
الدكتور نبيل المرسومي توّلد البصرة، 1954؛ حاصل على شهادتي الماجستير (1990) والدكتوراه (2002) بتخصص تنمية وتخطيط من كلية الإدارة والاقتصاد في جامعة البصرة. والتي عمل فيها، لاحقا، تدريسيا، ورئيس قسم، وعميد. وهو حاليا رئيس قسم تسويق النفط والغاز في جامعة المعقل في البصرة. أثرى المكتبة الاقتصادية العراقية بالعشرات من الكتب وكذلك البحوث العلمية والأكاديمية المنشورة في داخل العراق وخارجه. من بينها: البيئة الاستثمارية في البصرة، 2012؛ تاريخ الأزمات الاقتصادية في العالم، 2014؛ اقتصاد الطاقة، 2016.
على الرغم من انشغالاته البحثية والأكاديمية الكثيرة، خصّص الدكتور نبيل المرسومي ساعات من وقته لإجراء هذا الحوار مع (الثقافة الجديدة). وقد استهل الحوار بـحديث عن الطبيعة الريعية للدولة والاقتصاد العراقي قائلا:
كما هو معروف تاريخيا، بدأت الإيرادات النفطية العراقية بالارتفاع المستمر، منذ عقد الخمسينات. وذلك بعد توقيع اتفاقية مناصفة الأرباح. وكان هذا حافزا رئيسيا للحكومة العراقية آنذاك لتأسيس مجلس الإعمار عام 1953. حيث كان يخصص 70% من إيرادات النفط للاستثمار. ولهذا كانت هناك استثمارات كبيرة وعملاقة حصلت في الخمسينات. وقد استمر عمل المجلس الى العام 1961 وثم تلكأ. ان المهم من مجلس الإعمار، انه كان مبادرة حول كيفية توظيف عائدات النفط في تطوير البلاد.
مع مرور الوقت، ومع تطور إنتاج النفط وازدياد صادراته، تعمقت ظاهرة ريعية الدولة. والنفط اليوم يشكل جوهر الاقتصاد العراقي. سواء في هيمنته على الإنتاج، أم الناتج المحلي الإجمالي أم الصادرات أم الإيرادات.
إنّ إنتاجية العمل في الدولة الريعية منخفضة. وذلك بسبب سهولة الحصول على المال. فرب العمل هو الدولة وهي مالك المال. الدولة ستحاول من جهة إحاطة نفسها بالأجهزة الأمنية، للمحافظة على ذاتها ونفوذها، ومن جهة أخرى، تقوم بتوزيع قدر كبير من الريع النفطي على فئات المجتمع المختلفة. وبالتالي، أصبح الناس يعيشون في أحضان الدولة ويستمدون قوتهم من الدولة. وما عادت الضرائب الوسيلة الأساسية لتمويل الموازنة العامة، وإنما الإيرادات النفطية.
وهذا الواقع الذي افرزه وجود النفط، وبهذا المعنى فإن النفط نقمة وليس نعمة. لقد افرز هيكلا اقتصاديا مختلا، يعتمد بشكل رئيس على النفط مع إهمال واضح للقطاعات الأخرى خاصة القطاعات الزراعية والصناعية. العراق حاليا في تبعية تامة للإيرادات النفطية، بحيث ان درجة الانتعاش الاقتصادي في البلد تعتمد على حجم الإيرادات النفطية.
ان الإيرادات النفطية يتحكم بها متغيران: الأول هو حجم الإنتاج، والثاني هو أسعار النفط العالمية. ولأن حجم الإنتاج والصادرات في العراق تقريبا ثابت، أصبح المتغير الوحيد الذي يتحكم بالإيرادات النفطية هو سعر النفط. وسعر النفط هو عامل خارجي لا يتحكم به العراق وإنما إفرازات السوق النفطية العالمية، وتداعيات العرض والطلب، وعوامل جيوسياسية، وغيرها من العوامل. وقد أصبح العراق أسير هذه الأسعار. والعراق يبدو انه لم يتعلم من تجاربه الكثيرة، على الأقل نحن في السنوات الأخيرة شاهدنا ثلاث صدمات نفطية سالبة. الأولى، عام 2008 وهي أزمة الرهن العقاري؛ والثانية، في عام 2014؛ والثالثة، في عام 2020. ونحن الان في عام 2025 وهناك أزمة في سوق النفط. بمعنى ان هناك صدمة في سوق النفط كل ست سنوات وكل هذه الأمور لها تأثيرات وتداعيات على الاقتصاد العراقي.
الثقافة الجديدة: د. نبيل، ما هي قراءتك لواقع القطاع النفطي في العراق؟ خصوصا بعد إطلاق جولات التراخيص؟
د. المرسومي: من المعلوم ان كل الصناعة النفطية الموجودة اليوم هي نتيجة لأعمال التأميم وما تلاها. سواء استخراج النفط او صناعة التكرير والمصافي وقطاع النقل أيضا. بمعنى ان الإدارة الوطنية للنفط ساهمت في تطوير كبير في شتى القطاعات النفطية. وكل البنية التحتية الحالية أنشأت في ظل الإدارة الوطنية للنفط فهو ثروة الشعب العراقي وملكيته التي ينبغي ان تكون وطنية. نعم، ربما هناك قصور في الكادر الوطني العامل في هذا المجال، وهو بدون شك يحتاج الى ان يستمر في تطوير قدراته وإمكانياته؛ لكن العيب ليس فيه وإنما في نمط الإدارة النفطية، اي بنمط الإدارة السياسية والاقتصادية للبلاد.
بالتأكيد ان نقطة الانعطاف الكبيرة في القطاع النفطي في العراق كانت الحرب ومن ثم الحصار. لكن الحرب لم يكن تأثيرها مدمرا كما كان الحصار. الحصار هو الذي دمر القطاع النفطي وهو الذي جعل هذا القطاع يمتلك تقنيات متأخرة جدا.
إن هذا الدمار والتقنية المتأخرة هي التي سهلت التوجه نحو موضوعة الاستثمارات الأجنبية في القطاع النفطي. لكن لو قيمنا الاستثمار الأجنبي في القطاع النفطي فهو لم يؤدي الى تطور كبير في الصناعة النفطية العراقية. فمثلا، إذا قارنا حجم الإنتاج النفطي قبل وبعد جولات التراخيص نجد ان التطور لا يزيد على مليون برميل يوميا وهو رقم قليل نسبيا إذا اخذنا بعين الاعتبار 120 مليار دولار أنفقت على الشركات الأجنبية. بينما كان من المفترض ان يكون انتاج الذروة حوالي 11 مليون برميل يوميا.
فعلى سبيل المثال في الجولة الأولى من التراخيص أعطت الحكومة حقولا نفطية هي أساسا منتجة للنفط ولم يعط رقعاً استكشافية واستثمارية، مثل الرميلة والزبير وغرب القرنة وكلها منتجة للنفط. كان من المفترض بدلا من ذلك إعطاء رقع استكشافية. بل ان تطوير الإنتاج يكاد لا يذكر. فعلى سبيل المثال الزيادة في حقل الرميلة، الذي كان ينتج مليونا و66 ألف برميل يوميا، اليوم وبعد 16 عاما، هي فقط 350 ألف برميل.
بالتأكيد كانت هناك معارضة كبيرة من قبل شركات النفط الوطنية لان هذه الحقول منتجة والكوادر الوطنية قادرة على إدارتها فلماذا نأتي بالمستثمر الأجنبي ليشارك العراقيين في ثروتهم. وكان من المفترض ان نبدأ بالرقع الاستكشافية او على الأقل في الحقول المستكشفة وغير مطورة. بل حتى الحقول المستكشفة وغير مطورة هي حقول منتجة عل سبيل المثال حقل مجنون.
بتصوري ان جولات التراخيص رغم أنها لم تكن سخية مع الأجانب، بمعنى ان الأجانب لم يحصلوا على أجور ربحية كبيرة، لكن التأثيرات الإيجابية لم تكن كبيرة.
لقد قامت الدولة بإحالة كل الحقول في جولات التراخيص، ولا يوجد الآن حقل واحد لم تتم إحالته. والغريب ان الشركات الأجنبية بدأت تنسحب، فقد انسحبت شركة اكسدانتل الأمريكية من الزبير، وشركة شل من مجنون، واكسون موبيل من حقل القرنة رقم 1. اليوم هناك 17 حقلا في العراق بأيدي الشركات الصينية. وجولات التراخيص الخامسة نصفها للصينيين والسادسة معظمها كانت للصينيين، واليوم ثلث الاحتياطي النفطي بيد الشركات الصينية.
هناك مشكلة إضافية: فمن جهة، الشركات الأجنبية تأخذ أجورا مقطوعة عن كل برميل، زيادة عن خط الشروع إذا كان الحقل منتجا، وإذا كان حقلا غير منتج تأخذ عن كل برميل منتج. ومن جهة ثانية، العراق قادر اليوم على إنتاج 4 ملايين و650 (خط الأساس)، بينما حصته في أوبك بس هي 4 ملايين برميل، ومخطط وزارة النفط منذ 2022 ان تنتج 7 ملايين برميل خصوصا وان الجولتين الخامسة والسادسة ستبدآن الإنتاج خلال سنتين؛ بمعنى ان هناك مشكلة سوف نواجهها بعد سنتين او ثلاث سنوات، فعندما تصل الى هذا المستوى الذي تطمح اليه وزارة النفط، فعليك ان تدفع غرامات للشركات الأجنبية.
علما ان ذلك قد حصل ذلك عام 2020 عندما خفض العراق مليون برميل يوميا فقام بالدفع للشركات الأجنبية.
فهنا نحن في إشكالية: أما تبقى الأمور كما هي وتُدفع الغرامات للشركات الأجنبية بسبب الالتزام بحصة أوبك، او ان تفاوض لزيادة حصتك في أوبك او ان تنسحب من أوبك. وهذا الأخير أصبح خيارا قائما. خصوصا وان المفاوض العراقي ضعيف جدا في أوبك بحيث انه لم يطالب أبدا بتغيير حصته. بينما نجد ان الإمارات طالبت وهددت قبل سنتين بالانسحاب، وتمت الموافقة على زيادة حصتها الإنتاجية بمقدار 300 ألف برميل يوميا. بينما العراق في المقابل وافق على تخفيضات طوعية وهو في الأساس خطه الإنتاجي 4 مليون و650 ألفا، ووافق على تخفيض طوعي يقدر بـ 220 ألف برميل يوميا، وهذا امر غير مبرر.
لذلك يعاني العراق اليوم من مشكلة وهي ان حصته الإنتاجية غير قادر على الالتزام بها، ولذلك نرى (أوبك بلاس) دائما تضغط على العراق ودائما تطالبه بجداول من اجل تخفيض الإنتاج. وهذه هي واحدة من الإشكاليات الكبيرة التي سيقع فيها العراق مستقبلا، حيث سنكون في نقطة فراق: فأما ان نكون مع (أوبك بلاس) او ننسحب.
أنا أتصور ان العراق عليه ان ينسحب من أوبك، لأنه يحتاج لصادرات لا تقل أن 5 مليون برميل يوميا بسبب احتياجات الناس الكبيرة، وإذا لم يشأ العراق الانسحاب، فعليه ان يطرح مسألة تعديل حصته الإنتاجية وفق مؤشرات معروفة منها: الاحتياطي النفطي، وعدد السكان، والطاقة الإنتاجية. وينبغي ان يطالب من الآن بالحصص بحيث عندما نصل الى عام 2028 ستكون حصة العراق الإنتاجية ليست اقل من 6 ملايين برميل يوميا، واقل من هذا المعدل سيدخل العراق في مأزق. علما ان العراق إن خرج سيكون ذلك بمباركة أمريكية.
الثقافة الجديدة: دكتور نبيل، هل تعتقد ان بلدا هشا سياسيا اقتصاديا واجتماعيا، مثل العراق، قادر على الانسحاب من أوبك في هذه الظروف وهو غير قادر أساسا على مجابهتها بأن يكون مفاوضا قويا؟
د. المرسومي: نحن لا نطالب بالانسحاب فورا، وفي ظل الظروف الحالية. كما انه يجب ان يكون الانسحاب مبرمجا، وتُعلم به أوبك قبل مدة، كما فعلت قطر.
علما ان أوبك بإجراءاتها الحالية تخسر حصتها السوقية. على سبيل المثال أوبك في السبعينات كانت تنتج 30 مليون برميل يوميا واليوم 27 مليونا، حيث نجد اليوم دولا مثل البرازيل كانت في السابق تستورد النفط، أما اليوم فهي من الدول المصدرة، وأيضا الولايات المتحدة كانت تستورد النفط واليوم هي أكبر دولة منتجة في العالم، حيث تنتج 13 مليون برميل يوميا، وتخطط الى ان تصل الى 16 مليونا. وكل هذه التحولات ليست في صالح أوبك.
من وجهة نظري، أوبك اليوم عبارة عن وسيلة تعتمدها السعودية كمركز قوة بالنسبة لها، فالسعودية هي القائد الإنتاجي وهي القائد السعري وتستخدم أوبك في مفاوضاتها مع الآخرين، أوبك مصدر قوة للسعودية لكنها ليست مصدر قوة للعراق. السعودية خط إنتاجها 11 مليون برميل يوميا، والعراق 4 مليون و650 الفا فقط. إلا ان العراق ينتج اليوم 4 مليون و150 الف برميل، بينما الحصة الإنتاجية 4 ملايين. واعتقد ان العراق غير قادر فعليا على الالتزام بضوابط أوبك للنهاية.
أنا أتحدث هنا عن المدى الاستراتيجي، لأن العراق لا يمكن ان يبقى ينتج 4 ملايين ونصف فقط. وانا اعتقد ان العراق بإمكانه ان يصل بإنتاجه الى 8 ملايين برميل يوميا. فالاحتياطي النفطي العراقي كبير، حوالي 145 مليار برميل، وهناك مناطق غير مستكشفة كبيرة جدا وبعض الدراسات تقول ان المنطقة الغربية من المحتمل ان يكون فيها ما يقارب 100 مليار برميل احتياط. وبالتالي فإن انتاج العراق اليوم لا يتناسب مع الاحتياطي، ولا يتناسب مع احتياجات الناس.
أما الأحاديث التي نسمعها عن ان توزيع القرارات في مجال السوق النفطي، قد يؤدي الى إغراق السوق، فبالتأكيد ربما يحدث ذلك، الا انه ـ ان حدث ـ فلن يستمر طويلا. هناك ما يسمى التكلفة الحدية. فسوق النفط اليوم لا تحتمل نزول السعر تحت الـ 50 دولارا. نعم، قد يهبط الي 30 دولارا، لكن لن يبقى ذلك طويلا. علما ان أسعار النفط سوف تبقى منخفضة على الأقل طول فترة رئاسة ترامب. وعلى العراق ان يستعد لهذا.
الثقافة الجديدة: د. نبيل، يبدو أن هناك إشكالية، وهي ان وجهة صادرات النفط العراقية تكاد تكون آسيوية بحتة، خصوصا الصين والهند، المتواجدة في صناعة النفط الاستخراجية أساسا. ما هو رأيك بهذه الإشكالية؟
د. المرسومي: بالتأكيد هناك مشكلة هيكلية في صادرات العراق. فدولتان هما الصين والهند تستحوذان على ثلثي صادرات النفط العراقي. بينما من المفترض ان يكون هناك فكر استراتيجي وسياسات استراتيجية واضحة لتنويع الأسواق والصادرات؛ ففي النهاية معظم نفط العراق يصدر الى الخارج، ومهما تطورت صناعة التكرير يبقى ثلاثة أرباع النفط الخام يصدر الى الخارج.
لكن، من اجل تنويع الصادرات، من المهم أساسا ان يكون هناك تفكير استراتيجي بتنويع طرق التصدير. نحن الآن نصدر عن طريق البحر تقريبا، وذلك لأن الكلفة اقل من دولار قياسا بـ3 دولارات في خط الأنابيب.
من وجهة نظري، أن أحد اهم النقاط التي يجب التركيز عليها هو الخط الأردني. فهو من الممكن ان يكون ممرا دوليا. لأن هذا الخط عندما يذهب الى حديثة سوف يتفرع إلى ثلاثة فروع الأول يذهب إلى جيهان في تركيا، والثاني إلى بانياس في سوريا، والثالث للعقبة في الأردن. ومن تركيا يذهب الى أوروبا حتى يحل خام البصرة محل الخام الروسي، وسوف يفتح الأسواق الأوربية، ويفتح أسواقا في إفريقيا.
حتى ان إيران ـ وخوفا من التوترات الجيوسياسية لطريق مضيق هرمز ـ قامت بتفعيل خط غوره- جاسك.
أما بخصوص تواجد الصين في العراق، وذلك لكونها أكبر دولة مستوردة للنفط في العالم، فالصينيون يعتقدون أن مضيق ملقا، الذي يستوردون من خلاله 80% من النفط، من الممكن ان يغلق في يوم ما خلال الـ 100 سنة القادمة. وبالتالي يمكن ان تخنق الصين. طبعا، هناك تقديرات تتحدث عن أن الصين تمتلك مخزونا نفطيا يقدر بمليار برميل من أجل أن يتهيؤوا لهذا الإغلاق. ولذات السبب هم يهتمون بالعراق، واي شركة أجنبية تخرج من العراق يحل الصينيون محلها.
من جهة أخرى، يجب ان لا ننسى ان الصين دخلت في حرب تجارية مع أمريكا. وهذا سوف يؤدي الى تقليص الطلب على النفط الخام بدل ان تستورد الصين مليون برميل من العراق، يمكن لهذا الرقم ان يتقلص الى 600 او 700 ألف برميل فقط.
اما بالنسبة للهند فقد كانت تستورد مليونا و100 الف برميل. الآن انحسر الرقم الى 800 الف. وقد انخفضت استيراداتها لا من العراق فقط وإنما من السعودية أيضا. وروسيا اليوم، التي كانت تصدر اقل من 50 ألف برميل يوميا للهند، أصبحت هي المصدر الأكبر بأكثر من مليون برميل يوميا. وهذه الزيادة سببها الخصومات السعرية التي تعطيها روسيا. علما ان التصدير من روسيا غير مجدٍ وفق الأسعار العالمية. وبالتالي يقدمون خصومات كبيرة من اجل الولوج للسوق الهندية.
لذلك يجب علينا دائما ان نبحث عن أسواق بديلة، في إفريقيا وشمال إفريقيا وفي اوربا أيضا. فأوروبا سوق واعدة. خصوصا ان خام البصرة يشبه مواصفات الخام الروسي وهو مطلوب بشدة في الأسواق الأوربية، لكن المنفذ الوحيد اليوم عبر البحر، والمسافة طويلة عبر قناة السويس، بينما الطريق البري ممكن ان يصل الى كل دول وسط اوربا.
خلاصة الكلام، من اجل ان نقوم بتنويع الأسواق يجب ان تكون لدينا طرق نقل بديلة. نعم الطريق البحري القصير هو اسيا، لكن المهم هو كيف ننفذ الى أوربا وامريكا. فالتفكير الاستراتيجي بهذا الموضوع مهم جدا. نعم، هناك بالتأكيد معارضة قوية جدا، ذلك لان المتضرر من ذلك هو إيران. لكن حتى إيران غيّرت الان من رؤاها كثيرا بسبب سوريا والحكومة الجديدة.
قانونا النفط والغاز وشركة النفط الوطنية
الثقافة الجديدة: على الرغم من ان الصراع بين المركز والاقليم، وكذلك بين المركز والمحافظات غير المنتظمة بإقليم، هو صراع سياسي ومصالحي، الا انه دائما ما يتجلى بصورة صراع تشريعي. ما هي قراءتك لمكامن الخلل في المنظومة التشريعية النفطية؟
د. المرسومي: بالنسبة لقانون النفط والغاز لن يشرّع، لأن الموضوع يتعلق بكيفية قراءة المادة 112 الدستور، التي تتعلق بإدارة الحقول. هناك فهم متباين بين الطرفين، المركز يفهمه بأنه إدارة مركزية، في حين الإقليم يرى ان الإدارة محلية.
وبالتالي في العراق هناك سياستان نفطيتان مختلفتان. كما ان هناك نمطين من العقود، عقود خدمة وعقود شراكة. وهذه القضية تحتاج الى اتفاق سياسي وليس اقتصاديا.
علما، ان هذه المشكلة أثرت على العراق بشكل كبير، فهو منذ سنتين يدفع مبلغ 800 ألف دولار الى تركيا بسبب عدم إيفائه بالتزاماته تجاهها، بناء على قرارات غرفة التجارة الدولية في باريس، على الرغم من انها كانت قد حكمت لصالح العراق بدعواه ضد تركيا وتصديرها النفط من إقليم كردستان. ومن اجل الوصول الى اتفاق بين الإقليم والمركز ينبغي ان نفهم ان عقود المشاركة، التي يتبعها الإقليم، فيها جنبة التحكيم الدولي. بمعنى ان أي خلاف بين الطرفين يذهب الى غرفة التجارة الدولية في باريس أيضا وقراراتها ملزمة. وهي في الغالب قرارات لصالح شركات النفط.
أكرر مرة أخرى، مسألة النفط ستبقى عالقة بين المركز والإقليم. فهي ليست مسألة فنية، كما انها ليست مسألة اقتصادية، وإنما هي مسألة سياسية بامتياز. وبرأيي، ينبغي إعادة كتابة الدستور مرة أخرى من اجل ان نحدد بشكل دقيق ما المقصود بإدارة الحقول الحالية والحقول المستقبلية. لأننا لا نعلم ما هي الحقول الحالية هل هي المنتجة للنفط ام المستكشفة وغير مطورة، فلا يوجد تحديد، لذلك إعادة كتابة الدستور هي الحل للإشكالية بين المركز والإقليم، وعكس ذلك سوف يبقى الحال كما هو عليه.
أما بخصوص قانون آخر مهم جدا، وهو قانون شركة النفط الوطنية، فلي رأيي الخاص بذلك. في كل العالم هناك شركة نفط واحدة. إذا أخذنا دول أوبك نجد أرامكو السعودية، مؤسسة النفط الليبية والكويتية وشركة قطر وشركة النفط الإيرانية. لا توجد دولة فيها شركتان. ان صناعة النفط تتطلب الحجم الكبير. على صعيد العالم نرى ان اكسون اشترت موبيل وأصبحت اكسون موبيل، وهناك اندماجات كبيرة أخرى في شركات النفط الخاصة. لأنها تزيد من القدرات التكنولوجية والمالية، وكما تزيد من إمكانية الاستقرار.
أما في العراق فالعكس من ذلك، فبدلا من الدعوة لشركة نفط واحدة ذهبنا الى عدة شركات. وتمت تجزئة الصناعة النفطية، والتي هي مجزئة بالأساس كنفط الشمال ونفط الجنوب. وشركة نفط الجنوب أصبحت البصرة وميسان وذي قار وواسط. وهذا ليس في صالحنا. لان العراق بحاجة الى شركة نفط وطنية واحدة يقع على عاتقها عملية إدارة جميع الحلقات المرتبطة بالصناعة والعمليات النفطية بما فيها الغاز. سواء التي تتعلق بالتكرير والاستخراج وحتى التي تتعلق بالبتروكيماويات، بحيث تكون شركة متكاملة وعملاقة تقوم بكل العمليات، وتكون لها فروع، ان حدث ذلك ستكون القدرات التفاوضية أكبر. وتكون شركة مستقلة ولها نظام خاص بها. بينما يفترض بالوزارة رسم الاستراتيجيات فقط.
الصيغة المقدمة لقانون شركة النفط الوطنية، لم تقدمها كشركة متكاملة، وإنما شركة مجزئة، مستثنية حتى شركة المشاريع النفطية وشركات الغاز. بينما من جهة أخرى تحمّل هذه الصيغة أعباء ومهام أخرى لا تقع على عاتقها، خصوصا قضية توزيع الثروة النفطية على المواطنين.
وبالتالي هناك حاجة ماسة بالنسبة للعراق لتأسيس شركة نفط وطنية تشمل كل الصناعات النفطية في العراق، المنبع والمصب، النفطية والغازية. من اجل ان تكون شركة عملاقة، من مهماتها حتى التسويق. وبالتالي هناك حاجة ماسة الى قانون اخر وبصياغة أخرى.
خلل هيكلي
الثقافة الجديدة: ما هو تقييمكم للواقع الاقتصادي العراقي الحالي غير النفطي، خصوصا الإنتاجي: الزراعي والصناعي؟
د. المرسومي: هناك خلل هيكلي واضح في تركيبة الناتج المحلي الإجمالي، الصناعة والزراعة تشكل مساهمتها في الناتج المحلي 1-2%، مقابل رقم يتراوح، بحسب أسعار النفط، ما بين 40 الى 60% للنفط. اما المتبقي من النسبة فأكثره يعود لقطاع الخدمات. وقطاع الخدمات هذا، بسبب طبيعته، هو مؤشر تخلف. فهنا نحن لا نتحدث عن قطاعات المصارف او الاتصالات او النقل او التوزيع وغيرها، بل عن باعة التجزئة والمفرد.
وإذا أخذنا الهيكل السلعي، سنجده مثل الهيكل الإنتاجي مختلا. حيث تصل مساهمة النفط الى 80% منه. أما اذا نظرنا الى الصادرات فنجد ان النفط يشكل 99% منها. بواقع 94% نفط خام و5% نفط اسود. أما المتبقي الـ1% فهي سلع بسيطة مثل الكبريت والحبوب. وينعكس ذلك في الإيرادات، حيث ان النفط هو المصدر الرئيسي في الإيرادات. بل ان الرسوم الكمركية على السلع المستوردة ممولة من عائدات النفط، وكذلك الضرائب على الدخل.
وبالتالي، فالنفط هو المتحكم والمحرك الأساس للاقتصاد العراقي. ثلاثة ارباع الناتج المحلي الاجمالي يأتي من القطاع العام، والقطاع العام يهيمن عليه النفط بصورة شبه كاملة. الدولة هي التي تقود العملية الاقتصادية مهما تغنى البعض بشعارات القطاع الخاص. الدولة هي المشغل الأكبر للأيدي العاملة. العراق يدفع اليوم رواتب الى ما يقارب 10 ملايين شخص. هؤلاء هم 7 ملايين و350 ألف موظف ومتقاعد، يضاف لهم مليونان و300 ألف رعاية اجتماعية. إذن الناس تعيش في أحضان الدولة، وهذه المسألة خطرة جدا.
الانفاق العام اليوم هو المحرك الأساس، فالطلب الكلي الفعال يحركه الانفاق الحكومي. لذلك كلما زاد الانفاق الحكومي كلما انتعش الاقتصاد وزاد الاستيراد ويزيد الضغط على الدولار ويزداد أيضا تسريب الدولار الى الخارج. وكلما يقل الإنفاق الحكومي، كلما يقل الطلب ويدخل البلد في أزمة.
والمشكلة الأخرى في الاقتصاد العراقي هي ان الصناعات النفطية فيه متخلفة، فنحن ليس لدينا صناعة تكرير متطورة. نحن ننتج مليون برميل يوميا، لكن نصفها نفط اسود. والنفط الأسود هو من مخلفات صناعة التكرير، ويسمى الوقود المتبقي بعد التكرير. وليس لدينا مصاف تستطيع إعادة تكريره، لان هذا النفط الأسود اذا تمت إعادة تكريره ينتج لنا بنزين كما هو موجود في مصافي الإمارات. نحن نصدر قسما من النفط الأسود للإمارات فتقوم بتكريره مرة أخرى فينتج البنزين، وتقوم ببيعه للعراق لان مصافينا متخلفة لا تنتج البنزين. قالوا ان العراق سيحقق اكتفاء ذاتيا عام 2024 ولكن في هذا العام استورد العراق مليونين و400 ألف طن من البنزين والرقم قابل للزيادة، وحتى مصفى كربلاء الذي من المفترض ان ينتج 9 ملايين لتر من البنزين لم يفعل ذلك، لان فيه مشاكل واغلق لمدة شهر للصيانة برغم انه مصفى حديث لكن هناك مشاكل فنية.
الغاز أيضا، كان العراق قبل ثلاث سنوات يحرق نصفه واليوم يحرق 45% والأرقام الحكومية تقول ان العراق يستثمر 70%. لكن في الحقيقة العراق يستثمر 55%. فالعراق ينتج 3 مليارات و100 مليون قدم قياسي، ووكالة الطاقة الدولية تقول ان العراق حقق تطورا في استغلال الغاز لكنه تطور بطيء. نتحدث عن 5% فقط فهو رقم قليل جدا، والمعول حكوميا هو تصفير حرق الغاز عام 2028 وانا اعتقد ان هذا امر بعيد المنال ولا يمكن تصفيره وإنما يمكن تقليله.
بخصوص حقول الغاز، حقل السيبة أحيل الى شركة أوكرانية وتوقف، حقل المنصورية الى شركة صينية، وحقل الخشم الأحمر لشركة الهلال/ الشارقة. علما ان رئيس شركة الهلال ذكر ان انتاج الغاز في كردستان بدأ بعد سنة ونصف. اما في المركز وبعد مضي ثلاث سنوات فهم بحاجة الى سنتين لبدء الإنتاج. وذلك بسبب الطبيعة الروتينية وإطار التعاقد الصعب في المركز بعكس الإقليم.
وبالنتيجة العراق اليوم يستورد الغاز من إيران. وهناك مشكلة اليوم بعد عقوبات ترامب، وإلغاء إمكانية الاستيراد منها. العراق الآن يبحث عن استيراد من تركمانستان ايضا وعن بناء منصات عائمة في خور الزبير من اجل ان نستورد الغاز المسال. الا ان هذا الأخير يحتاج الى مدى زمني معين، ويحتاج ان نتفاوض مع دول أخرى. وذلك لان عقود الغاز عقود طويلة المدى وتحتاج الى مفاوضات. علما انه قد لا يكون هناك فائض في الغاز المتاح اليوم وهذه أيضا مشكلة لان الغاز لا يكفي.
إن الحديث عن القطاع الزراعي والصناعي سوف يعيدنا الى موضوع التنويع الاقتصادي، والأخير يعود بنا الى مسألة التنمية. والتنمية تحتاج الى طبقة سياسية محترفة تؤمن بها. لان التنمية مشروع ليس اقتصاديا فقط وإنما سياسي واجتماعي وثقافي، يتطلب "طبقة" سياسية تؤمن به. ويتطلب أيضا قوانين، والقوانين تشرّع من قبل البرلمان، وتصبح ملزمة للحكومات. والموازنة ينبغي ان تكون جزءا من خطة التنمية.
والتنمية فيها إجراءات مؤلمة لـ"الطبقة" السياسية ومؤلمة أيضا للناس. فهل الناس مستعدة ان تتحمل وزر الإصلاح بمثل هذه الظروف؟ اعتقد ان ذلك صعب، لأن درجة الثقة بين السياسيين وبين الناس تقريبا منعدمة.
الزراعة تأخرت كثيرا خصوصا بعد 2003. على سبيل المثال في البصرة كان هناك 7 الاف مزرعة، واليوم هناك ألفان فقط. الناس بدأت بيع مزارعها وتوجهت الى المركز بسبب تفاوت الخدمات بين الريف ومراكز المدن. كما ان هناك سياسة اسمها سياسة الإغراق واضحة جدا في الزراعة. منتجو الطماطم على سبيل المثال في صفوان والزبير يشكون من انه في وقت انتاجهم تأتي الطماطم الإيرانية وتباع بأقل من كلفة انتاجها، وبالتالي فان الكثير من المزارعين يخسرون. لا توجد حماية للمنتج، فهل من الضروري توفير الطماطم في العراق طيلة أيام السنة. فالطماطم ليس مثل الخبز، أي يمكن ان يستغني عنها الإنسان وهناك بدائل.
أما الصناعة فهناك معاناة أولها الطاقة الكهربائية ومشاكل تتعلق بالقروض، ومشاكل أخرى تتعلق بالأراضي وتسجيلها، ومشاكل تتعلق بتعاملهم مع السلطات. بالإضافة الى عدم توفير الدعم من اجل المنافسة، فالعراق لا ينافس السلعة الصينية لأنها تأتي بجودة اعلى ورخيصة الثمن، بالتالي تقتل الصناعة العراقية. لذلك نرى الصناعة العراقية اليوم بدأت بالتراجع وتحول رجال الاعمال الى تجار، على سبيل المثال سوق "حنا الشيخ" في البصرة كان سوقاً للخياطين واليوم هو سوق لباعة الملابس الجاهزة، حتى باعة الاقمشة بدأ اليوم دورهم بالانحسار. هذه المهن بدأت تندثر في العراق، وكان مهم جدا حمايتها.
من المفترض ان تكون هناك حماية للمنتج الوطني، ثم اين الرسم الكمركي؟ لا يوجد رسم كمركي. الرسم الكمركي مهم لأنه يحقق هدفين أولا هو إيرادات للدولة، وثانيا هو حماية، وكل دول العالم تحمي صناعاتها.
الكثير من السلع تدخل من منافذ غير شرعية وبدون رسوم كمركية وتزاحم المنتج المحلي، هذه سياسة عامة ينبغي إحداث تغيير بها.
طريق التنمية
الثقافة الجديدة: ونحن بصدد قضايا تنويع الاقتصاد، تثار تساؤلات متعددة حول (طريق التنمية)، خصوصا من ناحية إمكانية تنفيذ مشروع بهذه الضخامة في ظل أوضاع العراق غير المستقرة. ما هي رؤيتك لهذا الموضوع؟
المرسومي: كنت قد حضرت ندوة في أنقرة حول موضوع طريق التنمية. وهو حتى اللحظة، مجرد دراسات تصميمية. كلفة هذا الطريق 17 مليار دولار، مقسمة على ثلاث مراحل. وهو يبدأ من الفاو، ويمتد مسافة 1150 كيلومترا داخل الحدود العراقية، ثم يدخل تركيا ويمتد داخلها مسافة 700 كيلومتر ثم يدخل أوربا. وبذلك يصبح العراق مركز ترانزيت للتجارة العالمية.
إلا ان طريق التنمية لن يكون مجرد ممر للتجارة العالمية. بمعنى التجارة التي تربط شرق آسيا بأوروبا مرورا عبر العراق، لكون هذا الطريق من أقصر الطرق. فالمعول عليه ان يحدث هذا الطريق ثورة اقتصادية، لأنه من المفترض ان تكون فيه مدن اقتصادية، ومدن للطاقة. وبالتالي سيفعّل من الخدمات اللوجستية في البلد، وسيحدث ثورة في قطاعات أخرى، ويشغل أيدي عاملة. فالإيرادات المالية المباشرة، المتوقعة، قليلة بحدود 4 تريليون دينار سنويا. الا ان التعويل على الإيرادات والمنافع غير المباشرة، وعلى قدرته في تفعيل القطاعات الأخرى، كالسياحة والإسكان والطاقة وغيرها. كما ان ميناء الفاو الكبير، والذي أنجزت منه المرحلة الأولى المتكونة من أربعة ارصفة والمفترض ان يكون 99 رصيفا، تكمن أهميته أساسا في وجود التنقلات الجافة.
تركيا مهتمة بطريق التنمية لسببين: الأول، لان هذا الطريق ممكن ان يكون بديلا عن الخط الإيراني الذي ينقل البضاعة التركية الى الخليج. ومن الممكن ان يستخدمون هذا الخط البري ـ السكك الحديد والنقل بالسيارات، لنقل البضاعة التركية عن طريق هذا الخط الى ميناء الفاو ومن ثم الى الخليج. وهذا الامر مهتمة به الامارات ايضا. بينما السبب الثاني لاهتمام الاتراك فهو أنهم يريدون ممرا للطاقة، أي ان هذا الخط ينبغي ان يصاحبه ممر للطاقة (النفط والغاز). وهذا يؤكد، انه من اجل ان يكون هذا المشروع ذا جدوى اقتصادية كبيرة ينبغي ان لا يقتصر على نقل البضائع فقط. لهذا نحن نؤكد ان الخط الاردني مهم جدا، لان هذا الخط فيه ممر يستخدم للنفط، وممكن ان يستخدم انبوب آخر للغاز، لأن أحد فروعه الرئيسة الى جيهان وعبر جيهان الى تركيا ومن هناك الى اوربا.
بالتالي، فإن لطريق التنمية أهمية استراتيجية كبرى بالنسبة للعراق. فهو ربما الأكبر في تاريخ العراق، وربما أيضا الأكثر أهمية في تاريخ العراق. فهو على قدر كبير من الأهمية في تنويع الاقتصاد العراقي، لأنه يخلق مصدر دخل جديد، ويوفر فرص عمل للمواطنين ويقود الى تنمية مكانية أيضا لأنه يمر بـ11 محافظة. وهذه التنمية المكانية ممكن ان تؤثر في نوعية الحياة والمستوى الحضاري والمستوى الاقتصادي للمحافظات التي يمر بها.
المشكلة هي أن العراق بلد غير جاذب للاستثمارات، وبلد غير آمن، وفيه محاصصة والسلاح منتشر، وليس هناك قدرة على توفير الامن لخط يمتد من الجنوب الى الشمال، لذلك يفترض ان تموله الموازنة العامة. وبالتالي، هناك خشية من ان يتم اهمال هذا المشروع من قبل الحكومات القادمة. خصوصا وان الوضع المالي الصعب في العراق قد لا يتيح إمكانية لتمويل هذا المشروع. وإن لم يكتمل هذا المشروع فلن تزيد أهمية بناء ميناء الفاو الكبير عن بناء ميناء ام قصر. لذلك من المفترض ان تكون هناك حملة وطنية، وجهد وطني مكثف لإنجاز هذا المشروع، حيث سيبقى التحدي هو كيف يمكن وضع التصاميم موضع التطبيق وتحويله الى مشروع على ارض الواقع، وهذه هي المهمة الوطنية الكبرى التي ينبغي ان تتصدى لها أي حكومة عراقية قادمة.
الأزمات الثلاثة
الثقافة الجديدة: هناك حراكات مطلبية كبيرة في العراق لعل اكثرها وضوحا: تعيينات ذوي المهن الطبية، حراك التربويين، الفلاحين. وكلها عبارة عن حقوق ومطالب ومستحقات ذات جنبة مالية تقع على كاهل الحكومة. من جهة أخرى هناك حديث عن ازمة اقتصادية. وأنتم دكتور نبيل تحدثتم عن ان العراق سيواجه ثلاث أزمات في قادم الأيام. ربما قبل نهاية عام 2025.
هل لكم ان تتوسعوا في عرض رؤيتكم بهذا الخصوص؟
د. المرسومي: في عام 2024 كان سعر برميل النفط 77 دولارا واقترضنا 13 تريليونا، وانخفض الاحتياطي النقدي 15 تريليون دينار. اليوم سعر البرميل يتراوح بين 60 و63 دولارا فماذا سنفعل؟ أتصور ان الازمة اليوم أكبر من ازمة 2020. لان حجم الرواتب اليوم ضعف حجم الرواتب في عام 2020، والدين الداخلي اليوم ضعف الدين الداخلي في عام 2020. بالتالي فان الموضوع شائك وصعب ومعقد، وانا اعتقد ان الازمة الان ليست ازمة أسابيع وشهور. فطالما ترامب موجود، فسعر النفط من الصعب ان يصل الى 70 دولارا. اتوقع ان يستقر عند 64 او 65 دولارا. لكن هذا الوضع غير ملائم للمالية العامة، لان آلية العمل في العراق غير منضبطة وغير رشيدة وهذه الحكومة ارتكبت خطأين: الأول، عندما رفعت سعر صرف الدينار من 145 الى 133، وخسرت الموازنة بسببه 15 تريليون دينار. والخطأ الثاني، هو تعيين مليون موظف جديد فرفعت بذلك كتلة الرواتب، وأصبح على الحكومة ان تدفع 90 ترليون دينار سنويا، 7 ونصف ترليون فقط للرواتب. واليوم كل الإيرادات النفطية لا تصل الى هذا الرقم.
هناك مطالب كبيرة امام الحكومة: تعيينات المشمولين بقانون التدرج، ومطالب المعلمين والتمريضيين وغيرها. وانا أرى ان كلها مطالب حقة. ولكن كيف ممكن تلبيتها؟ مثلا، كان ينبغي على الحكومة والبرلمان ان يكونوا أكثر جرأة في احداث نوع من التوازن في رواتب الموظفين، لان هذه الرواتب فيها خلل كبير. فنحن اليوم في العراق نعاني من وضع شاذ. لان الفجوة بين اعلى الرواتب وادناها 30 ضعفا، وهذا رقم كبير جدا فكيف يمكن تقليصه؟ كما ان هناك من يستلم رواتب مزدوجة. ان تقليص الفجوة، وإلغاء الازدواج، قد يمكن الحكومة من استخدام الفرق لتحسين أحوال الموظفين مثل التربويين وموظفي الصحة او غيرهم، وأيضا في انصاف الفئات الهشة من الموظفين.
هذه الامور تحتاج الى قرار سياسي، بالتالي هل القوى السياسية المسيطرة مستعدة ان تضحي بمصالحها الخاصة من اجل الشعب؟ هذا هو السؤال الذي ينبغي الإجابة عليه. والغريب اليوم ان البرلمان قام بزيادة رواتب نوابه!
اما بخصوص الازمات الثلاث التي أتوقع ان يجابهها العراق قريبا، فهي ازمة السيولة، وأزمة الطاقة، وأزمة التوظيف.
بالنسبة لازمة السيولة فأنا اتحدث عن ازمة السيولة الحكومية وأزمة الدينار الحكومي، فالبنك المركزي ليس لديه مشكلة بالدينار المصرفي وانما المشكلة في الدينار الحكومي. وهذه تأتي من كيفية حصول الحكومة على الدينار، فهي تحصل عليه بطريقتين: اما من إيراداتها غير النفطية من الداخل او من مبيعاتها من الدولار من البنك المركزي العراقي. إيرادات النفط عندما تأتيها بالدولار تحولها الى الدينار من خلال البنك المركزي العراقي. واليوم أصبحت هذه العملية غير كافية، ذلك لان معدل الانفاق العام في العراق في عام 2024 هو 13 تريليون دينار، وهذا الانفاق الشهري في العام الماضي. الآن أصبح ما تتحصل عليه الحكومة من 9 الى 10 تريليون. بالتالي فأصحبت لدينا ازمة بالدينار العراقي بسبب الفرق بين الواردات والانفاق. وهذه الازمة تشتد كلما انخفضت الإيرادات النفطية وستصبح أزمة متفاقمة. في الشهر القادم على سبيل المثال عندما تأتينا إيرادات نفطية شحيحة مقابل التزامات كبيرة بالدينار العراقي فسوف تزداد الازمة. فهذه الازمة تعالجها الحكومة الآن بطرح سندات تنمية، ولجأت الى خصم الحوالات؛ بحيث أصبح حجم الخصم اليوم 42 ترليون دينار، بالإضافة الى انها لجأت الى الاقتراض الداخلي والخارجي.
الاقتراض الداخلي اليوم زاد 13 ترليون دينار، بمعنى 15% في سنة واحدة من 70 الى 83 ترليونا، وهذه مشكلة كبيرة لان هذه الازمة ستتفاقم في الأيام القادمة مع انخفاض سعر النفط.
في شباط 2025 طرحت الدولة سندات تنمية بـ2 ترليون دينار، والناس اشترت نصف ترليون فقط بسبب ضعف الثقة. في اذار تم طرح سندات بـ3 ترليون بفائدة 8% و10% خصصت فقط للمصارف. وكأنما السندات بدل ان تسحب سيولة الجمهور تريد ان تسحب سيولة المصارف! وهذا الامر له آثار سلبية، لأنه يجفف مصادر تمويل المصارف للقطاع الخاص ويؤثر عليها سلبيا، اذن أصبحت لدينا مخاطر كبيرة والدينار العراقي أصبح الحصول عليه صعباً.
السحب أيضا من خصم الحوالات. وخصم الحوالات، لا تستطيع الدولة ان تسير به الى ما لا نهاية، أولا الاحتياطي بدأ بالتراجع كان 15 تريليونا في العام الماضي، وهذه السنة مبيعات البنك المركزي في شهر شباط أكثر من مشترياته من وزارة المالية بمقدار 800 مليون دولار، بمعنى ترليون دينار خلال شهر واحد وهذه الفجوة سوف تكبر.
والموضوع الآخر ان هناك نسبة معينة بالإصدار النقدي. بمعنى اذا كانت الدولة الريعية عندما تصدر 100 ترليون نقد، فمن المفترض ان يكون لديك 40 تريليونا نقد اجنبي. وعندما تزيد من اصدارك النقدي فان هذه النسبة يصبح فيها اختلال، وسوف تقل النسبة، بالتالي تتعرض للخطر وهذه المخاطر برمتها من الممكن ان تأخذنا الى موضوع ثان وهو سعر صرف الدينار. الاحتياطي له وظيفتان أساسيتان: أولا، يمول الاستيرادات. وثانيا، يحافظ على سعر تعادل الدولار. فعندما تقلل من الاحتياطي سيكون هناك خلل في هذين العاملين. وبالتالي سيتم اللجوء الى خيار مرير وهو تعديل سعر الصرف بسبب شح السيولة بدل ان يكون 132 الفا، ربما يكون 170 من اجل ان تسحب الدولة دينار لسد المتطلبات.
وأزمة السيولة الموجودة اليوم في العراق هي نتيجة للسياسة المالية المعتمدة في العراق وهي السياسة التوسعية وهذا موضوع خطر، سنعاني منه في الأشهر القادمة وقد نصل الى خيارات مريرة، وهذه السنة ممكن تجاوزها لسبب بسيط، وهو ليس سببا اقتصاديا وانما سبب انتخابي. بالتالي الدولة ستجفف المصارف من اجل ان لا تؤثر على البنك المركزي وتقترض خارجيا من اجل ان تدفع الرواتب. لكن في العام القادم إذا استمرت الازمة - واعتقد انها مرشحة للاستمرار- فالوضع سيأخذنا الى خيارات أخرى. ان مشكلة السيولة هي اهم من المشاكل التي نعاني منها.
بالنسبة لازمة الطاقة، ممكن ان نعتبر ازمة أسعار النفط جزءا من ازمة الطاقة لان مبيعاتنا للنفط الخام أصبحت متدنية، وبالتالي اصبح هناك عجز حقيقي. ولا أتصور ان تكون هناك موازنة هذه السنة لسببين: أولا، لأن الموازنة الثلاثية بنيت على 70 دولارا للبرميل وهذا السعر أصبح من الماضي. اما السبب الثاني، فهو ان الموازنة لا يمكن ان تقر بدون تلبية احتياجات التربويين وغيرهم. وهذا سيضع الحكومة في مأزق. خصوصا بعد قرار البرلمان الأخير بالاستجابة لسلم الرواتب الجديد للتربويين وموظفي المهن الصحية. ربما أيضا تكون لدينا ازمة غاز. وترامب عندما منع الغاز فهو لم يقصد الغاز وانما يقصد تحويلات الدولار. بالتالي الإيرانيون مستمرون بضخ الغاز، لكن حسب الفائض المتاح. بالتالي قد تكون لدينا مشكلة كهرباء لان الإيرانيين أصبحت لديهم الحرية في التصدير لكن العراق ليس قادرا على الدفع، وأزمة الطاقة إذا حدثت في العراق فلن تؤثر على الناس فقط. هذه الازمة احدى طرق معالجاتها هي تحويل المحطات من الغاز الى الكاز. لكن هذا يعني زيادة الطلب على الكاز، وازدياد استيراداتنا منه.
في النهاية، لا يوجد بلد اليوم جاذب للاستثمار وهو ليس لديه امدادات كهربائية منتظمة ومستمرة فأزمة الكهرباء، كجزء من ازمة الطاقة، سوف تضرب القطاعات الاقتصادية وتزيد من تكلفة انتاج السلع في العراق، وتقلل من القدرة التنافسية للسلع المنتجة بالداخل، على قلتها. لذلك هناك مصانع كثيرة تفضل ان تنتج في دول الجوار وتصدر للعراق.
بالنسبة لأزمة الوظيفة، ان المشكلة في العراق هي ان الاقتصاد ريعي وغير منتج للسلع والخدمات وغير موفر لفرص العمل. لذلك نرى ان الوسيلة الوحيدة اليوم لدى الحكومة هي أما ان تعيين الناس او تعطيهم رواتب الحماية الاجتماعية، ولا توجد وسيلة أخرى. فعندما تقول الحكومة انها حاربت الفقر وخفضت نسبة البطالة، فذلك الامر تم من خلال الرعاية الاجتماعية وهذه الرواتب ممولة من إيرادات النفط. ونحن نتحدث عن 6 او 7 تريليونات دينار ممولة من إيرادات النفط. فعندما تجف إيرادات النفط سوف يقل التوظيف وتقل الرواتب المدفوعة. كما ان التعيينات من المتوقع ان تتوقف خلال الفترة القادمة.
سيؤثر الركود الاقتصادي في العراق سلبيا على كل الأنشطة الاقتصادية، بما فيها أنشطة القطاع العام ومستحقات المقاولين. وبالتالي، ستتوقف المشاريع وسوف يتم تسريح العمال. فعندما يتقلص الانفاق الحكومي، فان دورة الحياة الاقتصادية كلها ستصاب بالركود، والقطاع الخاص سيتأثر سلبيا. وبالتالي، حجم التوظيف سوف يقل. وسيواجه العراق المشكلة الأخطر بشكل أكثر صراحة، وهي البطالة. ان البطالة التي تضرب الشباب قنبلة موقوتة.
في العراق لا توجد حلول استراتيجية، ولم يتم تنويع الاقتصاد.
حتى في قطاعات مثل قطاع الإسكان اعطينا كل امكانياتنا ومواردنا لبضعة مستثمرين استغلوا الوضع الحالي، وحصلوا على أرباح طائلة. ومعظمهم واجهات لأحزاب سياسية. بينما كان المفترض ان ننشط قطاع الإسكان ويكون هو القاطرة التي تستقطب الايدي العاملة وتشغل مئات الالاف من الناس، لكننا لم ننجح في ذلك. كما لم ننجح في قطاع الصناعة الوطنية او القطاع الزراعي ليوفرا فرص عمل.
التنمية والإرادة السياسة
الثقافة الجديدة: كون تخصصكم الدقيق هو قضايا التنمية، كيف تنظرون لإمكانيات التنمية في العراق في المستقبل القريب؟ وهل الحكومة التي ستنبثق عن الانتخابات القادمة قادرة على الشروع بعملية اصلاح تمهيدا لإطلاق تنمية حقيقة؟
د. المرسومي: من وجهة نظري الإصلاح السياسي هو النقطة الأهم. إذا لم يكن هناك اصلاح سياسي فلا يمكن ان تكون هناك تنمية في العراق. المسألة ليست مسألة شخوص وانما بنية النظام السياسي. لكن الامر ممكن، لان العراق يمتلك كل المقومات لبناء تجربة رائدة في التنويع الاقتصادي والتنمية والتطور. وهناك موارد كبيرة، موارد مالية وموارد طبيعية وقوة بشرية. وهناك ايضا تنوع وامكانيات كبيرة مثل السياحة والزراعة والصناعة.
لكن المشكلة سياسية إذا لم يتغير النظام السياسي لن يتغير شيء، أي حكومة ستأتي ستستجيب لإرادة السياسيين والأحزاب الحاكمة. فالحكومة نتاجهم، وهم لديهم شروط، والشروط هي المحاصصة. والمحاصصة اليوم موجودة في كل مكان من اجهزة الدولة.
هذا النظام يجب ان ينتهي، ويأتي نظام سياسي آخر يؤمن بمشروع نهضوي تنموي. وإذا حدث ذلك فمن الممكن ان يبنى العراق، بحيث يمكن ان تظهر الاثار الإيجابية خلال خمس سنوات. فالتنمية تحتاج الى إرادة سياسية، بحيث تكون هناك إدارة رشيدة لمحاربة الفساد. الامر سياسي بحت. ان لم تتواجد هذه الأمور فالحديث عن التنمية حديث فضفاض، بل نوع من العبث.
أعتقد ان الحكومة التي ستنبثق بعد الانتخابات القادمة ستظل على ذات السياسات الاقتصادية الريعية. وستعتمد، أيضا، على حجم الإيرادات المتاح من النفط. وستصل الى نفس المسار في محاولة تبذير الأموال وشراء صوت الناس وشراء الوقت أيضا. الا ان الحكومة القادمة ستواجه إشكالية النفط والتعامل مع الواقع الجديد. فالمشاكل الاقتصادية التي بدأت تتفاقم بفعل الاحتياجات الكبيرة للناس والزيادة الكبيرة في السكان. والحكومات في الدول الريعية، وبغض النظر عن الشعارات، سوف تبقى حكومات قاصرة غير قادرة على تصحيح الوضع الاقتصادي. اليوم نحن لسنا بحاجة الى إصلاحات ترقيعية، ولا نحتاج الى اعمال إنشائية متفرقة مثل بناء جسر هنا ومستشفى هناك ومدرسة هنالك، فهذه ليست تنمية هذا ترقيع.
وعندما اتحدث عن التنمية أعنيها بكل اطرها: السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. من الذي يقوم بالتغيير؟ القوى السياسية والإرادة السياسية الجديدة، "الطبقة" السياسية الجديدة، بمواصفات جديدة وتوجهات جديدة. لان "الطبقة" السياسية اليوم مشتتة يهمها مصالحها، بالتالي تحاول ان تفضل المصلحة السياسية للأحزاب على مصلحة البلد، فكل حزب مسيطر على وزارة او مؤسسة ويجيرها لمصلحته الخاصة، وهذه العملية لن تنتهي، وبالتالي الحكومة القادمة لن تختلف عن السابقة سوى في الاسم والمسميات والوعود، لكن بالنتيجة هي دولة ريعية تتبع متغيرات السوق النفطية العالمية. سيبقى الفقر في العراق لأن الموضوع سياسي. عندما نحدث اصلاح سياسي فان كل الأمور الأخرى ستحل.
طبعا، عملية التغيير هذه لن تكون سهلة. بالتأكيد ستكون هناك معارضة سياسية ومعارضة جماهيرية. وستواجه بكل تأكيد بمقاومة ومنها مقاومة شعبية. لكن الدولة القوية هي التي توفر شروط التنمية. لان التنمية، كما ذكرت سابقا، فيها إجراءات مؤلمة، وعلى الناس ان تتحملها. لكن يجب ان تكون الدولة على قدر من الحزم خصوصا في المراحل الأولى. يجب ان تكون السلطة قوية من اجل فرض إجراءاتها على الناس، يجب على السلطة أولا ان تمتلك ادواتها، فاذا امتلكت أدوات السلطة فبناء الاقتصاد في العراق ليس صعبا، لان اهم شيء متوفر فيه وهو تمويل التنمية، أيضا إدارة المال وكيف تستخدم هذا المال وبأي طريقة تستخدمه.
ترامب!
الثقافة الجديدة: ما هو تقييمك للصراع التجاري العالمي الحالي الذي شرع به الرئيس الامريكي دونالد ترامب؟
د. المرسومي: من وجهة نظري، ما كان للصين منذ الإصلاح الاقتصادي 1978 – 1979، ان تحظى بهذه المكانة المرموقة في العالم لولا السوق الامريكية. والولايات المتحدة الامريكية هي التي فتحت السوق الامريكية أمام السلع الصينية وتغاضت عن ممارسات تجارية "غير مشروعة" للصين. منها على سبيل أمثال لا الحصر التجاوز على حقوق الملكية الفكرية. وما قام به ترامب هو، بتصوري، مجرد كشف عورة النظام التجاري العالمي. حيث يبدو ان الكثير مما كنا نسمعه عن العولمة وتحرير التجارة لم يكن صحيحا. قبل ترامب كانت الصين تفرض ضرائب ورسوما كمركية بنسبة 67%؛ اما الاتحاد الأوربي فكان يفرض 39%، بينما فيتنام واليابان 49% و46% على التوالي. بمعنى ان العالم كان يعيش في ظل رسوم كمركية كبيرة. العجز بالميزان التجاري الأمريكي ترليون و200 مليار دولار، والدين الداخلي 32 ترليون دولار. وبالتالي فان ترامب يعتقد ان هذه مشكلة عميقة في كيفية تحويل هذا العجز الى فائض في موازين المدفوعات، وميزان الحساب الجاري. انا أرى ان رد فعل الصين مبالغ. انا اعتقد ان ترامب يطالب بتحرير متبادل للرسوم من قبل الطرفين. والدليل انه أوقف فرض الرسوم الكمركية على الكثير من دول العالم عندما بدأت عملية التفاوض بمعنى ان يكون هناك تحرير متبادل وهذا ما ترفضه الصين.
ترامب، من خلال سياسته هذه، يبدو انه يريد من ورائها قضيتين اساسيتين. أولا، زيادة إيرادات الحكومة؛ وثانيا، مبدأ الحماية. لكن، انا أتصور ان الهدف النهائي لترامب هو تحرير التجارة فعليا. وهذا الهدف، ان تحقق على المستوى العالمي، فسيكون مضرا في الدولة غير المتطورة والنامية. الا انه بالتأكيد في صالح الدول المتطورة، فتحرير التجارة والاقتصاد، وكذلك السياسات الحمائية التي فرضت بعد حملة ترامب، هي دائما في صالح الدول المتطورة.
الصين تعتقد ان لديها مصدر قوة، وهو امكانيتهم التصديرية الكبيرة. وهم قادرون على الصمود وعلى تغيير نمط التجارة. لكن الى أي مدى ممكن ان تستمر الصين؟ هل ستستجيب لضغوط ترامب؟ هذه المسألة من الصعب تحديدها!
بالتأكيد هذه الحرب التجارية لها انعكاسات سلبية، حتى لو كانت بين الصين والولايات المتحدة الامريكية فقط، أي بين أكبر اقتصادين في العالم. حوالي 30% من التجارة العالمية سوف تتعرض الى هزة. وهذا سوف يؤدي الى ركود وتضخم. بمعنى انكماش في الإنتاج وتضخم في أسعار السلع. التداعيات ستكون على مستوى النمو الاقتصادي العالمي، كما ان حجم التجارة العالمية سوف يتدهور. وستتضرر الكثير من الدول، خصوصا غير المتطورة والنامية، ومنها العراق. حيث ان كلف السلع سترتفع لأن اليوم لا توجد سلعة تنتج في بلد واحد وانما عدة بلدان.
في العراق ما يهمنا هو الطلب على النفط، فاذا بدأ النمو الاقتصادي العالمي بالتراجع، فإن الطلب على النفط سوف يتراجع أيضا. خصوصا ان هناك بوادر تراجع الطلب الصيني على النفط منذ 6 أشهر. نعم، هم اليوم بعد هذه الازمة قطعوا وارداتهم من النفط الأمريكي ولجأوا الى الشرق الأوسط، لكن هناك مشاكل اقتصادية في الصين أدت الى انخفاض في النمو الاقتصادي الصيني، وهذا سوف ينعكس على الطلب على النفط، وبالتالي ينعكس على الأوضاع الاقتصادية في البلدان المنتجة والمصدرة للنفط وعلى كل العالم. دون ان ننسى طبعا، كما وقد سبق ان حذرنا، بأن الصين بدأت اساسا التحول نحو الطاقة المتجددة، وهذا جعلها تقلل الطلب على النفط. العالم كله سوف يتضرر، ونلاحظ اليوم التداعيات: حركة الأسهم؛ الذهب بدأ بالارتفاع؛ والدولار بدأ بالانخفاض. وعندما ينخفض الدولار يؤثر على القدرة الشرائية في البلدان المستوردة ويؤثر أيضا على حجم مديونيتها.
في النهاية، اعتقد ان الموضوع اقتصادي بحت. والولايات المتحدة الامريكية لديها مشاكل اقتصادية كبيرة، وعجز كبير في ميزانيتها، وحجم مديونية مهول. بالتالي، هذه خطوة استباقية، الا انها ليست جديدة على ترامب. فقد بدأ بها عام 2018. لكنه لم يستكملها واليوم عاد ليستكملها. والغرض منها تصحيح الميزان التجاري مع الصين خاصة، لان أكبر عجز هو مع الصين. قد نرى في المستقبل صيغة معينة بين الطرفين.
من جهة أخرى يدور حديث هذه الأيام عن ان عرش الولايات المتحدة، وسيطرتها عالميا، بدأ يهتز. بحسب وجهة نظري فهذا امر صعب. فهيمنة الدولار الأميركي، الناتجة من كونه يمثل 60% من الاحتياطات النقدية في البنوك المركزية يعد من اهم مصادر قوة الولايات المتحدة الامريكية. بالإضافة الى هيمنة الولايات المتحدة على خطوط نقل الطاقة بالعالم، الغاز والنفط. وكذلك، التكنولوجيا العسكرية خاصة والقواعد العسكرية المنتشرة في العالم. الصين من الممكن ان تنافس اقتصاديا، وهي بدأت بالفعل بالمنافسة الاقتصادية، لكن في المسائل الأخرى، تحتاج قدراتها التنافسية الى مدى زمني طويل وبعيد. وحتى مشاريعها الاستراتيجية لم تنجح كما كان يراد لها. على سبيل المثال أصبح الممر الهندي، وربما لاحقا سيصبح طريق التنمية، طريقا بديلا عن طريق الحرير الذي تطرحه الصين.