نيسان/أبريل 28
 
السؤال
ضغط على الزر الأحمر فانطلقت الموسيقا، إهتزَّ بدنه متساوقاً مع الإيقاع البرقي لصدى الآلات المصطخبة ثم أنشأت أنامله تتراقص على المقود مشكلة رقصة سريعة لا هوية لها، وصارت الأشجار تتسابق راكضة نحو الخلف في توازٍ رهيف مع أسلاك الهاتف من الجهة الأخرى... لاح الجسر الحديدي الذي يشكلّ فم المدينة، انتفض جسده بغتة مستجيباً للصعقة الكهربائية المتواترة المتوالدة من الجهة اليسرى لصدره، حاول أن يُنهض جسده، أن يضغط على الكابح، أن يمسك بالمقود بقوة لكن الصعقة كانت تنتشر في الملايين من حجيرات دمه وأنسجته لتحيلها إلى مخلوقات محتضرة، تصاعد خدر لذيذ إلى رأسه، اضمحلت أشياء الشارع أمامه: الجسر، الأشجار، أعمدة الهاتف، الغيوم الربابية، شدو البلابل على أفنان الأشجار... إلخ، والآن من يستطيع أن يوقف سيارة تقودها... جثة؟
 
ماراثون
كان يلاحقه قبل أن تشيخ الساعات، يركض بأقصى طاقته، والآخر ينأى عنه، طوى الهضاب الجرداء، والأنهر الغرينية المتلبدة، والمدن المغبرة العتيقة، والصحاري المحّنطة، ولكن عبثاً... فهو لا يزال في سكونه يعجز عن اللحاق به، ولم يخبره أحد من الذين صادفهم، أنه يلاحق ظله...
 
القرد
هم بقايا قرن مضى، عتيقون جداً يضاهون عتق الأسرّة والمناضد والدرفات المحطمة للنوافذ الخشبية المتآكلة، حتى الشمس التي دخلت تواً من خصاص النوافذ تبدو منهكة بها حاجة إلى رمس يثوي مفاصلها المائتة، كانوا يفترشون البلاط القديم المرشوش تواً، يضحكون بصمت أخرس وهم يحدّقون في دمية على هيئة قرد يرقص من دون كلل ويدور حول محوره واضعاً يديه، إحداهما على قمة الرأس والأخرى في الدبر الدامي، يضحكون بلا توقف متجاهلين النداءات اليائسة لزميلهم الذي يحمل قرناً وبضع سنين على كاهله لكي يغني لهم الأغنية الأخيرة.
كتاب
كل يوم عندما يغلق الباب ويستدير مواجها الكتب المتراصة في المكتبة تصطدم عيناه بالكتاب المتهرئ الذي وجده فجأة ذات صباح مطير في مكانه هذا بَيْد أنه لم يفكر منذئذٍ في فتحه... هذا الصباح وجده ينظر إليه باستفزاز جعله ينقاد اليه ويخرجه، نفض عنه الغبار ثم جلس إلى المكتب وبدأ قراءته... لما دخلت عليه زوجته في الضحى صرخت ذاهلة حين عاينت مكتبة آيلة للتداعي وسجادة عتيقة قضقضها العث، وجرذان رمادية عملاقة منهمكة في إحالة الكتب النفيسة إلى بقايا سليلوز حائل، وشيخاً يشبه زوجها قد ألصق عينيه الغائرتين خلف حاجبين أشيبين في ثنايا الصفحات الصفر النارية.
 
الليلة الثانية بعد الألف
يجرجر خطاه مشحوناً بريبته وخيبته القديمة متمنطقاً حساماً خشبياً، يصدح في الفضاء عزف ناي حزين وصوت موجع.
  • إنه أسير نفسه، كائن أصفاده، شك وأنوثة.
ويختض جسدها فَرقاً، تغطي عينيها النجلاويين بكفها الزاخرة بالأنوثة والرعب الأبدي، وتتقصى عبر أصابع كفها تلافيف الفجر الأعجف الرمادي وشكل الجلاد الأقرع العضل وهو يسحلها إلى عالم.. الفراغ والعدم والضباب... الثالوث المهيمن على فضائه.
يشبك ذراعيه حول صدره العاري المشعر، ويرفع وجهه الأسمر الشائخ، ينتشر الحزن في قسماته ثم يلهج.
  • من يعتقني من سحر الحكايا، ومن يطلقني من أصفادي الأبدية..؟
... وفي الليلة الثانية بعد الألف: نامت الحكاية.
 
الصمت الفارغ
أدار الأكرة ونقل الخطوة الأولى، انفتح المكان أمام مقلتيه هلامياً يغرق في عالم ضبابي، إحتواه الفراغ الرصاصي لهواء القاعة، استدار حول محوره وصار يتملى الأرجاء. كل شيء في اتون صمت فارغ، مشى نحو البيانو، جلس على الكرسي الباذخ، رفع كفيه المتصالبين فوق الصف المتراص الملون ثم داعبه بحنو أبوي فأنشأ البيانو يئن بنبرة لبوة ملتاعة ثكلى، فأخذ الرجل يشارك الكراسي والستائر المعدنية واللوحات وتماثيل الأبواب الموصدة بكائها المرير..
حين
حين أخرج الصياد الحسون من الشبكة وأعطاني إياه كانت الفرحة في عيني قطعة سكاكر لذيذة، وحين كنت أتنكب الأزقة الظليلة في طريقي من السوق إلى البيت كنت أفكر في شكل البيت الصغير الذي أبنيه لحسوني الجميل، وحين وصلت إلى فم الزقاق الذي يفضي إلى دارنا نقرني الحسون نقرات متتالية مؤلمة في ظاهر كفي اللدن، أرخيتها من شدة الألم فطارت أحلامي كلها.
 
الأعجوبة
هي بقايا أطلال وسط المدينة العتيقة، بعصاه المعقوفة يضرب الحجارة الخرسانية ويحدق عبر عينيه الكامدتين، لم يبق من هذا العالم إلاّ... يشقل أكوام الحجارة الصمّاء التي كانت في تصالبها وتكاتفها فيما مضى تشكل بنيان داره العامرة التي عصفتها الأيام، فكّر وهو يمسّد لحيته البيضاء.
  • سراب... كل شيء سراب.
تدور العينان الحجريتان، يراه في تفرده متهالكاً كأرملة في مقبرة مقفرة... آه... أيها الشيخ يا من ولدتني من رحم أصابعك، يا من زرعتني في أحشاء التبن والطين الحري الصلصالي، هلم إليّ...
يقترب من الحائط الأرمل، يلمسه بأصابعه، أحجار على أحجار بينها وسائد رقيقة من طين متقشر، يمد ساعداً مليئاً بالحبال الزرق ويفتت طبقة طينية فينسلّ التراب متساقطاً من بين أصابع ناصلة بأظافر خضراء مصفرة.
  • هلم، يا أبي ضعني في حضنك الدافئ.
ويتهالك عليه، يشعر الشيخ براحة جسدية مفاجئة، يتحسس الحائط بالأحضان الدافئة، والأنفاس اللائبة للأب/ الأم/ الشيخ... والناس الذين حاولوا إخراج الشيخ من تحت الأنقاض عبثاً كانوا يفعلون، فقد صارا كياناً واحداً: الحائط والشيخ.
 
عشبة كلكامش
جبل شاهق يناطح المطلق، يحنو.. أو يجثم على أنفاس نبع رأسه يغفو على أحجار هذا المبارك الحالق، وقدماه تنبسطان، تجريان، تغسلان الحقب والتضاريس، وتنتهي قدماه المعفرتان بالبقايا الإسيانة لأوساخ الساعات والحسك القديمة في أديم يصب في تيه أصفر رمادي... وقرية ذات بيوت متشابهة متواضعة، ترسم الليالي والنهارات. الأصياف والشواتي، الغيوم وجدائل الشمس، على كلسها العتيق حكايات سرية معبأة في صدور رملية صلدة لرجال ونساء مصلوبين منذ أزل الكون في الأفياء والأفنية، وفي الظلام الصائل للغرف السرية وتأبى الشفاه المرمرية الباردة أن تسرد البقية الباقية بعد أن وصلت في آخر سهرة إلى سؤال حاسم هو:
  • لماذا لم يأكل العشبة حال خروجه من الماء...؟
ثم يهتفون بأسى:
  • آه... يا كلكامش.
ــــــــــــــــــــــ
  • هيثم بهنام بردى قاص عراقي يقيم في ملبورن / استراليا