منذ صدور عددها الأول في تشرين الثاني عام 1953 أفصحت (الثقافة الجديدة) بوضوح، كما أرى، عن مقاصدها الفكرية في إشاعة ثقافةٍ ومعرفة جديدة، مُغايرة لِما ينفثُه الفكر التقليدي السائد في النفوس والعقول. الشعار الذي تَوَّجَ غلافها الأمامي وما يزال: (فكر علمي... ثقافة تقدمية)، أو شعلة النور التي أخذت مكانها هناك، تحملُها، أو تدفعها عجلة تُشير إلى حركة الزمن الدائبة صوبَ الغد، صوب المستقبل. والاعتبار بالزمن وحركته فكرة تنويرية أساسية ترمز، في تقديري، إلى العقل النقدي الحَيّ، المُصاحبِ لحركة الحياة، وما تأتي به من مُتَحَوِّلاتٍ جديدة، وذلك في موجهة العقل العاطل المُتَوَقف عن الحياة. لستُ أدري إنْ كنا نُدرِك، في حينها، الدلالة الرمزية التي منحها الفنان (إسماعيل الشيخلي، كما قيل لي) لهذا الشعارـ اللوغو، وما تشـترطهُ هذه الدلالة من سياسة وتقاليد نشرٍ في المجلة.
في أعدادها الثلاث الأولى، وحتى تحريم صدورها مطلع عام 1954، كان جَلِيّاً أنِّ المجلة، ومن خلال الدراسات والترجمات، وما نشرته في حقول الأدب والفنون والفكر والإقتصاد والسياسة والاجتماع، تمضي، في سياق ظروف تاريخية واجتماعية وثقافية مختلفة، في مواصلة ما شـرعَ مثقفون عراقيون تنويريون يطرحونه، إبّانَ عشرينات القرن الماضي، من تساؤلات نقدية في الهوية بعد الخروج من هوية التبعية العثمانية، وبأية ثقافة أو حضارة نَتَثَقَّف؟ هل نهتدي بالتعاليم الشرقية القديمة وعقلها التقليدي الذي يأخذ الناس إلى النمطية في التفكير والاجترار والتكرار؟ أم نؤسِّسُ لثقافة غايتها التجديد والتثقيف ونشر العلم وتقديس الحرية الفكرية؟
هذه التساؤلات التنويرية ما تزال تحتفظ براهنيَّتِها اليوم، في تقديري، ونحن في مطلع ثلاثينيات القرن الحادي والعشرين، حيثُ يزدحم ما حولنا بالرَثِّ من الأفكار التي يأتي لنا بها "أولو الأمر!" عندنا ووعاظهم من سراديب الماضي وتوابيته، حتى أكاد أخالُ أننا نعيش في زمانٍ يُمكِننا الحديث فيه عن ماكنةِ غسيلٍ دماغٍ خرافية تشتغل، ليلَ نهار، وبقصدية واضحة، لإشاعة الغباء وسيادة الجهل والتجهيل، وزرع ِسموم الكراهية في النفوس إزاء الآخر المختلف معي دينيا أو طائفياً أو فكرياً، وتمكين الخرافة من توجيه غالبية الناس والتَحَكم بهم، حتى أصبحت هذه جميعها هي ما يُشَكِّل اعتقادات غالبية الناس، مُمعِنَةً في تغييب وعيهم، وتغريبهم عن الحياة وتطورات الزمن الذي يعيشون فيه.
ومعروفٌ أنَّ الأوطان التي تسود فيها "ثقافةُ!" تعطيل العقول وتنويمِها تغرق في الظُلم والظلام. وفي مثل هذه الأحوال تَشتَدُّ الحاجة لخطابٍ آخر مختلف. خطاب يقدح العقل ويوقظُ الوعي والمُخَيَّلَةَ والوجدان. خطاب ثقافي وفكري يُعيدُ إحياءَ ثقافة الأسئلة التنويرية وإشاعتها بين الناس. وهو ما ينبغي لمجلة (الثقافة الجديدة) ومنابر الفكر النقدي الحر ومعاهد العلم والمعرفة أن تمنحه مساحة أوسعَ فيها.
من المعروف أنَّ السؤالُ، في معانيه اللغوية والفقهية والفلسفية العميقة، اسـتدعاءٌ لمعرفةٍ، أو لما يؤدي إلى معرفة. فهو بهذه المعاني منطلقٌ أساسٌ لتحري الحقائق والظواهر واكتشافها وتقويمها، وإعادة صياغة الحياة والنفوس والعقول على ضوء ذاك الاكتشاف وهذا التقويم. وإذا كان تحرّي الحقائق يشترط إخضاع الأشياء للتساؤل، فهو يشترط الشكَّ العقلاني المُعافى والتجريبَ كذلك. فبدون شكٍّ وتساؤل وتجريبٍ لا يُمكن أن يتحقق اكتشاف شيء جديد، ولا إعادة اكتشافٍ لشيء قديم ما يزال يحتفظُ بجِدَّة الحياة. فالتساؤل، بهذا القَصـد، ثقافةٌ ومُوَلِّدٌ لثقافة جديدة تستولدُ، هي الأخرى بالضرورة، أسئلةً جديدة.
إذَنْ، يظل سؤال التنوير السؤالَ الأكثرَ جوهريةً، كما أرى، في حياة أية مجموعة بشرية. فهو سؤال (الوعي) الفردي والجمعي على السواء، وأشكال تعبيره عن نفسه. فهو سؤال العقل الحُرّ الناقد وفضولِه إلى معارف وحقائق جديدة، أو العقل التابع المُتَلَقّي لما يُقالُ له، والقابل بما يتلقاه دونما تأمُّلٍ فيه. وهو بالتالي سؤال ما يتولَّد عن هذين العَقلَيْن (العقل التابع ليس بعقلٍ، في تقديري) من طرائق النظر في الأشياء والظواهر، البسيط منها والمُرَكَّب، وتأملِها والتعاملِ معها. وهو، في صورته هذه، سؤال الوجود البشري في مختلف مظاهره وتجلياته ومعانيه: سؤال النظام السياسي والاجتماعي والاقتصادي. سؤال الدولة بنيةً ومفاهيمَ، وقوانينَ ووظائف: دولة الحريات والحقوق الذي يتساوى فيها الجميع، أم دولة العسف والتراتبية الدينية والاجتماعية والحزبية؟
وهو سؤال الهوية بأبعادها المختلفة. أهي الهوية المغلقةُ على نفسها، الغاطسة في وهمها بأنها غيرُ مشوبة بآثار الغَير. هوية الانكفاء على الماضي، والتي يظن أصحابها نقاوتها وتفوقها على غيرها، أم أنها الهوية المنفتحةُ، المتحركةُ، المتغيرةُ في عملية أخذٍ وعطاء لا تكاد تتوقف؟
وسؤال الثقافة والتنوير هذا هو، في الوقت نفسه، سؤال العلاقة بين الحاكم والمحكوم. مَن يتبعُ منهما الآخرَ، ومن يتحكَّمُ منهما بالآخر ويحدّد مصائره؟ وهو سؤال السلم أم الحرب، بناءِ الحياة أم خرابها. سؤال الديمقراطية بوصفها آلياتٍ وفلسفةَ حياة وحَكْمٍ، ورؤيةً نقدية متواصلة للنفس، بوجوهها الفردية والجماعية، وللآخر بالمعاني ذاتها، أم الوقوف عند آليات هذه الديمقراطية وخطابها الخادع فقط، أي البقاء عند قشرتها، حيث لا تعود ديمقراطيةً أبداً، بل تصبح ورقةَ توتٍ مثقوبةً تغطي نفاق عقلية فردانية نزَاعةٍ للتسلط، وتسترُ عورة نُظُم استبدادٍ تُنتجُها (ثقافاتٌ!) شمولية، ترتدي لباساً دينياً عند هذا، ودُنيوياً عند ذاك. شواهد التاريخ على نمطَي الاستبداد الشمولي هذَينِ كثيرةٌ، وهي ماثلة أمامنا ماضياً وحاضراً.
وهو كذلك سؤال النظام التعليمي عقولاً ومناهجَ وأدواتٍ، أهدافاً ومؤسسات، حركةً متغيّرةً أو سكوناً لا حركةَ فيه. وهو أيضاً سؤال الحرية: حرية الناس أفرادا وجماعات، أدياناً وطوائف وأحزاباً، حرية الأفكار والعقائد، حرية تقليبِ الحقائق على وجوهها المختلفة والبحث فيها عقلياً وعلمياً، أم تقييد هذه الحرية، واعتقال العقل في زنازين حقيقة واحدة، لا ترى الحق إلا فيها ومعها.
وسؤال التنوير هو سؤالُ التاريخ والموروث أيضاً، وأشكالِ التواصل معهما. أهو سؤال الاستسلام للمفاهيم والأحكام الثابتة التي تتخذ صور الأيقونات المحاطة بهالات التقديس، ولا تتغير قراءتُها بتغير الأزمان والأحوال؟ أم سؤال الجدل المفتوحِ معها، وعرضها على العصر وأسئلته وحاجاته وتطور المعارف فيه.
وهو سؤال المرأة مكانةً في المجتمع، ودوراً فيه وفي الحياة عموماً. سؤالُها بوصفها أصلاً مساويا للأصل الآخر (الذكَر) ومكافئا له، لها ما له، وعليها ما عليه. هل خُلِقَتْ وإياه من نفسٍ واحدة، لم ينشأ الجنسُ البشري، ولا يتواصلُ وجوده، إلا بهما معا؟ أم أنها فرعٌ منه، مثلما يوهِمُنا (العقل التقليدي) ومنظومته الفكرية؟
وسؤال فكر التنوير هو سؤال العلاقة مع الآخر، أفكاراً وحضارةً، وعيشاً مشترَكاً، سواء شاركني هذا الآخر في المواطنة أم لم يشاركني فيها. جانسني أو لم يُجانسني. قرُبَتْ مَواطنُه من مَواطِني أم بُعُدَتْ عنها. أقليّةً كان هذا الآخر أو أكثريةً. خالفني في الفكر والعقيدة والنظرِ للأشياء أو ناقضني فيها جميعِها، أو قاربني في بعضها، واجتهد غيرَ ما اجتهدتُ في بعضها، أو في الكثير منها.
وهذا السؤال هو سؤال الإيمان الديني الحُر، المُحَرِّرِ للعقل والروح، والإيمانات الأخرى كذلك، وأشكال تَلَقِّيها وتَمَثُّلها وتمثيلِها أيضاً. أهي إيمانات (الإكراه) والتشدّد والعبودية لغير الله، وإنْ تغطَّتْ باسمه، أم إيمانات (لا إكراه في الدين) والمجادلة بالتي هي أحسن، أي إيمانات الحرية وقد صدرت عن العقل، وفاض بها الوجدان، وتطابقَ فيها المرء مع ذاته؟ هل يكون الايمانُ بالعقائد ومنظومات الأفكار، على اختلافها، مدخلاً للحرية، أم سبيلاً آخر للاستيلاء على الناس وعقولهم، واستعبادهم وسَوقِهم إلى زرائب تبعيةٍ عمياء؟
وسؤال الثقافة هذا هو سؤال نقد الذات، فرديةً وجماعيةً، وتأمل أحوالها وعقائدها، قبل نقد الآخر وإطلاق الأحكام عليه. وهو سؤال القيم الأخلاقية الكبرى في السياسة والاقتصاد والاجتماع. سؤال الإنسانية، بمعناها الكوني، ليس فيما يخص البشرَ وحدهم، وإنما فيما يشمل البيئةَ كذلك: أرضاً ومياهاً وهواء، حيواناً ونباتاً.
وهذا السؤال هو سؤال الحُمق والفطنة كذلك، حمق الأفراد والجماعات وفطنتهما. سؤال ما هو قائمٌ وبدائله. وهو سؤال أشياءَ أخرى كثيرةٍ، غيرِ هذه وتلكَ.
صيغُ الإجابة على هذا السؤال الجوهري هي ما يُحدِّد، في زماننا هذا خاصة، إنْ كنا نوجد في الحياة حقاً، أم لا. هل نعيشها أحياءً، خالقينَ لحياتنا، مالكينَ لمصائرنا بأيدينا، كما نختار ونريد، أم نحيا فيها أمواتاً تُقَلِّبُنا الأهواء حيث شاءت، وشاءَ أهلُها؟
على صيغ الإجابة هذه تتوقف حقيقةُ أن نكون أناساً أحراراً حقاً، مستقلينَ عقلياً، أو نظلّ أتباعاً تهتَزُّ أردافُنا كلما سمعنا "سادَتنا" الأيديولوجيين والسياسيين والعقائديين والطائفيين والقبليين والقوميين يقرعون طبولَهم، وينفخون في مزاميرهم. وعندها لن نكونَ بشراً حقيقيين، بل مجازَ بشرٍ. لن يعودَ الواحد منا أصلاً بذاته، بل يُصبح ظلاً وصدىً لمن يتولى الأمرَ عنه أو عليه. نكون قطيعاً أو بعضَ قطيع!
صيغُ الإجابة على سؤال (الثقافة) هي من تقول لنا، ولمن يشاركنا العيشَ على هذا الكوكب، إن كنا ننتسبُ للعلم والمعرفة وللحياةِ حقاً، وندرك أنفسنا وأحوالَ عالمنا بدراية ووعي، أم أننا ما نزال غارقين في جهلنا المُتوارَث وسباتنا القديم، متوهمينَ أن هذا يقظةً، وذاك معرفةً تفوق المعارفَ جميعَها!