أيار 05
 … ليس ما قد تراه ، الآن ، بحرا ، او ضفافا ، هو السراب ، يا صاحبي ، هي الاوهام ، ظلت تراكم بعضها ، حتى علت لتسد قرص الشمس ، وانت انت في شاغل عنا وعنها.
سحب الدخان، الحرائق والحروب، أخذت منك، فوق فيما في القلب من الاحتمال، وانت لم تنته بعد لما يشبه الانتصار.. حتى الهدنات الشحيحة، لم تعطك رفاهة الوقت، لتنفض عن كاهليك ما تعلق من غبار وسخام، فما ان تصمت النيران على جبهة ما، عاجلتك اخرى - كنت تحسبها صديقة - بنار أشد.. حريق ينتهي، كي تشب النار بين الأصابع والضلوع..
هذي شغاف القلب، وما تبقى من بنيك … فلا تنس شيئا مما وضعت على الرفوف: احلامك المؤجلة، كتاب لم تكمل قراءته، حجر ازرق وفتاح بيتك ايضا، فقد تعود اليه يوما، تعلقه تميمة او صليبا، ولكي تقول لنفسك، كلما داهم الشوق؛ كان لي وطن.
 
من الأسود الى الأزرق الليلي، كان نصيب امي، من دهرها، كما اخواتها؛ فجيعة إثر اخرى، شقاء عابر لحدود المهالك والممالك، والجمهوريات الملكية .
هي الصحراء تحاصر المدن الشحيحة الظل، لتلتقي بحر الرماد ، و بحر المدامع ، وأنقاض حروب دون اسماء، هكذا يكتمل الشقاء ..
خارطة تتناقص كل يوم، لما كانت لنا من بلاد …
ذباب ، جراد ، هباء ، قراد … وباء ، هراء ، بلاء ، رماد ؛ أهذا كل ما تبقى لديك؟
 
ماذا دهاك ؟
 كيف افتقدت نهرك الاول ، بغتة .. و نهرك الثاني ، الثالث ، الرابع ، و العاشر ؟
ومازلت تسامر لصوصا ، لم يبقوا لبيتك شيئًا ، تتبادل الانخاب ، كريما في عطاياك : للاول دعاء بطول العمر، للثاني دماء بنيك، للثالث بناتك ، للرابع البترول ، للخامس والسادس شطا وخليج … بينما اكتفى الآخر بالسماء.
لا صوت السبايا يطرق سمعك .. لا الثكالى ، لا الصراخ ولا العويل ، لا دمعة المنفيين عنك ، وفيك .
لا النخل القتيل، يكسر قلبك ، لا نحيب الهور ، لا الليل، ولا الغبار ولا النهار .
يا اول الحرف ، اول مكتبة … و كثير من بنيك، لا يفقهون اليوم حرفًا !
ماذا تريد بيتمنا هذا، ماذا قد صنعت بنا، و ماذا قد صنعت بنفسك؟
كانت ميسان مملكة يخطب ودها الرومان واليونان .. و حدها نينوى ، كانت إمبراطورية العالم !
بغداد عاصمة الكأس والسيف والقلم! اتذكر سومرا؟ انسيت بابل ؟ اوروك وابنها ، وكل الممالك والشواطئ والنجوم ؟
و ها انت : تنطبق السماء على جناحيك ، على بصيرتك الشحيحة ، وعلى يديك …
فكيف تعيد للروح المعذب ، شيئا من الضوء ، او بعض جسد؟
من جنوب العالم السحري، بصرتك العظيمة ، الى حدود الأعالي : حقول انقاض ، و ما يتركه الموت المنضب، بوار، تيجان شوك ، و ما لا يحد من الأسئلة ، عن ورطة الإقامة، الموت ، والميلاد ؛ بعيدًا عنك ، فيك؟
ايها الشاخص الابدي ، بين فصول الغبار والرماد ، حديد عتيق ، كمثل وجهك في اطار من فراغ الازمنة .
لا الحرب حربك، ولا الهدنات … لا السلم الملوث بالخديعة، لا الطعان ولا النزال .
انت النجيع المر ، بركة من دم ونفط… رحم صالح للبيع ، للإيجار، انت.
دروع منزوعة السرفات، براميل نفط، اكوام من خردة و احلام مكسورة ، تل من أحذية مستعملة في مدخل الصالة الرئيسة لقصر النهاية، هي ما تبقى من بنيك، يمضون الى بسالة حتفهم ولم يخلعوك.
عيون اسماك تحدق في مرايا الرمل، راية مزقتها الريح، وصلبان تكفي لألف جيل و جيل …
هذا انت ، كأنك لا احد ، ولا احد يعينك مثل قلبي ، فلماذا هجرتني ، وحيدا على صليب مل مني …
  • لم تذرف الدمع على الراحلين الى الحتوف، صبيحة الاعدام ، ولا ما يليق بهم من وداع .
  • تركت بنيك من اليهود لأقدارهم ، يخطفون من بين عينيك ، يديك ، الى طريق الجلجلة : مسيحيون ، مندائيون ، ايزيديون ، ملكيون ، يساريون ، عرب ، كرد فيليون ، مسلمون ، و من لا صوت لهم ولا جواز سفر ..
  • لم تسل يومًا ، عن دمي ، و دم اخوتي … عن موتنا اليومي ، عن الشقاء …
شعب فائض عن الحاجة ، تناهبته شعاب الأرض من أقصى شمال الارض ، الى الجنوب ، شرقا وغربا.
بناتك، أبناءك ؛ رسموك وشما على القلوب ، و على الضمائر .. لم يهجروك ولم يخلعوك .. اتذكر أسماءهم، اصواتهم ، والوجوه ؟
ذباب الأيديولوجيا، كان يعمي البصائر والعيون، من كان يجرؤ ان يقول لا ، سوى مريديك حقًا !
متلفعا برداء ليس لك، بالحكمة الناقصة، وعند منعطف الكلام ، تعلي من كان يلعق جراحك ، وترد قبلة الساعين اليك ، تشيح بوجهك عن مريديك ، عن الراهنين الدم لاجلك و من رهنوا من اجلك ومن راهنوا بالروح ، ومن ومن … لعلك قد نسيت !
عد الى الجملة الاولى، لخاطر مايزال فيك طريا، لجرحك الاول ، للنار ، لبساطة الماء والملح ، لانتظار بنيك الى الرغيف ، للقيامة ، لجرعة ماء ، للسلاح يسترون به العورات وقد تكشفت..
فأين أنت الآن مما نرى، ما نريد ؟
سيظل ارتحالنا، نزيفنا المر ؛ منك ، فيك مواسما اخرى، هجرة كالانبياء!
نحن المرميون على حدود المدن البعيدة، مازلنا نتساقط من ثقوب ذاكرتك الوسيعة، يوما بعد يوم … قل لي: ما يعينك على الوقوف، قل ما تشاء: قوة اليأس، خمرا او قليلا من امل؟
نوح الحمام، نباح الكلاب المعدنية، عويل الثكالى، ام لحن المطر؟
آه لو كان لي بعضا من لامبالاتك القاتلة، شيئا من صبرك العجيب، قليلا من لا اكتراثك بي …
كي أناديك بعالي الصوت، بين الجبال وبين البراري ، الشواطئ والقفار ..
ايها العالي: ماذا تبقى لنا في خوابيك سم ام نبيذ؟ قرار البحر، ارض بلا طير او سماء ؟
 
تقول لي ابنتي: كيف السبيل ليكون لي متر واحد من بلاد ابي وامي؟
وماذا ستفعلين بمتر واحد؟ قالت: لارفع اعلى راية في الارض ؛ راية للدمع المقدس ، للمغدورين ، للأمهات ينفقن العمر من اجل ابن سيغادر يوما ، ليقتل او يؤسر في حروب الآخرين … راية لوطن منفى ، ومنفى وطن ! راية لغد بعيد ، تناوئ الأمل الكذوب ، راية لمجد الفعل .. للجناح الكسير …
كي تبدأ الثورة حالًا .. لا وقت للسلم المدجن، ونعلن؛ هنا البلاد.. هنا الوردة!
 
وبعد، فماذا تنتظر؟
 
برابرة جدد؟ حربا اخرى مما قد يجود بها القريب او البعيد؟ مقصلة بارتفاع الكون، تهوي على اعناقنا؟ جوعًا اشد، عطشًا ، ذلة اخرى ! انظر هناك، هم يتجحفلون الان ؛ من عرفت من الذئاب ومن الضواري ، كل تحت رايته البغيضة ، خناجر ، انياب وكل مايلزم للإجهاز على ما تبقى فينا وفيك !
 
وأنت اعرف بمن خبرت :
الضواري .. لا تجيد .. الانتظار…
فاذكر زمانك فينا، كي لا يسيء اليك احد.
 
دبابة أمريكية الصنع، وصلت ضفاف دجلة، بالخطأ.. دارت على نفسها.. كشفت مؤخرتها البذيئة :
سقطت جيوش، هربت كتائب .. وانتهت بغداد، من سيرة موتها الألف ، الى ما ينهي كابوس بآخر !
  • عاش الرئيس … سقط الرئيس !
… آه يا بلد.