أيار 18
    شهدت السنوات العشر التي تلت انعقاد المؤتمر الخامس للحزب الشيوعي العراقي في تشرين الاول 1993 وانتهت بالغزو الامريكي وانهيار النظام الدكتاتوري في نيسان 2003، استقرارا وتحسنا ملحوظين للعمل الاعلامي للحزب الشيوعي العراقي. وارتبط ذلك اساسا بالأجواء الايجابية في عموم العمل الحزبي، التي أطلقها التئام المؤتمر والنتائج التي تمخض عنها، خاصة اعتماده "الديمقراطية والتجديد" نهجا للحزب.
    وجاء انعقاد المؤتمر، كما هو معروف، غداة تطورات محلية ودولية بالغة الصعوبة والتعقيد، تصدرها قمع انتفاضة آذار وتفاقم ازمة النظام الدكتاتوري الشاملة والعميقة من جانب، ومن جانب آخر انهيار الاتحاد السوفييتي ودول اوربا الاشتراكية، وتأثيراته المباشرة على الحركة الشيوعية والعمالية والتحررية العالمية. وتركت هذه التطورات آثارها السلبية حتى على الاجواء في حزبنا وتنظيماته وعلى مواقف وأمزجة العديد من رفاقه.
    وانعكس هذا بوضوح خلال عمليات التحضير والتهيئة الحزبيين والجماهيريين لعقد المؤتمر الخامس، وبضمنها ما بذله اعلام الحزب من جهود لاستيعاب مدلولات الواقع المتجدد ومواجهة التحديات الفكرية والسياسية والتنظيمية التي يفرزها، والحاجة الى الارتقاء بعمل الحزب انسجاما مع الاوضاع المتجددة. وفي هذا الإطار وفي ضوء الخطة العامة للحزب، بادر الى إطلاق حوار علني لمناقشة ما يواجهه الوطن والشعب من مستجدات، وما يواجهه الحزب من مهمات للنهوض بدوره المنشود.
وقد كرست "طريق الشعب" و"الثقافة الجديدة" و"رسالة العراق" الى جانب اذاعة "صوت الشعب العراقي" مساحات واسعة في صفحاتها واوقات بثها، لتحفيز النقاش واستنتاج خلاصاته وصياغة الدروس، ولتحديد ما يحتاجه الحزب من طاقات ووسائل لتحقيق ما يصبو اليه شعبنا، للخلاص من النظام الدكتاتوري والحصار الاقتصادي الدولي، وللوقوف بوجه أية حرب وغزو واحتلال، وتحقيق البديل الديمقراطي والعدالة الاجتماعية.
    وبعد ان تم عقد المؤتمر الوطني الخامس واقرّ وثائقه وانتخب قيادة الحزب الجديدة وحدد استراتيجيته وتكتيكه بما ينسجم مع الاوضاع الجديدة، انغمرت وسائل الحزب الاعلامية في جهد مثابر ومتواصل تبشيراً بما اعتمد المؤتمر من توجهات، ونشراً واذاعة لما أقرّ من وثائق، وتوضيحا للمستجدات الفكرية والسياسية والتنظيمية في سياق مناقشاته ومجرى اعماله.
    وكان ذلك ضروريا في مواجهة حملة التشويه المعادية التي شنها اعلام النظام الفاشي، وما كان يطرحه بعض من انهارت قناعاتهم وانقلبت توجهاتهم، ولتعزيز روح التفاؤل بمستقبل الحزب ومستقبل قضية التقدم في العالم، وتأكيد استمرار المسيرة الثورية لتجسيد الحلم بـ "وطن حر وشعب سعيد"، وتحقيق الخلاص للإنسان من الاستغلال والاستعباد الرأسمالي، واقامة مجتمع العدالة الاجتماعية والاشتراكية، الى جانب ادامة وترسيخ الثقة في قدرة شعبنا على بناء العراق الديمقراطي الفيدرالي المستقل.
    ولم تكن مهمة اعلام الحزب يسيرة في المرحلة الجديدة التي دشنها مؤتمره الخامس. فانهيار الدولة السوفييتية والمعسكر الاشتراكي كانت له تداعياته وتأثيراته على مستوى العالم كله، وسبّب صدمة عميقة في عموم اوساط شعبنا التي كان اعلامنا يستهدفها ويخاطبها.
    وفي الداخل ظلت الحركة الوطنية العراقية مشتتة غير موحدة من جانب، واستمرت التدخلات الاقليمية والدولية في شؤون البلد الداخلية واستباحة سيادته واستقلاله من جانب آخر. فيما تواصلت الحملات الدموية للنظام الدكتاتوري المأزوم ضد منظمات الحزب ومناضليه وفكره، بكل ما كانت تحمل من أخطار داهمة دائمة على ارواح الرفاق وعلى حركتهم وجوانب نشاطهم المختلفة، وبضمنها مجال جمع المعلومات ونقلها، ذو الاهمية الخاصة لإعلام الحزب.
    يضاف الى ذلك ان خبرات منظماتنا المحلية وقدراتها على تلبية متطلبات وسائل اعلامنا واحتياجاتها من المواد الاعلامية ضعيفة اصلا، كما ان امكانيات الحزب المادية، الضرورية لتعزيز وسائله تلك ودعمها بالحديث من المعدات والتجهيزات، محدودة وضئيلة، وان الكادر المحترف والمتفرغ للعمل فيها شحيح جدا. وذلك ما فرض الاعتماد في الغالب على النشاطات والمساهمات التطوعية لرفاقنا واصدقائنا الاعلاميين المنتشرين في انحاء العالم المختلفة، وبضمنهم من كانوا او أصبحوا لاحقا وبمرور الوقت رموزا اعلامية بارزة.
    مع ذلك كله ورغم صعوبة الظروف المحيطة عموما وقسوتها، استطاع العاملون في اعلام الحزب، تدعمهم قيادته ومساهمات اعضائها المباشرة، ادامته وتطويره، وحتى تمكينه من احراز نجاحات.. لم تخل بالطبع من نواقص وجوانب ضعف.
    فقد أمّنوا استمرار صدور (الثقافة الجديدة) كمجلة نظرية فكرية رائدة ومتميزة في عالم المجلات الثقافية العراقية والعربية، وكمنبر للثقافة العلمية التقدمية ومنصة للتعريف بالتطورات والمستجدات في ميدان اهتمامها، والتي تعكس تجربة انتكاسة الحركة الشيوعية العالمية، وسبل استنهاضها واستخلاص الدروس لمواصلة المسير.
    كذلك ضمنوا تواصل صدور الصحيفة المركزية للحزب "طريق الشعب" وتطويرها وتوسيع انتشارها، داخل العراق وخارجه، مع تركيزها على معاناة الشعب وعلى نضاله البطولي، وعلى الدعوة الى وحدة القوى الوطنية والديمقراطية لضمان خلاص شعبنا من الدكتاتورية والحصار، ومن الحرب التي بقي شعبنا يعاني منها على الدوام بأشكالها المتنوعة، كذلك المتابعة المستمرة لمطالب الجماهير الشعبية وتحفيز نضالها وتنظيم صفوفها، والدفاع عن حقوق الانسان والديمقراطية.
وفي الوقت نفسه كرسوا الكثير من اهتمامهم وعنايتهم لإدامة الاذاعة "صوت الشعب العراقي"، التي كانت لسان الحزب اليومي الناطق بجانب "طريق الشعب" الشهرية و"الثقافة الجديدة" الفصلية، ولرفدها بمستلزمات الانتشار والوصول الى اوسع رقعة جغرافية داخل الوطن وخارجه، وتنوير الجماهير بما يستجد من تطورات داخلية وخارجية، ومن مواقف الحزب والحركة الوطنية الديمقراطية ازاءها وسبل التعامل معها، الى جانب ايصال المعلومة الموثوقة الصادقة، التي تشجع وتحفز ابناء الشعب على خوض النضال من أجل العراق الديمقراطي الفيديرالي التعددي بديلا عن سلطة الدكتاتورية الدموية.
وفي أثناء ذلك تنامى وتحسن العمل والأداء الاعلامي في تلك المنابر بفضل ادخال الادوات التكنولوجية الحديثة، وإن بحدود معينة، كما أخذ يتضافر مع حضور وسائل التواصل الحديثة، الذي بدأ يتصاعد آنذاك، محققا في ذلك بعض النجاح.
    والى جانب هذا كله دعم اعلام الحزب جهود منظماتنا في الخارج لإدامة صدور مجلة "رسالة العراق" باللغة العربية في لندن، والهادفة الى التعريف بمعاناة شعبنا العراقي في ظل الدكتاتورية والعقوبات الاقتصادية الدولية، وتشجيع النشاطات التضامنية معه في مواجهة المحنة. كذلك تحفيز منظمات الحزب في الخارج على اصدار مطبوعاتها الخاصة، بما يسهم في تعزيز روح الانشداد الى الوطن وقضاياه في اوساط الجاليات العراقية، ومواجهة أجواء الاحباط ومشاعر اليأس، والمشاركة في التحصين الفكري لرفاق الحزب وعامة الجمهور وحمايتهم من افكار الانهزام وجذبهم الى النضال في سبيل مستقبل أفضل للعراق.
    وفي غضون ذلك كان الحزب يقدم، من ناحية، ما يستطيع من دعم لضمان الصدور المنتظم للطبعة العربية من "ريكاي كوردستان"، الجريدة المركزية للحزب الشيوعي الكردستاني، ومن ناحية ثانية يولي اهتماما خاصا لما يصدر سرا داخل الوطن من نشرات ومطبوعات، بإمكانيات بالغة التواضع وفي ظروف بالغة الصعوبة والخطورة. وكانت هذه النشرات على تواضعها الشديد تسد فراغا وتشبع حاجة نضالية محسوسة في ميادين الشؤون المحلية، السياسية والفكرية والاجتماعية، وتحرّض الجماهير على المطالبة بحقوقها المستلبة.
ولعل أبرز تلك النشرات كانت "الحقيقة" الصادرة سنة 1993 في الفرات الاوسط، كذلك "صوت العمال" و"النصير الشيوعي" وغيرهما.
    وارتباطا بالتطورات الخطيرة والاحداث الجسام، التي شهدتها تلك الفترة على المستويين الدولي والمحلي، ركزت منابر الحزب الاعلامية في ما تنشر وتبث على جملة مهمات فكرية وسياسية وتعبوية - تحريضية:
    من جانب كانت تشدد على ان انهيار المعسكر الاشتراكي لا يعني انهيار الفكر الاشتراكي، وان من واجب حَمًلة هذا الفكر العمل على تجديده في ضوء تجارب البناء الاشتراكي في القرن العشرين وما انتهت اليه، باعتباره المرشد على طريق خلاص البشرية من نظام الاستغلال والاستعباد والاضطهاد الرأسمالي، وإقامة مجتمع العلاقات الانسانية والعدالة الاجتماعية، المتنعم بالحرية والمساواة والتقدم، بعيدا عن ممارسات ومظاهر الاستغلال والتمييز الطبقيين.
    وفي إطار ذلك كانت تؤكد الحاجة الى الاستفادة من اخطاء الماضي، واستخلاص الدروس الحقيقية البعيدة عن نزعات الجمود العقائدي والعدمية والانهزامية، لتأمين تدقيقات واغناءات نظرية، وتطوير اساليب عملية لاستنهاض الحركة الثورية عالميا ووطنيا.
وفي هذا الميدان صدرت عشرات بل ربما مئات الكراريس والنشرات الحزبية، التي تلبي تلك الحاجة النضالية وتسهم في الارتقاء بمستوى الوعي والادراك الفكري للمستجدات التي يفرضها تطور الواقع، والتي تعرّف بخلاصات تجارب الحركات الثورية والشيوعية في محاربة الاستعمار والقمع الفاشي وانتهاك حقوق الانسان.
    من جانب آخر كانت وسائل اعلامنا تبشر بحتمية زوال النظام الدكتاتوري، وبضرورة اعتماد العامل الداخلي اساسا لعملية التغيير، مع الاستعانة بالعامل الخارجي كعنصر مساعد عبر التضامن المعنوي والسياسي والمادي مع قوى شعبنا المكافحة ضد النظام، ولزعزعة شرعيته، وتمكين قوى المعارضة العراقية من توحيد صفوفها لإطاحته والخلاص منه.
وفي اثناء ذلك كان اعلامنا يرفع شعار "لا للحرب لا للدكتاتورية"، مؤكدا ومكررا في كل مناسبة رفض التغيير بواسطة التدخل العسكري الخارجي والغزو والاحتلال، ومحذرا من ان هذه الوسائل لن تأتي للبلاد بالأمن والاستقرار والديمقراطية.
واسترشادا بالمشروع الوطني الديمقراطي الذي تبناه الحزب وبشّر به، ألقى اعلامنا الاضواء على سبل معالجة المعضلات التي كان البلد يئن تحت وطأتها في الميادين الاجتماعية والاقتصادية والثقافية وغيرها، وعلى متطلبات العمل في شتى المجالات لبناء عراق متقدم، يضمن الرفاهية للشعب ولفئاته الكادحة المحرومة بالذات.
        وفي هذا السياق كان يولي بالطبع اهتماما استثنائيا ودائما لمعاناة شعبنا في ظل الحصار الاقتصادي، والتي كان يضاعفها جور النظام وعسف سلطاته ودموية اجهزته القمعية، مشددا خلال ذلك على النضال من اجل خلاص شعبنا من مآسي الحصار والدكتاتورية في الآن نفسه، تحت شعار "رفع الحصار الاقتصادي عن شعبنا واسقاط الدكتاتورية".
    وفي السياق ذاته ايضا ساهم اعلام الحزب بصورة فعالة في الدعوة الى السلام ورفض الاحتلال، وفي الحثّ على عقد مؤتمر لجميع القوى الوطنية العراقية، يبحث ويحدد مستلزمات اقامة الحكم الديمقراطي المطلوب، بعيدا عن الوصاية الاجنبية وبشكل ينسجم مع ارادة الشعب ومطالبه.
وبجانب هذا كله، وغيره من المهمات التي ركزت منابر حزبنا الاعلامية عليها وعملت على النهوض بها، ساعدت بأشكال مختلفة على ترصين حياة الحزب الداخلية فكريا وتنظيميا، وهو ما كان ضروريا لمواجهة الدكتاتورية الشرسة ونزعاتها وأدواتها التخريبية.
 
- انتهى -
 
 
ملحق
خصّ الرفيق حميد مجيد موسى سكرتير الحزب الشيوعي العراقي سابقا (الثقافة الجديدة) بتعقيب حول محتوى المقال اعلاه، وما يتضمن من عرض وتقييم لعمل اعلام الحزب في الفترة المحددة، جاء فيه الآتي:
استنادا الى ما كنت مطلعا عليه من موقعي في قيادة الحزب في تلك الفترة، وانا على علم كامل بإمكانيات اعلامنا آنذاك، وبالظروف التي كانت تحيط بعمله، والاجواء العامة الذي كان يتحرك في اطارها، أستطيع القول ان ما قدمه كان أفضل ما بوسعه تقديمه.
وإذا كانت هناك نواقص في إنجازه وأدائه، فذلك ليس غريبا، فما من عمل يمكن ان يخلو من هذا او ذاك. لكن ذلك لا ينال من مستوى الانجاز ولا يقلل مما ابداه إعلاميينا من بسالة في عملهم، رغم محدودية الامكانيات المتاحة لهم وتواضع الادوات التي كانوا يستخدمونها وضعفها تكنولوجيا. كانوا يملئون فراغا كبيرا جدا، إذا ما قارنّاهم بأمثالهم ممن كانوا يتوفرون على امكانيات مادية وتقنية وعلاقاتية كبيرة.
كان إعلام حزبنا شاخصا حاضرا في كل المعارك السياسية والفكرية، التي يخوضها شعبنا ضد الدكتاتورية.
ومن ناحية اخرى تكفيه فخرا مساهمته في بناء الحزب وتعزيز دوره.
ونحن بالطبع لا نستطيع النظر الى ذلك بمنظار الحاضر، او نقيم احوالنا يومها وفقا لمقاييس اليوم.
صحيح انه لم تكن لدينا حينئذ لجنة اعلام مركزية، لكن عمل وسائل اعلامنا كان منسقا ومتكاملا، وكانت الادارة الموحدة للأعلام متمركزة على العموم في يد قيادة الحزب، وكان الجهاز الحزبي موجها بشكل كامل للعمل بهذا الاتجاه.
أخيرا.. لن ننسى رفاقنا الابطال، الذين أسهموا في نقل وسائل انتاجنا الاعلامي المركزي الى عامة الناس، وبذلوا من أجل ذلك جهودا تستحق الاشادة وقدموا تضحيات كبرى نبقى نتذكرها دائما.