أيار 18

 

وقف وحيدا في الزقاق الصامت وهو يحمل حقيبته الجلدية الكبيرة والليل عبر منتصفه منذ اكثر من ساعتين، لا يضيء الزقاق المترب سوى مصباحين أصفرين إمتص التراب المعشعش على حدبتيهما شعاع ضوئيهما وبديا ذابلين كزهرتين أُرتشف رحيقيهما، ينتصبان فوق بابين خشبيّن لبيتين متباعدين في الزقاق. كان وجه فؤاد منقبضا كليمونة يابسة تطعنه الحسرة والدموع تتكدس حيرى في عينيه. إقتربت منه أمه بوجه شاحب يزيده ضوء الزقاق كمدا وتتراقص على عظمتي خديها الناتئين أجنحة اللوعة. تجنب فؤاد النظر الى أمه حتى لا ترى دموع خذلانه واندحاره وهو الذي دائما ما يردد أن دموع الرجال تفضح الروح الضعيفة المهزومة..
_ أتبقى يافؤاد ولدي على هذا الحال ؟ سأموت مبكرا وأنا أراك كل ليلة وأنت واقف في الزقاق لوحدك..ماذا يقول الجيران عنك، هل جننت..؟
لم تغلق الأم فمها، ما زال هناك الكثير كي تقوله، فقد كانت تجمع في جوفه وعلى شفتيها كلاما واحزانا وحسرات ترشقه به حال أن ينطق بأي كلام يتفوه به..
قال فؤاد ونظراته الشاردة تبحث عن شيء ناتىء تحط عليه..
_ لم أستطع أللحاق بهم، أنا أسمع وقع اقدامهم الصاخبة كل ليلة في الزقاق، ما أن أفتح الباب للانضمام اليهم، وأنا مستعد وحقيبتي جاهزة، حتى أرى ذيول اطيافهم تذوب في الظلام ..
لم تستطع الأم أن تطرد ابتسامة ساخرة حطت بعناد على وجهها بانت لها خطوطه الجافة..
_ ياولدي ، عن أي شيء تتحدث..؟ غرفتي شباكها يطل على الزقاق، أنا لم أسمع يوما أي حركة في الزقاق ليلا، الناس تنام مبكرا كدجاج المصلحة..إبني تعوذ من الشيطان واترك هذه الأوهام جانبا..
كانت الأم تعرف رد فعل إبنها، فقد إعتاد سماع هذا الكلام كل ليلة، يستدير راجعا وهو يجر مع حقيبته أحمالا ثقيلة من الخيبة، لا يحاول أن يخدش كرامة أمه ويتلفظ بكلام قد يندم عليه وهي التي ربته وتعبت عليه وسهرت الليالي تعمل خياطة بعد أن رفضت الزواج من رجل تقدم لها بعد وفاة أبيه. لم تهن ولم تضعف وكان جلّ سعادتها أن ترى ابنها فؤاد، كما تراه الآن وكل يوم، شابا يافعا جميلا باسقا كنخلة مثمرة يملأ دنيا عينيها بالفخر والزهو يعوضها عن خسارة أيامها وتشعر أنها لم تجدب وقطاف ثمارها ناضج وشهي يسيل له لعاب الصبايا ودائرة أيامها تدور بنشاط وتتسع لأن فؤاد يعمل، منذ أشهر، على جمع أعواد عش زواج جديد مع خطيبته سميرة زميلته في الكلية والموظفة معه في احدى دوائر الدولة..
دخلت سميرة الى البيت وهي تمشي على أصابع قلقها ، ما زالت لا تعرف لِمَ خابرها فؤاد مبكرا والشمس للتو نزلت من سريرها وتستعد للخروج من كهف أفقها، لكنها كانت على يقين أن أمرا جللا هو من دفع فؤاد للاتصال بها وأجبرها على الحضور الى البيت، ما يزيد محنتها ويسارع من نبض قلبها أن فؤاد هذه الايام ليس فؤادا الذي أحبته في الكلية، كان جذابا ليس لوسامته وطوله الفارع وجمال تقاطيع وجهه الحنطي ولون عينيه العسليتين، لكن ثقافته ولباقة احاديثه التي تطير بالافئدة قبل العقول، استطاعت سميرة أن تنش عنه كل زميلاتها في الكلية وكن يحمن حوله كالذباب الذي يحاصر قطعة حلوى ونجحت في النهاية أن تفوز به وتقنعه بالتقدم لخطبتها بعد أن تخرجا من الكلية وحصلا على التعيين في نفس الدائرة لحاجة الدولة الى اختصاصهما. جلست أمامه في باحة الدار التي كانت تضيئها حزم شمس لاهية تتزحلق على طابوق جدران الغرف الطاعن بالعمر والمجدور وجهه من الاهمال، كان يغوص في الاريكة التي يجلس عليها، يجلس على بيوض احزانه التي تفقس، كل لحظة، عن ضجر يخز هدوءه ورصانته. عيناها لم تفارقانه ونظراتها تجوس في خطوط وجهه عسى أن تجد منفذا تصل الى ما يعتلج في ثنايا روحه، لم يطفح على وجهه أي تعبير وهو يتلقى سيل الاسئلة الخرس من نظرات سميرة، ما زال مرتديا ملابس الرحيل وبجنبه حقيبته الجلدية، كان كالمصارع الذي ينتظر تسديدة خصمه الاولى لينهال هو عليه لكما وضربا، نظر الى أمه الواقفة قرب سميرة، تمنى بقوة لو أنها تنسحب وتبقي الحلبة لكليهما..قالت سميرة وهي تفرك يديها البيضاوين الباردتين..
- ها فؤاد، لماذا اتصلت بي مبكرا..؟
اعتدل فؤاد في جلسته على الاريكة..نطق بعصبية وحزم..                                         
- اسمعي سميرة. أنا اتخذت قرارا لا رجعة عنه..
- ماهو ..؟
وهو يسحب شهيقا عميقا.. وينكس رأسه مع كل كلمة ينطقها ..
- أن يذهب كل منا في حال سبيله..
دمدمت الأم بحيرة..
- لِمَ تفسح الخطوبة..! لن تجد مثل سميرة محبة ومخلصة لك..
تنحنح فؤاد، رفع رأسه ببطء، نظر الى سميرة بعينين ثاقبتين..
- أنا اعلم بأني لن أجد مثل سميرة زوجة صالحة، كل ما في الأمر أني قررت أن لا أتزوج لا الآن ولا في المستقبل..
سألت سميرة بألم وهي تشعر أن شيئا ما في داخلها قد تصدع..
- فؤاد، ما الذي بدر مني ..؟
- لم يبدر منك أي شيء، أنت امرأة فاضلة.. لكني نويت الرحيل ولا أعتقد بأني سأرجع من رحلتي الطويلة..
قالت الأم بلوعة..
- أين تذهب وتتركني وحدي..؟
- سأحاول الاتصال بك بين فترة واخرى وسأوصل اليك كل ما تحتاجين..
تكلمت سميرة وقد تهدج صوتها كالمطعونة بنصل غدر..
- وأنا ألم تفكر بي.. أين حبنا، احلامنا التي ما زالت اوراقها خضراء..؟ أنا أعرف أنك في الفترة الاخيرة قد تغيرت كثيرا من يوم غرقت في تلك الكتب الصفر، لم تعد تؤمن بالافكار التي كنت تؤمن بها سابقا وأنت من غرسها في عقلي..
نهض فؤاد من مكانه كالملسوع، دار حول الاريكة، أجاب بعصبية..
- لم تقدني افكاري السابقة الى الخلاص، كانت سرابا وزرعت في نفسي يأسا دائما يلاحقني، لم تشعرني يوما بالطمأنينة، كنت في ظلال رهيب، لقد انقشعت الغيمة عن عقلي، وعيناي تبصران شيئا جديدا، لن أغفر لنفسي اعتناقي لتلك الافكار، أنا حاليا فؤاد ثان، أريد أن اقضي بقية حياتي في خدمة افكاري وقناعاتي الجديدة..
خطوط ابتسامة ساخرة على وجه سميرة سرعان ماذابت حين ابتدأت بالكلام..
- وأين سترحل بأفكارك الجديدة..؟
أجاب فؤاد بثقة..
- الى هناك..
سألت الأم والمرارة تملأ فمها وتسود لها غضون وجهها..
- أين..؟
- هناك في حي جيم، حي المنبوذين والمطرودين والمهمشين والخاسرين غرب المدينة، هم يجوبون كل ليلة طرقات المدينة يجمعون الأتباع، لقد عجزت عن اللحاق بهم والانضمام اليهم، لكني سأذهب اليهم هناك في حيّهم وأكون معهم في انتظار الذي سيأتي..
تساءلت سميرة بجزع وبنبرة صوت حادة..
- من هو..؟
- هو، من سيأخذنا جميعا الى..
أشار فؤاد بإصبعه الى نقطة غير مرئية، انهمرت الدموع من عينيه لم يقو على منع انبجاسها، شلال مياه من روح ذائبة ذاويه تصعد من الاعماق، تخترق دفاعاته المهزومة لتمضي متحررة مبتعدة من سجن طال مكوثها فيه وتودعه خاويا لا نبض لحياة فيه، لم تتمالك سميرة نفسها وشاطرته الحزن ولابت الدموع في عينيها منتظرة اشارة الانطلاق لكن سواتر عنادها عالية وكانت تنتظر ما ستؤول اليه هذه التداعيات الحزينة التي كانت تتوقعها منذ زمن وهذا الانفجار الصوتي من الاعترافات وهتك المستور. لم يطل الوقت حتى نزع فؤاد حلقة الخطوبة من بنصر يده اليمنى وقدمها الى سميرة، كانت تنظر اليه بتحد، لم تمد يدها لأخذ الحلقة فقد كان جسدها متصلبا ويداها متخشبتين، لسانها تجمد من برد الدهشة، حاولت الأم رتق سدّ فؤاد المتشقق كالخرقة البالية بخيوط دموعها الغزيرة..
- لا تتعجل ياولدي، راجع نفسك، لا تفتح قلبك لطرقات الشيطان..
ما أن نطقت والدته بآخر كلمة حتى وضع الحلقة على المنضدة القريبة وحمل حقيبته وخرج دون أن يمنح أي منهن التفاتة، حاولت الأم اللحاق به لكنه بإشارة من يده، وهو يغذّ خطاه مسرعا، سمّرها في مكانها. سميرة سقط رأسها في حضنها مجهشة ببكاء مر..
في حي جيم، كانت سميرة وصلاح يتقدمان في زقاق الحي الرئيسي بحذر، إختارت سميرة صلاح لأنه صديقهما في دراستهم الجامعية ومن المتأثرين بفؤاد الذي فتّح عينيه على اتساعهما في دروب الثقافة والسياسة، لو لم يربط حبل الحب المتين قلبي فؤاد وسميرة لكان صلاح أول المتقدمين لخطبتها، لكنه حافظ على مسافة الاجلال والاحترام بينه وبين فؤاد، تزوج صلاح من زميلة لسميرة كظلها الذي لا يفارقها ورزقا طفلا عمره اليوم سنة واحدة. كانوا، في الجامعة، خلية اصدقاء كبيرة نواتها فؤاد، فخروا بقيادته لهم، في ازمنة البؤس والقسوة يبحث الانسان من يتقدمه في الواجهة، ثابت الجنان، لا ينحني أمام ريح الازمات، كاريزما، كي يتخذه رمزا يمضي وراءه. طريق الحي مترب والبيوت على الجانبين قبيحة عشوائية لا تصلح لعيش البشر، أسيجتها واطئة وأبوابها من الصفيح واعواد الخشب، ما لفت انتباه صلاح أن من صادفهم في الطريق يشبهون بعض، وجوه مكفهرة غادرها الابتسام منذ زمن، لحى كثيفة، ملابس بزي موحد دشاديش او تراكسوتات بالوان غامقة، عيون جامدة منطفئة لا حياة فيها. ملامح متموجة، متغيرة، لا تترك حَفرا في ذاكرة الناظر اليها. أوقف صلاح احدهم وسأله..
- عفوا أخي، جئنا نسأل عن شخص إسمه فؤاد..
إفتر فم الشخص عن إبتسامة بلهاء، أجاب بلهجة شعبية تنم عن انحدار ريفي سحيق..
- نحن هنا في الحي لا نتعامل بالأسماء ، نحن أرقام..
سأله صلاح ذاهلا..
- أرقام..؟
- نعم أرقام.. نحن لا هوية لنا، بلا ملامح ،أرقام في سجل كبير، حين يأتي سنمضي وراءه، سينادينا بأرقامنا، كم رقم صاحبكم هذا..
بحلق صلاح وسميرة بوجه الشخص الذي لم يعرهما انتباها، انسحب متواريا في لمح البصر. عند أحد البيوت الخربة بسياج لا يعلو عن المتر، طرق سمعيهما صوت فؤاد وهو يئن ويستغيث. البيت فيه غرفتان طينيتان مسقوفتان بأعواد الخشب وبواري القصب ومطليتان بالطين الممزوج باعواد التبن، كان باب البيت مواربا، الصوت ينبعث من احدى الغرف. دفع صلاح الباب وانسل هو وسميرة الى داخل البيت، صوت فؤاد جذبهما كالمغناطيس ، كان مدخل الغرفة مغلقا بقطعة من قماش ثخين..ازاح صلاح القطعة، إنسل نور الشمس فرحا الى الغرفة. كان فؤاد متكورا على الارض ، يقف عند رأسه شخصان أحدهما يمسك سجلا والاخر يلقنه بكلام غير مفهوم وفؤاد يتلوى بين اقدامهم مسحورا، مكهربا، وشفتاه تتمتمان بكلام ملغوم بالشفرات والألغاز. ما أن دخلا الى الغرفة حتى توقف الملقن عن الكلام، كان ينظر بجسارة وصلف في وجوهيهما..بؤس المشهد الذي ارتضى فؤاد أن يضع نفسه فيه قطّع نياط قلبيهما، بادر صلاح بالكلام..
- هل تسمحان أن نكلم فؤادا، هو صديقنا، نريد أن نطمأن عليه..؟
تأفف الملقن بانزعاج، أشار بطرف عينه الى زميله، انسحب الرجلان مسرعين. وقف صلاح وسميرة عند راس فؤاد، كان مغمض العينين ويلهج بكلام لم يفكا أبجديته، لا يعرفان الى أية لغة ينتسب، جلسا عند رأسه، ملامحه تغيرت كثيرا في الأيام القليلة التي قضاها في الحي، ما زالت بقايا خطوط قديمة، يعرفانها، ماثلة في صفحة وجهه لم تمح بعد، كانت بشرته شاحبة شحوبا مخيفا وشفتاه مفطرتان من العطش أو ربما من مشقة الكلام الذي يلهج به ليل نهار. كانت سميرة تتأمله وهو مستلق على الارض المتربة وملابسه الداكنة متسخة وخشنة من امتزاج الطين بالعرق وموجات من الألم الداخلي تنفجر كشرر البركان من مسامات وجهه، جوف يتقيأ عناصر الحياة ليمتلأ بالفراغ والوهم والطنين. جلسا عند رأسه صامتين ينتظران أن يفيق من غيبوبته، لم تتمالك سميرة نفسها وشهرت سلاح صبرها الوحيد دموعا ساخنة لم تستطع لها منعا..مضت قرابة عشر دقائق حين انفرجت أجفانه عن مقلتين جافتين عكرتين كعيني ميت، نظر اليهما مستغربا وهو يبحث في تلافيف ذاكرته عن أي خيط، صورة، بقايا أثر لهما..جلس في وسط الغرفة وهو يمعن التدقيق بعصبية وغضب في وجهيهما.. قال صلاح وقد خفف قلقه وخوفه طيف ابتسامة بلهاء وضغط على مخارج كلماته كي يبدو قويا متوازنا..
- فؤاد، ماذا تفعل هنا..؟ ارجع معنا الى بيتك ودائرتك وأمك وخطيبتك سميرة..
لم ترمش عيناه وهو يدقق في كلام صلاح وفي قسمات وجهه المحتقنة، أجاب فؤاد بكلام جاف كالحجر..
- أنا لست فؤادا، أنا حاليا رقم في سجله ..
التفت الى سميرة وكادت أن تنقض يداه عليها وقد افترستها نظراته..
- وأنت ماذا تفعلين هنا مع هذا..؟ أنتما اعدائي، العداء الحقيقي بين الأفكار، العقائد، اليقينيات، وليس بين الشخوص والامزجة والاهواء..
تمتم صلاح بخوف..
- أنا صلاح، ونحن اخوتك واصدقاؤك وهذه سميرة حبيبتك..
- أنتم اعداؤنا..أمثالكم الوحيدون من يبطل ايماننا وطقوسنا وطعم حياتنا هنا في هذا الحي..لن ترجعا سالمين..
لم يتخلص صلاح وسميرة من الحشود الغفيرة، المدججة بأنواع الاسلحة، التي انطلقت وراءهم في الفضاء الفسيح المحيط بالحي الا توقف سيارة شاب مغامر، عن طريق الصدفة، لتقلهما الى بيتيهما وتخلصهما من النوايا الدموية وأصوات كواسر القطيع التي كادت أن تفتك بهما..
إمتنعت سميرة عن الخروج من البيت، قدمت على اجازة، لسنين، من دائرتها. كان الخوف والهواجس المرعبة وترقب المجهول، الذي تسمع طنينه، تلازمها كظلها مدار الساعة، ألقت بهاتفها النقال في نهر المدينة، سمعت من أبيها الذي كان يعتني بها أن صلاحا قد أُختطف ووجدوه جثة مقطعة الاوصال قرب سدة النهر، حاصرها أرق الليالي وطارت خفافيش النوم من عينيها لم تستطع أقوى المنومات وحبوب الفاليوم أن تغمض عينيها ثانية ، كانت تسمع كل ليلة وقع اقدام كثيفة راكضة تطرق اسفلت شارع حيّهم، صراخ وارقام وترديدهم لشعارات مبهمة، بوحشية، يطلقها فم وحيد. كانت تبقي ضياء غرفتها مفتوحا، في الظلام تتراءى لها أشباحهم ووجوههم المائية وعيونهم المخيفة الوامضة بالوعيد والموت والشرور. لكن حتى الضوء الذي يفضح مسخ وجوههم لم يمنعهم في احدى الليالي المظلمة، وقد حُبس قمرها ومُنع من السهر، أن يكسروا باب غرفتها وأن يدوسوها بآلاف آلاف الأقدام العارية المتقرنة لتتناثر اشلاؤها على الجدران ويطعن دمها الاحمر القاني ضمير هذا الزمن الاسود الذي لا تشبه تقاويمه ووقائعه وخَرق رجاله المعتوهين، أي زمن آخر..