بمنهجيات سائدة عالمياً في فترات معينة. وهذا يجعلنا نتساءل هل كانت تلك التوجهات تناسب طبيعة المجتمع العراقي، وما ظهر فيه من قضايا اجتماعية بحثت وكُتب عنها.
في الانثروبولوجيا طرح مفهوم (الوحدة النفسية) الذي يشير الى ان البشر متشابهون في سلوكياتهم وردود فعلهم تجاه ما يواجهون من مشاكل وتغيرات. لقد قدمت الأنثروبولوجيا هذا المفهوم لكي تعالج الاختلافات الاجتماعية التي تتطلب منهجيات تناسب هذا الاختلاف. صحيح ان البشر متشابهون ولكنهم يختلفون في معنى ودلالة القيم التي يحملون ويمارسون حيث نكتشف ان السياق الذي يجري فيه تمثل وممارسة هذه القيم يختلف عن السياق عند مجتمعات أخرى. على سبيل المثال ان القيم والتقاليد الاجتماعية في المجتمعات الغربية في أغلبها تصنعها وتشكلها الدولة في حين تتعدد المؤثرات في المجتمعات العربية والإسلامية: الأسرة، العشيرة، الطائفة، الجماعة الاثنية، الميراث الاجتماعي... ويكون للدولة دور ضئيل في هذا الجانب. ان هذا يعقد توفير المنهجية المناسبة لدراسة المجتمع العراقي. ما تقدمه الأنثروبولوجيا في معالجة هذا العائق يحتم على الباحث حينما يدرس قضية اجتماعية ان يدرسها ضمن ميدان اجتماعي محدد. بمعنى آخر مكان معين يقيم فيه الباحث لمدة زمنية معينة، لا تقل عن عام كامل لكي يواكب الفعاليات التي تحدث مرة واحدة في السنة، وهذا الاشتراط العلمي يدفع الباحث الى الاحتكاك والتعرف إلى المجتمع المبحوث. ان العلاقة بين صياغة توصيف اجتماعي علمي للمجتمع العراقي واختيار المنهجية العلمية الملائمة لدراسة هذا المجتمع يعود الى الصلة العلمية الحيوية في العلوم الاجتماعية بين نوع الموضوع المدروس والمنهج المختار. الموضوع هو من يحدد اختيار المنهج. ولو نقلنا هذا الامر الى المجتمع العراقي كموضوع للدراسة، هل لدينا توصيف اجتماعي علمي للمجتمع العراقي، هل هو مجتمع قبلي عشائري او مذهبي طائفي او قومي إثني. حين نراجع أهم دراستين كتبتا عن المجتمع العراقي (لمحات اجتماعية لعلي الوردي، ودراسة حنا بطاطو) نجد في الأولى انها اعتمدت على المادة التاريخية والوصف الاجتماعي. وفي الثانية عمل بطاطو بجهد علمي غير مسبوق على صياغة توصيف أولي للمجتمع العراقي من خلال خلق تصنيفات اجتماعية مقاربة للواقع العراقي. في هاتين الدراستين نلاحظ أن مشكلة وصف المجتمع العراقي ما زالت حاضرة وتمثل تحديا علميا. في قضية المنهج الذي افهمه أننا بحاجة الى الانتقال من قضية المنهج الى المقاربة، والتي تعنى ان الباحث بعد اطلاعه الميداني والمعرفي على القضية الاجتماعية التي يريد بحثها، يعمل على بناء مقاربة علمية من خلال فكرة او مفهوم يقوم بتكوينه، وهنا قد يرد سؤال: والمنهج كيف نتعامل معه؟ حينما نعطي الأولوية للمقاربة التي لا تكون ضمن شكل علمي ثابت، وانما هي متحركة مع فهم ووعي الباحث بالموضوع الذي يدرسه يصبح المنهج نتاج هذه المقاربة. عندما نطبق نفس المنهج على دراستين مختلفتين أظن اننا سوف نصل الى نتائج متشابهة على ضوء ثبات المنهج وتغير الموضوع، ولكن حينما نعتمد على المقاربة لا نصل الى نفس النتائج لأنها – المقاربة – مرتبطة بقدرة الباحث وفهمه وإمكانياته العلمية. ونلاحظ ان تطبيق المنهج في الدراسات الاجتماعية يصبح ممارسة ميكانيكية وتحصيل حاصل، على العكس من المقاربة التي هي في تغير وتبلور مستمر حسب مدى استيعاب الباحث لموضوعه وقدراته الذهنية والعلمية. وهنا اشير الى ما قام به الأنثروبولوجي الأميركي المعروف كيلفورد غيرتز حينما اخذ من الفلسفة مفهوم (الوصف المكثف) والذي بات مقاربة أساسية في دراساته الحقلية ثم اصبح هذا المفهوم حاضرا في اغلب الدراسات الأنثروبولوجية.
التشكل والتفتت
في العراق هناك معضلة نواجهها منذ ثلاثينيات القرن الماضي وهي أننا نمر بعملية تشكل ثم ندخل بعد مدة بعملية تفتت. ولدينا شبه بناءات مستمرة لغاية اليوم (العشيرة – الطائفة – القومية). وفي داخل هذه البناءات هناك تغيرات وعدم استقرار عند شكل اجتماعي محدد، ماذا يعني هذا وجود شكل اجتماعي واضح، ولكن بمضمون اجتماعي متغير. وهذا يشير الى اننا نصل الى مرحلة التناقض بين الشكل الاجتماعي الواضح والمضمون الاجتماعي المتغير. ولدينا مثال على ذلك: في سبعينيات القرن الماضي عملت الدولة على تحجيم العشيرة والتضييق على دورها الاجتماعي داخل المجتمع العراقي من خلال ابدالها بالحزب كشكل اجتماعي واضح وبمضمون ثابت، ثم جاءت الدولة في تسعينيات القرن الماضي لتعيد إحياء العشيرة ودورها الاجتماعي. ان التشكل والتفتت جعلانا نقع في دوامة البحث عن توصيف اجتماعي محدد للمجتمع العراقي. قد تفسر هذه الإشكالية هيمنة توصيفات الوردي الثلاث (ازدواجية الشخصية، التناشز الاجتماعي، صراع البداوة والحضارة) لأنها تحسم لنا جدل البحث عن توصيف اجتماعي للعراق ومجتمعه، وفي الوقت نفسه تكشف عن عدم مبادرة الباحثين في العلوم الاجتماعية الى مراجعة هذه التوصيفات الثلاث ومدى انطباقها على الواقع الاجتماعي العراقي. ان قضية المنهجية في دراسة المجتمع العراقي تبقى معلقة وغير محسومة لأسباب عدة منها واقع العلوم الاجتماعية وفاعليتها في صياغة التصورات والفهم عما يجري في العراق، نظرة السلطة لهذه العلوم، وعي المتخصصين بالعلوم الاجتماعية بما يحصل فيها من تطورات وتحولات علمية ومنهجية، البنية الاكاديمية العراقية وما توفره من إمكانات للباحثين. تعمق هذا الاشكال بعد 2003 وأعني تعيين المنهجية المناسبة لدراسة المجتمع العراقي؛ اذ دخلت هذه العلوم في عملية ركود غير ملحوظة وبات عدد قليل من الباحثين النشطين يعبرون عن حضور هذه العلوم، حيث اخذوا على عاتقهم بناء قدراتهم العلمية والبحثية. ان العلوم الاجتماعية في العراق مرت بقطعية معرفية منذ ثمانينيات القرن الماضي مع ما تشهد العلوم الاجتماعية في العالم من تطور وتغير معرفي، فضلا عن ذلك قلة الوسائل العلمية المعرفية (مجلات متخصصة ، مؤتمرات ، ترجمات) التي تفرض على الباحث المتابعة والتطور. وكما ذكرت أعلاه ان القضية باتت مرهونة بجهد بعض الباحثين الذين عملوا على تنمية قدرات البحثية ومتابعة تطورات العلوم الاجتماعية في خارج العراق.
الأنثروبولوجيا كعلم يمتلك العديد من السمات العملية التي تمنحه قدرة عالية وليست مطلقة على فهم وتحليل القضايا الاجتماعية. أولى هذه السمات البحث الميداني. اما الاعتماد على المدخل الانثروبولوجي منفرداً في تحقيق اختراق شامل لقضايا المجتمع العراقي، فهذا امر فيه الكثير من التأمل وإعادة النظر. في العراق هناك ثلاث قضايا لها الأولوية في البحث والدراسة وهي (الاجتماعي، التاريخي، السياسي). هذا الثلاثي يمثل المساحة البحثية المطلوب التصدي لها علمياً وبحثياً. فالأمر يتطلب تعدد المداخل العلمية والمعرفية. منذ سبعينيات القرن الماضي بدأ تداخل العلوم الاجتماعية والذي يعني أن هناك نقطة اشتراك معرفية ومنهجية بين هذه العلوم حيث تجعل منها رافداً لدراسة أي قضية اجتماعية، فحين يريد الانثروبولوجي دراسة السلطة عند جماعة معينة فإنه سيحتاج العودة الى الجانب النفسي والاقتصادي والتاريخي وحتى الجغرافي لكي يحلل قضية السلطة وتمثلاتها. وهذا يمكّن من صياغة منظور واسع يمنح البحث القدرة على جمع معطيات تكوّن السمات العلمية لهذه القضية. على الرغم من بروز بعض التخصصات الاجتماعية في العراق، الا أنها ما زالت تعمل في جزر منفصلة. فالذي تتم دراسته في الفلسفة او علم النفس لا يعلم به المتخصص بالأنثروبولوجيا والاجتماع والعكس صحيح. وإذا حصل هذا العلم سيكون عن طريق فردي عبر الصلات القائمة بين الباحثين في هذه المجالات. هذا يؤكد مرة أخرى أن سمات البحث الاجتماعي في العراق فردية ذاتية، يقوم بها الباحثون على عاتقهم دون أي سياق مؤسسي او أكاديمي.
المشكلة الإثنيّة
بعد 2003 ظهر المجتمع العراقي عند لحظة تغير مختلفة تحمل الكثير من المشاكل الاجتماعية التي لم تكن مدروسة سابقا. أبرزها المشاكل الاثنية والمذهبية التي تتطلب دراستها عبر المدخل الانثروبولوجي. لا سيما ان المدخل الانثروبولوجي يولي أهمية لدراسة الجانب الثقافي وكيف يؤثر على السلوك الاجتماعي. هذا لم يكن مدروسا في العراق. اذ كانت الدراسات التاريخية والسياسية تحتل الصدارة. منذ دراسة شاكر مصطفى سليم لمنطقة الجبايش التي تمثل منطلق الدراسات الأنثروبولوجية المحلية، اذ سبقتها دراسات أنثروبولوجية غربية، والانثروبولوجيا في العراق تسعى لتكون مدخلا علميا ومعرفيا فاعلا في تحليل المجتمع العراقي. الانثروبولوجيا تقدم تخصصات واسعة تعمل على انتاج منظور متكامل. ولهذا تتعامل مع الانقسام الاجتماعي كموضوع تهتم به عبر رصد الصراع الاثني والعرقي. اما قضية التمايز الطبقي وكيفية دراسته فهناك الانثروبولوجيا الماركسية التي اعتمدت على مقاربات الماركسية الجديدة التي تسعى لفهم المادية التاريخية عبر منظور ثقافي واجتماعي. لقد استطاعت الأنثروبولوجيا كمجال واسع يستوعب التداخل بين العلوم الاجتماعية ان تقدم مقاربات تفسر وتحلل هذه القضايا التي وضعتها كتحد علمي. اما قضية السلطة وكيفية دراستها فان الانثروبولوجيا السياسية استطاعت ان ترصد نشوء السلطة داخل أي جماعة اجتماعية من الأسفل وصولا الى تمظهرها على شكل دولة ونظام ومؤسسات. دراسة المجتمع عن طريق المدخل الانثروبولوجي تتناسب بشكل كبير مع بنية هذا المجتمع. التساؤل الذي ما زال حاضرا: كيف ندرس المجتمع العراقي بعد كل هذه المتغيرات التي مر بها؟ كما ذكرت سابقا كان للدراسات التاريخية الحضور الأبرز في هذا الجانب ثم تأتي بعدها الدراسات السياسية، ولكن هذا الامر لم يحقق الوصول الى فهم علمي وعملي يجعلنا نصل الى تصور واضح عما أصاب المجتمع العراقي من أزمات وتحولات اعاقت انجاز نظام سياسي مستقر ومجتمع يمتلك سمات اجتماعية مشتركة تضعه في دائرة واحدة من التعاضد والتساند. يبقى المدخل الانثروبولوجي الأقرب لمعرفة اتجاهات التغير الاجتماعي والقيمي والسياسي. لو عدنا الى مراجعة ما طرحته حول فهم آليات الانقسام المجتمعي أفقياً، أولا ما المقصود بهذا المفهوم هل هو الانقسام على مستوى المجتمع كله او الانقسام على مستوى الجماعات والقوى الاجتماعية؟ نحتاج الى تحليل علاقة الفرد بالمجتمع او الفرد بالجماعة التي ينتمي إليها ونحن هنا امام وحدتين اجتماعيتين "الجماعة، المجتمع" في العراق لا يزال الجدل العلمي حول مدى تحقق مفهوم المجتمع مستمرا حتى الان. لكن معنى الجماعة واضح ومتحقق وبذلك تصبح الانثروبولوجيا هي المدخل الأنسب لدراسة هذا الوجود الاجتماعي، لأنها تهتم بالجماعات والثقافات. حينما نعاين متطلبات الدراسة الأنثروبولوجية نجد انها تعتمد على ثلاثة أسس "موضوع، ميدان، تساؤلات" وهذا يعني ان الباحث الانثروبولوجي لا يذهب الى ميدان دراسته وهو يحمل نموذجا او إطارا علميا ومعرفيا ثابتا في ذهنه، وانما هناك تساؤلات يضعها الباحث الانثروبولوجي ويذهب بها الى الميدان. وفي الميدان قد يغير هذه التساؤلات. منذ اندلاع الصراع الأهلي في العراق 2006- 2008 ولغاية اليوم ونحن نعاني غياب التفسير العلمي الذي يبين أسباب قيام هذا الصراع، الحاضر في تفسيره العامل التاريخي والسياسي، ويغيب الكثير من العوامل التي يستطيع المدخل الانثروبولوجي اكتشافها، لان في اعتماد العاملين التاريخي والسياسي سوف نكوّن نظرة من فوق ولا ننتبه الى عوامل أخرى من قبيل "نمط الشخصية الاجتماعية، تأثير الجماعة على سلوك الفرد، البيئة الاجتماعية .... الخ". حينما نعود مرة أخرى لمعاينة متطلبات دراسة المجتمع العراقي وما فيه من قضايا ومشاكل اجتماعية نرى ان اغلبها بحاجة الى استخدام المدخل الانثروبولوجي لكي نتمكن من بحثها وتحليلها، فضلا عن ذلك، تتطلب بعض الموضوعات الاجتماعية توظيف المدخل الانثروبولوجي مثل دراسة اللهجات المحلية التي تمارسها الجماعات الاثنية والقومية، اذ بدراستها عبر هذا المدخل نكتشف التمايز الطبقي والمناطقي والاجتماعي؛ فمن خلال فهم اللهجة المحلية المستخدمة نحلل التصورات الاجتماعية التي تحملها الجماعة عن المجتمع والسلطة والعلاقات الاجتماعية. لقد اهتمت الدراسات الأنثروبولوجية التي قام بها باحثون غربيون باللهجات المحلية لأنها كاشفة عن الكثير من السمات الاجتماعية والثقافية التي تحدد نمط الشخصية الاجتماعية. مع كل هذا الذي قدمته عن المدخل الانثروبولوجي وامكانياته العلمية والمنهجية تظل دراسة المجتمع تستلزم أكثر من مدخل علمي، لان لكل مدخل حدوده المعرفية. ذكرت سابقا اننا نواجه تحديا علميا يدور حول تعريف المجتمع العراقي وما فيه من تشكيلات اجتماعية تحدد السمات الاجتماعية له. واظن أن الانثروبولوجيا كتخصص علمي لديها الامكانية لتقديم هذا التعريف؛ اذ تقوم على توجهين علميين هما "البناء الاجتماعي، التنظيم الاجتماعي"، اللذان يحددان نمط الموضوع المبحوث. وهنا نحتاج لأن نعين هل المجتمع العراقي قائم على البناء الاجتماعي او على التنظيم الاجتماعي؟
السلطة والمجتمع
الثقافة الجديدة: خلال دراستك الواقع العراقي، وأنتم ذلك المختص في مجال الاثنيات والقوميات، كانت لكم أكثر من مساهمة، تشرح فيها العلاقة بين السلطة و"اللاستقرار" السياسي وتفكك النسيج الاجتماعي والثقافي العراقيين. ماهي رؤيتكم لطبيعة المجتمع العراقي الحالية ارتباطا بواقع السلطة السياسية التي نشأت بعد 2003؟
د. علاء: يمثل التعريف بطبيعة المجتمع العراقي بعد 2003 تحديا علميا، وفي الوقت نفسه غاية معرفية وبحثية من أجل فهم التحولات التي يمر بها هذا المجتمع، لا سيما السياسية والاجتماعية. هناك انتقال وتحول كبير يمر به المجتمع العراقي وعلى مستويات واسعة من قيم وسلوك وقناعات، ولهذا اخذنا نشهد دخول المجتمع في تناقض وصراع اجتماعي مختلف عن السابق. تاريخياً للسلطة دور حيوي في تشكيل المجتمع وصياغة ملامحه، اذ منذ 1921 والمجتمع بدأت تتشكل سماته الاجتماعية اما عبر تدخل السلطة وادواتها السياسية او من خلال التقاطع والصراع مع السلطة. يشير هذا التوصيف الى ان تحليل السلطة في العراق يسهم بشكل فاعل في معرفة وفهم المجتمع والعكس صحيح. بعد تأسيس النظام السياسي عام 1921 رافقه جدل علمي ذو ابعاد اجتماعية وسياسية حول مدى تحقق معنى ومفهوم المجتمع في العراق. بمعنى آخر هل نحن امام مجتمع يحمل سمات اجتماعية مشتركة، او إن ما يوجد لدينا في العراق جماعات اجتماعية تعيش على رقعة جغرافية واحدة. ظل هذا الجدل يرتفع ويضمر حسب المرحلة السياسية التي يمر بها العراق، والمرحلة الأبرز في ارتفاع هذا الجدل كانت في تسعينيات القرن الماضي بعد قيام عدة احداث مفصلية في الوضع العراقي آنذاك (غزو الكويت، انتفاضة 1991، الحصار الاقتصادي) المتتبع لتاريخ العراق الاجتماعي والسياسي يلمس ان هذا الجدل كامن في اغلب التصورات التي تتصدى لفهم العراق مجتمعا ودولة. بعد 2003 تغيرت الكثير من العوامل التي اتاحت قراءة المجتمع ووفرت وسائل تحليله، حيث خرج عامل السلطة من دائرة النفوذ والتأثير على المجتمع، ودخلت عوامل جديدة غير معهودة سابقا. كان الصراع الاجتماعي يدور بين التكوينات الاجتماعية والسلطة، ولكن بعد تغير النظام السياسي 2003 أصبح الصراع بين هذه التكوينات الاجتماعية، والسلطة طرفاً في هذا الصراع. لو افترضنا اننا نوظف مفهوم الانعكاس الاجتماعي في معرفة العلاقة بين المجتمع والسلطة، ونتساءل هل المجتمع العراقي انعكاس للسلطة او السلطة هي انعكاس للمجتمع؟ في العراق أجد ان السلطة انعكاس للمجتمع وما فيه من اشكال اجتماعية، ولذلك نلاحظ ان طبيعة المجتمع العراقي بعد 2003 عادت الى بداية خط الشروع في تكوين المجتمع الذي بدأ مع قيام الدولة 1921 وهذه العودة جاءت على أساس تصفير التراكم الذي مر به المجتمع طوال المرحلة التي بدأت منذ قيام الدولة ولغاية اليوم. مرّ المجتمع العراقي بتحولات عديدة كان أبرزها مرحلة الحرب الإيرانية – العراقية وما تركته من آثار اجتماعية ونفسية على المجتمع، ثم جاءت مرحلة الحصار الاقتصادي 1990-2003 لتعيد تشكيل المجتمع وتدفعه الى تبني قيم وسلوك لم تكن معهودة عند المجتمع، ومرحلة تغيير النظام السياسي العام 2003 لتضع المجتمع تحت طائل التغير الاجتماعي الواسع ونقله من مجتمع مغلق الى مجتمع مفتوح على كل شيء. ان طبيعة المجتمع العراقي منذ 2005 ما زلت في عملية تشكل مستمر، والتي اكتملت فيها متطلبات تكوين النظام السياسي الجديد من (دستور، انتخابات، الشروع بتكوين مؤسسات) لذلك نحن بحاجة الى تحديد الثابت والمتغير في المجتمع، لكي نبين طبيعته بعد 2003، حينما تشكلت السلطة السياسية بعد التغير كنا نظن انها سوف تستقر عند شكل ومضمون معين لا يتقاطع مع المجتمع العراقي. لكن السلطة السياسية مرت بتحولين هما 2010 و2018 جعل منها تنتقل من مضمون سياسي الى آخر. وضعها – السلطة – في حالة انفصال تدريجي عن المجتمع، ودعنا هنا نبحث عن شكل العلاقة القائمة بين المجتمع والسلطة بعد 2010 ولغاية الآن. نلاحظ ان علاقة المجتمع بالسلطة قائمة على التناقض، فالمجتمع يبحث عن سلطة توفر له متطلبات الاستقرار، ومن جهة أخرى لا يتقبل هذه السلطة وبعيدا عن عوامل الفساد والمحسوبية، ان المجتمع العراقي يريد السلطة، ولكن في الوقت نفسه لا يريدها. وهنا يظهر نمط العلاقة على القبول والرفض. كما اشرت سابقا ان طبيعة المجتمع العراقي بعد 2003 بشكل اولي تقوم على التناقض الاجتماعي، وهذا ما نجد انعكاسه على بنية السلطة السياسية الجديدة فهي تمارس الشيء ونقيضه.
المقبول والمرفوض
الثقافة الجديدة: بوجود هذا التناقض، كيف يمكن تحديد المقبول والمرفوض اجتماعياً؟
د. علاء: حينما يصبح التناقض الاجتماعي حاضراً في سلوك وقيم المجتمع نواجه صعوبة في تحديدهما. فالجهات الاجتماعية التي كانت تنتج وتغذي القيم والتقاليد الاجتماعية أمست تفقد دورها وقدرتها على أداء هذه الوظيفة الاجتماعية. في المجتمع المفتوح تصبح القيم والتقاليد سائلة وغير متشكلة في نموذج اجتماعي معين سواء كان هذا النموذج يصنف على انه محافظ او معاصر. المجتمع لم يشهد صراعا على نموذج اجتماعي معين وهذا يعود الى فاعلية الأيديولوجيا قبل 2003 والتي احتكرت الموقف السياسي والذي طغى على أي تصور اجتماعي. بعد 2003 أخذت التعبئة المذهبية والقومية تقدم القيم والمواقف الاجتماعية. بعد 2010 باتت وسائل التواصل الاجتماعي هي ما تخلق التصور والموقف. قد يكون هذا التغير توجها عالميا والمجتمع العراقي غير منفصل عنه، ولكن يظل السؤال المهم: ما هو الثابت والمتغير في المجتمع العراقي؟ تشخيص الثابت والمتغير يعطينا نوع المتغيرات التي شهدها المجتمع، كما أننا نلمس طغيان التفسير السياسي لأغلب الأحداث والتحولات التي عاشها المجتمع على حساب التفسير الاجتماعي. لقد وصل بنا الحال إلى أن كل الذي يحدث في العراق يفسر سياسيا. ولهذا ترسخ في ذهنية المجتمع ان مدار الخلل يقع في السياسة والسلطة. وهذا غير صحيح لأنه يغفل بقية العوامل التي لها دور وتأثير على طبيعة المجتمع. عندما عملت على دراسة مفهوم اللاستقرار في العراق منذ 2019 لاحظت ان النظام السياسي لم يتمكن من الوصول الى حالة الاستقرار الطبيعي، وهذا يعني ان النظام لا يستطيع انتاج تقاليد واعراف سياسية مستقرة تمكنه من الحفاظ على الشكل السياسي العام "الدولة، المؤسسات". ان استقرار النظام جعل من المجتمع العراقي ينظر الى السلطة كأنها شبه محصورة بين خيارين إما النزوع نحو المركزية التي قد تصل الى الاستبداد، او الفوضى التي تكاد تصبح شبه النظام. علينا البحث عن نظرة المجتمع الى الديمقراطية بعد 2003 التي باتت شكلا سياسيا حاضرا في بنية النظام السياسي الجديد. يطرح فوكوياما في كتابه "الثقة" ان العلاقة بين المجتمع والدولة تستند الى مفهوم الثقة والذي يقابل معنى الرضا والشرعية اللذين يمثلان معيارا لفهم استقرار العلاقة بين الطرفين "دولة – مجتمع". في العراق منذ نشوء الدولة كان الرضا والشرعية محصلان من خارج السياق الاجتماعي العراقي. بمعنى انه ربما يأتي من شرعية تاريخية او ثورية ثم بعد ذلك يتم الحصول على الشرعية الاجتماعية عبر الفرض او هيمنة جماعة سياسية، وهذا يظهر ان العلاقة بين السلطة والمجتمع متشكلة ومبنية على أساس عوامل خارج المجتمع. في العام 1921 جيء بالملك من خارج العراق ليعتمد على شرعية تاريخية عصبوية، في العام 1958 احتل العسكر السلطة على أساس شرعية ثورية وهم قدموا من مرجعية عسكرية أساسها الثكنة، في العام 1963-1968 انقلبوا على السلطة من مرجعية أيديولوجية وجاءوا من اوكار الحزب. الى ماذا تشير هذه الاحداث؟ ان النظام وسلطته لم يأتيا من سياقه الاجتماعي الطبيعي وقد يؤشر هذا عجز المجتمع عن انتاج نظامه السياسي عبر فعله الاجتماعي الداخلي.
الرموز
الثقافة الجديدة: تعد دراسة الرموز والطقوس والشعائر أحد اهم تخصصات الأنثروبولوجيا عبر تاريخها الطويل. وقد كانت لكم، في هذا المجال، مساهمة مهمة. نود هنا الإشارة الى إشكالية، ولا نعرف هل هي اشكالية تخص الواقع العراقي فقط ام هي إشكالية عامة؟
فمن جهة يسعى ممثلو الجماعة او الهوية الأكبر في العراق، جاهدين وعبر وسائل الهيمنة المختلفة، الى ان تكون الرموز والطقوس الخاصة بتأكيد هويتهم الخاصة، أيديولوجيا عامة لكل ابناء البلد او اغلبهم على الأقل. ايديولوجيا عابرة للهويات والجماعات، مع بقائها في ذات الوقت تؤدي دورها الجوهري الأول، بوصفها ممارسات متكررة او مستعادة دوريا، تعمل على شد لحمة الجماعة والهوية الواحدة، فارزة إياها عن الهويات والجماعات الأخرى.
ومن جهة ثانية، نجد ان ذات الرموز، بل وحتى الطقوس في بعض الأحيان، تلعب في سياق اخر وظروف أخرى، دورا نقيضا! ففي مجرى تطور الصراع الاجتماعي والسياسي في البلد - وهو صراع بين الكم الأكبر من الذين تمثلهم تلك الرموز هوياتيا، وبين مدعي تمثيل الهوية او الجماعة او "المكون"- والذي اتضح لاحقا انه صراع مع سلطة شاملة تهيمن على البلد والمجتمع ككل؛ في مجرى هذا الصراع، وفي لحظة منه، تتحول هذه الرموز الى نقيضها. أي الى رموز وطقوس سعى حاملوها هؤلاء، في اوج ذلك الصراع "الانتفاضة الحركة الاحتجاجية.. الخ"، الى ان تكون هي ذاتها رموزا وطنية عابرة، بل ومُمثلة، لأعضاء الهويات والمكونات الأخرى، التي كانت تتنافس معها لفترة طويلة.
د. علاء، بوصفكم باحثا في هذا المجال، ألا تعتقد ان أحد اهم أسباب التناقض أعلاه "الاستخدام المتعدد والمتناقض لذات الرموز" هو ان القوى الاجتماعية، خصوصا تلك القوى ذات المصلحة بـالتغيير والساعية من اجله، بحكم طبيعتها الافقية وبين الهوياتية، لم تستطيع ان تبدع او تتفق على رموز وطنية جامعة يلتف حولها أبناء الوطن على اختلاف هوياتهم الفرعية؟
د. علاء: في البداية دعنا نتوقف قليلا عند مفهوم الرمز والذي يعبر عن معنى الثقافة بشكل واسع. فهو يتيح لكل الجماعات او المجتمع بأن هذا الرمز يمثل سماتهم الاجتماعية وتاريخهم، وهم من يمتلكون تأويله وتعيين معناه. في إشارتك الى "الاستخدام المتعدد والمتناقض لذات الرموز" او بمعنى آخر حينما تنتقل الرموز من تعبيرها الديني والاجتماعي الى التوظيف السياسي هنا ينشأ ما تشير إليه. طوال تاريخ العراق السياسي لم نشهد صياغة رموز جامعة او معبرة عن المجتمع العراقي. هنالك عقدة ما زالت حاضرة في قضية استخدام الرموز في المجال العام سواء الاجتماعي او السياسي. وهذه العقدة هي ان الصراع بين الجماعات والقوى السياسية على السلطة أعاق انتاج رمز جامع، لأن توظيف أي رمز كان يحال الى انه يعبر عن توجه سياسي او ديني او أيديولوجي. وهنا نصطدم بعتبة صلبة لم نتمكن من تخطيها حتى الان، وهي أننا لا نملك سردية تاريخية واجتماعية جامعة تعبر عن نشوء الدولة. في المقابل هناك تنازع وصراع على جعل رموز كل جماعة او جهة سياسية تعبر عن علاقة الدولة بالمجتمع.
منذ 1958 ونحن نعيش صراعا مستمرا حول الرموز المعبرة عن هذا الكيان الاجتماعي والسياسي، ولكن حين نتأمل مسار هذا الصراع نرى ان الجماعات الثلاث "الشيعة، السنة، الكرد" يشتبكون مع هذه القضية من خلال صراعهم مع السلطة، لا سيما الشيعة والكرد والسنة بعد 2003. وهذا يجعلنا نقف عند تساؤل اخذ يطرح بشكل مباشر او غير مباشر منذ ثمانينات القرن الماضي وهو أي تاريخ "الإسلامي، البابلي او السومري" في العراق نعتمده في تفسير نشأة وظهور المجتمع والدولة. عمل البعث حينما حكم السلطة والمجتمع 1968-2003على تخطي هذه العقدة عبر مشروع "إعادة كتابة التاريخ" اذ سعى الى فرض سرديته التي يفسر بها العراق مجتمعا ودولة، وباتت الرموز التي اختارها البعث هي من تعبر عن هذه السردية، على الرغم من ان البعث استخدم رموزا ذات بعد إسلامي وتاريخي في مرحلة الحرب العراقية – الإيرانية لكي يواجه الرموز التي وظفها الجانب الإيراني في الحرب وهي أيضا كانت تحمل معنى إسلاميا. وهذه المرحلة 1980-1988 شحنت الصراع بين الرموز الإسلامية التي لها مرجعيات مذهبية مختلفة، في مرحلة التسعينيات 1995- 1999 اخذت تعود الرموز الإسلامية بمضمونها الإسلامي الشيعي عن طريق الظاهرة الصدرية التي قادها السيد محمد صادق الصدر (1943-1999).
قبل الظاهرة الصدرية كانت هناك "الحملة الايمانية" 1993-2003 التي دفعت بالرموز الإسلامية التي تحمل بعداً سنيا الى الحياة العامة وجعلها علامات توجه السلوك العام. يكشف لنا هذا الجانب التاريخي بأن استخدام الرموز تحول الى وسيلة واداة للصراع السياسي. عندما نتأمل مكانة ووظيفة الرموز في هذا الصراع نلاحظ أنها تقوم على مستويين: الأول المعنى الذي تحمله وتقدمه للمجتمع والثاني انها تستند في ظهورها على واقعة تاريخية. في المستويين هناك ترابط بين معنى الرمز والواقعة التاريخية. حينما نطلع على الوقائع التاريخية الإسلامية التي تستند عليها الرموز نجد ان هناك في أغلبها نقطة خلاف بين طرفين حول دلالة هذه الواقعة التاريخية الإسلامية. وهذا ما يشير مرة أخرى الى ان الرموز أصبحت أداة في الصراع السياسي. بعد 2003 عادت الرموز وبشكل فعال في المجال العام وأصبح اشهارها واضحاً، اذ هي موجودة في المؤسسات الحكومية والخاصة والأماكن العامة. بعد تغيير النظام السياسي نلاحظ ان وظيفة الرموز اخذت معنى جديداً بأنها معبرة عن هوية المكان والذين يسكنون فيه. ان عدم صياغة رموز موحدة راجع الى طبيعة الصراع الاجتماعي الجاري في المجتمع، فهذا الصراع ما زال يدار ويمارس بأدوات تاريخية وليست اجتماعية وسياسية. في حركة تشرين كانت هذه الرموز حاضرة بسبب ان المشاركين في اغلبهم يمثلون هوية واحدة. حينما نفكر لماذا حتى الآن لم نتمكن من صياغة رموز وطنية، ربما كما ذكرت سابقا قضية الصراع الاجتماعي تمثل عائقاً، ولكن يبقى غياب الحس المشترك الذي يجمع العراقيين حول نقاط مشتركة تدفع نحو التفكير بالمتشابه على حساب المخالف.
منذ 2003 ونحن نعيش حالة استنفار كل الجماعات من اجل ضمان وجودها في السلطة، وهنا علينا أن نحلل أسلوب وعمل كل جماعة، كيف وظفت تاريخ تعامل السلطة السابقة. لقد بنيت السلطة الجديدة من خلال هذه المقولة "ما جرى قبل 2003" يؤسس لما بعدها في إدارة النظام والمجتمع. ولكن التغير الاجتماعي الحاصل قد يزيح مضمون هذه المقولة. بالعودة الى قضية "الاستخدام المتعدد والمتناقض للرموز" يقودنا الى التركيز أكثر على نمط الصراع واسبابه. فالتشكيلات الاجتماعية التي صارعت النظام السابق عبر أدوات ورموز تحمل سمات قومية ودينية ومذهبية، ولكن في العمق كان الصراع سياسيا، ولهذا تكرست التعبئة السياسية لهذه الجماعات على ضوء الخزين الرمزي والتاريخي الذي تشكل تاريخيا واجتماعيا. وهنا ربما نفهم انها لم تستطع بعد 2003 بناء رموز موحدة وغير مختلفة؛ اذ لا يمكن الانفصال عن هذا الميراث الرمزي والتاريخي. منذ 2014 حينما اجتاحت داعش ثلاث مدن عراقية، عادت مرة أخرى تقابل الرموز في الصراع. منذ 2005 والشروع في عملية تكوين النظام السياسي الجديد دخلت الرموز التي نقلت من وظيفتها الدينية والاجتماعية الى السياسية، في تحديد صورة المخالف والمناوئ وكأننا امام فرز معنوي وسياسي. من جانب آخر هناك حق لكل جماعة ان تعبر عن هويتها وثقافتها من خلال الرموز التي تمثلها، لأن قضية قصر وتعيين شكل محدد من الرموز يضعنا في مشكلة من له الاولوية في تقديم رموزه، ربما كانت معالجة " الاستخدام المتعدد والمتناقض لذات الرموز" يأتي من خلال الدولة وقدرتها على إدارة التنوع والاختلاف في المجتمع. المفارقة ان الدولة كما قبل 2003 هي طرف في الصراع ومتأثرة به دون ان تستطيع ان تتحول الى طرف يدير الصراع. كما ان تغير السياق الاجتماعي منذ 2017 ووضوح شكل وبينة النظام السياسي على ضوء ما ترتب جراء محاربة داعش دفع نحو ظهور قوى اخذت تمتلك الهيمنة في السلطة وأخرى مشاركة فيها. لهذا أمست رموز هذه القوى المهيمنة تنتشر ويزداد حضورها. منذ انتهاء احتجاجات تشرين كان هناك تغيرا بطيئا وصامتا في مساحة الرموز وتلقيها ونقلها الى معاني مختلفة، وهذا يؤكد تنامي خطوات التغير الاجتماعي في المجتمع العراقي لا سيما عند فئة الشباب. لعلنا نفهم قضية الرموز التي تصبح مادة للتعبئة السياسية في العراق، عندما نراجع تاريخ العراق السياسي والاجتماعي؛ اذ نلاحظ فيه شدة التحولات التي تتقاطع فيها العوامل الخارجية " الإقليمية والدولية " المؤثرة على المجتمع والنظام والعوامل الداخلية المتلقية لهذا التأثير.