أيلول/سبتمبر 12
   
نسَجت شعوب الحضارات الاولى فكرها تحت سطوة آلهة الاولمب وصراع الجبابرة، تغضب  لغضب الآلهة وتفرح لفرحهم.
ولم يكن هذا السلوك مجاملة بل خارطة طريق وجودية، تحتفل بتقديمها قربانا بشريا كضحية لتمشية فصول القحط ومراحل الخوف.
ومع الفكر الفلسفي الأول اصبح الاندماج بين العالِم والباحث بالإلهيات اكثر وضوحا، لكن مع صبغة سلطوية جعلت مجاملة ارسطو مثلا تذهب إلى حدّ وصفه بالمعلم الأول، ما يعني إنه السلطة التعليمية للبشرية، فهو طبيبهم، فقيههم، عالمهم الطبيعي، وما بعد الطبيعي، مرشدهم الفكري، فلَكيّهم، شاعرهم.. الخ…
ووجد فكر ارسطو حاضنة دينية في العصور الوسطى، وعلى مدى قرون طوال..
وهنا اصبحت المجاملة نوعين، مجاملة رجال الدين لفكر ارسطو ربما لإبعاد شبهة الانتماء للسماء فقط، او بالأحرى لتعزيز دورهم السلطوي الأرضي، فأمسكوا بالأرض قبل أن تهرب منهم بعد أن هرّبوا وعي الناس للسماء..
والمجاملة الأخرى ميزت الشعوب القراوسطية لرجال الدين، فبعدما كان سلوك هذه الشعوب عفويا تجاه الآلهة قبلا، اصبح مصطنعا خوفا او رياءً لرجال الدين، وبمجاملة رجال الدين هذه تكون الشعوب قد اطفأت شعلة العقل ما جعل هذه القرون مظلمة….. فكان الناس يحتفلون وسط الظلمة بإعدام العلماء، وينافقون رجال الدين على الباطل وعلى حساب الحقيقة، فسادت ظلمة العقل وغُربة الفكر..
واحتاجت النهضة من هذه الظلمة آلاف الأرواح وأنهارا من الدم لتكتمل..
واكتملت باكتمال المناخ العلمي مع نيوتن الذي اصبح معه العقل البشري هو المركز، والمركزية هذه قد أصابت الإنسان بالغرور باعتباره العارف بكل شيء، فاصبح سلطة معرفية تنتقص من كل فكر آخر يدّعي غير ذلك وكانت هذه نقطة سوداء في صفحة الفكر العلمي الناصعة..
لكن من مميزات هذه الفترة إنها أسست لثقافة تنويرية حرة، وخلقت شعوبا عفوية في نصرة العلم والعقل الحرّ، فاستثمرت هذه الشعوب الفرصة التنويرية حاملةً شعلة العقل لإنارة الطريق الذي بقي مظلما لقرون عديدة خلت..
وبعكس الشعوب التي كانت عفوية في هذه الفترة، كان رجال الدين غير عفويين بل مجاملين للعلم… فلما لاحقَ الفلاسفة صولات العلم بعدما وجدوا انفسهم مفكرين من الدرجة الثانية بعد العلماء … توَسَل رجال الدين كافة الطُرق لإيجاد ما يشابه طروحاتهم من العلم، هذا ربما لأنهم كانوا يشعرون بأنهم ذوو عقول درجة ثالثة.. وقد كوَنت هذه لديهم عقدة نقص كبرت باستمرار مع التجديدات العلمية ككرة الثلج.
إن ما حَيَّر البشر من ظواهر قام رجال الدين بتفسيرها وتبديدها لكن مقابل ثمن باهض من حياة الناس، وعلى عكسه العلم الذي كلما كبر واتسع كان يزيل حيرة البشر بمقابل اسعادهم من دون أن يجحف حق أحد في الحياة، او أن يزهق روح..
واستطاع العلم بهذا أن يخلق حيزا من الثقافة تحترم العقل، مضيّقا الخناق على الدين ورجاله، الذين -أي رجال الدين- وبسبب إفلاسهم الفكري والمُعامَلاتي انحسر دورهم في بقعة أرض صغيرة ومحددة..
وفضلا عن ضفة العلم اليانعة هذه، تربعت الفلسفة على الضفة الأخرى فقدمت بتوصيفاتها النقدية محاولات فلسفية مهمة ورائعة لتعريف رجال الدين بحدودهم ضمن المفاصل المعرفية الجديدة.. وقبلاً أقول إنه بالرغم من أن سطوة العلم في الفترة الحديثة قد هزّت كبرياء الفلسفة، لكن تبقى الفلسفة كنبات الكاكتس (الصبار) قادرة على العيش في أحلك الظروف.. إنها تعرف بأنها سرعان ما ستفرض كلمتها وعاجلا ما ستثبت وجودها.
كانت الفلسفة تغرد في سربها الخاص عقليا وتجريبيا، وقد لمعت تغريدة )كانت( عندما ميزَ بين العلم والميتافيزيقا، إذ لاقت اصداء واسعة عند فلاسفة العلم المعاصرين واكثرهم من العلماء.. فوجد بوبر مثلا في (كانت) لقية فلسفية.. بالمقابل كانت تغريدة الوضعيين متطرفة تجاه الميتافيزيقا وبضمنها الدين عندما وصفوها بأنها بلا معنى مقابل العلم الذي يحمل كل المعنى، فكانت فرصة لبوبر اثناء هجومه الحاد على هذا الكلام أن يبني مشروعه للتمييز بين ماهو علم وما هو غير علم..
فبوبر رغم اهتمامه واشتغاله على العلم قد احترم الفكر الميتافيزيقي بما فيه الديني أيضا، كونها بنظره منتجات بشرية لا يمكن احتقارها، وإنه من غير الممكن إقصاؤها لمجرد امتلاكنا اداة معرفية حازت مصداقيتها في الساحة الفكرية..
لكن حتى نعرف حدود وطبيعة الميتافيزيقا والمعارف غير العلمية رأى بوبر من الأهمية أن نُقَيّم طروحاتها هذه بمقارنتها بطروحات العلم..
وبدءا يجب أن نفهم ان العلم غير بقية الحقول المعرفية، فالعلم الذي حظى بالثقة والاحترام من كافة المؤسسات والاكاديميات العلمية وغير العلمية مقابل بقية المعارف التي اقتصر الاعتراف بقطاعها الخاص على الموالين لها فقط، أقول إن العلم حاز هذه الثقة بسبب أن العلم يخضع على الدوام لشروط صعبة لا يخضع لها غيره من الحقول الفكرية ..
  وأهم هذه الشروط هو أن يكون قابلا للتكذيب، وأن يخضع للاختبار القاسي بالبحث عن مكذبات، أي يكون معرّضا للنقد باستمرار.. وهذا يعني إن نظريات العلم هي على المحك باستمرار، إنها دائما بانتظار مكذب ما يهزّها ليمهد للمغاير، فلا يقين هناك ولا اطلاق معرفي ابدا.. 
وهو باعتقادي ما أسس لمشروع التواضع العلمي إن صح التعبير، مقابل الغرور الديني الذي يدعي اليقين ولا يقبل النقد، ولا يسمح بأن يوضع على المحك..
لأن الكمال والاطلاق واليقين لا يعني المعرفة الكاملة، بل معرفة تقع في براثن الدوغمائية السوداء، الذي هو من أعمال الدين والآيديولوجيات والشموليات..
ووفقا لمشروع التواضع العلمي تجسدت رؤيا تستبعد المجاملة، فلا خوف ولا رياء يُطالب به العلم، إنه سلطة معرفية حرة متواضعة سارت بالبشرية باتجاه ماهو بهيج، فلولا السياسات المغرضة والمتهرئة لكان العلم شجرة الزيتون البشرية الوارفة بالسلام ابدا..
وأخيرا، في مقابل مجتمعات تنويرية الثقافة، كانت السياسات المتهرئة تلك عاملا مساعدا لإستبدال الجهل بالعلم، الظلمة بالتنوير في مجتمعات أخرى، إذ خلقت الظروف المساندة سطوة رجال الدين فيها فكانوا مشروعا لإحياء المجاملة. هكذا أعاد التاريخ نفسه في مجتمعات ضالّة، ومن جديد أطفَأت شعوب هذه المجتمعات شعلة العقل لتسير في طريق مظلم تتلمس فيه خيباتها مرّة بسعادة غبية، وبرياء أخرى