
ليس من اليسير الدخول في العوالم المسرحية للفترة الكلاسيكية، نظرا لما تتمتع به من فضاءٍ خلاق سواء على مستوى النص ام الرؤية الاخراجية وسينوغرافيا الفضاء، اذ تشتغل تلك الفترة على صناعة الطاقة الشعرية بالنسبة للنص المسرحي وشخصياته واحداثه، وعليه فإن أي محاولة او محاكاة او تقديم نص مسرحي كلاسيكي هي بمثابة الخوض في تلك العوالم الخيالية والرمزية المُتشعبة، بها حاجة الى مكان اشبه بالمفتوح لكثرة الشخصيات التي تتجاوز الخمسين ممثلاً وليس الى مكان صغير لا يستطيع المخرج والممثل رسم مشهده وفضائه الحركي والسينوغرافي.
وفي معهد الفنون الجميلة للبنات في الموصل قدم مؤخراً عرض مسرحي حمل عنوان (نساء طروادة) للكاتب المسرحي الاغريقي (يوربيدس) للمخرج (اياد الصفار) ولنفترض ان مخرجاً ما اراد ان يقدم هذا العرض في مكان أكثر اتساعاً من حيث معمارية المسرح، فلن يجد في هذه المدينة مكاناً للعرض غير قاعة مسرح الربيع التي طالتها ايدي العابثين في الحرق والسلب والنهب والتدمير، وعلى الرغم من مرور (5 سنوات) على تحرير المدينة ولكن ما زال الرماد يعتلي القاعة واجهزتها المسروقة وسقفها المهترئ فلم يعد فيها غير اسمها وتاريخها ومكانها، ومن هنا ندعو لإعادة تلك القاعة الى عهدها السابق لتكون المكان الاساسي في تقديم العروض المسرحية في داخل المدينة وخارجها.
وعودةً الى المكان البديل في معهد الفنون الجميلة التي حرصت ادارته ومدرسيه ومخرجه على تقديم هذا العرض على تلك القاعة القديمة التي لم يطَلها الاعمار على مستوى خشبة المسرح والاجهزة وصالة المتفرجين فهي تعاني من فقدان اهم اساسيات العروض المسرحية وتقنياتها، فضلا عن قلة التخصيصات المالية التي تصاحب المؤسسات التعليمية والتربوية وغيرها. لقد حاول المخرج صناعة العرض وتقديمه بجهودٍ ذاتية مع ما يمتلكه المعهد من امكانيات ساعدت في اظهار العرض وخروجه الى الجمهور بتفصيلاته كافة.
يذهب المتن الحكائي الى تقديم نص يوربيدس (نساء طروادة) الذي كُتب سنة (415 ق .م) وفيه معالجات لموضوعة الحرب والوحشية والقسوة والاستيلاء على طروادة ومعاناة زوجات وأطفال القادة المهزومين وبخاصة الملكة التي عانت من الاضطهاد والسبي حيث قُسمت تلك الملكات بنات القصر الى رجال وقادة أجا ممنون كعبيدات بعد الحرب، وعبر مزاوجة للعصر الحديث، ومقاربة لما حدث في مدينة الموصل في (2014) من قتل وتهجير وسبي والاستيلاء على الاملاك العامة والخاصة، قدم المشهد الاول عبر توظيفه للجسد وحركاته وتعبيراته مستعيناً بالتقنية الصورية (الداتاشو) في تأثيث جزء من الفضاء المسرحي عبر تمازج الصورة (السجن) مع حركة الممثل التي عن طريقها اعطت صورة السجين ابان احداث (2014) ، وفي انتقاله الى صورة اخرى عبر الاحداث الحقيقية لسقوط طروادة التي استعان المخرج بالفلم الاجنبي (troy) بمشاهد منه كصورة مرئية تساعد المتلقي على الربط التاريخي بأحداث المسرحية المُعصرنة، بيد أن تلك المُعالجة تذهب بصانع العرض الى احداث نوع من القطع التواصلي ما بين المرئي الفيديوي وبين الفعل المُمسرح القائم على التواصل الوجداني والشعوري بفعل الممثل الحي، فتعود احداث العرض بمغادرة المكان المُغلق وكسر الجدار الرابع، عن طريق دخول الممثلين/ الطالبات (المُحاربين) من بين الجمهور وهذا الفعل يذهب باتجاهين كمعالجة، الاول: صغر مساحة خشبة المسرح مقارنة بعدد الممثلين الذين تجاوز عددهم (33) ممثلة/ طالبة ليذهب المخرج الى تلك المعالجة كنوع من الهروب من ضيق المساحة، فلو كان هناك مسرح كبير لكان من السهل على المخرج ان يتعامل مع ذلك العدد بصورة طبيعية. كما ان مشاركة ومفاجأة المتلقي وكسر افقه في دخول الممثلين اثناء مشهد المعركة التي دارت بين (هيكتور وأخيل)، ويستمر المشهد الفيديوي كجزء داعم للفعل المسرحي، ولينتهي المشهد بدخول (السبايا) كما حدث عام (2014) وما تلاها من عمليات سبي للنساء.
ذهب المخرج في معالجته للفكرة اليوربيديسية عن طريق دخول الممثل ومعه السبايا وهو يحاول ان يهرب بهنّ ويخلصهنّ من الايدي الخبيثة، فاستعان باللهجة الموصلية في هذا المشهد كدلالة على ان الفعل الانساني والوطني الذي يحمله المواطن الموصلي اعمق وانبل من تلك النفوس الضعيفة التي حاول البعض الصاقها بهم، وهي مساعدة القوات الغازية التي استولت على المدينة، لينتهي المشهد وقد القي القبض على السجين من قبل القوات الغازية لكن المخرج قدم (تالثبيوس) بزيه التاريخي وهو يقوم بقطع رأس السجين عقاباً له على ما فعله من مساعدة لتلك النساء، ولو عدنا قليلاً لتلك السنوات وبحثناً لوجدنا ان هناك الكثير من الابرياء قد قتلوا بسبب مساعدتهم لأشخاص بمختلف الاماكن والقوميات للهروب من سيطرة القوات الغازية والعودة الى مساكنهم بسلام، وقد حاول المخرج ان يوظف الاضاءة المسرحية بمختلف ألوانها واشكالها واحجامها بيد أنه سقط في بئر الوظيفة اللونية، فلكل لون وظيفة وفلسفة وحدث ودلالة تذهب باتجاه تأثيث الفضاء ومشهديته وعلاقاته الزمكانية وترابطه مع الجو العام والنفسي للشخصيات واحداثها وصراعها وتحولاتها الدلالية، حيث ملأ الفضاء المسرحي بمجموعة من الالوان (الابيض/ البنفسجي/ الازرق / الاحمر) اذ كان من المفترض ان يُعطي لكل لون مكانهُ الخاص ودلالته وابعاده الفنية والوظيفية لكننا نعود مرة اخرى ونقول بان امكانية معهد الفنون الجميلة (للبنات و للبنين) شبه معدومة وفاقدة للاهتمام من قبل المسؤولين عنها، كما في قاعة الربيع وغيرها من القاعات الموجودة في محافظة نينوى، باستثنائنا قاعة مسرح الجامعة الكبير الذي الان يُعد من الصروح المهمة والعالمية من حيث معمارية المكان وفضاءاته وملحقاته واجهزته المرئية والمسموعة وخشبته جميعها تذهب باتجاه عالميته فهو بمثابة تحفة فنية وحضارية، صنعتها ادارة جامعة الموصل ورئاستها التي تسير نحو عودة الجامعة الى سابق عهدها العلمي والاداري والتقني والجمالي.
ومن الناحية التقنية المتمثلة بالأزياء فقد ذهب العرض في مقاربته للزي التاريخي / الاغريقي الذي حاك خيوطه فنيو العرض باختيارهم للون والشكل والملمس والخوذ العسكرية والدروع والسيوف والرماح التي اعطت صورة وان تكن قليلة من حيث جماليات الزي ومادته الحية بيد أنها اعطت صورة للمتلقي عن تلك الفترة التاريخية، وتكون مادة مرئية لدى الطلبة في معرفة طبيعة وشكل الزي التاريخي المُجسد.
ويذهب أداء الممثلين سواء المجاميع ام الناطقين بالحوارات الى المحاولة في تجسيد الاداء الكلاسيكي المتعارف عليه في بطء الحركة والاداء المُفخم والصوت الجهوري الى محاولة رسم ملامح تلك الصورة النمطية للأداء، وهنا نقف قليلاً فان ما قُدم ليس لممثلين محترفين ذكوراً وانما اناثاً/ طالبات مبتدئات يمتلكّن صوتاً رقيقاً نسائياً وهن يحاولن تقديم أداء كلاسيكي ذكوري لطالما وقف امامه الرجال وهم يدرسون طبيعته وطبقاته وحركاته المختلفة، فقد جاهدت الطالبات ومن معهنّ من المخرج وملاك العمل في رسم ملامح الاداء الكلاسيكي، على الرغم من اشتراك اساتذة من معهد الفنون الجميلة للبنات في العمل، حيث ابتعد مؤدي شخصية (تالثبيوس) الاستاذ (يحيى العاني) عن اظهار الشكل الكلاسيكي للأداء على الرغم من امتلاكه الصفات الجسدية التي تؤهله لأداء الدور بسهولة، إذ امتاز الاداء بسطحية الفعل والتشخيص وضياع الحركة والصوت ودقة اللغة العربية التي من المفترض ان يمتلكها الممثل (يحيى العاني) بوصفه ممثلاً متمرساً على اداء الشخصيات المسرحية. أما الممثل (مرثد العبيدي/ السجين)، في المشهد الاول والاخير وما بينهما في مشهد السبايا وهو يحاول ان يُخرجهنّ من الاسر، فقد ظهرت ملامح الفعل الادائي له وهو يُعبر بجسده وحركاته التعبيرية التي اقتصرت بشكل سريع على الرغم من اهمية المشاهد التي جسدها ولا اعرف لماذا لم يأخذ الفعل الادائي زمنه الحقيقي، وهي ملاحظة تُحسب على مخرج العمل الذي لم يملأ ذلك الفعل بشكل اوفى، لأنه من المشاهد التي اقحمها المخرج في مسرحيته ومن المفترض ان تأخذ فعلها وزمنها وفكرتها ودلالاتها، فكان على المخرج وحتى الممثل (مرثد) ان يُعطي صورة ادائية وطاقةً تعبيرية تتناسب وقوة الحدث وبنيته الفكرية .
ان ما قُدم يعد بصمة وضوءا لاح في الافق ونور في النفق المُظلم على أمل ان تعود الحركة المسرحية الى مؤسساتنا المختلفة الحكومية وغير الحكومية الى العلن، وان تكون نافذة حقيقية ذات مُعطى فكري يذهب باتجاه خدمة المجتمع