أيار 05
 
الحرب مشرعة. مرّة أراها قدر، ومرة أتابع الحراك السياسي الذي يسبقها. الحرب قدر العراقيين منذ الأزل. جدّنا كلكامش نصفه ملك ونصفه إله، يحكم أعظم مدينة، ومع ذلك ذهب إلى الحرب حين لم تأت إليه. غادر مملكته وذهب الى الغابات يبحث عن (خمبابا) ليصارعه فينفّذ قدراً مسلّطاً على بلاده.
أنا الذي ولدت مع الحرب العالمية الثانية وعشت الحروب، ذاهباً إليها أو قادمة نحوي، عرفت بالغريزة أن الحرب قادمة. لا أسلم للقدر وحده، إنما اتابع مقدماتها كما ضربات الزمن الذي يسبق الفاجعة. أتابع الاستعدادات للحرب وأفزع من كثرة الأسلحة.. بوارج في شكل جزر حديدية عائمة والجنود يعبئون بحمية صواريخها الموجهة نحو العراق، حاملات طائرات راكدة في مياه الخليج بينما تقلع الطائرات من على مدارجها الى البلاد التي تختض بانتظار الخراب والموت. ما أهدأ المياه وما أرعب ما تحمل!
قوافل من جنود بمعداتهم الكاملة يصعدون الى الطائرات، يسأل المراسل أحدهم على ماذا تدربتم فيجيبه المظلي وهو يصعد سلم الطائرة:
-أن نقتل ونفجر.
الوسطاء والقدر
 
قبل أن تبدأ الحرب حاول الوسطاء إقناع الدكتاتور بالتنازل لإنقاذ بلاده. أنا الموهم بقدرات العقل على تجنب الكوارث عوّلت كثيراً على تنازله.. سيحل المشكلة من طرفيها، يستقيل وليأتي من يأتي. سيتجنب البديل أخطاء من سبقه ويفتح باباً للاحتمالات.. آنذاك تفقد الحرب ذريعتها ولن تكون قدراً.
بينما تتحشد الجيوش على حدود العراق وهي تصك أسنانها كنت في رحلة صحيفة أفريقية. أردنا أن نلتقي (نيلسون مانديلا). سكرتيرته وكاتبة سيرته (أمينه) أخبرتنا بأنه سيطير غداً فجراً الى بغداد لمقابلة (صدام حسين). الأمين العام للأمم المتحدة (كوفي عنان) كّلفه للقيام بوساطة أخيرة لإنقاذ البلد قبل أن يحترق. بقيت طول الليل أنمّق له أكثر الجمل تأثيرا لإقناع صدام بالتنازل: "ماذا تريد، المجد؟ ها أنا استقلت كرئيس لجنوب أفريقيا، ومع ذلك صرت أيقونة لشعبي وللعالم".. هكذا صنعت لمانديلا منطقاً من مخيلتي ورددت كلماتي بصوت مسموع. نمت وحلمت بصدام جالس على طرف سريره بدشداشة بيضاء مطرق يسمع هذه الكلمات من وسيط.. قبل مغادرتنا جنوب أفريقيا عاودت الاتصال بسكرتيرته لأسألها عن نتائج رحلته فأجابتني: لم يذهب! صديقه عمرو موسى الأمين العام للجامعة العربية حذّره: سيتركك في المطار عندما يعرف طبيعة مهمتك! هذا رجل يعبد السلطة ويمسكها بأسنانه. لم يسمع صدام توسلات الوسطاء (كوفي عنان، بريماكوف، مبارك، توسلات حافظ الأسد، رسالة الشيخ زايد، محمد علي كلاي..)، إنما اختار الحرب برفضه الذهاب إلى المنفى. جورج دبليو بوش الذي منحه هذا الخيار يعرف أنه قدّم خياراً كاذباً، لأن صدام لن يغادر وسيبقى مطاردا ومختفيا طول عمره ومتنقلا من وكر لوكر. مع ذلك كنت اتابع الوساطات بلهفة وأخدع نفسي وأقول سيتراجعون.. لكن الأخبار تفندني.
الحرب بالنسبة لصدام البعثي كانت كما حددها أستاذه (ميشيل عفلق) اختبار إرادة، وللمتدرب في الجهاز الصدامي والمدمن على الحروب ستبدو المغامرة مجرد (كُونهْ) صغيرة كما وصفها هو بمنطق الشقاوة. مع الشلة المقربة من أولاده تخيل شكل الحرب ورسمها على قفا خريطة مقلوبة. في خطابه المتلفز الأخير يوم 20-3-2003 خرج بشعر فاحم ليس فيه شيبةً واحده على سبيل التمويه، ببدلته العسكرية يحمل رتبة مهيب ركن، وعلى صدره أوسمة الهزائم في كل حروبه، في هذا الخطاب يكشف خيبته، فقد بني حساباته على حرب جوية وضربات من بعيدة ولن يكون هناك تقدم على الأرض. وفي النهاية ستنتهي الأمور بمفاوضات تبقيه في السلطة مقابل حزمة تنازلات جديدة. لكنه فوجئ كما يكشف الخطاب بتحول الحرب من ضربات الى غزو. لذلك عوّل كثيراً على الزمن. لم يعد العدوان جوياً فحسب، إنما هناك تقدم على الأرض، وهذا كما اعتقد فرصة للمواجهة البرية، الغرب يريد الحرب قصيرة خاطفة، فاجعلوها طويلة وهنا كما اعتقد تكمن الهزيمة.
 
B52
أتابع الحرب من مقعد داخل بيتي في لندن وأفزع من قول المعلق العسكري" لم يشهد التاريخ العسكري تجمعا للأسلحة بهذا الحجم ضد مكان واحد".
تقلع طائرات B52 من مطارNorthholt   في لندن على مسافة ٢٠ دقيقة من بيتي في .Millet Road أسمع، أو يخيل إلي صوت إقلاعها وتهز الأرض تحتي كأنها تتوعدني أنا بالذات بصوت القيامة المزلزل. ستستغرق ١٠ ساعات للوصول إلى بغداد. أحسب الوقت بدقة: متى ستصل أهلي؟ أحسب الوقت بالأمكنة التي تمر فوقها وأفكر بهذا الطيار وهو يقطع رحلة الليل الطويلة كلها عابرا إيطاليا حيث الليل في أوائله في ساحة (بياتزا نافونا) والشوارع التي نام فيها المشردون على الأرصفة مدثرين بأسمالهم بعد حقن المورفين. لا تغري الطيار كل هذه المدن، فالمهم أن يفرغ حمولته هناك ينظرا في ساعته مستعجلا وهو يعبر البحر المتوسط البطيء الساكن، ستبدو سفن السياحة مثل نجيمات مربكة فوق البحر المظلم. بينه وبين الهدف ساعات قليلة. اقترب الهدف! مدن تتوهج منائرها وقد غصّ المصلون بصلاتهم. يعبر كل هذه المدن نحو مدينتنا المسكونة بالخوف وقد انحشرت الأمهات في أضيق الزوايا والتفت أذرعهن على الأطفال الشاحبين بينما يعبر الآباء الشارع بين القذيفة والقذيفة وقد انغرزت رؤوسهم كالمسامير بين الكتفين، يعبر الطيار كل هذه البحار والمدن وسلاسل الجبال من أجل أن يفرغ32000 كغم من المتفجرات فوق مدينة مأهولة ثم يعود لزوجته وأولاده. حرب بلا أبطال ولا مواجهات، فالمعركة سيحسمها رجال من الجو يرون أهدافهم ولا يعرفون قتلاهم.
أتابع الاخبار وأنا أصك أسناني، فاخرج لألتقي أصدقائي في الحديقة لأجادلهم. في الحقيقة أذهب لأهاجم دون أن أصغي لحجة الآخر، أعجن الكلمات وانفخ فيها النار لتكون مثل الجمرات، تتعبني الكلمات لأنها البديل عن أفعال العاجز. صديقي (فوزي كريم) راهن على هذه الحرب في إزاحة الدكتاتور الذي عجزنا، نحن معارضيه، عن زحزحة سلطته واولاده على مستقبل أولادنا. أهاجم فوزي كتابة وكلاماً، وفي حقيقة الأمر أهاجم في ذاتي فكرة توشك أن تصدقه.
أنا منقسم على نفسي: ضد كل من يؤيد الحرب وأصل بالنقاش حد العراك: كيف يمكن لمثقف أن يقف مع حرب تدمر بلاده وتقتل أهله؟  وأنا ضد من يعارضونها لأنهم يريدون استمرار الدكتاتور شاءوا أم أبوا.. وفي الحالتين كنت أعارك وأجادل نفسي بالنقيضين..
 
وسط الحشد، خارجاً عنه
 
 كل سبت أخرج مع آلاف المتظاهرين في شوارع لندن مندداً بالحرب. كنت واحداً من عشرة ملايين شخص تظاهروا في ثمانمائة مدينة عالمية. تركوا حياتهم العادية وخرجوا للشوارع في ١٥ شباط منددين بالحرب. لم يحرك هذا الحشد حزب أو أحزاب، إنما هو مزيج من كل شيء، على بعد أمتار أمامي رفع ثلاثة شبان علم المثليين الذي يضم كل ألوان قوس القزح. خلفي شاب باكستاني ضخم الجثة، مغطى بالسواد حتى عصابة رأسه، حليق الشاربين بلحية كثيفة تغطي صدره يهتف بصوت عال (سيكون هناك ألف بن لادن)! أسمعه وأبتعد عنه منتظراً صرخة (الله أكبر)! على يميني عربي في خمسينياته يريد أن يتقدم المسيرة حاملا صورة صدام التي تعود لأكثر من عشرين عاما مضت، لا أعرف الذي انتزعها منه "نحن ندافع عن شعب لا عن دكتاتور"! في مقدمة المسيرة حاخامات يهود وخلفهم يهودية عراقية حملت علم العراق تصرخ (لا تقتلوا أهلنا هناك)! مزيج من نقابيين وربات بيوت ومهندسين وكتاب وممثلين سينمائيين. الحشد يمنحني الأهمية والمسؤولية كوني من البلد الذي يتظاهر كل هؤلاء من أجله. أتفهم خوف هذا العالم الديمقراطي من هيمنة القطب الواحد وفرض الحلول بالقوة، وأشعر في نفس الوقت بالغضب لأن أحداً لا يندد بالنذل الذي قادنا من حرب إلى حرب وهو يراكم الأوسمة على صدره والنجوم على كتفه. في جريدة (المؤتمر) الذي يقوده (الدكتور أحمد الجلبي) كتب صديقاً لي مستغرباً كيف أن كاتباً معارضاً يشارك في مظاهرة يتقدمها جورج جالاوي. كنت أكثر استغراباً منه، لكنني كررتها.
 
حرب العاجز
أعود متعباً من الجدل وصراع الأفكار، وأنا في الحقيقة أصارع نفسي، أعود الى التلفزيون باحثاً عن الصور رغم أنها تزيد عذابي وإحساسي بالعجز. في شبابي عشت وغطيت حروباً عديدة: حرب الفلسطينيين مع الجيش الإسرائيلي في (غور الصافي) عام 1969، معارك المنظمات الفلسطينية مع الجيش لأردني أيلول عام 1970، الحرب الأهلية اللبنانية 1975-1982: حرب الصحراء بين الجيش المغربي والبوليساريو1980-1983، عامان ونصف 1983-1984 في جبال كردستان.. عرفت الحروب وعشتها بحواسي واعصابي وعقلي. وسط الحروب ينشغل الجسد بتمارين القتال والسلامة، ولن يترك للذهن مجالا للتردد والتأسّي. الحرب كانت حولي وتستدعي كل حواسي.. علي أن أتسمع صوت القذائف لأدرك مصدرها واتجاهها وأكيّف جسدي على هذه المعارف التي راكمتها الخبرة. لا شيء يحمينا في الحرب غير الجدران، وهذه الجدران عدوتنا لأن القصف يستهدفها بالتحديد ولذلك صارت لنا ملجأ وقبرا في الوقت نفسه. أغادر مخبأي بعد سقوط القذيفة لأرى الموقع وأتشمم رائحة البارود والحريق، ثم أقرر موقفاً مما يحدث. موقف أدخل فيه بكل كياني. كنت أعيش الحروب بعضلات جسدي التي تحول خوفي الى أفعال.
هذه الحرب هي الأكثر وجعا على قلبي لأنني أشاهدها ولا أعيشها. الحرب الآن أمامي، لكن بيني وبينها هذه الشاشة الرمادية. التلفزيون يقربني من الحرب الى حافة الملامسة، بل أشم هذا الغبار الأحمر الذي يلف الجنود الأمريكيين الزاحفين نحو بلادي. أعرف هذا الغبار وأكاد اختنق به. تتقدم الدبابات والمدرعات دون مقاومة تذكر، الغبار الكثيف وحده يعيق تقدم القوات في الصحراء القريبة من كربلاء. الجنود الأمريكان تائهين وسط الغبار، لا يرون عدواً ليقاتلوه، غير قادرين على القيام بالمهمات العملية التي كلفوا بها: ان يقاتلوا ويتقدموا نحو بغداد. مراسل(رويترز)  Luck Bakerالذي رافق فرقة المشاة الامريكية ٥٣٥ يصف كيف أن الجنود بكل معداتهم الضخمة بقوا عاجزين وسط عاصفة الرمال غير قادرين على التنفس والرؤيا ولا حتى أكل طعامهم. غابت عنهم الاتجاهات، يبحثون وسط الغبار عن عدو لا يروه، غياب العدو يزيد قلقهم. ثمة مفاجأة غير متوقعة. ماهي؟
 
 
لا أدري؟
خلال وجودي في أبو ضبي استضافتنا، أنا والشاعر (حميد قاسم) قناتهم الرسمية. كانوا مذهولين بتقدم القوات الأمريكية نحو بغداد. بعصبية المُباغَت ْيسألني المقدم الفلسطيني:
-أين هي قوات صدام؟ (يعددها حسب تقرير أمامه) قدر المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية عدد القوات المسلحة العراقية بـ389.000 ، الجيش العراقي 350.000، البحرية العراقية 2000، القوات الجوية العراقية 20.000 والدفاع الجوي 17.000، فدائي صدام شبه العسكريين 44.000، الحرس الجمهوري 80000 واحتياطي 650.000. وتشير تقديرات أخرى إلى أن عدد الجيش والحرس الجمهوري يتراوح بين 280.000 و350.000 و50.000 إلى 80.000 على التوالي، والقوات شبه العسكرية بين 20.000  و40.000. ثلاثة عشر فرقة مشاة وعشرة فرق ميكانيكية ومدرعات بالإضافة إلى بعض وحدات القوات الخاصة..) أين هي؟! يصرخ بي كأني أنا الذي خدعته.
 
الحزب الذي قارب تعداده السبعة مليونا، أين هم؟
 
 حقا البعث كان التنظيم الوحيد القادر والمعتمد عليه للقتال. لكنه لم يكن أكثر من اداة بيد نظام الفرد الواحد فوق الحزب الواحد. حين غابت القيادة وضاعت الأوامر وجد البعثي نفسه فرداً ضائعاً مثل اي واحد من الرعية. سأستعين بشاهد فقدت اسمه نشرها على الفيس بوك " كنّا مجموعة من المتدينين المندفعين نجتمع كل ليلة عند مجموعة امنية وبعثية يُفترض أنها تراقب القلاقل وتحافظ على الأمن عند بدء الحرب… في ٨ نيسان من ذلك العام، تنسحب خلايا الأمن الخاص الموزعة على اركان الأزقة… في ٨ نيسان تنسحب خلايا الامن الخاص الموزعة على أركان الأزقة، وينسحب معهم أفراد حزب البعث ... يترك هذا الانسحاب حيرة عميقة في أعين الناس دون شفاههم. ما الذي يجري؟ هل صدر أمر بانسحابهم فعلاً أم أنهم تصرفوا بإرادتهم؟ هل سقط النظام البعثي فعلاً أم انهار موالوه نفسياً ولم يعد باستطاعتهم الانتظار يوماً آخر؟
- العراقيون…
-…
أجيبه بالسكوت. للمرة الثانية، او الثالثة يطرحون هذا السؤال. لا يتعلم الناس هنا من التجارب، فالتجارب هنا تراكم أفقي مفكك، لا يضيف شيئا على ما تحته وما قبله. يبقى السائلون على نفس الأوهام التي بددتها الهزائم، ويبقى ملوك الهزائم على عروشهم في السلطة أو في اوهام الناس، بل يصبح التوهم لذاته ضرورة او تعويضاً عن الضعف والخسارة. أستعين بما قاله صديقي الكاتب سهيل سامي نادر "من كان يستطيع الدفاع عن الدولة الوطنية غير مواطنين أحرار؟ لكن لم يعد هناك مواطنون بل مجرد رعايا. ما من تنظيم للمجتمع المدني حتى ولو كان بسيطاً كان يستطيع الدفاع عن بقايا الدولة الوطنية ولا عن الميراث الثقافي للعراق، ولا عن إنجازات عشرات السنين المضنية في الصناعة والزراعة والإدارة والصحة والثقافة والعمل. المجتمع الذي تحكمت به قوى الاستبداد ظهر مجموعة من أفراد منعزلين همهم الوحيد الدفاع عن حياتهم".
 
شعبنا تعب من هذه المتوالية الدموية: حرب خارجية تتغذى وتغذي حرب داخلية للحفاظ على سلطة سميت عسفاً (وطن أو تراب) تتلوها حرب داخلية تعبر الحدود يريد النظام أن يحيلها لعدو خارجي. تنتهي الحروب دائمة بنقطة الصفر وبتنازلات مذلًة ليبقى الكرسي الذهبي ويبقى القائد الرمز وخلفه العلم.
 
أرى وميض لانفجارات تهز الأرض تحتي أنا الجالس هنا في بيتي في Millet Road أخترق زجاج الشاشة الفضية التي تريني جنوداً منسحبين تركوا مواقعهم البائسة أمام الجحيم الزاحف إليهم والمخيم فوقهم. أمدّ يداً عاجزه لأعينهم على النجاة: ليتهدم الحجر! لينزل العلم! الحجر والقماش، كل الرموز، المهم أن يبقى الإنسان الحي القادر على أن يشيد رموزا جديدة أكثر واقعية ويشيد وطنا أقل دموية.