
قلما تمنحك الحياة فرصاً كافية لتكسب مزيدا من الحكمة والمعرفة في التجارب الانسانية من نخب اكاديمية ومعرفية، ولاسيما ممن خاضت تجاربهم الفكرية والثقافية في حقول الاقتصاد والاجتماع والثقافة والجوانب والانسانية.
مثلما اكتسبنا من الفقيد الراحل المفكر بارق شبر غزارة علومه، وهو في الوقت نفسه مثالاً في التواضع العلمي والانساني، الا انه كان على الدوام وحتى لحظاته الاخيرة ينطق بمقولة (ديكارت) مردداً فيها: سأبذل كل ما اعرفه مقابل نصف مالا اعرفه.
انه الفقيد والمثقف العضوي والمفكر الراحل الدكتور بارق شبر الذي أفني حياته وهو يحرك عقله وقلمه، مذكراً دوماً بتواضعه وأخلاقياته وعراقيته الاصيلة الصارمة في العمل الاقتصادي والمناظرة الفكرية. اذ كان الفقيد أحد العقول الاقتصادية والوطنية العراقية التي ساهمت بشكل كبير في كسر فكرة هيمنة الليبرالية الجديدة على اجتماعيات علم الاقتصاد وبوعي كفاحه الانساني ومعتقداته الراسخة في التصدي لنظريات التبعية الجديدة وقواها الاوليغارشية التي ارتبطت بعالم مضطرب من الليبرالية الجديدة لقمع التنمية المستقلة والمستدامة في منظومات العالم الطرفية للرأسمالية.
ولاسيما تلك الانظمة التي اخذت تتجذر فيها ايديولوجيات مختلفة ومرتكزاتها الثروة الريعية، وتحديداً المنظومة الاقتصادية النفطية الشرق أوسطية.
عاش بارق شبر وكابد حتى مماته وهو يتحسس قضايا العدالة الانسانية في مسألتي توزيع الثروات وتنميتها في اقتصاد وطنه، وبمنهج علمي اسبغت جل بحوثه ودراساته بواقعية اقتصادية وانسانية عالية، ذلك على مدار العقود الستة الطويلة الماضية.
كما عد الفقيد من طلائع القوى الاقتصادية الفكرية ممن شخص مشكلات مخاطر تحرير الاسواق الناقصة في الدول الريعية المركزية ومخاوفه من ولادة قوى اولغارشية تسعى المزاوجة بين الثروة والنفوذ السياسي وتوليد فواعل تتطفل سراعاً على مشروع التنمية الشاملة والازدهار الاقتصادي في بلادنا .وهي قوى وجماعات تستظل بلا شك بظلال ريوع الثروة النفطية ، وان ديدنها ابتلاع التراكم الرأسمالي المادي كثروة منتجة ، وتعمل على تعطيل القوى البشرية الناشئة من الشغيلة والبرجوازية الصغيرة وتجريدها من فرص العمل ونهب ادوات انتاجها ، ذلك بفرض انماط من ظواهر( هيمنة البطالة المستدامة او التشغيل الناقص). انها قوى التنمية المضادة التي عملت على تحريك عجلات ابتلاع الثروة والتراكم الرأسمالي سراعاً وبأريحية عالية. ومازالت تعمل كقوى باحثة عن الريع، تسعى الى تعظيم عوائد ذلك الريع لمنفعتها شريطة ان تبقى دالة الانتاج معطلة في بلادنا. انها قوى ناهبة للفائض الاقتصادي الممكن والمتحقق، ولا تطمئن حتى يأخذ الفائض طريقه في نهاية المطاف نحو معاقل الاغتراب الرأسمالي محركاً دواليب انتاج اقتصادات اخرى.
ففي حواراتي الشخصية المباشرة وغير المباشرة مع المفكر الراحل بارق شبر وجدته على الدوام في تقارب مع المدرسة الماركسية التي تتصدى لقضايا التبعية في العالم الثالث. وهي المدرسة التي عدَّ فيها سمير أمين من المفكرين البارزين في مجال الاقتصاد السياسي للعالم الثالث، اذ قدم سمير امين مساهمات كبيرة في تحليل النظام الرأسمالي العالمي والعلاقات الاقتصادية بين الشمال والجنوب. وله بلا شك العديد من الكتب والأبحاث التي أثرت على الفكر الاقتصادي العالمي، وأسس مفاهيم مثل التبعية والتنمية غير المتكافئة وساهم في دعم حركات التحرر والتنمية في العالم الثالث او عالم محيط الرأسمالية. فنظرية سمير أمين، المعروفة بنظرية "التبعية" أو "التطور اللامتكافئ"، تعالج الاختلالات الاقتصادية بين الدول المتقدمة والدول النامية. حيث ركز أمين على كيف تستغل الدول المتقدمة الموارد الاقتصادية والبشرية للدول النامية، مما يؤدي إلى تطور غير متكافئ. معتقدا بلا شك أن النظام الرأسمالي العالمي يعمق الفجوة بين الشمال الغني والجنوب الفقير، وأن التنمية المستقلة والتحرر من الهيمنة الاقتصادية ضروريان لتحقيق تقدم حقيقي في الدول النامية. حيث اقترح سمير امين يومها أنموذجاً بديلاً للتنمية يعتمد على تعزيز الاستقلال الاقتصادي والسيادة الوطنية.
فمثلما غادرنا المفكر سمير امين في العام 2018، غادرنا المفكر بارق شبر في العام 2024 وهو لم يبتعد في رؤيته وتحليله الاقتصادي عن مدرسة سمير امين نفسها.
وهكذا فارقنا بارق شبر قبل اسابيع وهو يحمل هموم وطنه العراق ويكابد في الوقت نفسه قصة اغترابه الطويلة عن ارض الوطن، ذلك الاغتراب الذي اقتطع جل عمره وشبابه وامتد على مدار ستة عقود من الزمن، وهو في مسيرة شاقة من الكفاح الفكري والأكاديمي، كرسها من اجل ان يتحرر العراق من قيود الاستبداد والدكتاتورية وما لحق بشعبه من اذى ودمار. ولاسيما حسراته على اولئك الرجال ممن سحقتهم السجون او ابتعتهم الحروب العبثية الطويلة بشقيها الفعلي في ميادين الحرب وجبهاتها العمياء او تلك الحروب الخرساء التي بنيت على حصار اقتصادي شاق كان ضحيته الشعب والوطن.
عاش بارق شبر حتى مماته وهو ممسكاً بأكاديميته العلمية في المدرسة الاقتصادية الالمانية ولكن دون ان يضل طريقه في بناء مدرسة اقتصاديات العالم النامي ومنها موطنه العراق. ففي الوقت الذي ناصر الراحل مدرسة العالم الثالث كما صورها سمير امين، لم يغفل العالم الراحل في يوم ما مهمته العلمية والاكاديمية مسخراً ادوات معارفه الاقتصادية وكتاباته وبحوثه ليرسم لنا ملامح جادة لمدرسة الاقتصاد السياسي للتنمية في العراق تحديداً، ذلك عبر تأسيسه لشبكة الاقتصاديين العراقيين وهي تمثل تجمعا فكريا لاقتصاديي بلادنا في الداخل والخارج معاً وكأنها الوطن العراق.
انسجم الراحل بارق شبر مع مدرسة سمير امين في تحليل الواقع الاقتصادي لبلادنا الذي واجه تحديات الليبرالية الجديدة في العقدين الأخيرين، اذ التحم الراحل بارق شبر مع رؤى الراحل سمير أمين حول عالم متعدد الأقطاب والتحديات التي تواجه البلدان النامية في مجابهة الإمبريالية والسياسات وتناقضات النظام الرأسمالي وأهمية تطوير مشاريع سيادية ازاء النفوذ الإمبريالي.
ومؤكداً على أهمية "فك الارتباط" كأسلوب لتحقيق التنمية المستدامة في البلدان النامية، بعيداً عن استغلال النظام الرأسمالي العالمي.
وكانت آخر الحوارات مع الفقيد الراحل بارق شبر هو التطابق في وجهة النظر مع ما طرحه المفكر الاقتصادي صالح ياسر في تناول متلازمة نهب الريع النفطي بإشاعة البطالة المستدامة بين صفوف الشغيلة كبديل للتنمية المستدامة، وظلت البطالة تشغل مرتبتين عشريتين على مدار السنوات العشرين المنصرمة وبشكل مستدام واسهمت في تآكل تراكم راس المال البشري.
لقد كنت شخصيا والفقيد المفكر بارق شبر بصدد تطوير:
نظرية لتحليل متلازمة نهب التراكم الاولي لراس المال في الانظمة الريعية عبر استدامة بطالة الشغيلة، بعبارة اخرى، ان ولادة نهب التراكم الرأسمالي الاولي في الدولة الريعية - الأوليغارشية لا يتحقق الا باستدامة بطالة القوى المنتجة (واغترابها كقوى عاطلة) تتولى استدامتها الاسواق الحرة في موجات منفلتة من النيوليبرالية. وهي موجات تستبدل عائدات النفط بتفعيل ادوات تبعية السوق الحر عن طريق استدامة تجارية مدروسة تمتلك القدرة على تغيير الانماط الاستهلاكية المتسارعة، وتوفر في الوقت نفسه استدامة التعطيل المباشر لقوى العمل المنتج (كمتلازمة لنهب التراكم الرأسمالي وتعطيل استدامة التنمية) ذلك بإشاعة البطالة والفقر لمصلحة القوى الليبرالية الجديدة الملتصقة بآليات انتاج وتوزيع الريع النفطي المركزي.
وبهذا الشأن فقد اتخذ نقاشي الاخير مع المفكر الراحل بارق شبر بإعداد الخطوط العريضة لدراسة حملت عنوانا: متلازمة استلاب الريع بالبطالة المستدامة: الليبرالية الجديدة ونهب التراكم الاولي لراس المالي.
فالخطوط التي اعتمدتها دراستنا المشتركة قامت في جدليتها التفصيلية على ما يأتي:
اذا كانت نظرية الاقتصادي مهدوي التي ناقشها المفكر الاقتصادي صالح ياسر حول قصة مبادلة الريع النفطي بالديمقراطية في نظريته في العام 1970، فان النزعة الليبرالية الجديدة في عراق ما بعد 2003 .. صممت على مبدأ مضاف جاءت به المدرسة النيوليبرالية ومفاده استلاب ادوات الانتاج من قوى الشغيلة والاستحواذ الزبائني على قطرات التوزيع لعوائد النفط من خلال الدعم في الموازنة البالغ 13% من الناتج المحلي الاجمالي على عموم الشعب او التشغيل التعويضي لبعض قوى الشعب العامل، اي 4 ملايين موظف وعدد يفوق ذلك من المتقاعدين والرعاية الاجتماعية.
فالاولغارشية المستحوذة على التراكم الاولي لراس المال قامت على توليد كمبرادورية تجارية دورها الأساس هو الاستيلاء على توزيع عوائد النفط من خلال تدوير الدخل المعد للصرف صوب فعاليات القطاعين المتلازمين وهما :التجارة الخارجية وتمويل التجارة الخارجية نفسها ( المصارف التجارية ) .
فكلما تحررت التجارة الخارجية ليتاح تمويل القدرات الانفاقية للأفراد والقوى السكانية ضعيفة الانتاج والانتاجية (من دخول تم تحصيلها من عوائد النفط وجرى توزيعها كنمط من انماط الاقتصاد السياسي الريعي مقابل نشوء الديمقراطية الريعية ( كشرط ضرورة)، كلما استدعى الحال استدامة البطالة (كشرط كفاية).
مدركين في الوقت نفسه ان حركة التسيج في القرن السادس عشر في بريطانيا ، وهي حركة الاستيلاء على اراضي صغار المزارعين وتحويلهم الى عمال بلا ادوات انتاج ، لتربية الماشية والتجارة بالصوف ، كانت بداية التراكم الراسمالي التاريخي الاولي في العالم الراسمالي.
ففي العراق الليبرالي الجديد أصبح التراكم الاولي التاريخي للراسمالية الأوليغارشية (في الاقتصاد الريعي) يقوم على مبدأ خطير هو استدامة البطالة واستلاب ادوات انتاج الشغيلة وتعطيل الارض كوسيلة انتاج للمزارعين ، يضاف الى ذلك استلاب اي عناصر ريعية متحصلة للاستهلاك لدى القوى شبه العاطلة او الوظائف العاطلة ( الدخل مقابل العمل الواطي الانتاجية من اجور ورواتب تسدد من ريوع النفط ).
وبهذا خلصت استنتاجاتنا: بان نظرية التراكم الراسمالي الاولي الريعي تتطلب بطالة فعلية مستدامة او وظائف عامة معطلة الانتاجية ( البطالة المقنعة) لتظهر مرحلة الرأسمالية الاوليغارشية وهي تتولى تعظيم Max دوال انتاج خارج الاقتصاد الريعي في اقتصادات محيطية ايجابية منتجة) لتجهيز احتياجات المركز الريعي السالب كشرط ضرورة ولكن تحت قيد البطالة المستدامة وتعطيل القوى المنتجة ( كشرط كفاية)
اذ يقول ماركس ان الاقتصاد هو من يحدد البنية الاجتماعية ويفرز طبقات المجتمع حسب الكيفية التي توزع فيها ملكية وسائل الانتاج (او قوى الانتاج) وبهذا يتحقق النسق الاقتصادي او النظام الاقتصادي سواء اكان رأسماليا تنافسياً ام احتكاريا ام اجتماعياً ( والاخير يتحقق بالوعي بالاستغلال وصراع الطبقات).
لذا فان توزيع وسائل الانتاج بعدالة يقلل من ظاهرة الاستيلاء على التراكم الاولي لراس المال وتركزه بيد القوى المحتكرة… لتولد شروط اجتماعية والوعي بها لمجتمع اكثر عدالة. ولكن لايتم التوزيع العادل لوسائل الانتاج او قوى الانتاج وريادة علاقات انتاج غير رأسمالية إلا بدور البروليتارية التي تتهيأ ظروفها الموضوعية بوعي الشغيلة ( المثقف العضوي).
وهو الوعي الذي يولد القدرة على الغاء البؤس والاستغلال والفقر لمصلحة بناء اقتصادي يوفر عدالة توزيع الدخل وعدالة ملكية وسائل الانتاج (قوى الانتاج) وبناء نمط جديد من علاقات الانتاج والبنية الفوقية.
ختاماً، و على المستوى الشخصي فقدت و بلا منازع اخا وصديقا وفيا واقتصاديا مخلصاً فذاً الا وهو العالم الدكتور بارق شبر، وهو الانسان الذي ناصرني برفع لواء الحق عاليا في اشد الظروف وطأةً مررت بها قبل عقد ونيف من الزمن، وعبر موجة عمياء ضالة لا اساس لها سوى الظلم والقهر، متصديا بقلمه وقلبه لعناوين الباطل وهو يناصر الحق بلا كلل.
لا تكفي مني الف دمعة كي تطيب ثراه الطاهر، وانا اتحسس بلا شك ان السماء بكت عليه قبل الارض .