أيلول/سبتمبر 12
   

      صدرت رواية (دفوف رابعة العدوية) لعبد الستار البيضاني عن الاتحاد العام للادباء والكتاب في العراق عام 2022.. الرواية في ثلاثة عشر فصلا ومئتي صفحة من القطع المتوسط، يأخذنا الروائي ومنذ الورقة الاولى وحتى الاخيرة في عالم صوفي مشحون بالادعية والابتهالات والموارد ضمن مقاربة تاريخية وتداخل واشتباك بين الماضي والحاضر، الغور بعمق في النفس البشرية والوانها، شذوذها، وشواهدها البارزة، استحضر في مختبره السردي رابعة العدوية الشاعرة الصوفية ابنة البصرة المغنية والراقصة التي تركت لذة الجسد بعد أن عجزت عن أن تجد من بين البشر من يستحق حبها الكبير لتذهب الى لذة الروح والعشق الابدي الى حب الله والذوبان فيه، ورأت في الدق على الدف/ الطرق الدائم على الروح طريقا للوصول اليه (عرفت الهوى مذ عرفت هواك.. واغلقت قلبي عمن سواك) الرواية تجري احداثها في الزمن الحديث تتناول قصة حب عذرية صوفية بين الراوي/ البطل وبين سليلة او وريثة تلك الصوفية البصرية وايجاد ملامح شكلية مشتركة بين قبس الحبيبة وبين امرأة الماضي التي طلقت الجسد رابعة، الوجه الجميل بلا خدود، واستحضارها والوقوف منبهرا في ظلال تلك النافذتين الروحيتين.. رابعة التي عبدت طريقا يسلكه كل نافر من لذائذ الحياة والمتع الكاذبة واغراءات تفاصيل الجسد وشبقه والتي تغرقنا في المهالك والتعفن الروحي والنفسي فقد (وقفت قبس على قارعته مستوحشة رغم جماله.. جمال الله.. الله العظيم) ص 98 ومن خلال علاقة الراوي/ البطل كلي العلم مع الحبيبة قبس التي وجدت ضالتها وفنارها الذي لا ينطفئ (عليك ان تعرف أني مثل رابعة العدوية، مع كل الغناء الذي ينسب اليها، فإنها نسيت لذة الجسد، لذتي في اتصالي الروحي.. هل تعرف رابعة العدوية..؟) ص 8 من الرواية.

  هذا الامر دفع الراوي لأن يبحث في تفاصيل حياة رابعة بالرغبة في التخصص بهذه الشخصية في حال قبوله لدراسة الماجستير وايجاد رابط يشده الى سيرة هذه المرأة الامثولة عن طريق شهادة الرعوية التي طالبته الكلية باحضارها من مدينة البصرة لاجداده وابيه.. البصرة مدينة رابعة بمياهها واكواخها وشناشيلها ونواح عمال السفن وهم يضربون بمجاذيفهم امواج شط العرب كما كانت تفعل رابعة، ويناغون باصواتهم الحزينة الملتاعة ليل نهار كي تحضنهم بدفء اذرع الخليج وامواجه الغريبة لتأخذهم الى السحر والمجهول.. اراد الراوي/ البطل ان يعرف سر العلاقة بين دف رابعة العدوية وسنطور حبيبته قبس وهل الاثنان وصوت الموسيقى المنطلقة منهما من روحيهما تفتح طرقا آمنة ودروبا الى الله..؟ الرواية عرفانية تدعو الى التطهر والتحرر من سطوة الجسد الى مفاتن الروح المذهلة، انها تناص واستحضار الماضي في قلب الحاضر، هذا الحاضر الذي استهلكته غرائز الجسد والمتع الآنية العابرة على حساب الروح وانكساراتها وتشظيها. ما اكتشفه من حبيبته قبس هيامها والسير على خطى رابعة العدوية بكل سحرها الروحي الذي بقي نضرا وحيّا طيلة هذه القرون الجائرة بتقلباتها واحداثها الساخنة وتمزق صفحات عديدة من تاريخ لا يضيف شيئا الى الروح وانعتاقها من دنس الجسد، لكن بقيت رابعة عتبة للحرية والخلاص ومنارة يتعبد تحت ظلالها العشاق الحقيقيون التائقون للحرية الحقة حيث لذة الروح الابدية، لقد وجد الراوي/ البطل أن حياتي حبيبته قبس ورابعة واحدة: قبس اعالت، وهي طفلة، عائلتها المكونة من خواتها الثلاث ووالدتها بالعمل في فرقة انشاد الملاية ام باسم كحال رابعة التي عملت في قارب تنقل الركاب بين ضفتي نهر من شط العرب لتكفل عيش اخواتها وهن يعانين من اليتم أيضا. رابعة اختارت النقر على الدف وقبس العزف على السنطور لتفتحا لهما طرق السماوات والارض وتيسر وصولهما الى ملكوت الله ليكتشف الراوي البطل في النهاية ان الاثنتين واحدة، وأن حلولا حصلت لرابعة في جسد وفكر قبس (وصلت الى رابعة العدوية بلحمها ودمها ومعانيها..) ص 176. الرواية عالم قائم بذاته تتداخل فيها الحقيقة والوهم ويمتزج فيها الواقع مع الخيال، والروائي البارع هو من يكشف تفاصيل الحياة ولواعج الانسان واسرار الطبيعة، هي رسالة في الاخلاق وموعظة الى البشر وتعاظم دور الانسان في الحياة. هذا ما اراد عبد الستار البيضاني ان يقوله في روايته هذه، وان يبث رسائل الى البشر اللاهين ويدق اجراس الخطر الى المزالق الجسدية التي ابتلعت الانسان في كل مكان، بحيث لم يبق من هذا الانسان الا حفنة من الغرائز وملامح ممسوخة مشوهة بعد ان استعبدته المادة والشهوة وسُحقت روحه واصبح كيانه ووجوده بلا معنى ولا غاية، كائن حشري لا همّ لديه سوى اشباع رغباته الجسدية وتغذية مجساته الحسية النهمة بعد تعطيل العقل وركنه جانبا.. (الصوفي) عبد الستار وهو يجرب النقر على دفوف معشوقته، ظهر لنا سارداً بنكهة ابداعية جديدة اختارها لنفسه تختلف عما عهدناه من اسلوب سردي متفرد اعتدنا عليه في نتاجاته الروائية والقصصية وحتى في رسائله الوجدانية الموجهة الى من يحب، زخرت بها الصحف والمجلات العراقية منذ امتهانه للصحافة، الغريب في الامر انه في رحاب جنائن الذات المتعالية ينظر الى العالم لا بعينيه هو بل بعيون المتصوفتين رابعة وقبس (الآن.. وانا في حجرة عينها، تعاودني هذه القشعريرة وتجعلني مستسلما لها، لا أفكر كيف دخلت، ولا كيف سأخرج، أطل من متكئي في حجرة العين على حياة تبدو بصيصا) ص 23.. عبد الستار كان يبحث كما في معشوقتيه عن طريق غامض يقوده الى التحرر من الشهوات وليس هناك طريق آخر الا الله والعيش السرمدي في فراديس رحمته.. التحرر من لذة الجسد هو ما يبغيه الراوي، والالتحاق بحبيبتيه الى حيث قشعريرة النشوة الروحية المتجردة من ملاهي الدنيا ورذائلها (ما الذي جرى..؟ لميني ..لا يُرضي رابعة ان اتشظى هكذا..) ص 198 .. لقد اعاد الينا عبد الستار البيضاني الرواية الصوفية بعد ان اهملها الروائيون وانشغلوا اكثر بمشاكل المجتمع وتقلباته السياسية والاجتماعية وما عانته المجتمعات من تمزق روحي ونفسي نتيجة الحروب وجنون القادة الدكتاتوريين وخسارات البشر المتلاحقة لكن عبد الستار يذكر قارئيه المغلقة عقولهم، في كل فصول الرواية، السادرين في غيهم والتي اخذتهم الملذات الجسدية بعيدا عن جادة الحياة بأن الخلاص الابدي بالغناء والعزف الصوفي المنبعث من الروح الصافية المتسامية والتي توصل الى الله حيث هو السعادة المطلقة.. قد تكون هذه الرواية محرابا لتوبة الروائي، وهذا ما يُشك فيه، والسير في جادة الصوفيين للالتحاق بالذات الالهية وترميم روح البشر التي تصدعت من جور ازمنة طاعنة بالعنف والكراهية والرذيلة، لكل كاتب اسلوبه ومنظاره الذي يرى من خلاله العالم هناك من يعيد في روايته كتابة التاريخ بصيغه الادبية وهناك من ينفذ الى النفس البشرية لمعرفة اختلاجاتها وصراعاتها وامراضها وآلامها وامانيها وهناك.. وهناك، لكن تبقى الرواية شكلا لا يعرّف بل يُكتشف، الرواية اثارة للاسئلة في اذهان قارئيها وهذا ما عمد له الروائي عبد الستار وهو يستحضر التاريخ كي يقول للقارئ، انقر على دفك، انفصل عن جسدك، وارقص بكل جوارح روحك فهي من ستوصلك الى الله..