نيسان/أبريل 24
 على دوال القص عند جليل القيسي 
سرديات المدينة بوصفها محاولة للقبض
إن أهم ما تميزت به السردية العراقية في معاصرتها للتحولات الأيديولوجية في الأدب هو تجاوزها بنيات الشكل السردي على وفق ضرورات فنية حكمتها عقلية القاص أو الروائي في خلق ثيمات تجاوزت العلاقات المتداولة المألوفة في النسق السردي، فكانت هناك تماثلات في الاشتغال على المستوى الفني لها موطئ قدم في المتخيل التاريخي والسياسي والميثولوجي، وهي مؤسسة على قناعة راسخة في البناء والتلقي، ربما لأن فعل القراءة وانعكاساتها للتصورات الذهنية أفاضت على مخيلة الأديب في تكريس مغامراته السردية إلى  تأسيس نمط له كشوفاته التأويلية الرحبة التي تنجذب اليها مختلف المناهج والتقنيات.
تأتي هذه الدراسة لتسلط الضوء على المنجز السردي للقاص جليل القيسي في محاولة للبحث في انتاجاته القصصية قصد استكناه معالم هذه التجربة الإبداعية والخوض في خصوصية الكتابة السردية وتعالقاتها بالمدينة والكشف عن جمالياتها، وآليات معماريتها وتفحص عوالم وتقنيات خطابها السردي الذي يحقق للنص رؤاه ومقاصده الفكرية والسردية.
إن لمشروع السرد القصصي عند (جليل القيسي) في تشكيله عالما قصصيا، استراتيجية سردية تتأسس منهجيا على مجموعة اجراءات وادوات، يوظفها لتحقيق اهدافه وغاياته ومقاصده، ولعل التساؤل الرئيس الذي تطرحه هذه الدراسة:
ـ ما هي أبرز اركان هذه الاستراتيجية السردية التي مكنت (جليل القيسي) من بناء عالمه القصصي؟
ـ ما هي آليات تشكل تفاعلية النص والقارئ وما هي اشكال عرض المحتوى القصصي؟
ـ كيف تمظهرت المدينة قصصيا؟ وما هي اسس ومعالم فضائها السردي؟
ـ كيف صاغ خطابه السردي بالشكل الذي يسمح له ببناء عالم قصصي مفتون بالمدينة، وهو يمزج بين المتخيل والواقع محافظا على قدرته فنيا للوصول الى حكايته وبلورة رؤيته الفكرية والفنية؟ 
إن دراستنا لسرديات قصصية ترتبط ارتباطا وثيقا بالمدينة وهذا يحتم علينا الإشارة إلى أهمية المكان بوصف المدينة مكانا إشاريا لمفهوم اكبر واوسع، يمكن لنا أن نلم شتاته بتعريف القارئ على اهمية المكان الذي استقطب انظار الفلاسفة والأدباء منذ افلاطون الذي عدّ "المكان حاويا وقابلا للشيء"(1) وبعده توسع ارسطو حيث قال "إن المكان هو السطح الباطن المماس للجسم الحيوي، وهو على نوعين: خاص فلكل جسم مكان يشغله ومشترك يوجد فيه جسمان أو أكثر"(2).  
أما في الدراسات الحديثة فيعرفه يوري لوتمان بأنه " مجموعة من الاشياء المتجانسة من الظواهر أو الحالات أو الوظائف أو الأشكال المتغيرة التي تقوم بينها علاقات شبيهة بالعلاقات المكانية المألوفة والعادية مثل الاتصال والمسافة"(3) فقد نقل لوتمان المكان من المستوى الفلسفي إلى المستوى السيسيولوجي، واكد على أهميته تحت نظام العلاقات القائمة بين الأشياء التي تخضع لتغيرات مختلفة في الأشكال و"إن نماذج العالم الاجتماعية والدينية والسياسية والاخلاقية العامة التي ساعدت الانسان في مراحل تاريخية على إضفاء معنى الحياة التي تحيط به، نقول أن هذه النماذج تنطوي دوما تحت سمات مكانية"(4) فمرجعية الإنسان الأولى تعلقت بالمكان ليبني منظومته، كما أن المكان هو الركيزة الأساسية التي يتعامل بها الإنسان مع الوسط الذي يعايشه، وينتمي إليه وقد جاءت الدراسة مقسمة إلى مبحثين: 
 
المبحث الأول
الاتكاء على الميثولوجيا عند القيسي
إن الاعمال القصصية لجليل القيسي لها خصوصية جمالية يمكن لنا أن نستشعرها ونتلمس سحرها الخاص عن طريق التعامل معها ابداعيا في استحضار الموروث الميثولوجي وتحميله المضامين الانسانية الخالدة، كما انه يرتكز على بعض الدراما الفنية، بحيث يسخرها لخدمة هذه القضايا التي كان يرى بأنها تسهم في تطوير الفكر للمتلقي وتشحذ جماليات مضامينه، وهذا ما دعاه لاتخاذ مدينة خاصة به نجدها تتكرر في اعماله وهي من صنع مخيلته وقد اسماها (ارنجا) لتكون معادلا فكريا لمدينته (كركوك) التي ولد وعاش فيها واحبها بجنون، وقد اضفت (ارنجا) اشعاعا روحيا متميزا في اغلب نصوصه الزاخرة بالرموز الميثولوجية المتنوعة، التي نلمس في حناياها عبق الانسان البسيط باحلامه وآماله، وفي اهم تعاملاته اليومية، مثل مأكله ومشربه وعمله وعشقه، ثم من حيث بناؤها الدرامي، المعتمد في اغلبه على النسوج الخرافية الاسطورية التي تتميز بمظاهر البهرجة والاحتفالية، ثم في توظيفاته الخاصة للآلهة واستدعائها له تارة في زيارة لـ (ارنجا) أو في تضيافه لها في مدينته (كركوك) وهذا ما نجده في قصة (مملكة الانعكاسات الضوئية) وفي باقي قصص المجموعة القصصية التي ضمها تحت اسم هذه القصة، وبذلك ابدع القيسي اسطورته الخاصة، كما يتصورها في واقعه الإبداعي الحالم، لأنها اصبحت في صورتها النهائية تمثل ما يشابه روعة اللوحة الفنية الحاملة لخصوصية من جسّد رسمها وابدع فنها فصارت ملكه، هي إذن اسطورة ذات اصول مبدعة تتجلى تناقضاتها واستلهاماتها من آلامه هو وتوجعاته هو ليكوّن بها واقعا مغايرا جديدا يحمل حكايات جميلة ذات قداسة في تكوينها الاول من خيال الكاتب .
إن الاقتران مع المكان ضمن حقائق حياة الجماعة له تخيلاته الخاصة لانتاج تاريخ ثقافي مروي له عقد صلة جديدة مع دوال المكان التي دائما ما تكون متجاورة مع بعضها، ليستقوي بها الكاتب على تثبيت دعائم القص وهي في الوقت نفسه تحفز امكاناته الوصفية لسحب القارئ إلى الايغال في فهم الانهيارات التي قد تحصل متجددة كل حين في تلك البقعة الجغرافية، ولتشكل رصيدا سرديا له مقومات نشوئه بوصفه حاضناً للأحداث على الرغم من مأساويته؛ لأن هذا الخزين السردي هو خزين الجماعة وخزين افراد تلك المدينة وهو الدال على بقاء السرد حياً عن طريق التخيل الذي قد يؤشر بعض عناصره من هويته الوهمية أو الحقيقية، لذا يلاحظ بأن الشخصية في أدب القيسي تستولد لها حكاية مغايرة تحوز على ذاكرة اوسع وتفضي لاحقاً نحو تكرسات مرتبطة بالمكان المقترن معها مثل شخصية (ضحى) في قصة (غابة من الأحلام) التي ينفتح فيها المكان تدريجيا نحو تخيلات تنمو وتتحول إلى اسطورة يوظفها القيسي عن طريق ترسيخ دعائم ثنائية الشخصية ومكانها في اتخاذ نص يوازي ما بين اسطورة الآلهة ننيكال التي تزوجت إله ثمرات الصيف كما مذكور في الأساطير وبين شخصية ضحى التي كان يدعوها البطل لان تتمتع بانوثتها قبل أن تهرم  وتخسر فرص الحياة وأن تستشعر زهور النرجس والعشب الربيعي في مدينة كركوك، تماما مثلما الآلهة ننيكال التي تمتعت وانجبت وهي تتنعم بتيجان الطبيعة الخلابة مع العشب والنسيم والماء، أن الاهتمام بثنائية الشخصية جعل القيسي يتعامل مع الآلهة ننيكال وضحى على انهما شخصية واحدة باطلاق اسم ننيكال على ضحى حين يحادثها وهو هنا اهتم بعنصر سردي كان يستخدمه في اغلب قصصه وهو تبادلية العلاقة بين الاثنين، فيصبح احدهما مكملا للآخر ودائما ما يكون الشخص النظير في ذلك الثنائي هو الفاعل الاساس في هذه العلاقة النامية نحو الاسطورة وإنتاجها وكأن الشخصية تظل في هذا الفضاء لتعزز مجال المكان وقدرته على اضافة طاقة مفعلة للتصورات الجمعية و للهروب من ضغط الايديولوجيا نحو اليوتوبيا، ولذلك كان يطلق القاص على لسان شاب كردي يبيع الليمون اغنية فيها دعوة لإقامة عرس اسطوري وبصوت عالٍ رخيم يقول: "أيها الليمون .. الليمون الكركوكلي أعطني فمك لأقبله، فأنت عروس جديدة.. تنهد بعمق وقال ترى ستصبحين عروسا لمن؟"(5) وهو هنا يخاطب فتاته ضحى التي هي وجه آخر لننيكال، وقد نجح القيسي في توظيفه لليوتوبيا واستثمار امكاناتها الغرائبية وحاول في قصه أن يبتدع صورا للمرأة لما توفره من التخييلات خارج علاقتها مع المكان، واستثنى في ذلك امكانات الجسد وقدرته على ابراز الثنائية الرمزية والاسطورية بين الطبيعة بكل صورها من نسائم وامطار وعشب ونهر والمرأة في مجال الأنوثة المحكومة بالغياب والفقد ومنحها ما عرفته الحكايات والأساطير القديمة من استمرار في العطاء والحب.
إن ولع القيسي بمدينته الروحية ارنجا ومدينته الواقعية كركوك لم يمنعه من الانجذاب لمدن اخرى فربما يقوده مخياله الخصب نحو السفر إلى مدن اخرى يجمعه معها الجمال والافتتان ففي قصة (مممللو) يأخذنا في سياحة نصية اخّاذة مع طقوس احدى المدن حين تعجبه فتاتا تحمل جرة مليئة بالعسل لغرض تقديمها نذرا في يوم تقديم النذور وهو يوم ربيعي مقدس، فالقيسي لا ينقطع عن التراث الطقوسوي في قصه ودائما ما يرجعنا إلى تخوم الآلهة وهو هنا خص القول عن موضوعة تقديم النذور التي لها اصولها الالهية القديمة ولهذا كانت فتاته من مدينة ششروم وهذا يتضح اثناء حديثه معها عندما كان يحببها في مدينته كركوك مستغربا من قدومها من مكان بعيد لغرض تقديم النذور للإله أنليل كي تتزوج شابا تحبه وكي يشفى والدها من مرضه، ونحن نعرف بأن "انليل" كان يمثل السلطة التنفيذية في مجلس الآلهة القديم وكانت تقدم له النذور اتقاء شره فهو كثيرا ما أحدث الكوارث والاوبئة والطوفان وتحفل النصوص الاسطورية بإشارات واضحة عن ذلك . ومرثية اور اكثر النصوص التي تومئ لمسؤولية انليل في خراب مدينة اور وكذلك رثاء نفر(6). وهذا ما يفسر عودة السرد في قصة (مممللو) إلى واقعيته حين يجد الناس ينظرون إليه نظرة ازدراء وعدم تقبل وكأنه شبح قادم إليهم من مكان غير مألوف، وهم في استفهام عن كنهه وسبب وجوده بينهم فهم لهم عالمهم الميثولوجي ولهم طقوسهم، ولكنهم بعد خفوت فورتهم واستكانة هياجهم بدأوا بالفرح واستدعاء النشوة حين قالت عنه احدى النساء انه سراب جميل واخرى قالت عنه أنه خيال جميل وطلب شابا آخر المزيد من الخمر وقال لنزيد شهوة الفعل، وبذلك تحولت طاقة السرد نحو الفعل الايروسي بازدياد الشهوة ولكنها شهوة يستعلي فيها حضور الروح في معزل عن الجسد، أي أن كرنفال الاحتفال كان يدعو للسمو بالروح والهيجان الجمعي مع الخمرة، وهذا ما يفسر وصف النسوة لبطل القص على أنه خيال جميل أو سراب جميل، ذلك أن الروح شيئ هلامي متسامي بانزياحه نحو النشوة.
إن القاص في تناوله للميثولوجيا حاول أن يتحرك من عالم الواقع إلى عالم الفنطازيا ومنه إلى عوالم الغرائبية والأسطرة وفي قصة (صباح مشرق مع الأميرة مي ـ سي) جاءت الأسطرة كاسحة ليس على مستوى الشخصيات فحسب وانما اخذت القصة سرديتها المؤسطرة التي كانت تغلف الحكي بكامله وبذلك خلقت نظامها الميثولوجي الخاص بها وهو هنا بطل القص وهو جليل القيسي ببنطاله الجينز وحذائه الحداثي مأخوذا من عالمه المادي الواقعي مع صرة مليئة بالخبز وهو برفقة جدي صغير، مرتحلا إلى عالمه المتخيل ليزور الأميرة مي ـ سي ويقدم لها القرابين بمناسبة عيد (كي ـ سوك) ومن ثم تقع في غرامه بعد أن تحادثه عن مدينته ارانجا، وقد اعتمد القيسي على الحوار كأداة سردية كاشفة لطقوس الاعياد والقرابين وتراثها الميثولوجي بلغة منسابة جميلة تحمل عذوبة ذلك اللقاء الحميمي وفي مقطع منه جاء ما يلي :
" ـ أنا يا جليل الأميرة مي ـ سي .. ممثلة الآلهة التي تمنح الخصب للذين لهم اراضي بور .. لا اعتقد ان انسانا شاعرا رقيقا، حالماً مثلك لديه اراضي بور..
ـ اميرتي أنا انسان فقير، لا امتلك ارضاً.. صدقيني أنا افقر من فأر المعبد.
ـ لماذا؟
ـ لأنني لا أؤمن بامتلاك الاراضي.
ـ ماذا تريد إذا؟
ـ لا شيء.
ـ لا شيء؟ لماذا جئت إذا من مدينة أرنجا البعيدة إلى هنا؟
ـ لرؤيتكِ اولاً، ولدي حب روحي للعديد من طقوس واعياد اجدادي، أزور هذه المدينة واشعر بحرقة في قلبي، وروحي، وبكبرياء يصل حد الوجد، لحضارتي"(7).   
إن تجوال القيسي في اماكن قصصه لم يقتصر في جانبه الميثولوجي على رحلاته وزياراته للمواطن السومرية ومعابد الآلهة وقصور الامراء بل تعدى ذلك ضمن فنطازيا تأخذه لزيارة كافكا في مدينته والتحدث اليه والتجوال في عوالمه في قصة(صورة نادرة لفرانس كافكا) وفي قصة (الموتى يتلون القصص) زار نمرود والثور المجنح ذلك التمثال الغرائبي الذي شبهه بملك اشوري عنيد حين رفض التجوال في المدينة بعد ربطه بالحبال، والتقى السير هنري الباحث الاجنبي وتحدث معه عن مخطوطاته الآشورية المتعلقة بقلعة الشرقاط مستثمرا ذلك للحديث عن كنوز بلده بدءا من أور إلى جرسو إلى اوروك إلى اريدو إلى شوربال إلى نفر إلى كيش وأيسن وأشنونا وماري، متجولا في حديثه ضمن محاورات فلسفية مع السير هنري الذي يجده متعديا مرفوضا لآثار بلده التي يجب أن تنقب ويتم البحث عنها من قبل ابنائها الاصليين وليس من الوافد الأجنبي، والقيسي في سردياته تلك كان مشغولا جدا بوقائع الاحداث المتسارعة والعديدة، الكبيرة منها والصغيرة وهو القاص العارف بتفتيت الوقائع ضمن سردياته ليجعلها تمتلك طاقة الاستدعاء والالتمام حول فكرته التي يريد أن يبثها، فتتوهج متوالياته السردية بطريقة ذكية واعية تشعر المتلقي بسيادة السرد واختراق الافتراض المناقض له مع المحافظة على الثبات للوحدات البنائية للقص وهذا ما اتبعه مع قصة ( حجر المعشوق للأميرة شاشا) ايضا. 
 
المبحث الثاني
المدينة بوصفها مكاناً أليفاً أو مكاناً معادياً
ضمت المجموعة القصصية (زليخة .. البعد يقترب) لجليل القيسي وصفا للمدينة بشقيها الأليف والمعادي، وتمثل هذه الثنائية استكمالا لثنائية المقدس/ المدنس، غير أن العلاقة التي تربط الذات بالمكان لا ترقى إلى مستوى الاحساس بقدسيته أو دنسه، بل هي تتعدى التعبير عن الارتياح للحلول في مكان ما أو الانزعاج منه، فألفة مكان ما تتأتى حين يمنح ذلك المكان مساحة للذات لتمارس فيه حضورها وسلطتها بحرية، أي حين تتمدد سلطة الذات وتنحسر امامها السلطات الاخرى المضادة، ففي هذه الحالة يكون المكان كما يسميه مول ورومير بـ (المكان العِندي)(8) وذلك لأن الانسان بطبيعته لا يحتاج الى مساحة (فيزيقية) يعيش فيها فحسب، بل يتطلع الى رقعة تضرب فيها جذوره وتتأصل فيها هويته .
إن التعبير عن شعور ما تجاه مكان ما يدعو إلى استحضار وجه آخر يثير إحساسا على نحو مضاد داخل النص، ومن بين الاماكن التي تبرز وجهي ثنائية الأليف / المعادي في سرديات القيسي عن المدينة (الغرفة والشارع والنافذة والكنيسة والصحراء والسجن) وتظهر امكانية القيسي وموهبته في تجسيد الأماكن التي تتحرك عليها شخوصه بدقة عن طريق استخداماته لامكانيات السرد المتمثلة في :
اولا: السرد الموضوعي الذي يكون فيه القاص مطلعا على كل شيء حتى الافكار السرية للابطال.
ثانيا: السرد الذاتي وفي هذا النوع من السرد نتتبع الحكي عن طريق عيني القاص (او طرف مستمع) متوفرين على تفسير كل خبر متى وكيف يعرفه او (المستمع نفسه)(9)  .
وعن علاقة السرد بالمدينة، فإن لهما تاريخا مشتركا، سواء في الرواية أو القصة فقد وصف لوكاتش السرد فيهما على أنه ظاهرة مدينية. ذلك أن المدينة هي في الأساس المكان الذي كان متطلبا مسبقا لانبثاق القص والروي كفن نثري، لم يتسن لهما أن يحققا تميزهما كجنس أدبي إلا "في عصر الواقعية واقتحام قضايا مجتمع المدينة المعقد بصراعاته، وطبقاته وتطلعاته " (10).
ومن هنا أولى الكتّاب عناية خاصة بالمدينة وأدركوا أنها هي التاريخ والذاكرة وقاعدة الإبداع الأولى، وإن كانت المواقف التي جسدتها المدينة في الرواية تختلف من كاتب إلى آخر وتتراوح في مجملها بين الرفض، والقبول، فقد ارتبط تقديمها عند كبار الكتاب الغربيين بكل ما هو قبيح وقميء، وعد روائيو القرن الثامن عشر والتاسع عشر المدينة موطنا للرذيلة والشر.
نرى أن ثنائية الداخل والخارج تتجسد في مفاهيم عدة، وبخاصة في أعمال جليل القيسي القصصية، وتتجلى هذه الثنائية بوضوح من خلال علاقة الشخصيات في أعماله القصصية بالمكـان المحلي، والمكان الذي تتطلع إليه الشخصية وتعيشه، سواء أ كان ماديـاً أم معنويـاً أم متخـيلا، ويحاول الارتحال إليه. فمثلاً نجد أن بطل قصة (ديوس أكس ماشينا) يحاول التحرر من المكان المحلي الذي يعيش فيه، بعدما تجول في شوارع كركوك في يوم عيد ميلاده وهو يتذكر ايام كان لهذا العيد مذاقا مختلفا عندما كان برفقة حبيبته، الامر الذي جعله يتعامل معه بسلبية لعدم شعوره بالألفة تجاهه، حتى انه وصف اجوائه بالضباب أو الضبابية رغم أنه حاول ان يتغزل بالضباب أول الأمر ومن ثم أخفق فيما بعد عندما سيطر عليه شعور عدم الرضا وقد جاء ذلك في النص التالي " قلت في نفسي: وحتى هذه الغرفة؟ من يدري، ربما ستعلمني هذه الغرفة معنى تلك الكلمات. تأملت الضباب وهو ينزلق بكسل لذيذ على زجاج النافذة. نادرا ما يحل الضباب على هذه المدينة بهذه الكثافة.." (11)  قلنا انه أخفق بعد ذلك اذ تحول سيره في الشارع إلى مطاردة من قبل شخص اشعره بالخوف ومن ثم بدأ يصف حيوات المكان بالجمود وعدم احتوائها على الاحاسيس والمشاعر الامر الذي جعله يتصور أن كل شيء في المدينة باتت تتحكم به الآله حتى قضية معاشرته للفتاة ابنة العجوز التي استأجر منها البيت، وهذا ما نجده شاخصا في قصة (ايام مثقوبة) ايضا بعدما تنتهك المدينة وتبتلعها الآلة وتصبح غير قابلة للعيش فيحاول ابناء المدينة ايجاد مدينة بديلة لهم.
 أن المطاردة والخوف كانت لصيقة بالقيسي في قصصه خاصة حين يتحدث عن الشارع أو الزقاق الضيق فهذا ما نراه في قصة (الرجل الذي كانت روحه عارية) حين طارده شخصيا لأيام كثيرة لغرض قتله من دون سبب، وقد استثمر القاص هذه العدائية ووظفها لتشخيص حالة من حالات اجبار النفس على ما لا تطيقه فقد تولدت هذه العدائية عند ذلك الشخص بعدما اجبر نفسه على التزام الكهنوت والرهبنة وهو لا يقوى عليها، الامر الذي أدى إلى اعتلال في نفسيته، أن الملاحقة والترقب كانت دخيلة على شخصيات القيسي حتى في غرف نومهم وهم يمارسون الجنس مع زوجاتهم وقد ترسخ ذلك في قصة (حتى القطط) إذ كانت الزوجة ترى من النافذة أن هناك من يراقبهما في الجهة المقابلة من الشارع وهما في وضعهما الحميمي، ويقودنا هذا إلى القول بأن الشخصية قلقة وخائفة من العائلة ومن غيرها من البشر خـارج مكانها الداخلي . إ نها خائفة من الداخل كما هي خائفة من الخارج، خلاف رؤية باشلار الذي يرى أن مساحتي الداخل والخارج قد تتبادلان أدوارهما، لأن "الداخل والخارج متآلفان، إنهمـا علـى استعداد دائم لتبادل أماكنهما حتى يتبادلا العداوة، إذا تواجد سطح يفصل بين الخـارج والـداخل (12 ( فهذا السطح مؤلم على الجانبين.
إن ما يلفت انتباهنا في سرديات القيسي فيما يخص المكان اننا لا نستطيع ان نصنف قصصه على انها تحاكي المكان الأليف دون المكان المعادي فهو دائما ما يبدأ بوصف جميل لمدينته كركوك حين يتبع السرد الموضوعي في قصه ولارنجا حين يخاطبها في سرده الذاتي، فيكون وصفه غاية في الجمال مأخوذا بصور فنية عميقة نابعة من وجدان الشخصية التي لا يتوانى ابدا عن اطلاق اسمه الصريح عليها دائما فأغلب شخصيات ابطاله هم باسم جليل القيسي، الا انه سرعان ما يزجنا بتغيير بوصلة الرؤية لدينا فيحول المكان إلى موحش ومعادي في القصة نفسها وكأن القصة تأخذ ادوارا عدة وطبقات متفاوته ما بين الجمال والقبح، وقد جاء ذلك في قصص كثيرة لديه مثل (ايام مثقوبة، لنحتفل معا، السحالي، سافروا مع طيور البحر، الجبهة صامتة الان، زليخا .. البعد يقترب) الا أن السوداوية كانت شاخصة في اماكنها المعادية في قصص مجموعته القصصية (صهيل المارة حول العالم) ومنها القصص:(الشوارع الأخرى أيضا، ثلاث تلال من الجراد، الضفة الاخرى من البحر، الليل والطين، إذا فقد الملح طعمه) وخارج هذه المجموعة لديه قصتي (احماض الخوف، ثقوب الكآبة).
ولنأخذ قصتين وجدتهما موغلتان في الاحساس المعادي وآثرت الحديث عنهما لشدة وطأة الشعور بالقساوة والانتهاك وهما (اذا فقد الملح طعمه والثانية الشوارع الاخرى ايضا) ففي الاولى نجد المتواليات السلبية الواصفة لحال السجين حين ينفى إلى المكان الصحراوي خارج مدينته حيث جاء النص على لسان البطل "صحراء؟ لماذا؟ حسنا لا بأس أن انفى، لكن في الاقل بين اناس على شاكلتي، انا قبل كل شيء انسان ومن حقي ان اعيش في محيط بشري لا اعرف كيف يتسنى لي ان اعرف نفسي، ماهيتي، وجودي في الصحراء"(13)  فقبول الشخصية او رفضها لما تتلقاه مرتبط  بقناعاتها  ومعتقداتها وما يبثه  القاص من دوال هي نتيجة طبيعية ومترتبة على تأثير وقع  السجن على الشخصية في هذه القصة فما يتعلق بحقائق السماء والشمس والنجوم التشبيهية ليست سوى حقيقة مرة تعيشها الشّخصية في مثل هذا المكان العدائي، والذي يحاول تعميق هوة عدائيتها على نحو مباشر عن طريق اعتماد القص على الخوف والتعب النفسي مع ضغط  صمت الأعرابي الذي لاقاه في الصحراء، و هو في كل ذلك  يحاول ان يقدم لنا محاولات  لتأكيد عدم ألفة المكان وعدم القدرة على العيش فيه، أن فضاء الصحراء استخدمه القيسي في عدد من قصصه على انه احد دوال العداء والضيق على الرغم من الرحابة الشاسعة التي يتصف بها ذلك انه كان دائما ما يتخذه نظيرا للخلو والاحساس الموحش بالتوحد وجاء ذلك شاخصا في قصتي (سفرة حول المقبرة، الصمت الفيثاغوري  وفضاء السجن من أكثر الأماكن وضوحاً في موقفه السلبي تجاه الشخصيات المحبطة واليائسة والتي يمارس فعل المكان العدواني عليها. وذلك ما جاء في قصص اخرى للقيسي ومنها (الهروب الأخير، الليل والطين، وظل يحلم بالوشم، طيور السنونو عادت ثانية، العودة إلى مدينة ارنجا، الاعتقال الصحراوي رقم 125، زليخا.. البعد يقترب، الجدار الذي نطق، طيور السنونو عادت من جديد).
أما قصة  الشوارع الاخرى ايضا) ففيها انتهاك للمدينة واحساس مفجع بالكارثة، فضلا عن اثارتها لمسألة مهمة وهي مسألة الأنا والآخر كإشكالية سردية ترتبط باختلاف وجهات النظر، أو الزاوية التي ينطلق منها القاص في إبرازها بصورة قد تكون معقدة وشائكة نوعاً ما، وربما تظهر الأنا مفردة بصورة أكثر وضوحاً فيما لو اقترنت بالآخر(14) ، وهذه العلاقة هي التي ترسم حدود التعامل داخل إطار المكان، فالآخر الموازي هو الذي فرض محبة المكان على العكس مما يفرضه الآخر النقيض من عدوانية وقد مثله القيسي بدخول الاغراب للمدينة وفي قصة اخرى مثله بتواجد كائنات غريبة أو تواجد الآلة التي باتت تتحكم بمصير الحياة الهانئة ومصير الناس الذي كان يسير نحو مجهول مظلم، ومن ثم فإن "أنا النص والآخر، منتج جملة من الإحالات اللغوية والنفسية والفكرية التي غالباً ما تكون في خصوصية المعنى تعبر عن أنا وآخر في الوقت نفسه، فالسرد بوصفه التوليفة المحايثة لتوظيف كل منهما في تركيبة الوعي... كرغبة إرادية تمتحن كل أشكال وصيغ التعايش الممكنة بينهما ؟ يسعى لأن يجعل من الآخر أن يرتد في حيز الوجود إلى الأنا في إطار الكينونة"( 15)، وفي هذا المنحى تتحد العلاقة بين الأنا والآخر، ونحن داخل حدود المكان الواحد وهو في هذا القص داخل حدود المدينة أو الزقاق وهذا المفهوم اخذ مساحة مهمة في قص القيسي إذ نجده في القصص( أنا ذلك المسافر، أيام مثقوبة، سافروا مع طيور البحر، السحالي) وفي هذه القصص كثيرا ما نشعر بأن المدينة تختفي ولا يبقى لها وجود سوى في اذهان شخوصها وهذا ناتج من فعل الاحتلال الذي تتعرض له فالبطل يعيش فيها ولا يعيش، وهو في حالة ضياع مستمر رغم ان علاقته الحميمة مع المكان دائما ما كانت تنشأ منذ الطفولة ، فكلما كان هناك استرجاع للماضي، نجد البطل يقف على مرحلة عاشها وعاصرها وشغف بهندستها المعمارية المتناغمة مع بعضها فيذكر المسميات التي تخص نهرا  وتلاً وزقاقا  أو شارعا فيه كنيسة او قلعة او جسر فهو مفتون بأماكن مدينته التي يشعر بالضياع والفقدان فيها . 
هناك عدد محدود من القصص لدى القيسي يمكن لنا ان نعد سرديتها تتعلق بالمكان الأليف المفرح المحبب من دون أن يلتف علينا بمغايرة احساسه بها في نهاية القص ودائما ما يرتبط هذا النوع من القص لديه بثنائية المرأة الحبيبة والمدينة ليشتغل على دالة الحب وعملها في حدود المكان لما لها من قدرة بالغة  في التأمل، وفي منح النص طاقة إيقاعية متجددة، وهو في ذلك وفي قصص اخرى قد تخلو من الصوت الانثوي لكنها تتعامل مع المدينة على انها مكانا اليفا لا معاديا، كان يسعى باستمرار إلى الاقتران والتوحد مع الحركة الذهنية، والاعتماد على الفلسفة والطروحات الفردية بين المتحاورين على اعتبار أن الإيقاع السردي هو عبارة عن تجلٍ فعلي للواقع الخيالي الذهني المعيش؛ لرفده بما يلزم من تطور إيقاع السرد، وتحويله إلى بؤرة متنامية، شديدة الاقتران بالمكان والحدث ومن هذه القصص: (فتاة مجدولة بالضوء، الميثوبي، الطيران شاقوليا، نجمة ميديا المتوحشة، ومضات في اقاليم اللاوعي، أمم من الفرح، الطبائع القوية، فتاة بلون الفضة، الآلهة عناة، متعة غامضة، مُسرطنة بالوهم). 
 
رنا صباح خليل: باحثة وناقدة، محررة في مجلة ( المورد) العراقية. وكنا في المجلة قد كلفنا الباحثة بكتابة دراسة عن قصص جليل القيسي ، قبل المشاركة بهذا البحث في مؤتمر السرد الرابع الذي اقامه اتحاد الادباء والكتاب في العراق ، وتأخر نشره لاسباب فنية.
 
الهوامش:
  1. حنان محمد موسى حمودة، الزمكانية وبنية الشعر المعاصر، عالم الكتب الحديث، عمان، الاردن، ط1، 2006، ص18.
  2. محمد علي عبد المعطي، قضايا الفلسفة العامة ومباحثها، دار المعرفة، الاسكندرية، مصر، ص228.
  3. يوري لتمان، مشكلة المكان الفني(المكان والدلالة) تر: سيزا قاسم، مجلة الف، العدد 6، 1986، ص89.
  4. المرجع نفسه والصفحة نفسها.
  5. صفحة 47 من المجموعة القصصية (مملكة الانعكاسات الضوئية) جليل القيسي، دار الشؤون الثقافية العامة، 1996.
  6. نظر: الجنس في الاسطورة السومرية، ناجح المعموري، دار المدى، 2017، ص1 .
  7. الاعمال الكاملة لجليل القيسي، الجزء الثاني، دار ئاراس للطباعة والنشر، ط1، 2007، صفحة 325.
  8. 8ـ ينظر: جماليات المكان: جماعة من الباحثين، دار عيون المقالات، الدار البيضاء، ط1، ص61.
  9. ينظر: نظرية المنهج الشكلي، نصوص الشكلانيين الروس، ترك ابراهيم الخطيب، مؤسسة الابحاث العربية، بيروت 1982، ص189.
  10. الريف في الرواية العربية، عبد الله ابراهيم، ص70.
  11. الاعمال الكاملة لجليل القيسي، الجزء الاول، دار ئاراس للطباعة والنشر، 2007، ط1، ص330.
  12. ينظر: غاستون باشلار ، جماليات المكان، تر: غالب هلسا، كتاب الاقلام، دار الجاحظ للنشر، وزارة الثقافة والاعلام، ص196.
  13. الاعمال الكاملة لجليل القيسي، الجزء الاول، دار ئاراس للطباعة والنشر، 2007، ط1، ص519.
  14. ينظر: د. محمد صابر وجعفر عبيد، سوسن هادي، جماليات التشكيل الروائي، دراسة في الملحمة الروائية، مدارات الشرق، ص63.
  15. المرجع السابق، ص64.