نيسان/أبريل 20
                                   
      أعدت دراسة كتاب (السلطة في الرواية العراقية) للدكتور أحمد رشيد الددة الطبعة الأولى والصادر عن اصدارات مشروع بغداد عاصمة الثقافة العربية 2013. وهو أصلا أطروحة دكتوراه كنت عضوا في لجنة مناقشتها. تناول الباحث موضوعا مهما، يكاد أن يكون التيمة المركزية السائدة في عموم المنجز الروائي العراقي والعربي أيضا، فقد شكلت السلطة قبل وبعد تأسيس الدولة العراقية قواسم مشتركة ضاغطة، وإذا ما حصرنا الموضوع ببداية الوعي القصصي في العراق أي منذ تجربة رائده لمحمود أحمد السيد ومن جاء بعده من رواد القصة والرواية حيث نجد ذات الملامح في القصة والرواية والشعر والمسرح والسينما وبقية الفنون ... كلها لا تبتعد عن المحن والمظالم والعسف الطبقي والقسوة في محاربة الآخر، وكل ذلك مرتبط بطبيعة السلطة وسياستها القمعية والمتسلطة على حرية الفرد ودوره في الحياة وجعله عاجزا أن يفعل شيئا للخروج من الواقع المزري وهذا الانموذج قد تكرر في كل الحقب وعلى عموم السلطات المتعاقبة، وإذا أضفنا إليها السلطات الأخرى التي تطرق إليها الباحث المتمثلة بالسلطات القبلية والعشائرية والعائلة التي تمثل الاضطهاد الاجتماعي تزداد الصورة قتامة. 
    الموضوع رئيسي وقار، وأظن أن الباحث لم يتعب كثيرا في ايجاد مصادر مادته البحثية المتوافرة، على الرغم من أن كثرة المصادر البحثية يشكل هما اضافيا واشتغالا صعبا وأحيانا عسيرا يتجسد في جمع هذه المصادر وانتقاء المنتج منها بعد تصنيفها فليس كل كتاب يصلح أن يكون مصدرا يخدم البحث...
     لقد اشتغل الباحث على ثلاثين رواية منسوبة لعشرة كتاب مرموقين، لهم حضورهم، في الساحة الأدبية وهم أعلام الرواية لا تتحدد شهرتهم في العراق بل في الوطن العربي وبعضهم تعدت إلى مناطق أخرى من العالم عن طريق ترجمة منجزهم إلى لغات عالمية ...
  ومع ذلك يطرح سؤال هل فعلا أن موضوع السلطة في الرواية يتحدد بهؤلاء العشرة؟
     لماذا لم يتطرق الباحث لأعلام أخرى مثل: جاسم المطير وعلى الأقل رواياته الثلاث:(زقاق الأقنان، تأملات سجان، وأنا عشيقة الوزير).
درس فاضل العزاوي وركز على رواية القلعة الخامسة وأهمل روايته (مدينة من رماد)، حيث كان دور السلطة السياسية فيها واضحا، وتفردت هذه الرواية في موضوعة صناعة الجلادين المدافعين عنها، عن طريق شخصية (قاسم حسن) معاون الأمن الذي تحول إلى جلاد وصار شخصية ازدواجية، يعذب من جهة ويبكي عندما يضرب صديق طفولته (جليل محمود). هذه الرواية تعطيك أنموذجا خاصا وهو اجتماع سلطتين في شخص واحد؛ جلاد السلطة وشخصية الإنسان المنتمي إلى جذوره الشعبية البسيطة وقوانينها الاجتماعية المتوارثة. كما لم يتناول روايات أخرى مثل: (هم أو يبقى الحب علامة) لمحيي الدين زنكنة، (وليمة لأعشاب البحر) حيدر حيدر، (الجنائن المفتوحة) لبرهان الخطيب الذي يتناول فيها استمرارية تسلط السلطة حتى بعد تغيير نظام الحكم المتخيل، وهنا يستشرف الروائي رحيل نظام صدام حسين قبل سقوطه من دون حل، حيث يزداد عدد اللاجئين الهاربين من العراق. و(صيادون في شارع ضيق) لجبرا إبراهيم جيرا(1). ويمكن تناول رواية (شرق المتوسط) لعبد الرحمن منيف وهي تتحدث عن ارهاب السلطة دون تحديد للمكان بشكل مباشر وهناك ايماءات كثيرة على أن أحداثها تدور في العراق علما أن الكاتب من أب سعودي وأم عراقية، اسقطت جنسيته السعودية وعاش في العراق وسوريا وولد في الأردن ولم يعش في السعودية طويلا، فحاله حال جبرا إبراهيم جبرا الفلسطيني الأصل.
 وبما ان موضوع السلطة متنوع ومتشعب فإن غالبية المنجز يمكن أن يفيد منه الباحث ومهمته تنحصر في اختيار الأفضل الذي يخدم موضوعه...
  وفي هذا المجال حدد الباحث زمن البحث: "وقد اكتفت محاولتنا هذه بملاحقة ودراسة التجربتين الروائيتين الخمسينية والستينية"(2) وهنا علينا التوقف لمعرفة مفهوم التجربة الروائية في عقد معين، وخاصة بمفهوم النقد الروائي بمعنى هل نحدد سمة هذا العقد بكمية النشر ونوعيته في تلك المدة أم بروايات كتبت بعد سنوات ولكنها تناولت في موضوعاتها تلك الحقبة أو ذلك العقد وعلى سبيل المثال رواية (النخلة والجيران) لغائب طعمة فرمان صدرت عام 1966ولكنها تناولت الواقع العراقي اجتماعيا وسياسيا في الخمسينيات.
وإذا كان الباحث مقتنعا بهذا المنهج لتسمية الحقبة الزمنية روائيا فان خياراته في مكانها، وإلا سيرى الناقد والقارئ في كتابه خللا كبيرا في طبيعة البحث، لأني تفحصت جميع الروايات كمصادر لدراسته فلم أجد رواية واحدة صدرت في الخمسينيات تناولها الباحث، وكان يمكن الإفادة من (ذنون أيوب): في روايتيه؛(الدكتور إبراهيم)، و(اليد والأرض والماء) وكذلك من (أدمون صبري): القصة الطويلة (سعيد أفندي) ولم أجد سوى ثلاث روايات صدرت في الستينيات: " (النخلة والجيران) لغائب طعمة فرمان  ولحقها برواية (خمسة أصوات) 1967، و(الظامئون) لعبد الرزاق المطلبي عام 1967. وتوزعت بقية الروايات على السبعينيات ست روايات، والثمانينيات عشر روايات، والتسعينيات خمس روايات، وبين 2000و2007 ست روايات. وكلها تناولت موضوع السلطة، وعدد منها تناولت السلطة بأنواعها في الخمسينيات والستينيات، ومن هنا أفضل عدم تحديد مدة زمنية في المقدمة ولذلك أرى أن عنوان الكتاب كان موفقا وينسجم تماما مع متن الكتاب ويحسب للباحث. لأنني لا أعتقد أن هذا الموضوع جرى تناوله بهذه السعة وهذا التخصص. فأغلب ما كتب هي اشارات عابرة في دراسات ومقالات نقدية كثيرة، ولكن ليس بهذه المنهجية.
    وجدت أن التمهيد كان ضروريا وإن أسهب الباحث وأطال لأنه تناول جوهر مفهوم السلطة ولذلك جاء العنوان مطابقا: (التشكل التاريخي للسلطة)، وتوقف عند التدرج في ظهور السطلة منذ ظهور الإنسان البدائي على الأرض وصراعه مع الطبيعة، لتجاوز سطلتها عليه وهذا تطلب منه العمل مع الأخرين من أبناء البشر وتميزه عن حياة الحيوان واستعان بتحليله هذا على فلسفة افلاطون التي تدعو إلى العمل الجمعي لمواجهة جبروت الطبيعة، وكتب الباحث عن المجتمع اللاطبقي حيث:" تسود فيه معتقدات فكرية هادفة إلى سبر أغوار الكون وكشف أسراره، معتمدة على خيال ساذج ومعقد"(3) وكان التوصيف غير دقيق لأن الكاتب لم يحدد زمن ظهور ذلك المجتمع في المرحلة المشاعية وهي الطور الأول من ظهور الحياة على الأرض...وهنا نقطة الخلاف مع الباحث، إذ لم تكن هنالك "معتقدات فكرية..." إنما كانت هناك مشاعر تعبر عن الخوف مما يحيط بالإنسان الضعيف أمام ما يصدر عن الطبيعة من أهوال وانفجارات وعواصف لا يفهم ذلك الكائن بما يحيط به، فكان يبحث عن تفسير أو منقذ لحياته ومن هنا ركز على معرفة الفاعل ليعبده أو يتذرع إليه عسى أن يحميه ومن هنا جاءت فكرة البحث عن الرب. ولذلك أختلف مع الباحث حين ذكر: " نشأ الدين كاقتران شبه شرطي مع الوجود الإنساني بشكل عام والنزعة الجماعية الفطرية بشكل خاص"(4) وهنا ينبغي القول أن الدين لم يظهر مع الوجود الإنساني الذي سبق ظهور الاديان جميعها الأرضية والسماوية. وأتفق تماما مع استنتاج الباحث العلمي والسديد وهو أن: "الدين يمكن أن يكون أداة تحقق السلطة من خلاله شرعيتها واستقرارها، وتستخدمه في صراعاتها السلطوية مع خصومها، مستغلة كل وسائله الطقوسية والعشائرية، بما في ذلك الخرافات في سبيل ضمان تثبيت شرعيتها ووجودها"(5).  
     وربما فات الباحث أن يذكر أن ظهور المعتقدات الدينية القديمة والحديثة هو بسبب عدم قدرة الإنسان على تفسير الظواهر الطبيعية وسلطتها في البدايات، والتي تعني خوف الإنسان منها دفعه لصنع آلهة يحتمي بها مما يحيط به من كوارث جبارة. وقد توصل الباحث إلى القناعة بضرورة الجماعية بدلا عن الفردية: " إن هذه الجماعة لم تكن تعترف بالفردية فالروح الجماعية هي الأس الذي تقوم عليه السلطة (المشكلة) ولا مدار للفردية في أفلاك هذه الكينونة"(6).
   وفي تقديري يصعب الحديث عن نشوء السلطة من دون المرور بكتاب (أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة) لفريدريك انجلس، ولا يجوز تجاوز أفضل من نظر لهذا الموضوع (نيكولاس بولانتزاس) في كتابه نظرية الدولة، وهو من المنظرين المتميزين فقد عرف السلطة: "بأنها علاقة قوى طبقية" وانطلاقا من هذه الأطروحة يمكن القول: "إن الصراع بين الطبقات الاجتماعية في المجتمع هو الإطار المرجعي، لمفهوم السلطة ويتعين  فهم علاقات القوة هذه، ليس بوصفها علاقات بسيطة، سطحية، انما هي علاقات مركبة من جهة وغير متكافئة من جهة أخرى وتحددها في نهاية المطاف القوة الاقتصادية ثالثا"(7) بينما يرى الباحث أن " السلطة الملكية قد عززت قناعات شعبها بحتمية الامتثال لأوامر هذه السلطة والانقياد لتشريعاتها وأحكامها عن قناعة تامة.  لأنها في جوهرها تمثل الآلهة نفسها، ومن ثم الدوران في فلك الدين"(8) ولم يحدد أي سلطة ملكية على الرغم من أنه ربط ذلك بالفكر العراقي القديم وبقيت الفكرة عائمة وبما أن الكتاب موضوعه الرواية العراقية وهي محددة السنوات أي من1921ولحين صدوره. كان ينبغي التركيز على هذه السنوات ولا بأس من التطرق لبداية نشوء السلطة وتركيبتها، وتوظيفها للدين. وكان للسلطة الملكية الهاشمية سبقا في هذا التوظيف ولاحظ استغلال تسمية (الهاشمية) ربطا مع توظيف الدين لبقائها. والواقع يشير إلى فشل كل المحاولات لهذا التوظيف من قبل الأنظمة وسلطاتها المتعاقبة. وهناك صفحات مضيئة للعراقيين وغيرهم في التعبير عن رفضهم لها بل قدم الكثير من الشهداء لهذا الغرض السامي.
   ومن الملاحظات المنهجية التي لم يركز عليها الباحث، هي الجوانب الفنية في رسم الشخصيات، وما وفرته من قناعات لدى المتلقي، لا سيما أن كتابه اعتمد بناء الشخصية في الرواية وأفرد لها الباب الأول بثلاثة فصول:(الشخصية المهزومة، والشخصية المنتمية، والشخصية المتمردة). وقد اعتمد الباحث على مصادر عراقية معتبرة في تحليله للشخصيات الروائية في الروايات المختارة، وقد توقف عند طبيعة الشخصية منذ ظهورها في العمل الروائي بدءا من أرسطو الذي جعل منها ثانوية بالقياس إلى عناصر العمل التخيلي أي خاضعة إلى مفهوم الحدث، ثم احتلت الشخصية في القرن التاسع عشر مكانا بارزا في الفن الروائي، وعندما تخلت الرواية عن فكرة القوة العظمى للشخصية، حيث أصبح صمويل بيكيت يغير اسم وشكل الشخصية في العمل الواحد، وفرانز كافكا يقف عند الحرف الواحد من اسم بطله، ويليام فوكنر يسمي عن عمد شخصين مختلفين باسم واحد. وجورج لوكاتش ويتبعه لوسيان كولدمان أكدا على العلاقة بين البطل وعالمه الخارجي، ثم جاء نورثروب بنظرية البطل والبطل المضاد، ليشكلا أطراف الصراع في الرواية. وبعدها جاءت تجربة ميخائيل باختين الذي جعل الأهمية لما يحيط بالشخصية من العوالم. وكذلك ما تمثله الشخصية ذاتها. والعلاقة بين الشخصية المتخيلة والواقعية.
     وكان يمكن التطرق إلى أنواع الشخصيات في القص ومنها المرجعية والأسطورية والمجازية والمتكررة والفردية، إلى جانب الرئيسة والثانوية، والمسطحة وغيرها. وليس من المهم التركيز على ما قاله الفلاسفة بطبيعة السلطات التي ظهرت مع ايماني بالكثير من النظريات العلمية وهي تشكل خلفية فكرية أساسية لكل انسان واع ناهيك عن الناقد والمحلل والمفكر فهي تساعده في معرض تحليل العوالم الروائية وقد ذكرت ذلك في تناولي للمنجز الروائي العراقي. ولذا أفضل أن يركز الباحث على ما ورد في النصوص الروائية ويستخرج منها طبيعة السلطة السائدة في زمن الرواية فمثلا يعد المؤجر (أي صاحب الدار) في رواية (آلام السيد معروف) سلطة على بطل الرواية السيد معروف فهو يمارس التهديدات المتكررة لإخلاء البيت، أم هي إحدى مظاهر غياب السلطة وعجزها عن تقديم خدمات للمواطنين. وهل هروب حسيبة من البيت تخلصا من سلطة العائلة الجائرة يعد شكلا من أشكال السلطة الاجتماعية. ولأن هذا السلوك أقض مضجع العائلة برمتها؟
   وهناك سلطة أخرى وجدناها في رواية (المرتجى والمؤجل) لغائب طعمة فرمان وهي سلطة المنفى التي يعاني منها المنفيون وسببها السلطة الأولى والغربة التي تذكرني بالشاعر رشدي العامل حين يخاطب ولده " يا ولدي لا ترحل فان سيف الغربة أقسى من سيف الجلادين".
   ويستعرض الباحث شخصية سعيد العائد من أسره بعد سنوات طويلة في رواية مهدي عيسى الصقر(بيت على نهر دجلة) فيظهر لنا عالمه المتفرد ومن جوانب؛ نفسية وخيالية، لا تقترب من الواقع، يجعلنا نستنتج أن هذا الرجل يعيش واقعا غريبا وحياته سجنا دائما وعن طريق الوصف لكثير من سلوكياته، يمكن القول: إن سلطة متخيلة تسيره وهو خال من الإرادة.
   ونقرأ في الصفحتين: 97- 98 إن سلطة الحروب والقمع تجر الناس بما فيهم الأطباء النفسانيين إلى سلطة أقوى وأظلم منها ألا وهي سلطة الخرافة والإيمان بما هو ليس واقعيا... وأرى أن هذا التشخيص من قبل الباحث جيد لكن به حاحة إلى تنظير أوسع لإيضاح هذه الظاهرة في الرواية والواقع.
   وفي تحليله لرواية الجسور الزجاجية لبرهان الخطيب، يستخدم الأسماء وما ترمز اليه، والتي لم تعد نافعة في القص الحديث، وجرى تجاوزها عند كثير من كتاب الرواية المبدعين، فليس بالضرورة أن تكون الشمس رمزا للثورة أو اسم (مزعل) للطبقة العاملة من دون أن يكون هناك معادل موضوعي لدلالة هذه الرمزية لكي يقتنع المتلقي بهذه التقنية.
   يحلل الباحث أدوار أبطال (خمسة أصوات) ويتوصل إلى نتيجة وهي " اقصاء دور البطولة الأحادية ... إذ تبدو أدوار البطولة فيها موزعة بين الشخصيات فلا مكان للصوت الواحد (البطل) الذي يمتلك المعرفة الكلية والرؤية المحددة التي تهيمن على النص ومن ثم على بقية الشخصيات..."(9) وفي هذا المجال لابد من القول أن غائب طعمة فرمان لم يرد أن يكون لهذه الرواية صوت بمعنى بطولة فردية لذلك أطلق عليها (خمسة أصوات) وجاء صوت الراوي في الموقع السادس من السرد. وذكره الباحث بتصرف في الهامش نقلا عن د. شجاع العاني: " إن رواية (خمسة أصوات) قد أخفقت في أن تقدم جديدا للرواية العربية والعلة في ذلك- كما يرى- هي كون أحداث الرواية – بشكل عام – تقع قبل التغيير لا بعده. كما أن شخصياتها جميعا تنتمي إلى شخصية اجتماعية واحدة متجانسة سياسيا وايديولوجيا، ولا تختلف عن بعضها كثيرا إلا في حدود الأمور الخاصة والذاتية"(10) وهذا يتناقض مع ما بدأه د. شجاع وتجاهله الكاتب حيث أشار إلى أن " الراوي في خمسة أصوات هو المتنوع، والرؤية موضوعية مع أن المؤلف سمى فصول روايته بأسماء أبطالها، وأفرد لكل شخصية أكثر من فصل مما جعل الرواية تحقق الالتحام في فصولها"(11). أتفق مع هذا التحليل لكني أختلف مع د. شجاع العاني لأني لا أعتقد أن حكم الحدث يختلف على أساس زمان وقوعه قبل أو بعد التغيير.
إن انتماء شخصيات الرواية الاجتماعي الطبقي واحد، لكنها غير متجانسة، لكل منها أسلوبه في الحياة والتفكير؛ فقد يتفقون على رفضهم للواقع السياسي لكن كلا يعبر عن هذا الموقف بطريقة مغايرة تماما. وقد نجح الباحث د. أحمد الددة في توصيف كل شخصية من هذه الشخصيات الخمس؛ شريف، حميد، إبراهيم، سعيد وعبد الخالق.
 وتناول الباحث محنة المثقف والأديب أمام حركات التسييس في تلك المرحلة، وهي جزء من الاضطهاد الفكري، فلم يكن المثقف تابعا في فترة الخمسينيات بل كان معارضا، وكان التعبير عن معارضته مختلفا سلبا وايجابا...
   ويعتمد الباحث نصا أخذه من كتاب (صورة البطل في الرواية العراقية) ولم أجد هذا المصدر في قائمة مصادر ومراجع كتابه، والنص يؤكد على دور السلطة في بناء شخصية عزيز محمود بطل رواية (القلعة الخامسة) لفاضل العزاوي وإن ما ورد: " شكلت السلطة السياسية قوة فاعلة استطاعت الاشتراك في بلورة وتكوين الوعي السياسي عند بطل الرواية (عزيز محمود)..." ولم يحلل الباحث هذا الموقف الذي تبناه مما أثار الاستغراب لاننا نأرى أن السلطة كانت قامعة على الاطلاق للجميع، وما حصل له من تغيير كان بفضل السجناء السياسيين، فعلى يدهم تعلم أشياء كثيرة ساهمت بإعادة بناء شخصيته الغارقة في المجون والضياع إلى شخصية واعية رافضة للواقع وللسلطة المسؤولة عن كل أنواع التردي.
   وفي الباب الثاني يتناول الباحث (الذكورة والأنوثة) كسلطة مع تبادل الأدوار وركز على السلطة الأبوية المستمدة سلطتها من المقدس الديني، في فصله الأول وعلى الايديولوجيا والمرجعيات ووجد نماذج لشخصيات في روايات غائب طعمة فرمان يمثلون هذه الفكرة ويعدها "نماذج اجرائية تعالج مسألة المرجعية الأبوية التي تحكم أو تتحكم في الفعل الإنساني"(12) ولكن الباحث وقع في بعض الأخطاء في تشخيص طبيعة الشخصيات في الواقع الروائي فلم يكن عمران اقطاعيا  لأنه لا يمتلك أرضا بل مستأجرا لأرض تعود ملكيتها لـ (نشمية) ولم يكن (حسين) زوجاً غير شرعي لـ (تماضر) بل هو عشيق لها على وفق ثقافتنا الاجتماعية.
    يضع الباحث المسؤولية الكبرى على (حميد) الذي أهمل زوجته (حليمة) وابنته (هناء) التي فقدها مبكرا. ولكن المتلقي النابه سيجد حميد ضحية السلطة الأبوية التي فرضت عليه الزواج من دون رغبته، لذا لم يستسلم للأمر الواقع فهجر البيت وراح يلهو مع امرأة أخرى... إذن نحن أمام ضحيتين والثالثة الطفلة مما يجعلنا الواقع أن نتعاطف مع الضحايا في رواية (خمسة أصوات).
اما الفصل الثالث فقد جاء تحت عنوان: (السلطة الانثوية بين الاحتجاج والتمرد) وكرسه للدفاع عن المرأة المسلوبة السلطة بسبب السلطة الأبوية والسلطة الذكورية اللتان وردتا في الفصلين من هذا الباب واللتان تعيشان في محنة من التسلط والتراجع في مسيرتهما مما جعلهما تسعيان لاستعادة:لاستعادة "هويتهما الضائعة، وتحقق كينونتهما التي سحقت خصوصيتهما عوامل الاستبداد الأبوي والذكوري"(13) وفي هذا المجال يبدأ بتوطئة نظرية يشير فيها إلى نضالها من أجل ايجاد أنساق ثقافية جديدة، لتكوين " عوامل منتجة لخطاب معارض أو ثقافة مضادة تتبناها الأنثى لتواجه بها استراتيجيات المصادرة والتهميش والاختزال"(14).  
    وانتقل إلى التطبيق والبدء برواية (القربان) مسلطا الضوء على شخصية (حامدة) الحقوقية والمدافعة عن المرأة على الرغم من صغر حجمها في النص الروائي إلا أنها كانت مؤثرة واعية لدورها وتأثيره في الواقع. وتناول شخصيات أخرى مثل حسيبة في (ظلال على النافذة) والتي شكلت مركزا معارضا لتسلط الأبوية والذكورية وعبرت عن ذلك بهروبها من البيت.
       ويأخذ أنموذج (سهام) من رواية (المركب) لغائب طعمة فرمان بوصفها " شخصية قوية تفرض سطوتها على الآخرين عبر ما تطرحه من آراء وأفكار حول المجتمع وآراء الناس"(15) تعبت (سهام) لكنها ظلت قوية على الرغم من تحالف المؤسسة التي تعمل بها، مع الجانب الاجتماعي (الأبوية والذكورية) وجرى استخدام كل أساليب التشويه فأشيع تعرضها لعملية اغتصاب، للحط من سمعتها، بينما نفت هذه التهمة.
   وتناول الباحث (رجاء) شخصية أخرى شغلت بطولة رواية (امرأة الغائب) لمهدي عيسى الصقر وهي أيضا من الشخصيات الصامدة والرافضة لكل مذلة متمسكة بأمل عودة زوجها من الأسر.
   وحاول فؤاد التكرلي في روايته (الرجع البعيد) جعل بطلتها (منيرة) قوة في السرد، بحيث لا يمكن معرفة أبطالها إلا عن طريق علاقتهم بها. وقصة منيرة ليست غريبة فقد تعرضت فعلا للاغتصاب من قبل ابن خالتها، وأخفت ذلك عن حبيبها (مدحت) ولم يعرف الحقيقة إلا يوم الزواج، فحاول الهرب منها، لكنه مات أثناء عودته إليها، وهي صدفة غير مقنعة في السرد الروائي الحديث، وهنا حاول التكرلي أن يطرح بديلا للمرأة المثقفة المتخطية للقناعات الزائفة التي يسير خلفها المجتمع كما يراها الراوي. وأظن أنه لم ينجح في مسعاه، فأعاد المحاولة في روايته (خاتم الرمل) فسلط الضوء على الأم (سناء) وجعل لها حضورا دائما حتى بعد رحيلها. ولكن تأثيرها يظل مؤثراً على سلوك وحياة ولدها (هاشم) الذي أسهب د. أحمد في متابعة حياته لدرجة أن المتلقي قد يظن أن الباحث قد خرج عن الموضوع الرئيس وهو السطلة الانثوية في الرواية العراقية. وتتكرر الحالة في رواية (المسرات والأوجاع) لفؤاد التكرلي حيث يركز الروائي على الشخصية الرئيسة (توفيق) ويربط ذلك في دور النساء بحياته.
    ثم يتناول شخصية (ياسمين فوزي) في رواية (الأنهار) لعبد الرحمن مجيد الربيعي، المتعددة المواهب والمثقفة ويعدها أنموذجا مغايرا في توصيف السلطة الأنثوية.
 وينتقل إلى رواية (الخراب الجميل) لأحمد خلف ليكشف عن بدايات تحرر المرأة وتوجهها للعمل وعن طريق بطلة الرواية (خيرية) التي تقرر أن تعمل في معمل للخياطة، وأخيرا يقتنع محمود ولكنه يبقى عاجزا عن مفاتحة والديه الرافضين لعمل (الكنة). ومن جهة أخرى نجد العلاقة بين (ليلى ومحمود) غير متكافئة لأن (ليلى) أكثر تأثيرا على الشخصيات الأخرى، بينما (محمود) يعيش مع جملة من المتناقضات الفكرية والنفسية وليس لديه موقف، وتظهر شخصية (مها) التي تقترب من (ليلى) فهي قوية في رأيها ومواقفها ولها جرأة في تثبيت أفكارها والدفاع عنها. ويعبر محمود عن ضعفه إزاءها: " إنني أختلق فرصا ذهبية للحديث معها، ومع هذا، أجد نفسي في حالة من الخيبة والمرارة عند بدء الحديث"(16).
   وينحاز الباحث إلى شخصية (ساهرة) بطلة رواية (موت الأب) لأحمد خلف، لأنها تقف بالضد من السلطة الأبوية الذكورية بقوة.
    وأخيرا إن اختيارات الباحث لنماذج المرأة في الروايات العراقية التي ذكرناها ليست كلها تستحق أن تمثل سلطة الأنوثة على الرغم من أنها ثارت ضد السلطة الأبوية والذكورية فيما نجد ضرورة حذف مصطلح (الأبوية) من العنوان الرئيس ودمجها بكلمة (الذكورية) لأنها جزء من هذا المصطلح.
وفي خاتمة الكتاب يخرج الباحث بمجموعة من النتائج المهمة في بحثه وهنا نشاركه الرأي بأن اعطاء تصور نهائي لتشكيل السلطة الأولى ليست عملية سهلة ولكنه نجح في اعطاء تصور استنادا لبعض المقولات المعرفية والفلسفية ونختلف معه في أن مفهوم السلطة في الفكر العربي ارتبط بمفهوم نظام العلاقة الولائية أو على الأقل أنه غير وارد في الواقع، ونتفق معه في أن مفهومها في الفكر الغربي متطور وجديد ومساير لطبيعة المجتمع الحركية... ونرى كما يرى الباحث: ليس هناك ثوابت اجتماعية قارة وانما كل المفاهيم في حركة صراع مستمر مع الواقع، وتتطور بتطور المجتمعات، ونحن معه في كثير من الاستنتاجات ومنها المرجعية الفحولية والمرتبطة بمخيال ذكوري، وما تنتجه من سلوكيات، تمثل ثقافة قمعية خلقت مجتمعات هشة.
   ولعل أبرز نتيجة توصل إليها الباحث؛ هي قضية تطويع المرأة واخضاعها للمقررات الذكورية التي تؤكد اقصاءها وتهميشها في المجتمع(17). إلى جانب الخطاب المعارض الذي تبنته الأنثى في مقاومتها للتهميش والاختزال ومع دعوة الباحث المخلصة للمرأة بالانشغال بعملية فهم جنس الذكر وتقويض فعله الاستغلالي والنجاح في خلق ثقافة جديدة خاصة قادرة على استيعاب النسق المهيمن وتفكيك أركانه. 
 
 الهوامش :
  1.  جبرا إبراهيم جبرا ، على الرغم من أنه من أصل فلسطيني ، إلا أنه ترعرع في العراق وذكر اسمه في موسوعة أعلام العراق.
  2.  أحمد رشيد الددة ، السلطة في الرواية العراقية، ط 1، بغداد ، 2013، من اصدارات مشروع بغداد عاصمة، الثقافة العربية 2013. وزارة الثقافة العراقية: ص 6
  3.  أحمد رشيد الددة، م. ن ، ص 11
  4.  أحمد رشيد الددة، م. ن ، ص 12
  5.  أحمد رشيد الددة، م. ن ، ص 12
  6.  أحمد رشيد الددة، م. ن ، ص 13
  7.  صالح ياسر ، المجلة الأكاديمية العربية المفتوحة  في الدنمارك، العدد الثاني، سنة 2007.
  8.  أحمد رشيد الددة، م. ن ، ص 15
  9.  أحمد رشيد الددة، م. ن ، ص175
  10.  أحمد رشيد الددة، م. ن صص: 175- 176
  11.  شجاع مسلم العاني، في أدبنا القصصي المعاصر ، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد 1989: 32
  12. أحمد رشيد الددة . م. ن: 209
  13. أحمد رشيد الددة، م. ن ، ص: 284
  14. أحمد رشيد الددة، م. ن ، ص: 284
  15. أحمد رشيد الددة، م. ن ، ص:  294
  16. د. أحمد رشيد الددة، م. ن ، ص:  322
  17. أنظر د. أحمد رشيد الددة، م. ن:  230