أيار 05
رغم مرور ما يقرب من العقدين من السنين، ما زال العراقيون منقسمين بين من يعتبر ما حدث في العراق في التاسع من نيسان 2003، احتلالا ومن يعتبره تحريرا، غير آبهين بخطورة مفردة الاحتلال لما يترتب عليها من وضع البلاد على العديد من الاحتمالات السيئة التي يقينا ستضعف قدرة العراقيين على إدارة وطنهم بعد انهيار النظام الفاشي، لأن الاحتلال يعني وضع العراق تحت الوصاية الدولية ووضع العراقيل التي يرتئيها المحتل لخروج البلاد من الفوضى التي خلّفها النظام البعثي المقبور. وكلنا يعلم ما حصل من حراك عدواني غير مبرر وهياج شعبي غير منظم اتجاه مؤسسات الدولة وحالات النهب والتخريب التي شملت كافة مؤسسات النظام المنهار ما زال العراقيون يعانون من تبعاته حتى اليوم.
كان موقف الحزب الشيوعي العراقي معارضة الحرب وعدم التلويح بها أو اعتبارها المخرج الوحيد لوجود البديل للنظام البعثي، سيما أن من كان يؤيد الاحتلال ويلوح بالحرب كانوا يرتبطون بأجندات غير معلنة ولكن المواقف اتضحت لاحقا وتبينت النوايا التي كانت تتبناها فصائل المعارضة للنظام الفاشي، سيما الإسلامية منها، فكانوا مستبشرين بفكرة الاحتلال ليتسنى لهم الهيمنة على مقدرات البلاد بالاتفاق مع المحتل، وهذا ما حدث فعلا بفرض سيطرتهم وسن قوانين تبيح لتلك الفصائل من الاستحواذ على فرض نظام جديد يخدم مصالحهم بتكريس حالة من الفوضى بحصولهم على الامتيازات في ظل غياب سن القوانين الجديدة التي تخرج البلاد من نظام شمولي الى آخر يكون منفتحا على كل المكونات العراقية واعتماد نظام ديمقراطي حقيقي يعتبر متنفسا حقيقيا للعراقيين الذين عانوا ما عانوه تحت  وصاية الحكم الصدامي الشمولي المجرم. لكن البوصلة انحرفت عن مسارها فيما بعد وتحولت البلاد الى شيع وأحزاب بغياب أي تنسيق لقيادة الوضع الجديد من قبل أطراف كانوا بالأمس معارضين للوضع القائم حتى سعى كل طرف لخلق آليات لكسب المغانم لصالحه وإدارة الظهر للفصائل الأخرى وبمباركة المحتل، حتى أوجدوا نظاما طائفيا مقيتا حول البلاد الى حالة من التشتت والعزلة وفرض أحقاد وتصفية حسابات بين اطراف  كانوا يسمون بالمعارضة، فغرقت البلاد في فوضى استمرت كل هذه السنين التي أعقبت التغيير وحصل ما حصل، حتى أن العراقيين باتوا لا يميزون من هو الوطني دون غيره، علما أن الإسلام السياسي لا يعترف بوجود كيان جغرافي أسمه وطن، وها هي النتائج الكارثية التي سببها الاحتلال ومن يدافع عنه.
تمر الذكرى العشرون، والأوضاع في العراق تنتقل من سيئ الى أسوأ، تحت نظام محاصصة مقيت، غلّب القابضون على سلطة القرار مصالحهم الشخصية والسعي لنيل الامتيازات غير المشروعة وإشاعة الفساد والمحسوبية وغياب سلطة الدولة بقوانينها العصرية والتي من شأنها خدمة المواطن قبل كل شيء وإحداث نقلة نوعية في إعادة بناء الوطن الخارج من محارق النظام البعثي ومغامراته القاتلة، والأنكى من كل ذلك غياب السيادة الوطنية ونظام المحاور الذي عاد السمة المميزة، الأمر الذي فتح الأبواب مشرعة للتلاعب بمستقبل البلاد والعبث بمقدرات العراقيين، دون التفرغ لإعادة البنى التحتية المدمرة ولا توزيع عادل لمنح الفرص لكافة العراقيين ولا رقابة حقيقية على ثروات البلد ومقدراته ولا..ولا..
إن الخراب الحقيقي الذي تعرض ويتعرض له العراق بسبب تبعات الاحتلال ووضع سلطة القرار بيد دولة محتلة لتحويل البلد من حالة الى أخرى يدور في فلك الكوارث، هو غياب الدولة ومؤسساتها، وهذا ما سعى اليه ساسة العراق الجدد ممن وضعوا مستقبل العراق ومصير أبنائه بيد الأجنبي ليتحولوا الى آلات لتنفيذ مخططات المحتل. وما يثير الحنق فعلا أن هذه الفصائل والأحزاب والكتل ومن يدور في فلكها بعد أن جاءوا مع المحتل داعمين له ومباركين لأفعاله التخريبية، هم أنفسهم وبصلافة من لا يعي حجم الفعل الهادف لإلغاء فكرة الوطن التي يمارسونها بصلافة وعقوق خدمة لأجندات أجنبية، يطالبون اليوم برحيل المحتل بعد أن غنموا ما كانوا يسعون اليه ويجعلون من العراق البوابة التي يستفيد منها أعداء العراق، ليظهروا وجها ويخفون وجها آخر، وهذا ما احتكموا عليه وتشبثوا به خدمة لمصالحهم الضيقة.
ان كل المساوئ التي يعاني منها العراق والعراقيون اليوم جاءت بسبب الاحتلال ومن يؤيده وبوسائل خبيثة باتت مكشوفة للجميع، بعد أن كنا ننتظر لحظة الفرج للخلاص من النظام القمعي بإيجاد بديل وطني مقبول لتغيير النظام الفاشي، لا باختيار أسهل السبل للإطاحة بالنظام الصدامي على حساب حرب تدميرية أعادت العراق الى قرون من التخلف والتراجع الخطير وبمباركة المحتل.
كانت هناك قبل شن الحرب، حوارات تدور خلف الكواليس، آراء تكون بديلة عن تأييد الحرب وتدمير البلاد، هي تشكيل حكومة منفى وطنية يتفق عليها الجميع وخنق النظام الفاشي بوسائل عديدة وتمكين شخصيات وطنية من الاتفاق على البديل بأقل الخسائر وأسلك السبل، علما أن الجميع يعلم أن شن حرب شاملة ستحرق الأخضر واليابس، وقبل كل شيء تدمير البنى التحتية من ماء وكهرباء ووسائل عيش بسيطة للمواطن، والكل يعلم أنها ستكون حربا طاحنة وتسهيل مهمة دخول قوات معادية لا تعرف الرحمة ولا تتردد في تدمير كل شيء ليتسنى لها فرض هيمنة عسكرية ظالمة دون أن تهتم لنتائجها الكارثية وهذا ما وقع فعلا.
كنا نسمع من بعض العراقيين يزورون بلدانا أجنبية وهم في غاية الانهيار والخوف والحرمان واليأس، وبأنهم مستعدون للترحيب بمجيء الشيطان على أن يبقى نظام صدام المجرم جاثما على صدورهم، لكنهم لم يتوقعوا أن تصل الأمور الى هذه الحالة الكارثية، فكانوا يغلّبون العاطفة على التفكير المنطقي بمساوئ الاحتلال ونتائجه المخيفة.
إن الاحتلال لأي بلد مهما كانت مبرراته ومسوغاته، هو تفكيك لبنى تلك الدولة وإخضاعها الى حالة من التشتت والانهيار وسيادة الفوضى وغياب القوانين التي من شأنها أن تبقي على مكوناتها حتى وإن كان بشكل نسبي، وعدم إشاعة الفوضى بكل سوءاتها وبلاويها، وهذا ما حصل للعراق بعد اجتياح الجيوش الأجنبية واطلاق حالات مفجعة لتحويل بلد مثل العراق، بثرائه وقوته ومكانته وهيبته وتأريخه ليكون مهبا للرياح العاصفة وظهور مخلوقات لم يكن يهمها بقاء العراق على وضعه المعروف حتى وإن كان بأضعف حالاته، لتكشّر تلك المخلوقات لاحقا عن انيابها وتفتح حالات من النهب والسرقات وتهديم مؤسسات الدولة التي لم تكن ملكا للطاغية صدام وبطانته، بل المراهنة على حدوث التغيير بأقل الخسائر مع الرفض المطلق بدخول جيوش الاحتلال لأرض العراق وجعلها الآمر الناهي للتلاعب بمقدرات الوطن وخيراته وتفتيت النسيج الاجتماعي لشعبه وتعميق النزاعات بين مكوناته وملله، الأمر الذي سبب صدمة عظيمة ما زالت نتائجها الكارثية تتعمق يوما بعد آخر وظهور حالات غريبة لم تكن معروفة لدى العراقيين، بل ومرفوضة تماما أشاعت حالات من الفساد والنهب والاستحواذ على مفاصل الدولة من طرف كتل وأحزاب كانت بالأمس تعلن معارضتها للنظام القائم، بل والإعلان الدائم بسعيها لإقامة نظام بديل يحقق الديمقراطية والعدالة الاجتماعية وبسط الأمان لكافة العراقيين.
وهذا الكلام من وعود كنّا نحن المبتلين ببشاعة النظام القمعي وممارساته الإجرامية ممن نفذ بجلده من سياط المحو البعثي قبل حلول الكارثة التي بدأت بملاحقة أحرار العراق الذين لم يسلم من مقاصل البعث إلا القليل، كنا نأمل أن ينهار النظام بين لحظة وأخرى بسبب المغامرات الصبيانية التي أضرت كثيرا بالحرث والضرع والنسل، وبدل أن يراجع الطاغية وأزلامه الأسباب الكارثية بسبب مغامراته، ظل يلوح بالمزيد من الدماء التي لم تشف غليله المريض هو ومن يدور في فلكه من جلادين، تيقنوا أنهم قريبون من نهاياتهم، الأمر الذي لم يعد أمامهم لا هم ولا قائدهم المندحر سوى مواصلة أنهار الدم لأنهم قريبا زائلون، وعطّلوا عقولهم ومحاولة تصحيح مساراتهم رغم مسلسل الخراب الذي أشاعوه بحيث لم يسلم بيت عراقي دون مناحات كانت السمة الغالبة للشعب المظلوم، ولا نريد هنا أن نسرد مسلسل الكوارث التي سبّبها البعث للشعب العراقي المظلوم، دون أن يرف له جفن ودون أن يفكر ولو للحظة بعواقب الدمار الذي بات قريبا من أعناقهم هم أنفسهم، فتحولت حياة الناس الى جحيم لا يطاق، ومع  كل هذا البلاء، ظل المستفيدون من عطايا السحت الحرام لقائدهم المندحر من عراقيين وعرب وأجانب يدبّجون المقالات والأشعار والأغاني وينظمون الزيارات مدفوعة الثمن قصد النفخ في قربة القائد المعطوبة ويلوحون بالانتصارات الوهمية والبلاد على حافة الانهيار، فهل يعقل إزاء هذا الركام الهائل من الدمار أن يعطّل الطاغية وأعوانه الأغبياء عقولهم الى هذا الحد من البلاهة وإدارة الظهر لما يحدث خلفهم على بعد خطوات حيث يتواجدون.
بلغ اليأس بالعراقيين حد الاستسلام المطلق لأقدارهم وهم يتطلعون ليوم الخلاص غير مبالين بالفواجع القائمة بسبب اجتياح جيوش الاحتلال لبلادهم، وحصل ما حصل من كوارث يعرفها القاصي والداني.
هنا وبسبب ما كان احرار العراق يحذرون من مجرد التفكير باحتلال بلادهم وما تجلبه من كوارث وهم يقرؤون بنظراتهم الثاقبة النتائج المخيفة لتحويل العراق من حالة كارثية إلى أخرى أشد هولا وأفظع بلاء.
 من كان من العراقيين وبسبب حدوث هذا الفراغ أن يتحول العراق الى شيع وأحزاب ومكونات لا حصر لها كنا نخجل من ذكرها، الأمر الذي دفع كل فصيل من هذا التشتت الغريب الى التكالب حتى وصل حد الإحتراب للحصول على المكاسب والغنائم وبسط سلطتهم داخل وطن واحد، بقوة السلاح وخارج سلطة الدولة، بل ويستمر الاستفحال اكثر واكثر حتى وصلنا الى ما يعرف بالدولة العميقة التي هي في الواقع دولة فصائل تخضع لإمرة مجاميع من القتلة والناهبين والسراق، لا نعرف من أين أتوا وما هي أصولهم ومرجعياتهم وأهدافهم المعلنة وغير المعلنة، رغم أن ما يسعون اليه ويتشبثون به بات واضحا للعيان، جاعلين من البلد مرتعا للعبث وحالات كارثية من الفوضى والخراب.
المصيبة الأشد هولا، أن من جاء مع الاحتلال وكسب المغانم بسببه واستقرار الأمور لصالحهم وهم يصولون ويجولون، تتعالى أصواتهم اليوم بخروج المحتل وسن قوانين بعدم مشروعية بقاء الاحتلال، والهدف معروف وشبه معلن، بأنهم يريدون أن تخلو الساحة من أولياء نعمتهم بالأمس من جيوش المحتل بشتى جنسياتهم وتحديدا جيوش العم سام، لفسح المجال أمام محتل آخر يدينون بالولاء والخضوع والخنوع له طائفيا ومذهبيا، لتتحول البلاد لهم وحدهم بامتيازات تنسيهم روح المواطنة التي لا يعترفون بها أصلا، وتمرير كل ما يسعون اليه من استحواذ على خيرات البلاد وثرواته، رغم أنهم أخذوا كل شيء.
أخيرا، يمكننا القول إن من يفكر باحتلال بلده هو متواطئ بامتياز مع جيش الاحتلال، لأن تراب الوطن المقدس لا يمكن أن تدنسه أحذية جحافل العسكر القذرة.