رﻋﺪ ﻣﺸﺘﺖ شاعر ومخرج سينمائي عراقي، ولد في بغداد وغادرها الى المنفى ﻋﺸﯿﺔ ﺣﺮب اﻟﺨﻠﯿﺞ اﻷوﻟﻰ. ﺗﻨﻘﻞ ﺧﻼل ﻣﻨﻔﺎه بين اﻟﻌﺪﯾﺪ ﻣﻦ اﻟﺪول ﻗﺒﻞ اﺳﺘﻘﺮاره ﻓﻲ ﻟﻨﺪن، التي درس ﻓﯿﮭﺎ اﻹﺧﺮاج اﻟﺴﯿﻨﻤﺎﺋﻲ. أﺧﺮج ثلاثة أفلام روائية قصيرة هي (تنويمة الجندي، شهرزاد، مشهد للحب وآخر للموت)، وهي حكايات في مضمون الحرب، والعراق حقلها المفتوح. عاد مشتت الى العراق عام 2003 وأخرج سلسلة من الأفلام الوثائقية التي شكلت ذاكرة فلمية هامة للتحولات التي عاشها العراق بعد الإحتلال الأمريكي، وكان اولها "خمسة وجوه" و "الجحيم" و "المأزق و"الامر رقم 1" واخرها سلسلة "انفاق الحوف" التي تكاد تكون وثيقة الحساب البصرية العراقية الفريدة، عما فعلته دولة الخلافة الاسلامية ISIS. اثار "صمت الراعي"، الفيلم الروائي لرعد مشتت اصداء في العديد من المحافل والمهرجانات السينمائية وحصل على العديد من الجوائز العربية والدولية. كما حاز مشتت جائزة الدولة للابداع في الاخراج السينمائي.
آخر أعماله مسلسل تلفزيوني من سبع حلقات عن (قطار الموت) وهو موضوع حوارنا في هذا العدد من ( الثقافة الجديدة).
زهير: لِمَ قطار الموت؟ بعد عقود من جولات العنف: اعدامات ساحة التحرير، التعذيب في قصر النهاية، حملات التهجير، حملة السبعينات بعد انفراط الجبهة، الأنفال، حلبجة… ما الخاص في (قطار الموت) كمعنى وكمادة سينمائية؟
رعد: ”قطار الموت“ في عمق السؤال ورحمته ودنيا الوجع الكامنة وراءه، هو جرح بليغ في تاريخنا، والتاريخ لا يمكن تلمس جراحه دون فحص النبض البشري والانساني الكامن في السير الشخصية لمن يُطلق عليهم معظم الأحايين، وإن بالتمني، الأبطال. والسؤال فوراً، هل هناك من أبطال في ”قطار الموت“ غير القطار ذاته؟ والذي يبدو كما لو انه الدهر تائهاً وهو يُعيد السؤال الأصعب عن التعبير الدرامي الاكاديمي فيما إذا كانت هنالك غيره أيما بطولة ! وإن وُجدت؟ فما هو مكنون تلك البطولة غير إدراك وعلو ورفعة معاني الذات البشرية الانسانية باعتبارها أولئك الافراد الفرادى، في جوف القطار وفي توقهم العالي نحو رفيع وروعة وسمو المعاني التي ليس من اليسير إدراك آفاقها الفريدة غير فضاء رحب واحد، وهو بكل وبكافة الاعتبارات مريع، ألا وهو الموت!
ولذا، ودون تردد في تعيين المصطلح ومعناه، فالقطار هو قطار موتنا العراقي، وليس نشيد الأممية الذي ”يوحد البشر!“ نداء رفيع (كما روعة الاناشيد) ! بل الصوت الداخلي الجريح المؤمن بعتو الحرية الصاخب بالاسئلة والمعاني في مواجهة التوحش والقسوة والبطش، صفات فاقت مدياتها مدارك العقل والوجدان الانساني، بل وأيضاً قدرة التحمّل البشري لأعباء الجريمة!
العنف العراقي
زهير: أنت ترى أن العنف الكامن في (قطار الموت) خاصية عراقية؟
رعد: تمر في تاريخ وتجارب الشعوب لحظات من الاستعصاء لا تماثلها أية تجارب أخرى في الكون، كما لو انها تترَسَّم خصوصية المكان الذي تنبثق منه، ومن صميم اضطرابه لتعبِّر عن ماهية الصراع بين أهله، وبين قواه البشرية. صراع، كما في بلد مثل العراق، ليس سوى إوار مطحنة تئن تحت هدير نيرانها أصوات وأرواح، بل واجساد ضحاياه من الحالمين البارّين والبارعين منهم كياناً وآلاماً في ركنٍ، وفي رُكنٍ آخر صخب ووحشية وقسوة جلّاديه وكأننا أمام ثنائية أسطورة الأزل في حكاية قابيل وهابيل في فرضيتها الجائرة ! ان القاتل والقتيل إنما هما من رحم وظل أبوي وعناية إلهية مدروسة ودارسة في السواء، صميمها، الأخوّة، وابطالها، الذين تُحيلهم، في لحظةٍ، الطبيعةُ البشرية (هل هي كذلك؟) وعنفوانها والغضب المارد (هل هو انساني أم حيواني؟) ، إلى ذلك الفصل الجلي في الصدام بين الجلاد والضحية، القاتل وكذلك، ويا لبؤس قدره، القتيل! لنُدرك علناً ونتعلّم درساً ما عن جراحنا ودمائنا، التي لا يمكن وصف سيلها الجارف نحو ذلك المنحدر العاجل والصاخب بغير كلمة واحدة انها الجريمة بكل أدلتها الجنائية الدامغة.
الطابع السياسي
زهير: كيف نظرت للطابع السياسي للحدث؟
رعد: إزاء تلك الفصول والجراح، لم تتراءَ لي حكاية ” قطار الموت“ باعتبارها حدثاً سياسياً محضاً، وليس ممجداً تتبارى له العواطف وتنبري له الاقلام لتصف ملحميته ودروسه العلية. هذا ما حدث فعلياً وعبر عقود من الزمن مرت دون ان تضاهي معانيه رؤىً تنفذ إلى عمق التراجيديا المُحيِّرة التي تسكن في صميم خيال وروح ذلك الكائن الفرد، الانسان المحبوس في صخب تلك العربات الحديدية المخصصة أصلاً لنقل البهائم والحيوانات، وهي تدوي شاقة طريقها عبر الصحراء في قيض تموّزنا العراقي الجائر، كما لو أن حكما قد صدر مقرراً فيه الموت سلفاً لتلك الحمولة البشرية الفريدة دونما رشفة ماءٍ ودون هواء!!
زهير: انقلاب 1963بداية تحول العنف، من عنف الجماعات إلى عنف الدولة. صار العنف جزءاً من خطابها الاعلامي. مشاهد العنف تبث رسمياً من اعلام الدولة. هل هذا من مبررات اختيار الموضوع؟
رعد: كان انقلاب 8 شباط 1963، والذي اطاح بحكم الزعيم عبدالكريم قاسم، مؤسس الجمهورية العراقية الاولى، شكل بداية صعود القوى المنضوية تحت راية الشعارات القومية، المدعومة غربياً تحت يافطة معاداة الشيوعية. هذا الانقلاب كان نقطة تحول صادمة في تاريخ العراق الحديث. إذ سرعان ما انقسم العسكر الذين اطاحوا بالأمس سوية بالحكم الملكي باعتباره صنيعة لقوى الهيمنة الكولونيالية الاستعمارية بعد حفلة تقاسم أرض وثروات ومصائر شعوب الشرق الاوسط في سايكس - بيكو وغيرها من حفلات السطو على ممتلكات الشعوب. تحوّل العراق، الذي تتصارع حوله أمم الاستحواذ العالمي إلى فصل من فصول الصراع الشرقي - الغربي، وهو صراع أريد له ان يكون ماحقاً لأيما ميول مناوئة للأطماع الكبرى للدول الغربية. التصريح العلني لـ (علي صالح السعدي)، الامين العام لحزب البعث العربي الاشتراكي حينها، ان انقلاب 8 شباط 1963 جاء بقطار امريكي، هو في جوهره وفي صميم معناه ”قطار الموت“ ذاته. الأول جاء بمنظومة شوفينية فاشية إلى سدّة الحكم، فيما أخذ الثاني خيرة النخب الوطنية إلى حتفِ مريع لم يكن لينجو منه أحد لولا الشجاعة والجرأة الاستثنائية الانسانية أولا والبطولية لسائق القطار السيد عبد عباس المفرجي، وهو أول سائق قطار عراقي الجنسية محترف في منظومة مؤسسة سكك الحديد العراقية، ومخول رسمياً غير الهنود والأرباب البريطانيين في قيادة قطار، مع تخويل صميمي عراقي آخر هو الحشود من ابناء المدن الجنوبية وبخاصة أهالي مدينة السماوة في تحديهم لقوى السلطة وبخاصة ميليشيا الحرس القومي لإنقاذ ارواح المحكومين بالموت في عربات القطار.
زهير: هناك أسلوب مسرح ..لقطار مسرح لجريمة، وهو متحرك لكن داخله ثابت صالح كمسرح؟
رعد: كلا، والسبب بسيط. ما يحدث داخل القطار وما يجري خارجه خطوط تتواشج لحظة وتتقاطع وتتشابك وتنفرد وحتى تتصادم في نسيج حكائي وديناميكية سردية من العصي الفصل أو العزل بين الفضاءين داخل وخارج القطار. فالاسرى داخل تلك العربات المعتمة، وفي تلك الشروط الجائرة التي تستهدف اغتيالهم بصمت في خديعة شريرة، هم في ذات اللحظة وعبر ذاكرة فعالة لا يتوقفون لحظة عن استحضار الفضاء الخارجي حيث ذواتهم الحيّة المتسائلة العنيدة والمشبعة بغنى الوجود وعنفوانه كما لو ان ذواتهم تدحض وبطريقة، ربما مراوغة احياناً، السكون والعجز الذي تجلجل به تلك العربات وهي تشق طريقها في جحيم أرضي نحو الصحراء.
الفرد في المجموعة
زهير: كيف تناولت سلوك الافراد فيه وهم يتصرفون بأشكال مختلفة في مواجهة الموت؟
رعد: هذا سؤال كبير وفي صميم قلقي (التعبيري) إن شئت. فقراءة روح وقوة تلك الكتلة التي تجاوزت الخمسمائة معتقل لتواجه المصير المميت، تنبع في اصلها، كما كلانا نعرف، من صلادة وقوة كل فرد فيها، خاصة وان بعض اولئك الافراد هم في حياتهم وكيانهم الشخصي الفردي قبل وبعد المحن، أياً كانت، يتمتعون بخصال شخصية، بل وادوار رفيعة مؤثرة وحقيقية في الحياة، أولاً قبل أي رمزية يمكن ان يضفيها عليهم حدث القطار المفزع. ولأنك تتحدّث عن الافراد وأنا اشكر هذه الإشارة الهامة كي استدرك هنا جوهراً أساسياً في حقيقة حكاية قطار الموت التي دونها لما، ربما، عرفنا أصلاً اسطورة القطار، وأعني هنا سائقه الذي هو في صميمه فردٌ كما أمّة في قدرية عجيبة تتعدى الحدود المُدركة للعاطفة الانسانية الصميمية لتنتقل إلى بُعد أعمق بكثير يستلهم معاني تنفذ إلى الشجاعة وهي أمر ثمين ونادر ولا يتيسر لأي كان في الوجود كي يطوف في فضاء البطولة الفريد. سائق قطار الموت، ابن الشعب بأصالته ووجدانه الحقيقي الأخّاذ، فطرته، تلقائيته، ضميره الوضاء، حرفيته، والأرفع من ذلك كله إحساسه، لا بل ايمانه الصميمي بما يصنفه (انصافاً) ويعني العدل وكأنه يعرِّف معناها الذي يتصدى لهما المثقف والشاعر الكبير بلند الحيدري في سؤاله!
العدل أساس المُلك؟
الملك اساس العدل!
تملك سكيناً، تملك حقك في قتلي.
سائق قطار الموت كان وبلا شك في طليعة وصدارة من أدرك معنى وصميم الفرد في مواجهة محنة الموت الزؤام، التي هي وبلا شك، التحدي الاكبر في الاطلال الحقيقي على المراس والعناد الداخلي لأولئك المتمردين كي لا نسميهم أو نتهمهم بالبطولة لأن محنتهم وجراحهم قد تكون اكبر من ذلك بكثير! من يدري؟ لست أنا على أية حال.
حسن سريع؟
زهير: انت لم تحبس المسلسل داخل القطار، وفي نفس الوقت تناولت حركة (حسن سريع) قبل ان يبدأ القطار رحلته، ماذا تعني لك حركة حسن سريع؟
رعد: قبل الخوض في المعنى الايدولوجي أو العقائدي للحركةً، فهي في جوهرها المجرد حركة تمرد عسكرية تولت تنفيذها مجموعة من ضباط الصف بقيادة نائب العريف (حسن سريع) في واحد من أكبر معسكرات الجيش العراقي في العاصمة العراقية بغداد. وهذه الحقيقة البينة ترتبط وبشكل مباشر بعامل تكتيكي أو عملياتي آخر لعب دوراً اشتراطياً صميمياً في ان نجاح الحركة أو فشلها قائم على تمكن الثوار أو المتمردين من اقتحام (السجن رقم واحد)، وتحرير أو اطلاق سراح اسرى ذلك السجن المشؤوم وتمكينهم من استعادة المبادرة وقيادة انقلاب مضاد يطيح بحكم الانقلابيين. والسجن رقم واحد هو سجن عسكري ورقم واحد. فهو معتقل شديد التحصين والحراسة ويقبع خلف قضبانه كبار ضباط الجيش العراقي وبعض من كبار شخصيات الصف الأول من رجالات حكم الزعيم الشعبي وذائع الصيت آنذاك عبدالكريم قاسم، والذي أطاح به انقلاب الثامن من شباط الاسود في العام 1963، المفارقة ان الفضاء العملياتي للحركة كان مرتبطاً بالمكان ليس كمخطط واضح الأهداف والغرض، وإنما كجغرافيا أيضاً. فهو يقع في قلب العاصمة بغداد ولا يبعد عن مراكز السلطة المركزية وسلطة القصر الجمهوري سوى بضعة كيلو مترات ولم يكن ليستغرق غير بضع دقائق حتى وان كانت واسطة النقل دبابة. وهذا فعلياً ما حصل، إذ ما ان وصل خبر الانقلاب أو الثورة كما اسماها ابطالها للقيادات العسكرية الماسكة بزمام السلطة حينها لم يستغرق وصول رتل الدبابات بقيادة رئيس الجمهورية حينها عبد السلام عارف وقتاً يُذكر لقمع الحركة والقبض على منفذيها واعدامهم فيما بعد. حركة حسن سريع هي قطعياً السبب الأول والاساس في شدّ انتباه واهتمام السلطة البعثية الشريرة آنذاك لقيمة وأهمية السجن رقم واحد، بل وأثار ذعرها وقياداتها لتزج، بعد مداولات معقدة، بقيادة عارف ذاته، رئيس الدولة وزعيم الجمهورية بالمطالبة بإعدام جميع نزلاء السجن رقم واحد والذين يتجاوزون الألف معتقل، وهو أمر كان من الممكن ان يثير حفيظة العديد من الدول ومنظمات حقوق الانسان فتولت عصابات الجريمة في التخطيط للإبادة في مراسم الموت السري البطيء في تلك السفرة القاتلة. حركة حسن سريع سؤال لن اجيب عنه أنا بل الاجيال الجديدة من ابناء بلاد المعرفة في توقهم الأبدي إلى الحرية، وسريع أحد رموزها في سجلات تاريخنا المعاصر.
زهير: أثارت شغفي حركةً الشارع غير المتحزب وقد علم بما في القطار؟
رعد: رغم أحكامها العرفية المعلنة أحاطت السلطات القمعية عملية ”قطار الموت“ بالسرية المطلقة، حتى سائق القطار كان في البداية يجهل طبيعة حمولته. غاية المخططين للعملية وصول تلك العربات المجلجلة إلى غايتها وهي تحمل اجداثاً بدلاً من تلك الارواح التواقة للحياة والحرية. فمنذ مغادرته العاصمة بغداد فجر الرابع من تموز 1963 نمت في كل كيلو متر كان يقطعه القطار في طريقه نحو الصحراء جنوباً تلك الشراكة الفريدة بين الناس الذين استحالوا إلى اذان وعيون، بل ارواح تترصد ذلك المسير الواهن لذلك التابوت الحديدي الطويل والمدوي.
خلال عبوره مدن الجنوب، الواحدة تلو الاخرى وعند كل محطة من محطات توقفه أو عبوره، تخرج جموع الناس في تحد وصدام ظل يتنامى حتى اللحظة الاخيرة حين تكتسح الجموع محطة الوصول في مدينة السماوة التي اندفع أهلها النجباء غير عابئين بالتهديد والوعيد ولا حتى بالبنادق المُشرعة المصوبة على الرؤوس والصدور ليستقبلوا رجالات القطار وهم في الرمق الاخير في مقاومة وتحدي الموت وقطاره ليستحيل المأتم المرسوم قدراً على أيدي الجلادين إلى حكاية بطولية تُروى للاجيال.
رسالة لجيل جديد؟
زهير: وانت تروي الواقعةً سينمائياً أردت اذن أن تبعث رسالة للجيل الجديد الذي لم يعش ولا يعرف هذه الفترة، ما ذا اردت ان تقول؟
رعد: كل الذي اردت وأريد وسأبقى أُعيد وأُكرر قوله، إن تلك الاحداث الجسيمة والمريرة إنما هي جزء من تاريخ البلاد ومن حق أجيالنا بعد كل تلك العقود من السنين معرفة ذلك التاريخ وتفاصيله بل ومساءلته والكشف عن صفحاته المطوية التي تزخر بعناوين وصور الجريمة، بل الفظائع التي من حق ابنائنا وابائهم معرفة فصولها المُريعة كي لا تُعاد يوماً لتذوق مرارتها الاجيال القادمة الحالمة بالحرية والعدل. ما اردت قوله للجيل الجديد: هنا تاريخكم، هل تعرفون؟