تشرين1/أكتوير 10
   
 
 فهمي حمدي شاهين، تولد الخليل/ فلسطين عام 1961. عضو المكتب السياسي لحزب الشعب الفلسطيني. عضو لجنة الحوار الوطني وناشط في لجان نداء فلسطين. وعضو مجالس أمناء بعض المؤسسات الأهلية/ الحقوقية والاجتماعية. مع خبرة طويلة تقارب 30 عاما في العمل في مجال الصحافة.  
 
الثقافة الجديدة: الأستاذ فهمي شاهين المحترم، نرحب بكم كثيرا، ونشكركم على موافقتكم على إجراء الحوار معنا على صفحات (الثقافة الجديدة)، وذلك بالرغم من انشغالاتكم الكثيرة في ظل الظروف الراهنة.
بعيدا عن السرديات التي يجري ترسيخها هنا وهناك منذ عملية طوفان الأقصى؛ ما هو توصيفكم لملابسات ما جرى في 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023؟ وما هي أبرز التطورات والتحولات الكبرى، والتي قادت الى الطوفان؟
شاهين: أولاَ أشكر مجلتكم العريقة على هذا الاهتمام، غير المفاجئ بالنسبة لنا، بقضية ونضالات وحقوق شعبنا الفلسطيني، وفي قضايا وتطلعات الشعوب من أجل حريتها وتحررها الوطني والاجتماعي، والقيم الإنسانية عموماَ.
بداية، اسمحوا لي رداَ على سؤالكم، أن أؤكد أن مسيرة نضال ومقاومة الشعب الفلسطيني بمختلف الأشكال للاحتلال، مستمرة منذ عقود طويلة، ومرت هذه المسيرة بمراحل ووتائر مختلفة، ولم تتوقف يوماَ أو تنته قبل السابع من أكتوبر 2023 ولم تبدأ معه، وبلا شك سوف يستمر هذا النضال كأمر طبيعي لشعب يعاني الاحتلال وممارساته الاستعمارية وجرائمه وإرهابه المنظم. وسيبقى يتمسك بحقوقه وأهدافه الوطنية والإنسانية المشروعة.
إن إقدام فصائل المقاومة الفلسطينية على توجيه ضربة واسعة لمنظومة الاحتلال العسكرية والأمنية والاستيطانية من خلال فتح معركة يوم السابع من أكتوبر2023، بغض النظر عن بعض الملاحظات والحسابات الهامة التي لم تؤخذ بالاعتبار في هذا الشأن، فإن هذه المعركة تندرج في إطار حق شعبنا المشروع في مواصلة كفاحه الوطني حتى دحر الاحتلال عن أراضيه ونيل حقوقه المشروعة في الحرية والعودة والاستقلال.
وفي حقيقة الأمر، ان "اسرائيل" ومنظومتها الصهيونية، وخلفها الولايات المتحدة الأمريكية، هما من تتحملان المسؤولية الكاملة والمباشرة عن هذا التصعيد، وعن العدوان العسكري الواسع على شعبنا في قطاع غزة، وحرب الإبادة الجماعية وعمليات التجويع والتعطيش التي يتعرض لها وما زالت مستمرة على نحو أكثر وحشية، وهي الحرب غير المسبوقة في التاريخ المعاصر حتى وفق تقييمات وأدلة وشهادات دولية ثابتة. وكذلك تتحملان المسؤولية عن كل ما ترتب على ذلك من نتائج وتداعيات على المستويات كافة، بسبب استمرار "اسرائيل" في احتلالها للأراضي الفلسطينية، وتنكرها لحقوق شعبنا وارتكابها أفظع الجرائم اليومية بحقه، وإمعانها في تنفيذ مخططاتها وممارستها الاستعمارية، بما في ذلك استمرار محاصرة أكثر من مليوني وثلاثمئة ألف مواطن فلسطيني في قطاع غزة.
طبعاَ، قامت وعلى الفور حكومة الاحتلال ومنظومتها، باستغلال ما جرى يوم السابع من أكتوبر، وهو أمر غير مفاجئ، وعملت على توظيفه لصالح تعزيز وتسويق روايتها بكل ما حملته هذه الرواية من أكاذيب وتشويه لشعبنا وشيطنته وشيطنة مقاومته ووسمها بالإرهاب، من أجل تبرير دائرة حربها العدوانية والمفتوحة على الشعب الفلسطيني بأسره، وتبنت صراحة وعلنية التوجه لحسم الصراع معه بالقوة الغاشمة، لصالح مخططاتها ومشاريعها الاستعمارية وأطماعها التوسعية، عبر ارتكاب مزيد من المجازر بحقه.
كما سعت الولايات المتحدة من جانبها، لاستغلال ذلك في تعزيز نفوذها وهيمنتها المنفردة بالمنطقة، في ضوء التحولات الجارية والمستمرة على صعيد النظام العالمي.
أما أبرز التطورات والتحولات التي قادت إلى معركة السابع من أكتوبر والمسمى بـ "طوفان الأقصى"، فبالتأكيد هناك العديد من العوامل التي لعبت دورا في ذلك، يمكن تلخيصها في:
اولاَ، انغلاق أي أفق سياسي جاد لوضع حد للاحتلال وممارساته، واستبعاد الحل العادل للقضية الفلسطينية حتى وفق قرارات الشرعية الدولية.
ثانياَ، صعود أكثر الحكومات الصهيونية تطرفاَ وفاشية للحكم في تاريخ دولة الاحتلال الإسرائيلي، وسعيها المحموم لفرض سلسلة مشاريع متلاحقة ومتصلة للتطهير العرقي وعمليات التهويد وخاصة في مدينة القدس المحتلة، وضم الأراضي الفلسطينية وتفتيت وحدتها، إلى جانب استمرار حصار قطاع غزة ومساعي فصله عن بقية أراضي الوطن، وتعزيز سياسة الفصل العنصري "الابارتيد".
ثالثاَ، وبالتزامن مع ما سبق، تصاعدت واتسعت عمليات القتل والتنكيل والتعذيب بحق المدنيين الفلسطينيين، وحملات الاعتقال في صفوفهم، واحتجاز الآلاف منهم في سجون ومعسكرات الاحتلال، وتعريض المئات إن لم يكن الآلاف منهم للتعذيب وسوء التغذية والحرمان من العلاج. هذا إلى جانب استخدام سياسة العقوبات الجماعية بحق المواطنين الفلسطينيين وهدم منازلهم وممتلكاتهم، وارتفاع حدة هذه الجرائم التي ترتكبها سلطات الاحتلال يومياَ بحق شعبنا.
يضاف إلى كل ذلك، استمرار التوسع في مصادرة الأراضي وبناء المستوطنات، وزيادة واتساع إرهاب وجرائم عصابات المستوطنين الصهاينة في الضفة الغربية المحتلة، وذلك بدعم من أعلى المستويات السياسية والعسكرية داخل "اسرائيل"، بما في ذلك تشكيل ميليشيات منظمة ومسلحة لهم، تعمل بحماية قوات وشرطة الاحتلال، حيث ترتكب هذه الميليشيات اعتداءات يومية على المدنيين الفلسطينيين وأراضيهم وممتلكاتهم، تشمل أيضاَ القتل والحرق، إضافة إلى اقتحاماتهم واعتداءاتهم المتكررة للمقدسات الإسلامية والمسيحية وخاصة المسجد الأقصى.
رابعاَ، استمرار الدعم والانحياز الأمريكي اللامحدود لدولة الاحتلال الاسرائيلي ولسياساتها وممارساتها التي ترتقي إلى مستوى جرائم الحرب، وتوفير الحماية الاقليمية والدولية لها من أي مساءلة وملاحقة ومحاسبة كانت، بما في ذلك استخدام "الفيتو" والحيلولة دون ملاحقتها جنائياَ.
هذا إلى جانب استمرار حالة العجز وحتى الصمت الدولي على كل ذلك، وعدم الجدية في تطبيق القوانين والمواثيق الدولية، وفي مقدمتها اتفاقيات جنيف الرابعة التي من المفترض تطبيقها مبكراَ على كل الأراضي الفلسطينية المحتلة، وكذلك عدم تنفيذ أي من قرارات الأمم المتحدة المتعلقة في القضية الفلسطينية، والتي تحول أمريكا وحلفائها دون تحقيقها.
خامساَ، حالة العجز المستمرة وهرولة بعض الدول العربية والاقليمية، نحو تطبيع العلاقات السياسية والأمنية والاقتصادية مع "اسرائيل"، بل والسعي لتوسيع علاقات التطبيع هذه بالمجان، ودون ثمن يتعلق بوضع حد لاحتلالها وممارساتها ضد الشعب الفلسطيني.
هذا طبعاَ إضافة لعوامل أخرى، مثل: حالة الانقسام الداخلية التي كانت سائدة في "اسرائيل" وعبرت عنها الاحتجاجات التي بدأت عام 2023 ضد ما يسمى بـ"الإصلاحات القضائية" التي كان يروج لها بنيامين نتنياهو وائتلافه الحكومي، وكذلك اشتداد الصراعات الجيوسياسية والاقتصادية بين الدول العظمى، وأخرى بين دول اقليمية وازنة في المنطقة، وحدوث بعض التحولات في النظام العالمي.
 
الثقافة الجديدة: أستاذ فهمي، برأيكم ما هي الخلفيات الأيديولوجية والسياسية والاجتماعية، في داخل الكيان الصهيوني، التي تسببت في بلوغ آلة القتل الصهيونية هذا المستوى غير المسبوق من الدموية والإجرام؟
شاهين: وفق جوهر الايديولوجية العنصرية والفاشية للحركة الصهيونية، وقواها المتنفذة والمعبرة عنها داخل "اسرائيل" وخارجها، فإنها ليست مجرد دولة كبقية دول العالم، بل هي "مشروع مستمر ومستدام". وبالفعل ظهرت وأكدت سياساتها على مدار العقود الطويلة الماضية أنها على هذه الصورة، كمشروع استعماري استيطاني احلالي متمدد، وهو ما تقوم عليه منظومة السيطرة متعددة الأبعاد التي تحكم "اسرائيل" اليوم، وفي محطات تاريخية سابقة. وقد سخرت وما زالت تسخر الدين والايديولوجيا الصهيونية وامكانياتها وتحالفاتها، لتوظف ما يحلو لها من ادعاءات وذرائع، تخدم وتبرر بالأساس مخططاتها الاستعمارية وتحقق غاياتها السياسية الأخرى، في التوسع والهيمنة بالمنطقة لصالح الأهداف المشتركة مع الولايات المتحدة الأمريكية وبالشراكة معها.
وكجزء من مخططاتها الاستراتيجية التي تتحين فرص تحقيقها بين حين وآخر، فإن القوى الصهيونية الحاكمة أو المتنفذة في كيان الاحتلال الاسرائيلي، تقوم بالاستناد للحماية والتغطية الأمريكية، باستغلال حالات العجز على المستويات الرسمية، وكل حالة فوضى أو صراعات وتناقضات داخلية في المنطقة، وتعمل على تغذيتها وهندستها وهندسة ما يمكن أن يتمخض عنها من تداعيات وتغييرات بصورة أو أخرى، طبعاَ هذا بما يخدم المصالح الأمريكية – الاسرائيلية. إضافة للتدخلات في شؤون دولها وشعوبها، تارة بذريعة "الدفاع عن الأقليات وحمايتها"، وتارة لمحاربة "الإرهاب" وحماية "الاستقرار والأمن"... الخ، كما هو حاصل الآن وسبق أن حصل مع بعض دول المنطقة العربية. وطبعاَ هذا بعلم ومساعدة الأمريكان ووكلائهم.
وبالمناسبة، لا تتردد منظومة الاحتلال وقواها وأذرعها، عن اتهام أي جهة كانت في العالم، دولاَ أو حكومات أو مؤسسات أو أفرادا يعارضون سياساتها ولو بالتعبير، بتهمة "معاداة السامية"، حتى اتهام أوساط يفترض أنهم من ضمن أصدقائها. هذه التهمة التي لا أساس لها، هي واحدة من أسخف الاتهامات والمصطلحات التي تكثر "إسرائيل" استخدامها بشكل ممنهج، وتلصقها بكل معارض أو حتى منتقد لسياساتها وممارساتها.
وبرغم أنها من أكثر الاتهامات والادعاءات كذباَ وسفالة على الإطلاق، إلا أن الإدارات الأمريكية وحلفاءها وقواهم اليمينية، يتعمدون تبنيها والترويج لها بكل وقاحة.
 
الثقافة الجديدة: يبدو أن من خطط ونفّذ معركة "طوفان الأقصى" لم يكن على معرفة وافية بموازين القوى المختلفة، ولا ظروف وملابسات ما قبل أكتوبر/ تشرين الأول 2023، سواء في داخل فلسطين، أو في المنطقة، أو في العالم. وبالتالي، نستطيع القول ان استشرافاته، سياسيا وعسكريا واستراتيجيا، كانت دون المستوى المطلوب إلى حد كبير. بالطبع، من الصعوبة بمكان لأي كان الحديث عن أثر الطوفان الأقصى على المدى الاستراتيجي بعيد المدى، لكن ما نقصده هنا المديات القريبة والمتوسطة.
بصياغة أخرى، لا يمكن فهم مآلات الطوفان اللاحقة، وتمادي الصهاينة بعدوانهم البشع وحجم المأساة المرعبة التي تعرضت لها غزة، والمواقف الباردة للدول والشعوب العربية والإسلامية.. الخ، الا من خلال فهم عميق وإدراك على مستوى عال من الشمولية لما كان بعضه، او قسم كبير منه، محجوبا او غائبا عن رؤية من خطط ونفذ الطوفان. بالطبع، نحن لا ننكر أبدا ان الفهم والإدراك يأتي، كعادته، متأخرا وبطيئا.
الثقافة الجديدة: ما هو رأيكم أستاذ فهمي بهذا الطرح؟ وكيف لكم ان تميطوا اللثام عن مكنونات الحدث؟
شاهين: من حيث المبدأ، ان قرار المواجهة العسكرية يوم السابع من أكتوبر، هو عمل مقاوم جريء وصمود شعبنا الأسطوري والذي دفع وما زال يدفع أثمانا باهظة نتيجة عدوان الاحتلال وحربه الإبادية التي يشنها عليه منذ أكثر من 22 شهراَ متواصلة، مثل قمة البطولة والمقاومة. ولكن يجب أن نؤكد بوضوح استناداَ لتجارب غنية ومختلفة في العالم، ومنها تجربة شعبنا الفلسطيني خلال المسيرة الطويلة لنضاله التحرري، أن الشجاعة والجرأة والتضحية رغم قيمتهم السامية وأهميتهم البالغة، غير كافية، وحدها، لتحقيق متطلبات إدارة الصراع مع العدو المجرم، واتخاذ قرارات المواجهة المسلحة وفتح المعارك النوعية معه، أياَ كان شكلها وأسلوبها.
ففي الحقيقة ان ذلك يحتاج أيضاَ بما لا يقل أهمية عن كل ما ذكر، إلى حكمة القيادة السياسية التي من واجبها الاستناد في صراعها التحرري مع الاحتلال، وكل القرارات المصيرية المتعلقة بشعبها، على رؤية سياسية وطنية موحدة، وبالضرورة وفي كل الأحوال أن تأخذ بالاعتبار حساب العوامل والإمكانيات والاحتياجات الموضوعية والذاتية في معاركها، وكذلك إدراك موازين القوى والسعي لتغييرها التدريجي، وليس الاستسلام أو الخضوع لها، وأيضاَ فهم طبيعة الصراعات الجيوسياسية القائمة، والمصالح والتحالفات الحقيقية في المحيط، والأكثر أهمية من ذلك في الحالة الفلسطينية، الحفاظ على أساس وجوهر المشروع الوطني لشعبنا ومقاومته والمتمثل في دعم وحماية صموده على أرضه، والحيلولة دون نجاح الاحتلال في مخططات التهجير القسري أو حتى ما يسمى بالهجرة "الطوعية" إلى خارج الوطن، أو النزوح من مناطق السكن إلى أخرى، كما هو حاصل الآن في قطاع غزة، وهذا الأمر كان وما زال مطلباَ دائماَ من كل الأطراف الفلسطينية.
وفي هذا الشأن، نعم، يمكن القول ان هناك العديد من الحسابات السياسية والعسكرية وغيرها، ثبت أنها لم تكن ضمن حسابات وإدراك من خطط وفتح هذه المعركة، على النحو المطلوب إن جاز التعبير، وهي في رأينا رزمة عوامل وحسابات، يمكن اختصارها بالآتي:
أولا، اختلال موازين القوى السياسية والعسكرية والاقتصادية على أكثر من صعيد، وطبيعة المصالح المشتركة والتحالفات السائدة في المنطقة والإقليم بشكل خاص، وفي المقدمة التحالف الاستراتيجي العميق بين كيان الاحتلال الاسرائيلي وزعيمة الإمبريالية والإرهاب العالمي الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها الغربيين.
ثانيا، القدرات العسكرية للاحتلال الإسرائيلي وتفوق آلته الحربية في عديد المجالات، مقابل محدودية قدرات المقاومة الفلسطينية، رغم بسالة مقاتليها وقيادتها وتضحياتهم.
ثالثا، فتح معركة على النحو الذي جرى في بقعة جغرافية صغيرة ومكشوفة، مساحتها الإجمالية لا تتعدى الـ(365 كيلومتراً مربعاً)، وهي الأكثر كثافة سكانية في العالم، وهذا دون ضمان توفر اسناد وعمق استراتيجي لهذه المعركة وساحتها وأهدافها.
رابعا، غياب أي خطط استباقية للحد من سهولة القتل الجماعي لآلة الحرب الاسرائيلية، أو الحد من حجم الخسائر التي سعت وتسعى لها في صفوف المدنيين من أبناء وبنات شعبنا، والحيلولة دون الاستفراد بهم، وكذلك غياب خطط لدعم وتعزيز صمودهم في الوطن.
بالتالي، اتفق أن الفهم، والإدراك عموماَ، كثير ما يأتي متأخراَ أو بطيئاَ للأسف، وهذا ما كان يجب تجنبه في القضايا الكبرى أو المصيرية، استناداَ للواقع الموضوعي القائم وللتجارب الحية للشعوب ومنها شعبنا، وانطلاقاَ من الفهم العلمي للصراعات الوطنية والاجتماعية ومعاركها المختلفة.
مع ذلك، تاريخيا سياسات وممارسات "اسرائيل" العدوانية، من خلال منظومتها الأمنية والعسكرية وعصاباتها تجاه شعبنا وحتى تجاه شعوب أخرى ودول معينة، كانت وما زالت تقوم على إرهاب الدولة المنظم، وتتسم بالوحشية والدموية. فهي لم تلتزم يوماَ في صراعاتها واعتداءاتها ومخططاتها بأي من القوانين والمواثيق والقرارات الدولية، وهي لا تراعي حتى أبسط الاعتبارات الإنسانية في كل ذلك. وعلى سبيل المثال وليس الحصر، معروفة وثابتة تلك المجازر التي اقترفتها بحق المدنيين الفلسطينيين العزل عام 1948، وما تلاها ورافقها من هدم وحرق لقراهم، وكذلك ما حصل على مدار العقود الماضية من مجازر أخرى بحق المدنيين والأسرى الفلسطينيين والمصريين واللبنانيين وغيرهم، وهي المجازر المخططة التي كانت تهدف دائما إلى ردع وإرهاب الشعب ومقاومته وكل من يناهضها، وإشاعة الرعب بينهم والنيل من إرادتهم، وهذا كله من أجل تحقيق أهدافها السياسية في الاحتلال والاستيلاء على الأراضي وثرواتها، وفرض سيطرتها العسكرية والتهجير القسري والتطهير العرقي للسكان، وإيصال رسائل لشعوب ودول وجيوش المنطقة، تتعلق بإبراز تفوقها العسكري وقوة ردعها الوحشية.
وبالتالي صحيح، كان يجب إدراك وتقدير تلك الحقائق وعديد العوامل الأخرى، بما في ذلك الخلل في موازين القوى المختلفة، وعدم المبالغة في الرهان على الخارج ببعده العربي والإقليمي والدولي بالشكل الذي اتضح وثبت لاحقاَ.
من جهة ثانية، استغلت حكومة الاحتلال وكل منظومتها الفاشية، وكالعادة تجاه أي حدث كبير أو صغير يتعلق بها، ما جرى يوم السابع من أكتوبر، وعملت على تنظيم حملة واسعة لتسويق روايتها الصهيونية حوله وحول صراعها مع الشعب الفلسطيني، مستخدمة لغات وأساليب مختلفة. وكانت روايتها وحملتها مليئة بالأكاذيب والتشويه لنضال وقيم شعبنا الإنسانية والوطنية. حيث تعمدت شيطنته وشيطنة مقاومته ووسمها بالإرهاب. كما كان الحال تاريخياَ تجاه كل الحركة الوطنية وفصائل منظمة التحرير الفلسطينية في كل مراحل النضال الفلسطيني، وذلك من أجل تبرير حروبها ومجازرها وممارساتها الإرهابية المنظمة، بما في ذلك توسيع دائرة حربها الحالية والمفتوحة على كل الشعب الفلسطيني، ومحاولة حسم الصراع معه لصالح مشاريعها الاستعمارية ومخططاتها لتهجير شعبنا، وأيضاَ لصالح أطماعها بالتوسع والهيمنة في المنطقة، عبر ارتكاب مزيد من المجازر بحق شعبنا، من جهة، والاعتداءات العسكرية والتهديدات المتكررة على شعوب ودول بالإقليم، والتدخل في شؤونها الداخلية والمس بسيادتها واستقرارها، من جهة ثانية.
وفي سياق آخر، أعتقد أن تضخيم وتعظيم بعض الأطراف الفلسطينية لقدرات المقاومة العسكرية وأذرعها الجماهيرية والسياسية، مثلاَ، وتسويق ذلك مراراَ وتكراراَ، لم يكن مبرراَ والحق أضراراَ غير قليلة فيها وبشعبنا. وكذلك الأمر في ما يتعلق بالمبالغة في الرهان على بعض العلاقات العربية والإقليمية، حيث جرى استغلال ذلك أسوأ استغلال من قبل حكومة الاحتلال ومن خلفها الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها الغربيين، لتبرير دعمهم اللامحدود لـ"اسرائيل" وتزويدها بأحدث الأسلحة الفتاكة، وإعطاء قيادتها الفاشية وآلتها الحربية ضوء أخضر ومفتوح لترتكب أفظع الجرائم بحق شعبنا وخاصة في قطاع غزة، لتحقيق غاياتها السياسية في الردع والاحتلال والتوسع والهيمنة.
وأود الإشارة أيضاَ، لطبيعة وسرعة الرد الأمريكي بشكل خاص، إضافة لأغلبية دول الاتحاد الأوروبي، حيث أعلنوا ومارسوا صراحة انحيازهم لدولة الاحتلال الاسرائيلي، وتبني وترويج البروباغاندا الصهيونية، بما في ذلك تبني روايتها الكاذبة والمسمومة حول يوم السابع من أكتوبر، وإبراز "إسرائيل كدولة مظلومة وضحية للإرهاب"، من أجل تبرير دعمهم لها ولحربها الدموية على شعبنا، بل جرى التحريض عليه تحت شعارات مختلفة، مثل ما يسمى "محاربة الإرهاب" و"حق إسرائيل بالدفاع عن نفسها وعن مواطنيها".
وفي السياق ذاته، ظهرت وبأبشع صورها طبيعة العلاقة الاستراتيجية بين الإمبريالية العالمية بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية و"اسرائيل"، كون الأخيرة تشكل قاعدتها الاستعمارية وذراعها الإرهابية الضاربة في الشرق الأوسط، وتتعامل معها وكأنها الولاية الـ51 من ولاياتها الأهم.
وبالأساس ما كانت القضية الفلسطينية وحالة شعبنا مع العدوان وتداعياته، أن تصل إلى هذه المرحلة، لولا عجز وأحياناَ تقاعس المؤسسات الدولية عن فرض عقوبات على كيان الاحتلال الإسرائيلي، جراء التدخلات والضغوطات والابتزازات المتعددة للولايات المتحدة وحلفائها الغربيين لبعض الدول والمؤسسات، ودورهم السافر في حماية مرتكبي جرائم الحرب الإسرائيليين، واستخدام حق النقض الفيتو منعاً لأي قرار مناوئ لـ"اسرائيل".
كما أصبحت سياسة ازدواجية المعايير أكثر وضوحاَ ووقاحة من أي وقت مضى، وهي السياسة التي تمارسها الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون منذ زمن طويل تجاه قضية شعبنا وما تعرض له من حروب ومجازر دموية خلال العقود الماضية، بما في ذلك تجاه الحرب الحالية المتواصلة عليه، وما زيارات الرئيس الأمريكي وأركان إدارته المتكررة لـ"اسرائيل" خلال فترة زمنية قصيرة، وتعزيز التنسيق السياسي والعسكري والاقتصادي معها، وتوفير كل أنواع الدعم لها، إلا تعبير بسيط عن هذه العلاقة.
إنّ كل ذلك، بالإضافة لتدني مستوى رد الفعل العربي الرسمي ووحدته، وعجزه عن الارتقاء به لمستوى التحديات القائمة، وفي مقدمتها الحرب الاسرائيلية على شعبنا وتهديداتها السافرة والمباشرة لدول المنطقة، شكل لـ"اسرائيل" وما زال يشكل، عامل تشجيع للاستمرار والامعان في جرائمها الإبادية وتوسيع دائرة حربها الوحشية على شعبنا، والاستهتار بكل القوانين والمواثيق الدولية المتعلق بقوانين الحرب والاحتلال، هذا إلى جانب الاستمرار في تهديداتها واعتداءاتها المتكررة على بعض دول المنطقة العربية.
 
الثقافة الجديدة: لقد ساهم "طوفان الأقصى" أو معركة السابع من أكتوبر والتطورات اللاحقة لها، في تعميق فهمنا وإدراكنا، أو على الأقل إثارة انتباهنا لبعض القضايا الفلسطينية الداخلية، في مقدمتها: طبيعة العلاقة بين فصائل المقاومة، وبينها وبين منظمة التحرير، وبين الكل والسلطة الفلسطينية، وبالتالي استمرار حالة الانقسام الداخلي.
كيف تفسرون انه على الرغم من كل ما جرى ما زالت العلاقة بين الفصائل الفلسطينية المختلفة معقدة؟ ربما الأصح الحديث عن العلاقة بين قيادات الفصائل. وكذلك علاقتهم مع وداخل منظمة التحرير الفلسطينية؟ وكذلك موقف السلطة الفلسطينية "الباهت" من كل ما يحدث!
أستاذ فهمي، قراؤنا ينتظرون منكم تسليط ضوء كاشف على خفايا الشأن الفلسطيني الداخلي، ومواقفه المتباينة من الأحداث. وما هي، برأيكم، سبل تصويب هذه العلاقات بما يخدم مصالح الشعب الفلسطيني وقضيته؟
شاهين: نحن في حزب الشعب وانطلاقاَ من إدراكنا لطبيعة المرحلة التي يمر بها شعبنا الفلسطيني، بوصفها مرحلة تحرر وطني بكل معنى الكلمة، والمهمة المركزية فيها تتلخص في إنهاء الاحتلال بكل مظاهره عن الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967، وعودة اللاجئين الفلسطينيين وفق القرار الأممي 194، أكدنا مراراَ وتكراراَ أن توحيد كل مكونات وقوى شعبنا كافة، متطلب أساسي وشرط ضروري لمواصلة النضال الوطني ضد الاحتلال ودحره، وقطع الطريق على مخططاته الاستعمارية، ومن أجل تعزيز صمود شعبنا على أرضه، بل نحن نرى في الوحدة الوطنية قانوناَ للانتصار على الاحتلال وممارساته. هذا هو موقفنا الثابت تاريخياَ، وقبل حدوث الانقسام وبعده، وقبل وبعد السابع من أكتوبر وما زلنا متمسكين به.
وفي هذا السياق، انخرط حزبنا وعمل بمثابرة مع كل القوى الفلسطينية التي تتقاطع مع هذا التوجه والهدف، في كل المساعي والجهود لإنهاء هذا الانقسام البغيض، بما في ذلك في جميع اللقاءات والحوارات الوطنية من أجل تحقيق الوحدة الوطنية وترتيب وتصليب الجبهة الداخلية الفلسطينية، وقدمنا خلال ذلك العديد من المبادرات السياسية من أجل الوصول لهذا الهدف.
نحن نرى شعبنا اليوم یعیش مرحلة فـي غایة الخـطورة، جراء ما يتعرض له من حرب إبادة جماعية وتطھیر عرقي ومساع محمومـة لتنفيذ الترانسفیر والتھجیر القسري له بأشكال مـختلفة، وتصفية القضية الفلسطينية بالتنسيق والتعاون مع الإدارات الأميركية، شریكة الاحتلال في هذه الحرب وما يترتب عليها من نتائج وتداعيات.
ورغم ذلك، استمرت للأسف حالة الانقسام الفلسطيني، ومعها استمرت وتراكمت أضراره البالغة بغض النظر عن النوايا، وأقلها غياب وحدة الخطاب السياسي الفلسطيني وتشتت الطاقات والجهود في مواجهة المخاطر والتحديات القائمة أمام شعبنا. وساهم ذلك في إعاقة الوصول لأفق سياسي جديد يضمن إنهاء حرب الإبادة المستمرة عليه، وفتح مسار سياسي نحو تلبية حقوقه الوطنية وفق قرارات الشرعية الدولية، بما فيها ذلك حقه في إقامة دولته المستقلة.
فمن جهة، ما تزال حركة "حماس" وبعض حلفائها، يرهنون المشروع والقرار الوطني الفلسطيني بما في ذلك مصير قطاع غزة وسكانه لمواقفها ولخطابها السياسي الانفرادي، وتضرب عرض الحائط بالدعوة إلى تشكيل وفد فلسطيني موحد لإدارة ملف المفاوضات غير المباشرة مع "إسرائيل". ومن جهة ثانية، ما زالت قيادة منظمة التحرير الفلسطينية والسلطة الوطنية، تتردد في الدعوة الفورية لحوار وطني شامل، واتخاذ زمام المبادرة السياسية في مواجهة الواقع الراهن لشعبنا وما يتعرض له، وتقوم باتخاذ العديد من الخطوات بعيداً عن التوافق الوطني، ولا تعمل بجدية على تطبيق العديد من قرارات المؤسسات الوطنية.
نحن نرى ان شعبنا خلال مسيرة نضاله الطويلة، قدم وما زال تضحيات جساماً لا تقدر بأي ثمن، ومثّل قدوة للنضال في الدفاع عن حقوقه ومقاومته في كل المراحل، وكذلك الأمر في ثباته وصموده على أرضه، ونموذج التجربة الحالية والساطعة لصموده الأسطوري في قطاع غزة، خير شاهد على ذلك، فأقل ما يمكن فعله له اليوم من الكل الوطني الفلسطيني، وبشكل خاص من قبل حركتي فتح وحماس، الارتقاء لمستوى تضحياته والتحديات القائمة أمامه ومتطلبات حماية حقوقه ومكتسباته الوطنية والديمقراطية، والتدخل بقوة للحيلولة دون المساس بها أو إهدارها، والعمل مع الجميع على تحصين جبهته الداخلية وتوحيد كل قواه ومكوناته، وتقديم درس جديد في الوحدة الوطنية.
إنّ لحظة الحقيقة اليوم، تفرض على الجميع تجاوز الحسابات الفئوية والضيقة، والتقدم بخطاب سياسي واحد ووفد فلسطيني واحد، يحمل صوت شعبنا من أجل وقف إبادته الجماعية ورفع الحصار عنه كأولوية إنسانية ووطنية عاجلة. كما يعبّر عن همومه وحقوقه ومطالبه في تحقيق الحرية والاستقلال وحق العودة.
نحن من وجهة نظرنا، نعتبر الاتفاق على وحدة الخطاب الفلسطيني والوفد الموحد، ليس شعاراَ رمزياَ أو تكتيكياَ، بل ضرورة وجودية في لحظة يتعرض فيها شعبنا وقضيته لأخطر مؤامرة منذ النكبة، ولا سبيل لمواجهتها إلا بوحدة وطنية حقيقية تعبّر عن إرادة الشعب وتحمي مستقبله.
إن ذلـك كله وغيره، يتطلب وأكثر من أي وقت مضى، الإنهاء الفوري لحالة الانقسام واستعادة وتعزيز الوحدة الوطنية الفلسطينية، والتوصل على الأقل لتوافـق وطني يـقوم عـلى الـتمسك بـالبرنامـج السياسي الـموحـد وقرارات الشرعية الدولية، وفـي المقدمة منھا، انھاء الاحتلال وإقامة الدولـة الفلسطينية المسـتقلة ذات السيادة الكاملة عـلى الأراضي المحتلة عام 1967 وعاصمتها القدس، وهي أراضي الدولة المنشودة التي تشمل - الضفة الغربية والقدس وقطاع غزة - كوحـدة جغرافية وسياسية وولایة قانونية وإدارية فلسطينية واحـدة، وضمان حـق الـعودة وفـق الـقرار الأممي 194، والعمل معاَ لتعزيز صمود شعبنا عـلى أرضه، فهذا الصمود الذي يمثل العقبة الحاسمة في وجه المشروع الصهيوني الذي يستهدف تأبيد احتلاله وتهجير شعبنا الفلسطيني واستكمال حلقات التوسع والهيمنة الاستعمارية.
نعم، ان الانقسام هو فلسطيني فلسطيني، وحتى نكون صريحين، فإن جذره الأساسي منذ بداياته كان صراعا فئويا على السلطة وعلى من يتصدر المشهد السياسي الفلسطيني. ولكن أيضاَ هذا الانقسام أثرت وتؤثر في مساره ومفاصله عوامل ومصالح خارجية مختلفة، سواء كانت عربية أو إقليمية. طبعاَ "اسرائيل" عملت وما زالت تعمل بكثافة وطرق مختلفة، مباشرة وغير مباشرة، على إبقاء وتعزيز هذا الانقسام، كونها صاحبة المصلحة الأولى فيه، وتسعى لاستمراره إلى أقصى مدى، ودفعه إلى أسوء حال ممكن.
نحن نرى مسار الوحدة الوطنية المنشودة، والحفاظ على وحدة التمثيل السياسي الفلسطيني من خلال منظمة التحرير الفلسطينية كجبهة وطنية عريضة، مسارا إجباريا بغض النظر عن أي خلافات أو تباينات كانت. وهذا التمثيل السياسي الموحد، لم يأت ويتعزز عربياَ ودولياَ من فراغ، وقد دفع شعبنا أثمانا باهظة من التضحيات للوصول إليه والحفاظ عليه، وسعت اسرائيل والولايات المتحدة وما زالتا تسعيان للنيل منه بل وضربه، باعتبار ذلك يشكل مدخلا لهما، لتفتيت كل وحدة الشعب الفلسطيني وتصفية قضيته الوطنية.
إنّ التسريع في إنهاء الانقسام واستعادة الوحدة عبر الحوار الوطني الشامل، يتطلب أيضاَ خطوات مباشرة لإزالة أي عراقيل، وتجاوز نقاط الخلاف في هذا الشأن، والتي لا تشكل أفضلية أو أهمية أمام حجم المخاطر والتحديات القائمة، بل هي أدنى منها بكثير شكلاَ ومضموناَ.
وضمن الخطوات العملية المطلوبة على سبيل المثال لا الحصر: مغادرة منظمة التحرير وسلطتها الوطنية حالة الانتظار السياسي أمام ما يتعرض له شعبنا من إبادة وعدوان متعدد الأشكال، وأمام الواقع الصعب الذي يعيشه في عديد المجالات، وإنهاء الملفات التي تشكل مساسا بحقوق المواطنين وحرياتهم الديمقراطية، ومنها ملف الاعتقال السياسي طبعاَ، وتصويب أدائها وسياساتها الحكومية.
كما على حركتي حماس والجهاد الاسلامي من طرفهما، الكف عن حالة التفرد في الخطاب السياسي والقرارات في القضايا الوطنية، وعن عديد الاعتبارات التي تحكم علاقاتهما الخارجية بما تحمله من مؤثرات في الحالة الفلسطينية، والعمل بجدية على تعزيز اندماجهما في المشهد الوطني الفلسطيني.
إنّ الوحدة التي نتحدث عنها اليوم، هي ضرورة ملحة من أجل الوقف الفوري للإرهاب والعدوان الإسرائيلي وحرب الإبادة والتجويع التي يمارسها بحق شعبنا، ومن أجل تعزيز صموده وتصليب جبهته الداخلية في مواجهة المخاطر والتحديات الراهنة القائمة أمامه.
على أي حال لا بدّ في رأينا بعد وقف العدوان ومعالجة تداعياته الأساسية، من مراجعة سياسية فلسطينية شاملة لتجربة العقد الأخير على الأقل، واستخلاص العبر منها بمسؤولية وطنية عالية.
 
الثقافة الجديدة: أستاذ فهمي، في ضوء كل ما ذكرت أعلاه، برأيكم ما هي الأولويات الفلسطينية الراهنة؟
شاهين: من طرفنا في حزب الشعب، نعتبر الوقف الفوري لعدوان الاحتلال الإسرائيلي وحرب الإبادة والتجويع التي يمارسها بحق شعبنا وكل أشكال العدوان عليه وخاصة في قطاع غزة، هي المهمة الأكثر أولوية في الوقت الراهن، والجهد الفلسطيني والعربي والأممي على مختلف المستويات، يجب ان ينصب من أجل تحقيق ذلك، والعمل معاَ لتفويت الفرص على مخططات الاحتلال الاسرائيلي الهادفة إلى الاستفراد بشعبنا وتهجيره من وطنه، وكذلك قطع الطريق على مساعيه للتطهير العرقي والضم وتفتيت وحدة الأرض التي يمارسها في الضفة الغربية، هذا إلى جانب فك الحصار عن قطاع غزة وتأمين المساعدات الإنسانية واحتياجاته الأساسية والحيوية، والبدء بإعادة إعماره، وهذا في رأينا يستدعي أربع قضايا ملحة، تتمثل في:
الأولى، سرعة تشكيل وفد فلسطيني موحد تحت مظلة منظمة التحرير الفلسطينية، يضم القوى كافة بما في ذلك حركتا حماس والجهاد.. الخ، لمتابعة مفاوضات وقف إطلاق النار وحرب الإبادة والتجويع، وبما يحبط خطة التهجير والتطهير العرقي لشعبنا أو أجزاء منه، ويعزز صموده في أرضه، ويحقق وحدة الموقف الفلسطيني وفعاليته في ميادين النضال والمحافل الإقليمية والدولية كافة.
والثانية، الشروع فوراَ في الحوار الوطني الشامل، وتوحيد الخطاب السياسي والإعلامي الفلسطيني، والاتفاق على آلية تحقيق ذلك عبر تعزيز وحدة الشعب وأهدافه الوطنية، وهذا بالتأكيد يتطلب بالضرورة تفعيل وتكامل كل الطاقات على الصعيدين الرسمي والشعبي، ومراعاة أولوياتنا السياسية والاجتماعية والكفاحية لإنقاذ شعبنا، وتعزيز صموده وتصليب جبهته الداخلية.
اما القضية الثالثة، فهي العمل مع كل الأطراف الداعمة والمناصرة لقضيتنا، على حسن استثمار المواقف الدولية المتقدمة التي باتت تدين "اسرائيل" وتدعو لفرض العقوبات عليها لارتكابها الإبادة الجماعية وجرائم الحرب، وهذا يتطلب أيضاَ توسيع مساحات التواصل والضغط على الحكومات والمؤسسات الدولية من خلال الأحزاب والحركات والبرلمانات العربية والأجنبية، لتحويل التعاطف الإنساني والتضامن مع شعبنا إلى خطوات سياسية ملموسة لوقف العدوان عليه، وحماية حقوقه المنصوص عليها في القرارات والقوانين والمواثيق الدولية، ودعم تنفيذ قرارات المحاكم في هذا المجال، وخاصة الجنائية والعدل الدوليتين، وكذلك إجراءات ملاحقة مجرمي الحرب الإسرائيليين أينما كانوا.
وأخيرا، رابعا، الحرص على بذل أقصى الجهود الممكنة، للحيلولة دون صرف أنظار واهتمام العالم بالعدوان وحرب الإبادة الجماعية التي يتعرض لها شعبنا على يد الاحتلال الإسرائيلي، وعن تنفيذ مخططاته الاستعمارية والتطهير العرقي، ومساعيه لخلق وقائع ديموغرافية وجغرافية جديدة في الأراضي الفلسطينية، وكذلك الحفاظ على مكانة القضية الفلسطينية على جداول الأعمال الدولية والإقليمية والعربية، السياسية منها والحقوقية.. الخ، وسحب أية غطاءات عن جرائمها وسياساتها "إسرائيل" وإجراءاتها أحادية الجانب، سواء في الضفة الغربية أو غزة.
 
الثقافة الجديدة: السؤال السابق يقودنا إلى سؤال كنا قد وجهناه للدكتور (ماهر الشريف) في حوارنا معه على صفحات (الثقافة الجديدة) قبل سنة تقريبا من عملية طوفان الأقصى. هذا السؤال ما زال يحتفظ براهنيته، وإن في ظل معنى وسياق تأريخي اخر. وها نحن نعيده على حضرتك أستاذ فهمي بصياغة مختلفة قليلا، صياغة تتناسب مع مجريات الاحداث:
 برأيكم، بعيدا عن الشعارات العتيقة والخطط والممارسات الرومانسية، ما هي أساليب النضال الملموسة المطلوبة، في ظل الظروف الحالية، من قبل التنظيمات والفصائل الفلسطينية اليسارية والتقدمية؟ وما هي آليات التنسيق مع الأحزاب والتنظيمات اليسارية الشقيقية والصديقة للعمل معاً على بث الروح من جديد في جسد الاصطفاف الشعبي العربي والإسلامي من جهة، وعلى تقوية الدعم العالمي من جهة أخرى، للوقوف مع الشعب الفلسطيني، أولاً لإيقاف آلة القتل الصهيونية المستمرة، ولاحقا دعمه لانتزاع حقوقه ومطالبه العادلة؟ 
شاهين: أولاَ الشعب الفلسطيني كما الشعوب التي استعمرت أو تعرضت للعدوان، له الحق الكامل في ممارسة كافة أشكال النضال في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي، وهو حق مشروع وثابت وسبق وأن أكدت عليه المواثيق الدولية وقرارات الأمم المتحدة، كحق للشعوب في النضال ضد الهيمنة الاستعمارية، ومن أجل تقرير مصيرها بكل الوسائل المتاحة، ونخص بالذكر على سبيل المثال، قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم (3070).
وفي رأينا، أشكال ووسائل النضال كافة، ما هي إلا وسيلة لتحقيق غايات سياسية من أجل التحرر الوطني والاجتماعي، وبالتأكيد هي ليست مقدسة ولا الهدف من النضال.
واختيار هذا الشكل أو ذاك وأولويته عن غيره من وسائل النضال ضد الاحتلال وعدوانه، بما في ذلك على سبيل المثال، المقاومة الشعبية أو المسلحة أو العصيان المدني أو غيرها، يتوقف على مدى الجدوى العملية لهذا الاختيار والشكل، وأفضليته انطلاقاً من أثره وقدرته على تحقيق الغايات السياسية والأهداف المرجوة من ورائه، وارتباطاً بطبيعة اللحظة السياسية والعوامل الموضوعية والذاتية.
إنّ تجارب نضالات الشعوب ضد الاستعمار والهيمنة الاجنبية، لم تعرف شكلاً أو نموذجاً واحداً ناجحاً يمكن اعتماده طيلة الوقت وفي كل الأحوال مهما كانت الظروف. وتلك التجارب ومنها تجربة النضال الفلسطيني ذاته على مدار عقود طويلة، غنية بالدروس التي يمكن الاستفادة واستخلاص العبرة منها.
نحن نعتبر هذا الموضوع بالغ الأهمية في النضال التحرري الفلسطيني، وفي تحديد شكل النضال المناسب لظروف وقضية شعبنا، يجب أن يكون شأنا داخليا وقرارا فلسطينيا، بالاتفاق أو التوافق السياسي الوطني وخاصة عبر الحوار الشامل، من أجل تحقيق التكامل بين أشكال النضال بدلاً من وضعها كبدائل لبعضها أو في تعارض ومجابهة مع بعضها البعض، وذلك وفقاَ للظروف الموضوعية والذاتية لشعبنا، ومن موقع التوظيف الوطني لمصالحه وأهدافه الوطنية وحماية صموده في أرضه، وليس من موقع التوظيف الفصائلي، أو جراء إملاءات وتأثيرات خارجية.
ففي القضايا المصيرية لشعبنا وأشكال نضاله المشروعة ضد الاحتلال ومن أجل إحباط مخططاته وإنهائه، لا يجوز لأحد أن يفرض رؤيته على الكل الفلسطيني، أو التفرد في القرار السياسي الوطني وخيارات وأشكال النضال، واعتبارها هي الخيار الوحيد الذي ينبغي اعتماده كاستراتيجية للعمل الوطني الفلسطيني برمته، خاصة في ضوء اختلاف الظروف الجيوسياسية بين المناطق الفلسطينية المحتلة وجوارها، وحالة التعددية السياسية لشعبنا، وعديد العوامل الأخرى التي يجب مراعاتها وأخذها في الاعتبار.
فإذا كانت المقاومة المسلحة على سبيل المثال، مهما بلغت قوتها وتأثيرها، ستنتهي إلى المفاوضة، فالمفاوضات لا يمكن أن تحقق أي إنجاز سياسي وطني لصالح قضية شعبنا، إلا عندما تكون تتويجاً لنضالات متنامية ومتعددة الأشكال والأساليب.
وفي هذا الإطار، أي قراءة موضوعية للظروف التي يعيشها شعبنا، وللعوامل التي تميز عملية الصراع مع الاحتلال وتؤثر فيها، ومنها الخلل الحاصل في موازين القوى المختلفة والعوامل الجيوسياسية في فلسطين ومحيطها، تستدعي اعتماد وتوسيع وتعزيز المقاومة الشعبية بتعبيراتها المختلفة وأدواتها الممكنة، كشكل من وسائل النضال الفاعلة والمجربة، وهو ما سبق وجرى التوافق الوطني عليه في أعوام ماضية، وما يتبع هذا الشكل من خطط ونضالات سياسية ودبلوماسية وقانونية على الصعد كافة، دون أن يعني ذلك التخلي عن أي شكل من وسائل النضال الأخرى التي شرعتها ومنحتنا إياها مواثيق الأمم المتحدة، والتي يمكن إذا ما تطلب الأمر أن تعود لتتصدر أشكال النضال المختلفة في مراحل أخرى وظروف مختلفة، قد تتوفر فيها فرص حقيقية ملائمة للاستفادة منها وتوظيفها لصالح قضية التحرر الوطني. 
أما بخصوص استفساركم عن آليات التنسيق مع القوى والأحزاب وعلى وجه الخصوص التنظيمات اليسارية، فقد جرى، خلال الحرب العدوانية الراهنة، التواصل وعقد العديد من الاجتماعات والمشاورات المعمقة مع الأحزاب الشقيقة والصديقة في العالم، وخاصة العربية منها، وجرى تفعيل التنسيق المشترك في العديد من المناسبات والمحافل الإقليمية والدولية مع تلك الأحزاب، من أجل تحقيق الأهداف المرجوة، وكان هناك حرص على التنسيق والتعاون لدعم ومناصرة قضية شعبنا، وصدرت بيانات مشتركة في هذا الشأن.
ونحن نؤكد على أهمية العلاقات والتنسيق المشترك من أجل توسيع وتعزيز التحركات المناصرة لحقوق ومطالب شعبنا والتضامن معه، إضافة إلى السعي لبناء جبهة واسعة ضد التطبيع مع "إسرائيل" ومقاطعتها الشاملة وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها، وتكثيف التحركات الرسمية والشعبية على الصعيدين الإقليمي والدولي من أجل توسيع وتعزيز الاعترافات بدولة فلسطين من جهة، والدفع باتجاه موقف وتحرك عربي ودولي موحد، رسمي وشعبي، يرتقي إلى مستوى التعامل المفترض مع حجم الحرب والكارثة التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني، والإسراع في وقفها فوراَ، حيث فاق عدد ضحايا هذه الحرب الوحشية من أبناء وبنات شعبنا الشهداء والمفقودين والجرحى والمعاقين والمعتقلين، أي تصور كان. ويعاني قطاع غزة اليوم من دمار واسع يشمل كامل جغرافيته، إضافة إلى انقطاع تام لمقومات وشرايين الحياة الأساسية، وأصبح غير صالح للحياة الآدمية، بسبب الكارثة المستمرة التي تتسع وتتعمق نتيجة هذه الحرب الهمجية لجيش الاحتلال، في انتهاك صارخ لكل مبادئ وأحكام القانون الدولي الإنساني وخاصة اتفاقيات جنيف لعام 1948، ولمواثيق وقوانين حقوق الإنسان كافة.
هذا إضافة لضرورة الوقوف أمام المخاطر الإسرائيلية على مصالح وسيادة واستقرار شعوب ودول المنطقة، وتهديداتها للآمن والسلم الدوليين، من جهة ثانية.