أيار 19

    ليس من باب المبالغة القول ان منظمة الحزب الشيوعي العراقي في بيروت، حديثة النشأة آنذاك، كانت في الفترة 1979-1982 من انشط وأهم منظمات الحزب في الخارج. وذلك ارتباطا بالمهام التي انيطت بها، باستقبال واحتضان الرفاق والعوائل الفارين من جحيم الدكتاتورية داخل الوطن. وتوفير الحد الادنى من ظروف الاقامة والمعيشة لهم. الى جانب استقبال الرفاق الشباب في معسكرات التدريب بالاعتماد على الاصدقاء الفلسطينيين، والجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين على وجه الخصوص. وتهيئتهم للالتحاق بفصائل الانصار في كردستان. في تلك الايام تحولت بيروت الى المركز السياسي والاعلامي والثقافي الاهم بالنسبة للحزب خلال السنوات الثلاث اللاحقة.

    منذ وقت مبكر تم بناء علاقات سياسية مميزة مع عموم قيادات المنظمات الفلسطينية وممثلي منظمة التحرير والمجلس الوطني الفلسطيني في لبنان ومع الكثير من كوادر وقواعد هذه المنظمات. وانعكس ذلك بإبداء الدعم والاحتضان الواسعين من اغلب هذه المنظمات للحزب، بضمنها التدريب العسكري للمئات من أعضاء وعضوات الحزب وأصدقائه، والتطوع او توفير فرص عمل مناسبة في كافة المؤسسات الاعلامية والثقافية والخدمية الصحية والقضائية والعلمية الفلسطينية. كما عمل عدد من كوادر الحزب كمدرسين في المدارس الحزبية للجبهتين الشعبية والديمقراطية لتحرير فلسطين.

لقد جسد الشيوعيون العراقيون موقفهم الداعم للقضية الفلسطينية بالتواجد في المواقع والمعسكرات الفدائية في الجنوب والبقاع وفي تشكيل افواج عسكرية بالتنسيق مع المنظمات الفلسطينية خلال الظروف الطارئة، كما حصل إبان العدوانيين الاسرائيليين بغزو الجنوب اللبناني عام 1981 واجتياح لبنان وحصار بيروت عام 1982.

    اما بخصوص لبنان، حيث كان يتواجد الحزب، فلقد تعززت علاقاته مع عموم احزاب وتنظيمات الحركة الوطنية اللبنانية، التي كانت تخوض مواجهات مسلحة ضد حزب الكتائب اللبنانية وبقية أحزاب الجبهة اليمينية اللبنانية. وكان ممثلو الحزب وأعضاؤه ومثقفوه يشاركون في اغلب الفعاليات السياسية والثقافية ومناسبات أحزاب الحركة الوطنية اللبنانية لاسيما الحزب الشيوعي اللبناني الشقيق.

    من جهة أخرى، كان يعيش في لبنان في تلك الفترة، مثقفون وممثلون للعديد من الاحزاب الوطنية والديمقراطية العربية المعارضة لحكوماتها؛ مصر، البحرين، السعودية، السودان…الخ، وكان لجميع هؤلاء علاقات ايجابية وفعاليات مشتركة مع أقرانهم العراقيين ومع ممثلي الحزب.

    كان التواجد في بيروت فرصة اضافية للشيوعيين العراقيين للتعرف والتفاعل أكثر مع اغلب رموز الثقافة اللبنانية والعربية من ادباء وفنانين، من الذين عاشوا في لبنان او مروا بها في تلك الفترة، وشارك الكثير منهم في مناسبات واحتفالات سياسية وثقافية عراقية آنذاك. كما أنها كانت فرصة جيدة للحزب والقوى الوطنية العراقية ان تعبئ الرأي العام العالمي للتضامن معها وإيصال صوتها الى الكم الكبير من الصحفيين الأجانب ومراسلي وسائل الاعلام العالمية المتواجدين آنذاك في لبنان.

    بالإضافة الى الدعم المادي عالي المستوى الذي قدمه الاصدقاء اللبنانيين والفلسطينيين والعرب، والذي يعكس مكانة الحزب لديهم، كانت الفعاليات السياسية والثقافية التي يقوم بها الحزب، بضمنها احياء ذكرى تأسيس الحزب الثامنة والاربعين، تحظى باهتمام ومشاركة واضحتين من قادة هذه الاحزاب والمنظمات من خلال حضور قادة الصف الاول لها والقاء كلمات الاشادة بالحزب مؤكدين على مكانته الوطنية والعربية.

    دون ان ننسى أيضا، انه في موازاة النشاط السياسي كان هناك نشاط مهني اجتماعي في فروع منظمات الشبيبة والطلبة والمرأة والاعلاميين والمثقفين العراقيين، وكان لجميع هذه المنظمات علاقاتها الطيبة وأنشطتها المشتركة مع عموم المنظمات اللبنانية والفلسطينية والعربية النظيرة العاملة في بيروت. كما لعب الاطباء العراقيون ومعهم الاخرون من العاملين في المجال الطبي دورا مشهودا في الخدمات التي كانت تقدمها مستشفيات منظمة التحرير الفلسطينية وجمعية الهلال الاحمر الفلسطيني، لاسيما خلال فترة حصار بيروت عام 1982.

ومن الجدير بالذكر أيضا، ان (الثقافة الجديدة) بدأت تصدر في بيروت، بعد فترة من توقف اصدارها في بغداد. ولاحقا، انتقل اصدارها الى دمشق بعد خروج القوات الفلسطينية من بيروت..

    لست هنا في معرض الحديث عن القضية الفلسطينية او عن الحرب الاهلية اللبنانية، او التوسع في الحديث عن تجارب عموم الشيوعيين واليساريين العراقيين، تنظيمات وأفراد، واعطاء تقييمات بشأنهما. لكن ما أود التركيز عليه في هذه السطور هو اشارة الى تلك الصفحات المشرقة في تاريخ الشيوعيين واليساريين العراقيين ونضالهم الوطني والقومي والاممي على الساحة اللبنانية نهاية سبعينيات بداية ثمانينيات القرن الماضي، واستذكار الشهداء الميامين منهم وتخليد اسمائهم.

    تجسدت المساهمة الميدانية المنظمة الاولى للشيوعيين واليساريين العرب في النضال الفلسطيني بشكل واضح بعد هزيمة حزيران 1967 الى جنب اخوتهم ورفاقهم في المنظمات الفلسطينية، وتجلى ذلك في تشكيل قوات الانصار الشيوعيين من قبل الاحزاب الشيوعية العربية: العراقي، السوري، اللبناني، الاردني والفلسطيني وكان لها تواجدها بشكل خاص على الاراضي الاردنية قبل ايلول عام 1970. وجاءت المشاركات التالية للشيوعيين واليساريين العراقيين مع نهاية السبعينيات بداية الثمانينيات، وحتى الاجتياح الاسرائيلي للبنان وحصار بيروت وخروج القوات الفلسطينية من لبنان وتوزعها في شتات بلدان عربية اخرى في نهاية صيف 1982.

    وبعد الاجتياح الاسرائيلي للجنوب اللبناني عام 1981 وهجوم الطيران الاسرائيلي على بيروت وقصف منطقة " الفاكهاني/الملعب البلدي“، الذي سقط فيه العشرات من الشهداء الفلسطينيين واللبنانيين بضمنهم شهيدان للحزب الشيوعي هما الاعلامية ثائرة فخري بطرس والشهيد غازي فيصل ذرب (أبو داليا) الذي جاء من تشيكوسلوفاكيا، الى جانب العديد من الجرحى، الذين بلغ عددهم بين الاشقاء الفلسطينيين واللبنانيين أكثر من مئة جريح؛ شكل الحزب في تموز من ذلك العام (الفصيل العراقي المساند للثورة الفلسطينية).

    وخلال حصار بيروت شكل الحزب فصيلا باسم (فصيل الحزب الشيوعي العراقي لدعم القوات المشتركة اللبنانية الفلسطينية). بقرار من اجتماع موسع لمنظمة الحزب في بيروت في حزيران 1982. لاحقا أخذ الفصيل مواقعه في حي السلم جنوب العاصمة اللبنانية، وقدم حينها عدداً من الشهداء الى جانب أسري وقعوا بأيدي القوات الاسرائيلية، منهم الدكتور نظمي عبد الصاحب الذي اقتيد أسيرا من مستشفى الهلال الاحمر الفلسطيني الى معسكر الخيام الاسرائيلي في صيدا. فيما اختطفت قوات حزب الكتائب اللبنانية ثلاثة من الشيوعيين العراقيين ولم يعرف مصيرهم حتى الان وههم كل من : الشاعر الغنائي ذياب گزار (ابو سرحان) والمخرج المسرحي كاظم الخالدي (أبو مخلص) والطالب الجامعي صباح ستراك.

وهنا، نتذكر شهداء حي السلم الثلاثة الأبطال ورابعهم الجريح الاسير لدى قوات الاحتلال الاسرائيلي، الذين سقطوا على بوابات بيروت الجنوبية وهم يتصدون للغزاة الإسرائيليين في اجتياح عام 1982؛ الشهداء: عبد الكريم جبار كريم (ابو فيروز)، كريم محمد لازم (رشاد)، حازم محمد خليل (جمال)، والاسير الجريح سعيد عبد الكافي حسن (ابو احمد)، وخلدتهم فرقة الطريق العراقية بأغنية خاصة "أربعة كانوا في حي السلم“كتب كلماتها الشاعر الكبير سعدي يوسف.

    ومع كل هذه النضالات والمآثر التي اجترحها الحزب، لم يسلم الرفاق ومعهم الاصدقاء وعموم المعارضين العراقيين الذين كانوا في بيروت من ملاحقة اجهزة المخابرات ومحطتها في السفارة العراقية واستهدافهم بالرصاص الغادر وكواتم الصوت. ومن بينهم الشيوعي البصري الشاب أسعد لعيبي منصور (ابو جنان)، وكذلك الشهيدان ابو فهد العراقي، والصحفي اليساري ونائب رئيس تحرير صحيفة (فلسطين الثورة) الصحيفة المركزية لمنظمة التحرير الفلسطينية الشهيد عادل وصفي (يحيى العراقي).

 

    وبعد ذلك، غداة الخروج من لبنان نهاية صيف عام 1982، تعزز دور حزبنا في سوريا وعلاقاته الوطنية، وعمله التنظيمي والتعبوي، الى جانب العمل الاعلامي والثقافي بشكل أكبر بعد انضمام رفاق واصدقاء منظمة الحزب في بيروت ودمجهم بمنظمة سوريا. وأصبحت دمشق المركز القيادي الرئيسي في متابعة عموم منظمات الحزب الشيوعي العراقي في الخارج ومحطة للصلة مع قيادة الحزب في كردستان.

    إلى جانب ادامة العلاقات التي كانت قائمة في لبنان مع المنظمات الفلسطينية والعربية، كانت هناك علاقات للحزب مع اغلب الاحزاب والمنظمات العراقية المعارضة الموجودة في دمشق وكذلك احزاب الجبهة الوطنية السورية وفي المقدمة منها الحزب الشيوعي السوري الشقيق. اما العلاقات السياسية في سوريا فقد كانت على مستويين؛ علاقات مع قيادة الدولة السورية وأخرى مع القيادة القومية لحزب البعث جناح سوريا، الى جانب العلاقات الفنية واللوجستية مع بعض المؤسسات السورية لتسهيل امور الاقامة والتنقل والسفر وغيرها.

    يضاف الى ذلك كان للحزب علاقات منتظمة مع عموم سفارات الدول الاشتراكية في دمشق. وقد وظفت هذه العلاقات بشكل جيد لاستيعاب الاعداد الكبيرة من الرفاق والعوائل في زمالات دراسية اكاديمية ومهنية وحزبية، وفي علاج أعداد كبيرة من الرفاق والعوائل والبيشمركة.

    ويمكن القول ايضا ان نشاطنا الحزبي في دمشق كان على مستويين ايضا؛ نشاط مركزي يتعلق بمهام قيادية نهض به الرفاق في قيادة الحزب، كهيئة قيادية للحزب في الخارج كما سبق ذكره، تساعدها لجان اختصاص داعمة تضم كوادر حزبية وتعمل تحت اشرافها، ونشاط اخر يتعلق بتنظيم الرفاق المقيمين في سوريا ومتابعة نشاطهم وادارة شؤونهم تقوم به منظمة سوريا.

    كان هناك في سوريا 3 لجان اختصاص مركزية أساسية؛ لجنة الاعلام، لجنة العلاقات الوطنية والعربية، لجنة او هيئة (قزلر) - اسم معركة خاضها الرفاق الانصار مبكراً في منطقة گرميان- وهي هيئة حزبية خاصة بمتابعة قضايا الانصار واحتياجاتهم، سواء القادمون منهم الى سوريا لغرض التوجه الى كردستان، او القادمون منهم من كردستان لغرض العلاج او الدراسات الحزبية والاكاديمية وغيرها.

اما القامشلي، المنفذ الرئيسي لحركة الرفاق في الدخول الى العراق والخروج منه، فكان لها وضعها الخاص ودورها الخاص وكان عملها يدار مباشرة من المركز القيادي في دمشق.

    وفي الحديث عن منظمة القامشلي لا يمكن إلا ان يشار الى مفرزتين باسلتين ضمتا كوكبة من خيرة وأشجع الرفاق كانت مهمتهما النشاط في أعقد وأخطر المناطق لنقل الرفاق والسلاح الى داخل الوطن، وهما (مفرزة الطريق) و(مفرزة السلاح)، وقدمت المفرزتان عددا من أعضائهما شهداء شجعان في مواجهات مسلحة مع قوات السلطة وجحوشها.

    كما كانت هناك صلة خاصة، الى جانب بريد مشترك، بين المركز القيادي في دمشق ومنظمة طهران باعتبارها، أي منظمة طهران، تشكل احدى حلقات الوصل بين المركزين القياديين في الداخل(كردستان) والخارج (دمشق).