
(1)
هل على قارئ ومتابع (بلقيس خالد) وهو بمواجهة (دقيقتان.. دقيقة واحدة.. هايكو عراقي) أن يتخلى عن ذخيرته في القراءة والاستقبال، عن طريق أحد الأمرين. التواصل مع ما مضى لهذه المرأة الإعلامية والشاعرة والروائية وكاتبة القصة القصيرة كما أفترض أنا. أم إن القطيعة هي التي ستوفر حلاً افتراضيا لاستقبال لا سابق له عبر التخلي عن أكثر من تجربة أدبية استطاعت أن تشير الى (بلقيس خالد) كعنصر نسوي مهتم بالإبداع والاختلاف.
القارئ المطلع صاحب الخزين القراءاتي قد يجد ضالته في أي من الحالتين. في حالة التواصل مع المنجز السابق. أو مع إقامة حالة القطيعة ومحاولة قراءة النصوص خارج التأثيرات السابقة.
ومن أي نوع كانت القراءة الموجهة نحو (دقيقتان.. ودقيقة واحدة) لا بد أن توفر نوعاً من الاستقبال الهادي المستند على شيء من عدم استباق الحدث/ التلقي. أو إصدار القرارات بحق هذا الفعل الشعري الذي جنسته الشاعرة تحت عنوان (هايكو عراقي) المحاكمات المتسرعة في مواجهة (بلقيس خالد) ومنجزها هذا لا يوفر حالات تقبلٍ طويلة المدى.
القراءة الحقة تعلن عن ضرورة توفر فعل قراءاتي سابق. إذ إن تاريخ الكتابة لهكذا بنية شعرية لم تكن حديثة التشكل. بل إن عام (2011) شهد إصدار الشاعرة لكتاب (بقية شمعة.. عمري هايكو عراقي) دار الينابيع. والذي يشكل بداية المغامرة الشعرية التي لم تتخلَ عنها (بلقيس خالد) بل أصرتْ وضمن فعل قصدي على متابعة الكتابة وفق هذا الشكل ذي الأصول اليابانية. والذي ربما قد يجد البعضُ من القراء، الكثير من جذور هذه الكتابة في التراث العربي والعراقي.
وربما تشكل الجذور الأولية التي من الممكن أن يتم العثور عليها عبر الاطلاع على نصوص البلغاء والخطباء والمتكلمين والمتصوفة. وربما يعود بها البعض الى ما تمَّ الاتفاق على مصطلح (التوقيع) هذا الفعل الكتابي المنتمي الى الإشارة أو الملاحظة أو التقييم، أو التقويم، الذي يطلقه الكاتب - والذي كان ويكون من الأمراء، أو السلاطين، أو الحكام، أو القادة – على مشاريع حياتية. يجيء هذا التوقيع ضمن فعل احتفائي بالمنجز، أو الفعل الذي يراد متابعته أو الاطلاع على ما أُنجز، و – التوقيع – بهذا الشكل منجز فوقي/ نخبوي، لم يقم به الشعبوي من الناس/ العامة، ولم تتم عملية إنتاجه من أجل القراءة – التوقيع – لم يكن منجزاً أدبياً.
(2)
في عام (2011) صدر للشاعرة (بلقيس خالد) كتاب (بقية شمعة.. عمري هايكو عراقي) في هذا الكتاب هناك أكثر من مائتي نص/ هايكو، تمت كتابتها بشيء من تأثيرات القراءة والمتابعة للنص الياباني، في محاولة منها في صناعة نوع من التلاقح النصي ما بين الإرث/ الفعل الكتابي العالمي، والبنية المحلية لبعض الأشكال الشعرية العامية/ الدارمي أنموذجا.
علماً إن أنواعاً/ أشكالاً كتابية تنتمي للعامي من الممكن أن تقترب من الدارمي مثل النايل وجلمة ونص والابوذية والذي ينتمي الى الكثير من الالتزامات المحكمة، والى أكاديمية ومدرسية الكتابة حيث الشكل اللازم والواجب.
لم تكن الكتابة في (بقية عمري.. شمعة/ هايكو عراقي) منتجة تابعة، أو منتجة تتحرك ضمن الفعل الكتابي الجمعي، حيث ينتفي الفعل الفردي تفكيراً وبنيةً. بل إن القصدية في لكتابة وتوفر المبررات تكاد تشكل الوسيلة والهدف للكتابة التي ينتجها الوعي المعرفي لهذا النوع/ الشكل الكتابي. إذ إن أهم المفاصل التي تدير شؤون الكتابة عامة والأدب خاصة هو القصدية المنتمية للتخطيط، والبحث، ومحاولة الابتعاد عن السائد.
هكذا يتشكل الفعل الكتابي للهايكو العراقي، وفق هموم وتطلعات ومحاولات تجاوز المتعارف عليه اعتماداً على الخزين القراءتي. وتوفر الفعل المدرك لما تعنيه الكتابة وفق فعل متحقق عبر الاقتصاد في اللغة، والتخلص من الزوائد، والاستجابة لأحكام بنية النص، علماً إن من أهم شروط كتابة النص المحلي/ الشعبوي هو أن يحشد الكاتب ما يريد قوله في أقل الكلمات وصولاً الى الصمت/ القفل، الذي لا كلام من بعده.
في الصفحة (16) من (بقية عمري: شمعة) كتبت (بلقيس خالد) أنموذجاً يعتمد الفراغ التام/ البياض، أربعة سطور تعتمد التنقيط بنيةً فقط. هل هذا ما يمكن أن يقال عن عجز اللغة في قول المراد؟ أم إنها المغامرة/ محاولة الشاعرة في إقامة التواصل مع القارئ، وجره الى عالم الكتابة. حيث يتحول المتلقي/ القارئ الى المتلقي/ الكاتب.
(3)
قبل ربع قرن بالكمال والتمام، وعن منشورات وزارة الإعلام/ الجمهورية العراقية – سلسلة الكتب المترجمة وتحت عدد (22) صدر كتاب/ ترجمة عدنان بغجاني رؤية شرقية ( أشعار يابانية ) مترجمة عن الانكليزية، أشعار يابانية منظومة على شكل (هايكو)، وهو ضرب من القصائد تتألف كل وحدة شعرية منها، من سبعة عشر مقطعاً في اللغة اليابانية، مرتبة وفق خمس مقاطع/ سبعة مقاطع/ خمسة مقاطع، ليلتفت المهتمون بشأن الكتابة الشعرية/ الشعراء خاصة الى فعل مختلفٍ، وجدوا فيه ما يمكن أن يكون البديل الشكلي للفعل الشعري الذي أصابه الخمول.
كما لو كان العالم الشعري بدءاً من أمريكا وليس انتهاءً بالدول العربية شرقها وغربها وصولا الى أوربا وأمريكا اللاتينية، كما لو كان العالم الشعري موعوداً بالتغيير والاختلاف. هل كان كتاب (الهايكو) من الشعراء قد أدركوا شروط الكتابة. أم تمكنوا من ابتكار شكل/ بنية جديدة تنتمي الى الثقافة الخاصة أو العامة. إن الاستفادة من التجارب الأدبية عامة والشعرية خاصة من الأمور الضرورية، عبر عملية التلاقح المعرفي؛ إذ تشترك الكثير من الأقوام والأمم والثقافات بأصول حضارية متشابهة - إن لم تكن متماثلة - عبر انتمائها لأصول واحدة، ومن بعد ذلك تتم عملية الاستقلال.
قد تتوفر أمثلة لكتابة الهايكو، لا دخل للمعرفة في كتابته، مجرد شيء يشبه العدوى، يستجيب لها الكاتب مجاراةً ومتابعةً لكي لا يتهم بالتخلف، فتأتي الكتابة كفعل سطحي مؤقت. ضمن هكذا نتائج يجد المتابع أن (بلقيس خالد) وضمن ما يسمى المقدمة، أو الموجهات أو إلفات النظر. نجد أن هناك ما ينتمي الى نوع من البيانات التي لم يعلن عنها.
في الصفحة (7) من (بقية عمري: شمعة/ هايكو عراقي) هناك ما يشبه البيان، تحاول الشاعرة أن توفر للقارئ أسباب ومبررات كتابة الهايكو. كتابة نوع شعري يستقي شكله وبنيته من الواقع العراقي تحديداً. محاولة تقريب النص الجديد للهايكو من أشكال شعرية شعبية. قد يكون (الدارمي) أقرب الأشكال الى ذهنيتها.
في (قنديل ملون)/ ص8 المقدمة/ البيان تقول الشاعرة (بلقيس خالد) ما نصّهُ: "ولأني أؤمنُ بأن سماء المعرفة تتسع بالتجديد، لا بالاستنساخ أو تقليد ما هو متوفر في مجراتها الشعرية والسردية. فقد اجترحتُ لنفسي طريقةً لا أحاولُ تكرار كتابة الهايكو بالشروط اليابانية. محاولتي هذه مثل أي خطوة أولى لا تخلو من تعثرٍ. ولكنها جادةٌ في كدحها الشعري لكتابة هايكو بنفس عراقي".
(4)
هل هناك مسوغات تقف الى جانب الشاعرة/ الشاعر والقارئ والمثقف والأديب والمهتم بشؤون الكتابة الشعرية لكي يضعف احتفاؤه بالقصيدة الكلاسيكية/ العمودية، وليتصاعد الاهتمام والحديث عن قصيدة التفعيلة، والتي أطلق عليها تجاوزاً – كما اتفق الجميع تقريبا عليها – القصيدة الحرة، أو الشعر الحر، تجاوزاً. ضمن فعل بعيد عن التخصص والقصدية؟ ومن ثم لتتشكل حركة الستينيين، ومجلة (شعر 69) والبيان الشعري، ومحاولات التخلص من التبعية للخمسينيين (السياب والبياتي ونازك والحيدري)، ولتتوالى الحركات الشعرية التي تقودها الأجيال المتعاقبة، مروراً بالقصيدة اليومية، وقصيدة النثر، والنص المفتوح، ذهاباً الى منطقة النثر الخالص. ومحاولات البحث عن شعرية الجملة النثرية
لقد كانت هذه الأفعال كثيرا ما تعتمد على القصدية في الكتابة، بعيداً عن الفوضى والتراكمات، والارتباكات، التي تسود جانباً مهماً من جوانب الكتابة والنشر الالكتروني، والتي تشكل أفعالا مشوهة، ومن غير قصد تحاول الإساءة الى الكتابة عامة وقصدية النثر خاصة، ليضع القارئ يده على تأثيرات التلاقحات الثقافية، حيث تمكن الشاعر والكاتب من الذهاب الى حقول شعرية، تشترك ولا تشترك بثقافة وقراءات كتاب الشعر في يومنا هذا.
(5)
انه (الهايكو) الشكل الشعري الذي شكل ويشكل الكثير من اهتمامات شعراء العربية إضافة الى اهتمامات العالم الأوربي وأمريكا، ليتحول على يد البعض من الشعراء الى نص كتابي يعتمد الصرامة والالتزام بشروطه اليابانية، أو سواها. أو التي اتخذ منها البعض ضمن فعل تزاوجي بعيداً عن الفوضى التي تسللت الى جسد الكتابة ولتتحول في أحايين الى الومضة أو الشذرة، أو الى الخاطرة والانثيالات.
في (قنديل ملون)/ ص7 من (بقية عمري: شمعة) والصادر عام 2011 تعلن بلقيس خالد عن انحيازها التام الى الاقتصاد في المكتوب، والقصدية في الكتابة، وفي صناعة النص الشعري المعتمد على تجربة تتخذ من المنجز الشعري الياباني (الهايكو) منصة لانطلاق تجربتها، والتي من الممكن أن يقول القارئ أنها تجربة شخصية، بعيداً عن التناص الروحي/ المعنوي، مستفيدة من أفعال كتابية محلية.
المتابع للشاعرة (بلقيس خالد) سيجد القصدية في الكتابة تشكل ركناً هاماً ورئيساً، معنى هذا إن القصدية تتطلب الوضوح، وعدم اللف والدوران حول المعاني، والعمل على أن تكون القراءة جزءا متمماً للكتابة، والقارئ من الممكن أن يشكل مع الكتابة ثنائياً ناجحاً، وما يفوت على الشاعر يتمكن منه القارئ، وما يترك الكاتب من فجوات في جسد النص من الممكن أن يملأها المتابع لتقترب النصوص من حافات الاكتمال، وليكن النص ضمن مسافة تبعده عن الإسهاب والإسفاف، وما يشبه الثرثرة، فحين تغيب الشعرية يتمثل العجز في الكتابة الممتلئة، وليجد القارئ ما يشكل شيئاً من الارتباك في القول، وضعفاً في البناء، وتشويشاً في المعنى.
في إصدارها السابق (بقية عمري: شمعة) هناك أكثر من (220) نصاً يتخذ من الهايكو بنية للوصول الى القارئ، وفي (دقيقتان.. ودقيقة واحدة) من إصدار 2019، يتصاعد الترتيب والتأثيث لتجد النصوص نفسها وسط احتفاء باذخ، هنا تتصاعد القصدية في الكتابة والتعبير والنشر، لتبدأ العنوانات تأخذ فضاءات جمالية.
- حكايات: أربعة عشر نصا. 2. منحدرات متصدعة: تسعة عشر نصا. 3. مليئة بالنشيج ترتفع أسئلتي: عشرة نصوص. 4. وحده الذي ينتظر الأسئلة ينتظر مفتاحا: خمسة نصوص. 5. ضيق جلد أيامنا ص31: تسعة نصوص. 6. وقفه ص35: ستة نصوص. 7. ريحٌ تبعثر حلم الناي ص39: تسعة نصوص. 8. إما ق ص43: تسعة نصوص. 9. مطر لا يروي أزهار الدفلى ص47: تسعة نصوص. 10. أقطع بالأنين صرختي ص51: ثمانية نصوص. 11. لا أحد يسأل عنا مثل الصباح ص55: ستة نصوص. 12. ورثة الغد ص59: ستة نصوص. 13. موسم ص63: خمسة عشر نصاً. 14. فواصل زرق ص60: ستة نصوص. 15. دفقة زهر ص73: أربعة عشر نصاً. 16. بعض كرمه.. شجرة ص79: عشرة نصوص. 17. التفاتات ص83: سبعة عشر نصاً. 18. حين يستفيق الصمت ص89: عشرة نصوص. 19. أسئلة: صخب الريح ص93: أربعة عشر نصاً. 20. شهقة في رئة المكان ص99: ستة نصوص. 21. طوعاً حملتُ اليه رسائلي: الرؤيا ص103: ثمانية عشر نصاً. 23. حمالة الرطب ص111: أحد عشر نصاً. واذا ما كانت الأنا تشكل أكثر من مصدر للكتابة في كتابها الأول فإن الآخر/ المرأة العراقية خاصة تمثل الفضاء الأوسع في صناعة المتن الشعري/ الهايكو.
(6)
الهايكو وفق الصيغة القادمة من الخارج/ خارج التجربة الحياتية للشاعر المحلي تمثل الكثير من الغموض حيث يتميز (لزوم ما لم يلزم) قوانين كتابية صارمة ربما لا تقل عن قوانين كتابة النص الشعري الكلاسيكي. الشاعر الياباني ونتيجة امتلاكه لتاريخ طويل وتجربة متراكمة نراه يرصد – حالة شعورية داخلية – ويرسم حركة ما، تصدر من إنسان، أو أي شيء آخر من مظاهر الطبيعة ويبسطها بعبارة موجزة/ عدنان بغجاني – رؤية شرقية –
من المؤكد لم تكن النماذج المكتوبة عراقياً وعربياً تعتمد هذا الوصف أو القانون الذي يؤكد على متابعة حركة – الأنا – أو – الآخر/ الطبيعة.
ضمن الطقس الكتابي المحلي يقتعد الشاعر كرسياً في غرفة، لا طبيعة في الأمر، إلا أن الكثيرين استطاعوا أن يعربوا، أو يعرقوا هذا الشكل الشعري ويمنحوه القدرة على اكتشاف الأنا والآخر والحياة العامة.
(بلقيس خالد) ومن خلال أكثر من (250) نصاً ينتسب للهايكو بصيغته/ بروحه العراقية تحاول أن تمسك بكل ما يمثل الحراك الإنساني عامة والمرأة خاصة. كل ما يكون مصدرا للحزن والأسى والمحبة، محاولة أن تقول وتحكي وتروي وتشير ضمن فعل اقتصادي، قد لا ينتمي للتقتير أو البخل، أو عدم الإيفاء، إنها تحاول أن تقول الكثير بالقليل من القول، ليس اعتماداً على ما يقول العرب (خير الكلام ما قلّ ودل)، وذلك لأن (بلقيس خالد) لم تقل كلاماً فحسب، بل انه الشعر الصامت/ الصائت.
القارئ المتابع للمنجز الشعري للشاعرة سوف يتذكر نماذج شعرية أولية، في كتابها الأول (امرأة من رمل) الصادر عن دار الينابيع دمشق - 2009، ربما كانت تكتب الشاعرة هكذا نماذج على أنها (الومضة) إلا أنها تمثل البذور الأولى للغابة الشعرية، إنها اليرقات الأولى لدودة القز، التي نتابعها في (دقيقتان.. دقيقة واحدة).
في (قنديل ملون) إعلان صريح للذهاب الى تجربة حياتية وكتابية مختلفة رغم الأوليات المتعددة التي تشير لهذه التجربة. إلا أن توفر القصدية في اتباع منهج ما لابد من توفير حالة من ضرورة القيام بمغامرة ما، ضرورة وجود دافع ينتمي الى النفير، وليست القناعة بالمتوفر، فالإعلان السابق عن وجوب المغامرة والبحث عن المختلف استطاع أن يوفر للشاعرة منطقة فيها الكثير من الغواية، والدعوة الى عدم التخوف من الكتابة المنتقاة. انه الكتابة الطالعة من الافتراض والتي بحاجة الى تطبيق، والتي لابد أن تتم في قابل الأيام.
(7)
من أين ستبدأ القراءة التي ستصاحب مغامرة الشاعرة؟ من تفتيت الوحدة الزمنية ومغادرة اندماجاتها!
هل تحطيم هذه الكتلة/ الوحدة له علاقة بتجاوز الكتلة اللفظية للقصيدة العربية. والذهاب بحثاً عما يمثل تجاوزا للشكل المتوارث؟ يبدو أن التفريق الحاصل ما بين – دقيقتان – و – دقيقة واحدة هي محاولة لتوفير حالة زمنية يختص بها الكائن الحاضر / رحيم جمعة حيدر، حيث وفرت لانتظاره الذي لا ينتهي رسالة له ص5؟ أم انه سيبحث عن نص شعري/ متن يحمل العنونة الأم/ الجذر، وحين يفقد السبيل الى هذا، عليه أن يعتمد على حسه الشعري، وعلى خزينه المعرفي، وربما سيستعين – كما عملت الشاعرة ذاتها – في أول اتصالاتها بالهايكو، فيذهب للبحث عن هذا وهذا، الى حيث الشبكة العنكبوتية، والتي ربما ستروي بعض حقوله القراءاتية، وليستدل عبر المعلومة الى وسيلة للقراءة التي تمكنه من مصاحبة الشاعرة عبر عقدين وعقد ثالث من الكتابة والقراءة والمتابعة والاحتفاء بالحياة.
عبر ثلاثة وعشرين عنونة جانبية/ فرعية تعمل الشاعرة على صناعة مرتكزات كتابية أولية وقرائية رئيسة، متخذة الكثير من عنديات/ توصيفات الهايكو عنوانات تقترب من الهايكو ذاته/ تذكر القارئ/ المتابع بعنوانات الفصول/ الوحدات السردية في روايتها (كائنات البن) حيث يشكل الغياب حضوراً شديداً والمكان يمثل وجوداً لا غنى للشاعرة منه، ومن دونه يفقد النص الكثير من خصوصية الكتابة (حمالة الرطب ص111/ البصرة مكاناً متفرداً، إضافة الى جغرافية البيت (شهقة في رئة المكان ص99.
قد لا يكون القارئ ممتحناً حين يكون مصدر الكتابة امرأة شاعرة، وسط حشد من الشعراء الذكور، وفي مكان/ بلاد تهتم بالاختلاف والبحث عن المتغير، فهذا أمر يحمل الكثير من الاحتفاء بالجمال.
هنالك الكثير من الشعراء الذين يكتبون نصوصاً تدخل في خانة – الهايكو – أو تقترب منه عبر القصيدة القصيرة أو ما يسمى الومضة، ولكن من غير أن يعلنوا عن ذلك. هل هي حالة امتحان للانا؟ أم الفعل الشعري التجريبي الذي يحاول الكثير من الشعراء المرور من خلاله وصولا الى الفعل الشعري المختلف.
(بلقيس خالد) في البصرة امرأة شاعرة تحاول أن تثبت ذاتها من خلال عملية الإشهار عن منجز إبداعي شعري يتخذ من بنية شعرية شائعة نقطة انطلاق. واذا ما كان الكثيرون قد أحجموا عن الإعلان عن مشاريعهم، إلا أن (بلقيس خالد) اتخذت من الإعلان عن تجربة شعرية تتخذها خط شروع للكتابة المختلفة. انه الكدح الشعري ومحاولة التأكيد على أن الفعل المختلف بحاجة الى إصرار وقصدية وتأكيدات.
(8)
في حديث الصديق الشاعر والناقد (مقداد مسعود) عن (بلقيس خالد) ومنجزها (دقيقتان.. ودقيقة واحدة) لم يتطرق الى تجربته الكتابية للهايكو والتي لم يعلن عنها. في (هدوء الفضة) وفي الصفحة (83) ضمن عنونة رقمية (1) هناك أحد عشر نصاً شعرياً ينتمي الى الهايكو انتماءً تاماً، وفي ص9 وضمن عنونة رقمية أخرى – 2- هناك تعريفات للفضة تنتمي الى بنية الهايكو كذلك، يربو عددها على الأربعة عشر نصاً.
ولأن التجارب المتقاربة/ المتحايثة مع بعضها من السهولة بمكان أن تتداخل مع بعضها اذا ما علم القارئ الكريم أن العلاقة ما بين الشعراء ذاتهم وانتماءاتهم المدنية تشكل الكثير من التقارب والتداخل والتأثر والتأثير الثقافي، إضافة الى أن – مقداد مسعود – يشكل مصدرا للتجارب المختلفة والتي يسعى لابتكارها بعيداً عن تجارب الآخرين، فكانت كتاباته تنأى عن المشتركات، لينفرد هو بالكثير من المختلف عن الكثيرين.
عبر بنية قصيدة الهايكو تعمل الشاعرة (بلقيس خالد) على صناعة التفرد ما بين بنات جنسها من جهة وما بين حشد الشعراء من جهة أخرى.
إن كاتبة أو كاتب (الهايكو) وبعد أن تحولت الكثير من كتاباته/ الهايكو الى ما يشبه الحكمة أو الموعظة أو الآيات الكريمة المستلة، إن لم يكن لديها أو لديه سعي للاختلاف سوف لن يضيف أي منها حجارة أو ملاطاً الى جدار الكتابة الشعرية، المفترض (الهايكو) كائن شعري محاصر، ما بين العديد من التهديدات، ما بين الغموض والوضوح، ما بين المحلية والعالمية، ما بين الميثولوجيات والتراث الشخصي، ما بين المباشرة والشعارات والخواطر، أو الذهاب الى أصول ولزوم وضروريات الاحتكام الى الجذور.
لذلك ليس من السهل أن يتمكن الشاعر أن يثبت قدميه على أرضية قلقة، غير أمينةٍ، لا تمنح مفاتيحها إلا عبر التزود بالمعرفة والقراءة، والاطلاع على التجارب الشعرية، والتفاعل معها، وعبر وجوب اتخاذ قانون الاختلاف سنةً، وعدم الخضوع الى النسق الشاطب والمتعارف عليه، والذي تتم وفق قوانينه كتابة المئات بل الآلاف من الكتاب والنظامين، وأدعياء الشعر الذي لا أبوة له. الكتابة تفرد، وتمرد، وخروج على قيم الثوابت وعلى المتفق عليه، بل هو الخروج على المنجز الشخصي، وليس على منجز الآخر فحسبُ.