نيسان/أبريل 25
   
    ذكرت في دوار معرضي الشخصي أن العمل الفني يفترض عدة اشتراطات ليؤدي غرضه الجمالي والفكري على صعيد الإنجاز أو على صعيد التلقي، أجدها مدخلاً مهماً لما أود ذكره حول معرض (هن) للفنانة د. جنان محمد، بمعنى أن العمل الفني نتاج فكري يستحوذ على ذهنية الفنان يبدأ بفكرة سريعة، مسبباتها كثيرة لا يعرفها سوى الفنان ومن ثم ينتهي بمنجز قد لا يمت للفكرة الأولى بأدنى صلة، وهذا ما أتفق معه بالمطلق، لأن مساحة العمل الفني ما بين الفكرة والإنجاز متغيرة بشكل كبير، وهذا هو أحد مظاهر الإبداع الفني الجمالي مفاده التفريق ما بين العمل الفني الإبداعي والعمل الحرفي الميكانيكي الصرف الذي يمكن تحديد ملامحه النهائية مسبقاً جزئياً أو بالكامل.
    ولتوصيف بعض التوجهات الفلسفية التي تفترض سيرورة البعد الاجتماعي في العمل الفني وعملية الإبداع الفني التي تبناها ونظر لها الفيلسوف الفرنسي (هيبولت تين) كأبرز فيلسوف في القرن التاسع عشر، مبعداً ذاتية المبدع بوصفه خالق عمله أولاً وأخيراً، مؤكداً على العوامل الاجتماعية كمصدر للتعبير، والمبدع ليس سوى انعكاس لسيرورة تتجاوزه وتستخدمه في آن معاً.
    وبشكل عام فإن ما قدمته الفنانة الدكتورة جنان محمد في معرضها (هن) ضمن زوايا قاعة جمعية الفنون التشكيلية فرع البصرة مؤخراً ابتداءً بفكرة أجدها استثمرت بوعي متقدم في عرضها منحوتات خزفية، لأن آلية العرض عدت مساحة جمالية نفذتها الفنانة بحذر شديد، فهي بلا شك اطلعت ومسحت قاعة العرض بكل تفاصيلها (بيت تراثي قديم) لتقدم معروضاتها بهذا الشكل التوافقي ما بين القاعة وجدرانها ونوافذها ومداخلها والمعروضات، وتضايفاً مع المكان بكل تمفصلاته أسست الفنانة على ذلك أحجام (هن) لأن الحجم في هكذا عرض يعد فاعلاً ومسؤولية مضافة ، فكانت بعض (هن) صغيرة الحجم تتناسب مع المكان الذي وضعت فيه في حين أخذ البعض الآخر حجماً أكبر وأخذت ذات الفاعلية في تناسبها مع المكان، ولعلني أجد الوعي المتقدم جليا في عرض (هن) بهكذا أحجام متباينة، يتوافق مع طروحات (تين) أن الطبيعة ليست هي ما تخلق المبدع والإبداع، بل هي ما ينتج الظروف الملائمة لوجودهما، بمعنى أن المبدع بقدرته يؤسس لتحديد ملامح الطبيعة لكي يوظفها في منجزه الإبداعي، وهذا ما استطاعت الفنانة تقديمه في معروضاتها بتوافق مع المحيط (الفضاء) فهناك أعمال تفرض على المتلقي من اليقين بوعي الفنانة عندما جسدت الأعمال كلها في وضعيات متوافقة بشكل كامل، ولم تسع لوضع كل منحوتة بجلسة منقطعة عن الأخريات ، فكل واحدة منهن تكمل الاخرى، وبالنتيجة أظهرت المنحوتات في بنية متكاملة، فعلى سبيل المثال (ثلاث نساء متحاورات) ورابعة تنظر لهن بريبة وتنصت، أو (امرأتين تتحاوران في نظرة إلى بقية النساء الأخريات، وامرأة تنزوي لوحدها، وغيرها من النساء مما يمكن تشخيصهن بدقة وعناية بشكل منفرد أو مزدوج أو ثلاثي أو بمجموعها كلها، كما تجسد (احداهن) حركة ساحرة ولدتها الفنانة وصورتها لسلوك يومي للمرأة العراقية الجنوبية الريفية ببساطتها ورقتها وحتى أنوثتها، فالخطاب الحواري يفترض سردية الإرسال والتلقي لديمومته وتعزيز فاعليته، لذا وضعتنا جنان أمام معادل موضوعي للحوار الموازي للحوار الشفاهي الذي وصلنا بطرق شتى، فـ(هن) كلها معروضات لمنقولات شفاهية تداولية وعلامات تستجيب لدلالات النص المدون والشفاهي المحكي.
وهناك جانب آخر يمكن تحديد ملامحه، فالفنانة كعادتها عند عرض أعمالها في الرسم أشركت منحوتات من مادة الخشب أو من مادة أخرى تكون ضمن بنية العمل وكينونته (الرسم) بمعنى أن المنحوتة المضافة تكون ضيفاً للوحة الرسم، لكن الفنانة في هذا المعرض قلبت المعادلة ليصبح الرسم ضيفاً للمنحوتة الخزفية. تعد هذه التقنية أو الآلية الأدائية إضافة جمالية معرفية وتقنية لا سيما أن الفنانة لها مكنة في السيطرة على أدواتها أكاديمياً وتقنياً وفلسفياً وهي أستاذ الفلسفة وعلم الجمال في كلية الفنون الجميلة لسنوات طوال، وبحسب قول الفنانة في كلمتها حول معرضها أنها (لم تكن مجرد رغبة لتشكيل تكوينات خزفية معتادة، إنما أنقل تجربتي في الرسم واللون إلى الخزف والنحت) وهذا ما يجعلني أضع تحفظي على قولها وتواضعها نسبياً، فما أراه في المعرض لم يكن لنقل تجربة رسامة إلى منطقة النحت والرسم بهذا الشكل المبسط، إنما لتحقيق هدف متأكدة من قيمته الجمالية والفكرية.
    أما الجانب الذي يؤكد ما تقدم أن المعروض (هن) يمتاز بجوانب عدة، ربما لا يسعني الإحاطة بها جميعا لكثرتها أو لغيابها عن ذهنيتي في الوقت الحالي، وقد يحظى بها متلقون آخرون متخصصون بعلم الجمال والتقنية أو متذوقون لهم المساحة في تشخيص بعض الجوانب التي أغفلتها وكالآتي:
1- يؤكد البناء الجمالي (التكوين أو الإنشاء) بأن جميع المعروضات جاءت بتشريح واقعي مع بعض الإزاحة المقصودة لغاية وظيفية أو جمالية، ومؤدى ذلك امتلاك الفنانة ناصية الدرس الأكاديمي والواقعي بحرفنة متمكنة، فضلاً عن المنظور الذي يتسم بواقعية تتماشى مع حركات النماذج المعروضة، والذي لا يخلو من إزاحة نسبية.
2- الموضوعة التي اتخذتها الفنانة واقعية تلامس المتلقي البسيط والمتلقي النخبوي، بوصفها موضوعة محلية ريفية جنوبية (بصرية) بألوانها المحلية الشعبية الجميلة وبزخارفها التي اعتدناها في بيوتاتنا البسيطة، والذي يؤكد ما رميت له أن (هن) لم يكن معرضاً لمناهضة معضلة صراع الأنوثة والذكورة المجتمعية الذي قد يبث رسالة ساذجة يقرأها متلقون محددون، فوجود (هن) لم يكن يسعى لهدف معاداة العنف والقسرية الذكورية في المجتمع الشرقي والمحلي الجنوبي على وجه التحديد، إنما كان طرحاً تعبيرياً جمالياً لتشخيص منظومة محلية متداولة ومعاشة في المجتمع الريفي، المجتمع الذي يعطي القيمة المعنوية والوجودية للمرأة أكثر من المدينة وفي أزمان سحيقة وليس الآن، فهي العامل والفلاح وربة البيت والزوجة والأخت والأم وصاحبة المواقف الكبيرة في مناصرتها الرجل.    
3- تباينت منحوتات (هن) ما بين المزجج الملون واللون المطفي (المات) بـألوان حيادية رمادية و/ او كرات محمرة أو مسودة وظفتها الفنانة لتكون جمالاً مضافاً إلى وحدة الألوان الموضوعة، فضلاً عن الحالة الشعورية واللاشعورية التي تولدها هذه الألوان لدى المتلقي لتجعله متلقياً ومتسائلاً فاعلاً وليس متلقياً أو متسائلاً سلبياً، أي أن الفنانة جعلت من آلية التلقي موضوعة مضافة ، وهذا ما توافق مع طروحات فلاسفة نظرية التلقي والاستقبال ومنهم (فولفغانغ إيزر) بوصفه المتلقي الضمني أو القارئ الضمني أو المتلقي الفاعل الذي ينتج خطاباً إبداعياً مضافاً إلى الخطاب الإبداعي الجمالي. 
4- ومن المؤكد أن هذه تجربة الأولى للفنانة مع الطين (طينة مفخورة أو مزججة) فهي تجربة لا تهدف لتوصيف وجود نحاتة أو خزافة، بل أنها طروحات غايتها الانفتاح والتجريب على عوالم أخرى وأرضيات غير منقبة بدراسة وبحث تقني مسبقاً من قبل الفنانة، فلم تكن غايتها اللعب والخوض في خامات مغايرة لتخصصها بوصفها (رسامة) إنما هي ممارسة تجريبية تأملية، تذكر الفنان أنها (مارستها بشغف الاكتشاف ومتعة ترقب النتائج).
5- ولعدم حصر التقاطات الفنانة التقنية، هناك التقاطات ذكية ذات وعي مسبق، يتمثل بتوظيف مادة الخشب من دون أن يكون مهذباً أو معمولا بعناية وتهذيب، فقد وظفته بوصفه مهملاً أضفت إليه القيمة الجمالية والموضوعية بتوافق ذهني وتصور مسبق لم يعتده الخزافون النحاتون بشكل كبير، فالخزاف يندر أن يضيف مادة أخرى لخزفياته، في حين يهذب النحات مادة الخشب ليضعها كقاعدة لمنحوتته، وهنا جاءت مشاكسة الفنانة جنان محمد لتصورات المتلقي المختص، فلم تلجأ لتوظيف مادة الخشب بوصفه قاعدة لخزفياتها بالمطلق، إنما كان جنساً تقنياً مكملاً جمالياً وموضوعياً لـ (هن) فقد أسست في أحد منحوتاتها الخزفية قطعة خشبية اسطوانية اتكأت يد إحدى لوحات (هن) عليها، وهذا الوعي المسبق الذي تحدثت عنه، ووضعت (إحداهن) جالسة على مكعب خشبي (صندوق) غير معتنى به وكأنها في جلسة تأمل على شاطئ النهر، في حين تركت (بعضهن) على أرضية نوافذ القاعة من دون إضافة خامة أخرى، أي أن جنان لم تكن عفوية في اشتغال جلسات (هن) فتوافقت حركات (هن) بمجملها مع الخامة الأخرى المضافة.
6-   بمجمل معرض (هن) أرسلت الفنانة خطاباً موحداً وموضوعة موحدة، فهناك التفاتة حالمة، وهناك التفاتة مترقبة ولعل ما يثير دهشة المتلقي انسيابية الوجوه ورشاقتها المتوافقة مع رشاقة أجسامهن برؤوس تنظر إلى الأعلى، وهذا ما أجده أحد منطلقات النقد بقراءة النصوص بانفتاح تأويلي وقراءة مغايرة يفترضها وعي المتلقي، فقد وظفت علاماتها لتؤدي وظيفة التواصل مع الآخر.
7- تمثلت الأزياء المستخدمة في معظم المعروضات بزخارفها لا سيما المزججة، فكانت قيمتها اللونية وما يشير إليه الملمس المدرك من قبل المتلقي إلى المحلية الشعبية، فصورت في بعضها البسط الشعبية بألوان متداولة.
8- التواصل ما بين المحلية والتوجهات الجمالية الغربية الحداثية كان في قمته عطاءً، عندما تناغمت الفنانة مع الموروث الشعبي المحلي الضيق في مساحته، المتسع في أفقه، الجمالي بالمزاوجة الواعية مع البناء الغربي، ولعل تعبيريات مودلياني أو مونخ أو كوكان ومنحوتات ماتيس وبيكاسو في بعض أعماله التعبيرية، فضلاً عن الأعمال السريالية لمنحوتات جياكوميتي ذات الإستطالات في الشخوص كسريالية حداثية، جاءت لتعضده الفنانة جنان بعرضها أعمالاً سريالية ليست على مستوى العرض والشكل والتكوين، إنما على مستوى الفكرة، إذ نجد الفنانة اشتغلت على اللاشعور بوصفه شعوراً كما هو تصور فرويد الذي يوصف الإنسان كجبل الجليد الظاهر منه لا يعادل عشر المغمور، لتعرض سريالية غرائبية مختصة بـ (جنان) وليست كسريالية الحداثيين. وأراني لا أغالي إذا افترضت أن الفنانة وضعت نفسها (وجهها) بوعي أو دونه كأيقونة حالمة مررتها على المعروضات كأنها تعلن وجودها الحالم وكينونتها العقلية ضمن المسار الجمالي.
    المعرض بأيقوناته (هن) طفرة نوعية معرفية جمالية في تجربة جنان محمد على وجه الخصوص، طفرة نوعية في النحت الخزفي العراقي والعربي على حد سواء، إن لم تكن قد تجاوزت التاريخ والجغرافية، فما حملته المنحوتات في الجانب الآخر كان محلية مؤكدة، امتلكت صفة الأصالة بما تحمله من صفات المحلة الجنوبية البصرية بتعبيرية وجدانية بشكل مطلق، دون أن يكون لـ (هن) تنصل من (بصراويتهن) وجنوبيتهن، فخطابها عزز قيم التجديد في المغاير لمعروضاتها السابقة.
 
 د. ازهر داخل محسن: كلية الفنون الجميلة/ جامعة البصرة