
الفن المحاذي لحياة الناس سواء كانوا من عُلية القوم أم كانوا من هوامش الطبقات الاجتماعية، هو الفن المعاصر لهم، ولا فائدة من القول: ان لكل شعب روايته طالما هناك لكل روائي تاريخ لتقنيات رؤيته، بمعنى أن العالم امتزج مع الفن وصارا إطاراً ضخما للرؤى الإنسانية، وقد ألِفت تلك الرؤى ذاتها من جهد أفراد، مبرمجة على وفق ترتيب الشخوص ضمن الزمان والمكان والحدث والروي، وتلك ضمن وصف الهيئات والاشكال والموجودات والمعاني المجردة والأسماء وعناصر البيئة، ثم الوصف الحر للحركة، أيّ ما يكون مصدرها.
بوسعنا القول، أن الوصف هو العنصر الوحيد في الرواية الذي لن يتعرض للموت، خاصة وأن المؤلف يموت والشخوص والراوي والمروية والعُلّية، كلهم قد يموتون. تُرى لماذا لا يموت الوصف؟
من المُبَكِّر الجزم بهذه القضية، لكن عندما نترك العِنان للأموات أن يعودوا، فلن يكون من المُسْتَبْعَد عودة الديمومة لجميع العناصر الروائية بأشكال جديدة. وكل عنصر سيحتاج موضعاً وزمناً يتحرك ضمنه ثم، قولاً يحمل مكامنه وظواهره، ولن يجد غير الوصف ثابتة توضِّعُهُ بمكانه من الروي.
ومع التكثيف والانفتاح العددي للبحوث في مجال الرؤية الروائية لكن لم يتم التوصل الى فهم جيد للرواية الجديدة، وبالعودة الى المشهد العام الذي تشيده الرواية العراقية سنجد نماذج خاصة يمكن ان نبني عَبْرَها رؤية عامة مع الاحتفاظ بخصوصية الفعل الفردي لكل راو، إذ ان الرواية العراقية أثبتت مكانتها القرائية وانتشارها المناسب، ومن الجدوى ان نتابعها، وإذا ما فعلنا سنكشف ما يستوطن دواخلها من ثقافة وتجريب وتأسيس وتواشج متبادل بين الرؤية الذاتية والرؤى العامة لمستقبل الرواية في العراق.. وسنخرج منها بقيم فنية ومعرفية مهمة عبر المجسات الفاحصة التي قد يتممها التقصي القرائي الذي يتبنى مشاريع قادرة على التطور والاسهام الجديد في رسم خارطة فنيّة جديّة لها ذات الانفتاحات على التطور الروائي العربي والعالمي، مستثمرة عالمية التراث الرافديني وخصوصية موجوداته حتى لو أُخذ كمصادر أثيرة أساسية للفعل الروائي فقط. ومما يستدعي جدية المتابعة للرواية العراقية، انها تتمتع بتنوع حيوي يمكّنها من القيام بخطوات حثيثة على مستوى اللغة والبث الاشاري والتجريب الفني محتوى واسلوبا. إن من المقدر للرواية العراقية ألا تظل حبيسة مكتومة الأنفاس، وأنها ستتمتع بحرية التجربة المخالفة على مستوى غير محدود سيعتدُّ به كمحفز او كحالة إيقاظ فني كبير يستهدف بناء علاقة جديدة بين القارئ والروائي.
وقد يكون الفضاء التقني والتكنولوجي منظومة لموجودات الرواية له ما يضاهيه ويضافره من مكونات الروي (تسميات، حركات، أفعال، تحيين زماني ومكانية)، فضلاً عن توافقات النسج واتساق عناصر السرد الأساسية (الشخصيات، الأفعال، الراوي، الزمان، المكان، الحركة)، والعناصر المكملة (الرؤية، الاسلوب، نموذج ادوات اللغة، تخطيطات السرد الصوري، العناوين، التسطير.. الخ) بتضافرها، ستمثل منظومة روائية عربية تسم العمل الابداعي الذي يستجيب للتأمل والحجاج للمؤولات الدلالية للروايات التي تكتسي بنوع من المشتركات الفنية والفكرية التي تؤهلها لتصيير قوانين لا اشتراطية يتبناها القارئ العربي عموماً.
اننا نرى بأن الأقرب من القوانين الروائية الى القوانين تكنولوجيا حيوية الروي هي الميزات التي تتمتع بها العناصر الآتية بموجب توصيفها الآتي:
أولاً : الاستعارة والاشارة
تتجلى قوى الاستعارة ـ وبشكل بديهي ـ في عناصر الحدث السردي على وفق نظام يقع بين التأشير والتشفير يتخذ من تناصات المجتمع واللغة مادته الأساسية كون اللغة منتجا اجتماعيا له خاصية الافهام والتواصل والاستعمال والنقل والتبادل المعرفي والسلعي، المادي والمعنوي.
إذن، قولنا في أعلاه يُعظّم دور اللغة السردية كونها مادة التبادل المعرفي، وهي بذات الوقت صياغة تُصنع بروية ورؤية خاصة، تحيل ـ على الأغلب ـ الى الاشارة الملغزة كونها مؤشرا غير مباشر لقضية ما، فضلاً عن ان هذه الاشارة توحي بتمثل اجتماعي مقابل، ثم تندمج بوظيفة التوصيل والتواصل. بمعنى ان الأركان الثلاثة (القضية، والمجتمع، والتواصيل) ستحتويهم لغة سردية قائمة على فعل ذي ثلاث وظائف هي:
- استعارات الحدث/ إذ ان تناول قضية الاستعارة في النص الأدبي هو: "بيان دور الاستعارة في صياغة رؤية مميزة للعالم المحيط بالذات، وفي الكشف عن خصوصية التجربة المتصلة بصاحب النص، وبيان الأثر الفاعل لسياق الخارج المحيط بعالم الفن في شحنة الخيال، التي يظهر أمام القراء محملاً بها، فضلاً عن تحويل الموقف إلى بنية جمالية للاستعارة في إطار ثنائية أثيرة هي (داخل النص وخارجه)، وما للثنائية هذه من أهمية في تماسك أجزاء الخطاب الأدبي"(1).
* ان خصوصية الاستعارة بالنسبة لنا ـ وبالاستعانة ما ذُكر أعلاه ـ ان الاستعارة السردية رؤية عميقة للمختلف من الإشارات النصية، ضمن مرحلة تكوين داخل النص وانبعاثه الى خارجه (الفضاء التأثيري للنص)، والمعكوس من فضاء التأثير نحو عناصر السرد الداخلة في صناعة الخطاب القصصي، يجري ذلك على وفق تخالف اتجاهات الحدث كأفعال للفاعل أو أفعال وقعت على الفاعل لتضعه في درجة المفعول به. أما شرط عمل الاستعارة الحدثية فهو في ايجاد فضاء من المخفي والمُظْهر للتظافر اللغوي المستمر.
- تأويلية المروي/ فلعل أقرب فهم له هو تأويل اشارات الروي للفهم الصوري اللغوي المجازي للحكاية الاليغورية التي هي "صورة مجازية تنسج من مادة سردية وتنطوي على معنى ظاهر وآخر خفي، كونها من المجاز السردي"(2). ومن ناحية اخرى يمكننا ان نشير الى الاتجاه الآخر لفهم اشارات الروي على وفق غرض التأويل بالمعنى الاشتراطي الآتي: " في كتابه: الأدب العام والمقارن يمنح دانيال هنري الحرية لجمالية التلقي التي اقترحها ياوس بالأهداف التالية: تجديد التَّاريخ الأدبي، تحويل الاهتمام بالمؤَّلف (المرسل) إلى القارئ والجمهور (المتلقي)، المرور من بعض أفكار الإبداع إلى التَّأويل وإلى هرمينوطيقا النُّصوص الأدبيَّة "(3). ان ما يهمنا من أراء ياوس هو الهدف الثالث الذي يتضامن مع الشكل الرباعي لإشارية تأويل المروية، أي أن على فهمنا ان يتضمن توصيف (المجاز السردي الظاهر، والمجاز المخفي، والواقعة المجردة، وتناصات منطق المؤلف).
- فعل الشخصيات مزدوجة الأدوار/ للفعل الذي يؤديه الفاعل البطل والشخوص الآخرون وظيفة أساسية مهمة وأُخرى ثانوية، وكثيراً ما يحدث في السرد أن تتغير بيئة الشخوص ورتبهم في السرد على وفق ثلاثة قوانين هي:
ـ المساحة الكتابية التي تخص الشخصية في امتدادها او تقلصها.
ـ التضخيم او التقليل من الأهمية المعنوية للشخصية.
ـ التحول من الدور الرئيس الى الدور الثانوي وبالعكس.
ثانياً : الثيمة والمؤشرات
ان المؤشرات السردية عموماً تُعنى بموضوعات تقع بين العرض الثيمي والفتنة اللغوية. وتُعنى كذلك بموضوعات تحث المتابع على تصنيفها بحسب مستويات خاصة. منها:
أ. المؤشرات: هناك ضرورات اشتراطية للقراءات التي تتجه نحو انتاجية الجديد للسرد لا الانتفاع الجزئي به فقط. ان قراءات المتعة المباشرة دون التعدي الى التأويل بظرفه المنتج تعني ضياع الجهد الكبير لجودة وفتنة وجمال الفعل الروائي، ثم انه سيترك العمل مشوهاً وعرضة للأغراض سيئة القصد او سيئة الوعي، وهو ما تنهانا عنه القراءة الانتاجية.
بمعنى اننا بإزاء الفعل القرائي نكون ملزمين بنوع قرائي يشترك في صناعة الوعي الفني والقيمي للمروي. وعلى وفق التجارب القرائية في النقد التطبيقي نرى القراءة الناجحة المنتجة تتجه نحو المؤشرات الآتية:
1) امتلاك الخبرة القرائية لمختلف المعارف بالحد الأدنى لأكثرها شيوعاً أو لأهمها في الحياة الاجتماعية، كما يقتضي الحال امتلاك معلومات مهمة أساسية في معارف علم السرد.
2) امتلاك القارئ ثقافة مجتمعية عامة تؤهله لفهم أنواع السلوك للشخوص الفواعل والانماط الطبقية التي ترد في المتن المروي.
3) ومن المهم ان يتزود القارئ المنتح بخبرة نقدية يعالج بها ـ ذاتياً ـ فعل الكشف عن المضمر الدلالي للثيمات وموضوعاتها الفرعية.
4) على المتلقي الفعّال ان يمتلك خبرة في أهم المعلومات المتعلقة بالبلاغة اللغوية وقواعدها وصرفها، لأجل ألّا تنغلق عليه بعض الجمل والألفاظ الواردة في المتن المروي ويضيع عليه التأويل الأفضل.
5) يمكن للمتابع القرائي ان يتفوق على المؤلف والقارئ الكسول بذكائه في كشف الغموض في المعنى العام للأثر، والوصول الى شفرات النص السرية، وتربية وخبايا الكاتب وحيله الفنية وألاعيبه المخاتلة في تسويغ المنتج النصي.
6) يمكن للقارئ ان يمتلك ناصية التداول المعرفي للمرويات السردية باطلاعه على الأفضل والأعمق من الكتب المتوفرة في أسواق ومتاجر الكتب، والمُحَمَّلة على النت.
7) من الضرورات الأساسية ان يتعلم القارئ الفاعل الشيء الكثير عن تكنلوجيا العصر (الانترنيت) كونه وسيلة وثقافة أسبغتها المعلوماتية على جميع المنتجات الحضارية، لجميع الفنون والمعارف والعلوم التقنية.
ب. مستويات الثيم: ترتبط ثيم بعض الروايات بقيم أساسية تخص البناء الدرامي للرواية صانعة لذاتها زماناً ومكاناً تقيم عند حدوده تعبيرها الفني منها:
(1) المستوى الفردي: يتمثل ذلك بما انجزته الرواية للفرد لكي يقاوم بكل حياته كل اضطهاد لفرديته وفرادته وتمرده.
(2) المستوى الجماعي: يتمثل ذلك بعلاقة العنف بين الحكام والمحكومين لكل من يعارض سياسة الدولة عبر وعي تُشَرّعُهُ الروايةُ للناس. (3) المستوى الاجتماعي: يتمثل بالطبقات الاجتماعية الفقيرة التي ينالها حيف الجوع والتخلف والمرض وانتهاك الأعراض.
(4) مستوى التقنيات: انها تقنيات من تنميط أساسي يضبط ويرتب ويُنَغِّم كلاً من الجمل والفقرات والدلالات الايقاعية.
و لقد دأبت الرواية على تأكيد فعل هذا الاتجاه عبر "اللازمات التي هي تكرار متنوع الدلالة" + "المتواليات التي هي تشبه بالغنائية"+ "الخلائط التي هي تجميع لأكثر من نوع ايقاعي" + "الإيقاعات الفكرية التي هي ايقاعات التصريح بالأفكار العميقة المتكررة لأغراض دلالية مختلفة عن استخدامها الاول".
ثالثاً : التناثر المنتظم
يشمل هذا التناثر العناصر الروائية بمعظمها، وعلى الأخص (الأزمان، الأحداث، الفواعل، الرواة) بإعطائها مميزاتها الآتية:
1- هشائم الأزمان المتداخلة: وفيها يمارس الروائي لعبة تهشيم ونشر الأزمان بطريقة ضبط الفوضى الزمنية ببرمجة فكرية (لمنظور) يسمح بحرية الروي مع عدم التضحية بالمنطق الجمالي للغة ودلالات التعبير. "المنظور.. هو منظور الشخصية التي تمتلك الحقيقة ـ بقصد التعبير عن الحقيقة ـ الممثلة للمؤلف"(4)، والمؤلف والشخصية القائمة توجه التعبير والتناثر والضليل.
2- اتساق الأحداث بلا انتظامها: ان الأحداث التي هي وقائع وأفعال يقوم بها الشخوص، أو ينقلها الراوي هي عبارة عن محيّن للروي ينقل الفعل من واقعه الحقيقي الى واقعه الفني من ثم ينتقل به الى الفعل المتخيل له. هذه الأحداث يكثر فيها التغير والتشكك والمحو مما يحيل الى نوع من الاضطراب السلوكي والنفسي يهشم ويبطل صدقها الاجتماعي لكنها أفعال تحتفظ بجديتها وتخادمها مع بقية مضفورات الروي.
3- التوزع العمدي للفواعل: الفواعل او الفاعلون هم من يقومون بالأفعال ويتصدرون واجهات الأحداث كونهم صانعيها هؤلاء نموذجان، فواعل مؤثرون وآخرون ثانويّون. لكن الصنفين يتعرضان للتهشيم والتضييع.
4- التناوب الظلّي للرواة: في الروي يكون حضور الراوي وسيطا لا حياديا، وان كان يتظاهر بالحيادية. وفي اغلب الروايات تصل وظيفته الى حد التدخل في توجيه الأفعال وتقزيم الشخوص او تضخيمهم. لكن ما يلفت النظر في هذا، هو التناوب المتسارع في الروي كأنما هناك رقيب يوزع المهمات، وأن التسابق على تنفيذ الروي جزء من كفاءة الراوي المتنافس مع آخرين على انجاز المهمة.
المصادر المساعدة
1) احمد يحيى علي محمد، خطاب الاستعارة في السرد القصصي، التواصل الادبي ASJP ـ موقع الكتروني، المغرب ، تأريخ النشر 26/2/2019.
2) الاليغوريا، ادارة دار التنوير العمانية، تأريخ النشر، 26 /2/2019.
3) مجلة نزوى العمانية، هيئة التحرير، التلقي حوار بين النص الادبي وقرائه، عدد 96 كانون الثاني، 2018.
4) د. شجاع العاني، البناء الفني في الرواية العربية في العراق ـ بناء المنظور، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، 2012 ،35.