أيار 02
  
 
قبل ثلاثين سنة تقريباً، تركتُ حدود بلدي وخرجتُ نحو بلاد الله الواسعة، محاولاً تحقيق طموحاتي وأحلامي الفنية، باحثاً عن أشياء لم أشاهدها من قبل، مفتشاً عن تفاصيل لم أكن قد عرفتها بعد، مجرباً وضع يدي على ملامح أشياء كنت قد قرأت عنها في الكتب لكني لم أتحسسها فعلياً بأصابعي. وبعد كل هذه السنوات، ها أنا أتساءل مع نفسي عن الأشياء التي تعلمتها في (الغربة)، عن المهارات التي اكتسبتها؟ هل أضيفت لحياتي تفاصيل ذات قيمة؟ وهل فقدتُ شيئاً مقابل ذلك؟
كل شيء في هذه الحياة مهما كان إيجابياً، توجد فيه جوانب سلبيه أو أقل إيجابية، والعكس صحيح أيضاً، لذا تبقى الغربة سلاح ذو حدين. وحين تريد النجاح في بلد الزهور (هولندا) فلا تتوقع أن يكون طريقك معبداً بالزهور دائماً، وعليك المرور بالكثير من الصعوبات والتفاصيل والتجارب والخبرات. فأنت هنا بعيد عن بلدك ومكانك الذي نشأت فيه وتعلمت وحفرت كل ذكرياتك. لكن من  جانب آخر، فالغربة تجعل فرديتك عالية، وتختبرك في إيجاد الكثير من الحلول الشخصية، حلول لحياتك ولإبداعك وما تود الوصول اليه. وفي كل الأحوال، عليك هنا -لتصل الى النجاح الذي تريده- أن لا تكف عن المحاولات، ولا تتوقف عن البحث والمطاولة، والأهم هو أن لا تنتظر أن تحصل على الأشياء كهدايا مجانية، فالعالم لا يوزع الحلوى، ولا يُطَيِّبَ خاطرك بعد كل لحظة سقوط، بل عليك دفع الثمن بطريقة ما. لكن هذا لا يعني عدم حاجتك لمن يرشدك الى الطريق حتى ولو بكلمة عابرة، أن يقف الحظ معك في حالات معينة كي تمضي بيسر مع خطواتك الأولى. لكن أساس نجاحك هو أن تعمل وتجتهد، وتضع في مقدمة أولوياتك تَعَلُّمَ لغة البلد الذي تعيش فيه والتعرف على ثقافته وتقاليده، أن تطرح نفسك كمنافس وتثق بإمكانيتك في التفوق على أبناء البلد ذاتهم. والموهبة وحدها لا تكفي طبعاً للوصول الى النجاح، لأن كل قرية في هذا العالم مليئة بالمواهب، لذا عليك أن توظف موهبتك بشكل صحيح ومناسب، والعمل المضني يعطي ثماره في النهاية. أتذكرُ في بداية مجيئي الى هولندا كيف كنتُ أجمع النقود القليلة التي معي وأشتري الأعداد القديمة من مجلة أتيليه الشهيرة لأنها أرخص بكثير من الأعداد الجديدة، والآن أنا أكتب عموداً ثابتاً في ذات المجلة. عموماً أشعر بنوع من الغبطة حين يشتري الفنانون الهولنديون المجلة لقراءة ما أكتب.
 من ناحية أخرى حاولتُ هنا أن أدرب ذائقتي وأطوع مهاراتي على رسم أي شيء يصادفني، ففي النهاية، كل شيء صالحاً للرسم، مثلما ان كل السطوح صالحة للرسم عليها. تعلمتُ النظر الى الأشياء الصغيرة وتحويلها الى لوحات، فهذه هي الطريقة الوحيدة التي تجعلني أمضي بسهولة ولا أتوقف عن العمل، سواء غاب أو حضرَ الموضوع المثالي للرسم. أنظر حولي بمتعة وأنسجم مع الأشياء والتفاصيل وكأني أشاهدها لأول مرة. الرسم في جوانب كثيرة منه يشبه أي عمل آخر يقوم به الانسان، يحتاج الى توظيف نوع من المهارات،  لكن الإختلاف هو إنك مع الرسم تملك الخيال، وهذا هو الذي يجعلك تحوِّلَ الحجارة الى ذهب، تجعل الوردة بستان من الزهور، تصنع من الريشة عصفوراً. الخيال يعني أن تفتح النافذة أو ترسمها فالأمر سواء.
في هولند (هذا البلد الصغير) يوجد أكثر من ثمانمائة متحف، لذا توجد خيارات كثيرة وتنوع لا حصر له، حيث يمكنني التجول في المتاحف ثم أعود الى المرسم لأمضي مع عالمي وأنا مُحمل بطاقة رائعة، هكذا إزدادت خبرتي هنا كفنان في معرفة  الطريق الذي سأمضي فيه، وبذلك تعددت الفرص التي مُنحت لي وفُتحت لي منافذ كثيرة. في هولندا عرفتُ المعنى الحقيقي للطبيعة التي تحيطني من كل جانب، هنا تحسستُ المعنى الكامن خلفَ الطبيعة، واستطعت الإنغمار باللون الأخضر للمزارع والحقول والغابات، واللون الأزرق للماء الذي يغطي مساحات واسعة، هنا عَرَفَتْ عيني الضوء الباهر للفضاء المفتوح. وهكذا جمعتُ كل ذلك وعكسته بطريقة خاصة على قماشات الرسم.
هنا شعرتُ بأهمية أن يتفرغ الفنان لإبداعه ويمنح كل وقته وطاقته لإنتاج اللوحات وصناعة الأشكال التي يحبها. لذا تغمرني السعادة وأنا أتوجه صباح كل يوم الى المرسم، لأعيش يومي وسط الألوان وأدوات الرسم، فهذا الهدف لا يمكن التخلي عنه أبداً، وأقصد الذهاب الى المرسم للبدء بلوحة جديدة، فأنا لا أستطيع أن أطور تقنياتي سوى بالعمل اليومي الدؤوب.
 وفي المرسم عادة ما أبدأ بتخطيط صغير يكون أساساً للوحتي، لكني أثناء الرسم أذهب بعيداً ولم يبق من التخطيط الأول تفاصيل كثيرة. والأمر يشبه عازفي الجاز الذين تعودوا على عزف الموسيقى دون نوتة موسيقية، بل يبتكرون النغمات وقت العزف ويتماهـون مع تدرجات صوت آلاتهم الموسيقية بشكل مرتجل، لتخرج معزوفاتهم تشبههم تماماً لأنها جزء من أرواحهم. هكذا أبدأ ببقعة لون في هذا الجانب من اللوحة، ثم أضع بضع خطوط في جانبها الآخر، أضيء هذه الزاوية وأعتم تلك المساحة، أغيِّرُ هنا وأمحو هناك. وبعدَ الكثير من التعديلات وسط هذه المغامرة، تأتي النتائج، التي تكون في البداية غالباً ليست جيدة بما فيه الكفاية، لذا أعاود العمل من جديد بحثاً عن الحلول والمعالجات المناسبة.
 
 
كفنان واجبك أن تكافح لتجد لك منطقة تقف عليها، تجتهد كي تفتح نافذة خاصة بك، تتعب كي تجد من يحب أعمالك ويشير إليها في بلد فيه عشرات الآلاف من الفنانين. تحاول هنا وهناك لتعكس صورة جيدة عن نفسك وعن بلدك الذي جئتَ منه. في المعارض الهولندية عادة ما يتحدث الفنان للجمهور قبيل الافتتاح بدقائق عن أعماله وتقنياته وبعض التفاصيل المتعلقة بعمله، ثم يتحرك الجمهور ليَطَّلِعَ على لوحات المعرض. وقد حاولتُ في كل المعارض التي أقمتها، أن أتحدث عن العراق وبغداد والمكان الذي جئت منه. وأحياناً لا أكتفي بذلك، بل تكون عناوين بعض لوحاتي فيها شيئاً من العراق الذي أحبه، حتى إنَّ واحداً من معارضي الأخيرة - والذي أقمته في غاليري لافاي- كان عنوانه (بغداد في الشمال) والذي تزامن مع صدور كتاب عن أعمالي باللغة الهولندية عنوانه (نساء التركواز) باللغة الهولندية. عن أعمالي، في هذا المعرض إستحضرت بغداد لشمال العالم حيث هولندا التي أعيش فيها، وذلك ما دعاني أن أقول لأحد الصحفيين الهولنديين (بأني أشبهُ شجرة، جذورها ثابتة في بغداد وأوراقها تزهر في هولندا).