آذار/مارس 28
                                                                                                        
كيف نقرأ الشعر؟
قراءة في ضوء كتابي "الأب بالتبني" ..................... للشاعر أجود مجبل
 
المَعاطِش                                                            
 وجهٌ مِنَ المِرآةِ
يَخرُجُ باحثًا عنّي
ولا أحَدٌ هُنا لِيَدُلَّهُ
فيعودُ مُختنِقًا بِيُوتوبيا الخُرافيينَ
والقُطعانُ تَمشي حَولَهُ
ما عادَ مَعنِيًّا بِما قالَ الرواةُ ،
فَقَطْ يُحاوِلُ أنْ يُطَمْئنَ نَخلَهُ
جابَ المَعاطِشَ والحروبَ
وشاهدَ الأنهارَ وهيَ تموتُ حُزنًا قَبْلَهُ
ورأى لهُ في المِيثولوجيا
أصدقاءَ بِطَعمِ آلِهَةٍ أرِيقُوا مِثْلَهُ
يَتداوَلُونَ الليلَ فيما بينَهُم
والبَرقُ فيهِمْ لا يُغَيِّرُ شَكْلَهُ
 

1. المقدمة: العنونة المركبة

إبتداءً من عنوان القصيدة "المعاطش"، يموضع الشاعر أجود مجبل، القصيدة في جدلية الماء وظمأ الأرض، أي العلاقة بين الماء والنار. تعني "المعاطش: مواقيت الظمأ، والأرضون التي لاماء بها"(1) "قاموس العين". ولايتم ظمأ الأرض إلا بالنار. وللوهلة الأولى يجسد عنوان  القصيدة الصراع بين عنصرين من عناصر الطبيعة هما؛ الماء والنار. وعلى الرغم من عدم ذكر النار في العنوان، إلا أن وجودها يشكل ظاهرة كونية، وإذا كان الماء حاضرًا بفعل الظمأ، فثمة أشكال أخرى لحضور النار في القصيدة وباشكال مختلفة منها: الخرافة، اليوتوبيا، الحروب، القتل، الجفاف، وعطش النخيل... وعندما لا يكون ثمة ماء  بفعل النار في حياتنا اليومية، تجف عجائن العلاقات الاجتماعية، العلاقات التي تشكل جوهر افعالنا ومصادر وجودنا. جدلية مركبة من عنصرين أساسيين، تمنح النَّص قوة دلائلية، الأولى: غياب عجائن الحياة اليومية، والثانية هيمنة قوى النار"الظمأ" فـ "العجين بنية من البنى الأساسية للمادية، الحميمية "(2). إن تعطيل عجائن الطبيعة بفعل النار/الظمأ، تعطيل للخيال المادي للأشياء أيضًا، وحين تكون البداية استدعاء للمرايا، للكشف، تتسع العلاقة لاحقًا بين الماء والتراب "الانثروبولوجيا"، بين الأرض وانتاجها "البايولوجيا"، بين الفعل والخرافة" الميثولوجيا" بين الأنا والأخر، "السوسيولوجيا"، وبين الإنسان والسماء،"الأديان والأسطورة". وهكذا، لايبدأ العنوان إلا من الطبيعة، مشكلًا موضوعًا يشمل جدل الطبيعة وجدل المجتمع. هذا بالمجمل ما يحدث عندما يشكل الظمأ أديولوجيا العلاقة  المشوهة بين الأرض(البشر) والسماء (الآلهة).  وفي أوّل سطر يضعنا الشاعر في حمأة الصراعات المادية والروحية للطبيعة، وقد تلبست خيالات شعرية؛ "الآخر والمرايا". لا يبدأ الشعر الحديث من الذات ومشكلاتها الآنية، ولا من التجارب الخاصة،ولا من اية أغراض، بل يبدأ من الطبيعة في صيغة الخطاب مع الآخر المختبئ في مراياها، أي مما تفعله العناصر بعضها ببعض، ثم يتحرر الخطاب منها، ليشمل قضايا الإنسان والكائنات الحية. هذه الجدلية المعولمة تستبطنها الشعرية الحديثة متخلية عن أنا الشاعر، وعن ذاته، وعواطفه ورغباته ومواقفه، وعن تاريخة، وسيرته الذاتية. وتذهب إلى "الموضوع" الذي يعبّر عن علاقة الإنسان مع الطبيعة، حينئذ تجد صورة أخرى لشعرية العناصر، وقد استوعب مشكلات حياتنا اليومية أيضًا. فالمعاطش أفعال الجدب، وفي الوقت نفسه إشارة لتخلي قوى السماء عن الأرض. لذا تكون الشعرية سؤال في الوجود، وليست حكايات عن الوجود.
 
2. الاستهلال
تبدأ القصيدة باستهلال غامض، مبهم، غرائبي، فنتازي، ومجهول. وهو من أفضل الاستهلالات التي تتشكّل منها المخيلة الشعرية الحديثة:
وجهٌ مِنَ المِرآةِ
يَخرُجُ باحثًا عنّي.
استهلال حركي، سريالي، سيمضي معنا هذا "الوجه" في تضاعيف القصيدة المكثفة، مغيرًا من مسارها وراسمًا خارطة طريق لصورها، هكذا يكون الاستهلال "ما من شيء يحدث في النَّص إلا وله نواة في الاستهلال"(3).  صيغة للبحث عن المبني للمجهول "الماء"، فيظهر في صور عديدة: تارة إشارة سرابية هنا، أو برقًا  هناك، أو ضميرًا  لحائك الكلام، ثم يختفي ليسمى في أخر القصيدة  كـ" أحد أصدقاء الآلهة". فالآخر صورة للماء ساعيًا لتحطيم اسطورة النار. لذلك لا تقف القصيدة عند عتبات استهلال المعاطش الطبيعة فقط، بل تذهب لاستحضار التناقضات والتعارضات الاجتماعية، التي تولدها العلاقة بين الماء والنار، التراب والهواء،  أ الواقع والميثولوجيا، الإنسان والآلهة. دون الماء، الذي، كما تقول الخيمياء يسود الاعوجاج حياتنا، فالماء ثقافة"يعدل العناصر الأخرى"(4). ودون الماء لا تُخلق عجينة الحياة كما يشير نيتشة وباشلار. أن سيطرة النار"المعاطش" يعني غياب لروح العجائن الحميمية: غياب الصناعة، الزراعة، الأسرة، الطبخ، القوت، التبادل، الاتصالات، السوق، البضاعة، التجارة، العلوم، الثقافة، الأسرة.. إلخ.  هذا الغياب الشامل يشكل جوهر تناقضات النار والماء، فالحرارة ديمومة الحركة. هكذا تحدث فاوست غوته عن دور الأمواج في تحديث  ألمانيا القرن التاسع عشر.. فالمرايا التي تعد مخزنا لأحداث الأزمنة ، تتكفل بأن ترينا وجها آخر للراوي، وقد اختنق  بيوتوبيا الخرافة، حين قلبت الخرافة الحقائق إلى أوهام، وصلوات استسقاء، وتعازٍ. إن البحث عن أسباب المعاطش، لا تكمن في ظاهرة شح الماء فقط، بل، في شح البعد الاجتماعي والاقتصادي والنفسي والسياسي، وهو ما يجعل الظمأ فعلًا سياسيًا،  وحين تتحول الحياة إلى كتلة نارية وأسلحة فكرية، وأحلام عن يوتوبيا الخرافة الميتة، تكون ثقافة الغاب قد هيمنت. هذه ميزة شعرية الحداثة، تنطلق أوّلًا من الطبيعة، ثم تتحرر منها  بفعل العلاقات الاجتماعية والدينامية؛  لتشمل النفس والاقتصاد والفلسفة والعلوم، إلخ، ثم ترسم صورة  جدلية لمستقبل العلاقة بين عناصر الأرض، والإنسان. هذه الجدلية  العجائنية للشعرية متأصلة في مكونات العلاقة مع الطبيعة؛ وواحدة من المهيمنات الفكرية الكبرى للحداثة وهي تنتقل من الإيقاع التنظيمي إلى التبادل المعرفي. فالمعاطش شكل من أشكال قوى الشر، كل الحكايات تبدأ من السلب،(انعدام الماء) من تلك النقطة التي تصل الحال فيها إلى الموت، في هذا المفصل الاستهلالي يولد التناقض، الشعرية ليست كتابة قصائد حديثة عن تحولات الإنسان في الطبيعة، أو تحولات الطبيعة في الإنسان، إنمّا هي طريقة للبحث عن الكيفية التي يكون الإنسان فيها مندمجًا مع عناصره الطبيعية، فأول الفكرة البنائية للشعرية الحديثة أن يكون استهلالها غامضًا، غريبًا، وعصيًا على التشكل بهيئة معلنة، انه الآخر؛ الطيف، والنبوءة، والخاطر.: "وجهة يخرج من المرآة" والمرأة تكوين وسطي، يجمع بين الأشكال عبر الأزمنة، وكأنها مدونة لا يمكن تقليب صفحاتها إلا بالنار، كي يكون قصديرها عاكسًا.- هكذا يحدثنا الروائي عبد الخالق الركابي في روايته "ما لم تمسسه النار"،  عن الشعرية الباحثة في الأوراق غير المحترقة، في تلك البقايا التي تشكل مرآة مجلوّة مفتتة وممزقة، لا استقرار في الرؤية الواقعية للأشياء، فالرؤية المتصالحة ليست شعرية، عندما يستعيد الشاعر دور الطبيعة التقليدي، يستعيد في الوقت نفسه أفعال العناصر القديمة فيها، شواخص للذاكرة، كيانات تتحرك عكس اتجاهاتها، زلازل، براكين، عواصف، أ مطار، خرافات، يوتوبيات،  حروب، أوبئة ، تأملات ذاتية.
جابَ المَعاطِشَ والحروبَ
وشاهدَ الأنهارَ وهيَ تموتُ حُزنًا قَبْلَهُ.
 
3. البؤرة المُولِدة
فبعد التحليق في يوتوبيا المرايا والبحث عن الآخر، نجد أ "بؤرة الشعرية "، في القصيدة هي المرآة، بؤرة رحمية تكمن فيها عجائن الحياة اليومية: غرينًا طينيًا مختمرًا، نورأ صناعيًا، ماءً يرينا انعكاس الأشياء، ونارًا تلحم العناصر، المرآة البؤرة طميّ الكائنات المختفية. ولا أحد يسأل من أين أتت المرآة؟ فهي ليست كيانًا اجتماعيًا يمكن صناعته، ولا هي بضاعة تشترى، إنمّا هي محمول لصور الطبيعة، تختزن مآسي الرافدين، هي ذلك التكوين الرحمي الذي اختلطت فيه كل العناصر، فكونت"المعاطش" البؤرة التي ستولد كما يقول ريفاتير"سلسلة من المتغيرات المتزايدة الطول والتي تؤثر تدريجيًا في الخيال البصري"(5).
ورأى لهُ في المِيثولوجيا
أصدقاءَ بِطَعمِ آلِهَةٍ أرِيقُوا مِثْلَهُ.
  عندئذ نكون قد فتحنا الرؤية النقدية على "العجائن" والعجين على وفق رؤية باشلار، يمتلك طاقة الحضور والتشكل؛ أما بفعل اليد، (النحات)، أو بفعل العناصر الطبيعية (التشكيلات الطبيعية للرموز) أو بفعل الصور(الشاعر). لذا تكون المرآة مخزنا لحال الاجتماعية التي تخزن خمائر الأزمنة والأمكنة ليخرج "المنتظر"،"كلكامش"، "عوليس"، "اليعازر"أو "غودو". فهؤلاء لا يحضرون إلا عندما يجف الضرع، وتسود النار. ويموت نصف العالم، هذا شأن "المرآة" التي ستكون محتفظة بميثولوجيا الأفول، تلك التي خربت "الأشكال الباطنية (للعناصر)، تمهيدًا لقبول أشكال خارجية "كما يقول أفلاطون(6). وتلك التي ولدت واستقرت أو تلك التي ستولد لاحقًا. فـ"الأكثر تعقيدًا ينشأ من الأكثر بساطة"(7).
لا تحتاج البؤرة الرحمية للقصيدة إلى ضوء، ضوئها في ظلمتها، وهذا شأن الشعرية كطريقة تهب الحياة "للفرص التي لم تتحقق "، أي الكشف عن النور الكامن في الظلام. ونجدها هنا ليست مرآة قصدير كما يتوهم القارئ، إنمّا هي  مرآة كهفية، بنية رحمية، و بئر زمني، و كوة  في مغارة ،اوكهف أفلاطوني، أو تلك البداية قبل أن يستوي العالم على نور. وللوهلة الأولى نتبين أن هذه المرآة هي الأرض، هي الطبيعة وموضوع التوليد والانجاب. فالأمومية للمرآة البؤرية هي شعرية القصيدة.
ليست المعطاش التي تكشفها المرآة البؤرة خلو الأرض من الماء فقط، إنمّا  هي، ما يحدثه غياب العجين وافعال اليد كما يشير باشلار إلى ذلك، من تعطيل أو كما يريد نيتشه، حين يتحدث عن بوذا ذي المليون يد. يتحدث باشلار في شاعرية أحلام اليقطة ان علينا "استرداد الخرافي، ويجب ان نساهم في وجوده"(8) فهو ليس قرين مرحلة دون أخرى، ها هو يعيش بيننا وقد تسلح بالخرافة المعاصرة، ففي الأشياء ثمة ما لايدرك كنهه، وهو ان الكتابة ليست إلا تراتيل أوهام(9).
  قطعانُ تَمشي...
ما عادَ مَعنِيًّا بِما قالَ الرواةُ
 فَقَطْ يُحاوِلُ أنْ يُطَمْئنَ نَخلَهُ"
 
4. الأب الموضوعي الطبيعي، للمعاطش.
لكل نص، مهما كان نوعه، ثلاثة آباء:
الاب الموضوعي الطبيعي.
الأب الموضوعي الدينامي.
الأب الموضوعي،الموضوعي: الأب بالتبني.
لا يشترط الشكل الحياتي للوجود أن يكون متعلقًا بالإنسان وحده، أو بأشيائه اليومية او بقضاياه، بل، يتعلق بمن يماثله، وبمن يجعل منه امتدادًا له، ولذلك، مهيمنات طبيعة الشكل فله ما يماثله، ليس في السماء كما تدعي المثالية الأفلاطونية، إنما في التشكيلات الحياتية. فالأب الموضوعي للقصيدة. هو الأرض- الأنثى في جدبها وفي اخصابها، في أنثويتها وفي خنثويتها، وهو الموضوع  الطبيعي الذي يباشرنا يوميًا، كعلاقة الأشياء بالماء،والنار،والهواء، والتراب، " وخلقنا من الماء كل شيء حي"، فالشكل الفني للشعرية لا يبنى مسبقًا، بل يتشكل من خلال أفعال العناصر الطبيعية. والقصيدة التي تتحدث عن الجدب، عن الجفاف، عن علاقة الروحي المشوهة بالمادي، عن موضوع الظمأ الكوني، عن الميثولوجيا، عن موت الذاكرة والتربة والأشجار، وعن شح المطر والينبوع، وعن مفاوز استجلبت الحروب. عن السماء بلا مطر، وأنهار الأعماق اليابسة، وعن الحروب التي أتت على أخضر العراق، والموت للأحياء وعطش النخل، كل هذه الأشكال حالات  اختلال العلاقة بين الأرض والسماء، بين (الأسفل والأعلى/ الآلهة والبشر)كما هو اختلال للتوازن بين الأرض وأعماقها، (الحياتي والمقدس/ الحاضروالماضي) وعبثًا تكون صلاة الاستسقاء حلًا للظمأ. وعندما يكون الموضوع الطبيعي بهذا الجفاف الكوني؛ تتعطل الحياة: لا زراعة، ولاصناعة، ولا اجتماع، ولا حب، ولا ألعاب، ولا قوت ولا أمان، وإذا ما تغلغلنا في طاهرة أفول الماء، نجد أننا أمام ظاهرة كونية كبرى؛ قد تؤدي إلى انعدام الحياة على كوكب الأرض، فالمعاطش ليس فعلًا أحاديًا، ولا مفردة قاموسية، بل هي معادلات رياضية كونية، أبدًا ولن تكون عقوبة سماوية للبشر، بل هي تعطيل لأنثوية الأرض . أن الأب الموضوعي للقصيدة،  الذي هو الطبيعة، ليس أبًا مؤقتًا أو ظرفيًا، بل هو  قِدرُ عجينة الحياة اليومية، ومطبخها.
وإذا اضفنا لموضوع "العطش" الطبيعي، تاريخ تقلبات مناخ الأرض، ومرورها بعصور حجرية، وجليدية، وبرونزية، وحديدية، وترابية، إلخ، نجد أن العطش يرافق مسيرتها، وإذا ما أضفنا ما يحكى عن علاقة كوكب الأرض بحركة الشمس وتـاثيرات هذه الحركة على المناخ، وغياب الضوء والحرارة، نجد أنفسنا أمام مجلدات من المدونات الروحية والمادية التي تتحدث عن هذه العلاقة، التي تزخر الكتب والعلوم بها. هذه الأبوة الطبيعية للنار/العطش، تلقي بأبنائها للحياة دون ان ترفقهم بأي غطاء، ولكن من خلال التفاعل الأجتماعي والروحي والعلمي يوّلد الإنسان آلية السيطرة على الطبيعة، عندئذ تكون القصيدة قد اكتشفت طريقًا آخر للعلاقة مع الطبيعة غيرالميتافيزيقيا وافعال الأقدار المبهمة التي تسكن الرياح والزلازل والأمطار والأوبئة والحروب. فللطبيعة مؤسساتها الخيالية التي تؤكد دورها. سيبقى العنصر الميثولوجي مرتبطًا بإفعال الطبيعة وهي تنتقل من الميتافيزيقا إلى العلم التجريبي، وقد واكبت الفلسفة هذا التحول، ورصدها التراجيديا واعمال الفن، ولذلك تعد الطبيعية أُبوةً شاملة لكل الأفعال، بما فيها خيالات الشعراء والامراء والملوك والسحرة.
على المستوى الشعري تمهد الأبوة الطبيعية للموضوع مجالًا للتغلغل في المجهول، خاصة إذا كان موضوعًا كونيًا، وهو ما تحقق في الكوميديا الإلهية، لدانتي، وفي قصص وحكايات اج جي ويلز، ومن قبل في الفردوس المفقود، لملتون،وفي جمهورية افلاطون، وفي رسالة الغفران  لابي العلاء  المعري، و في كليلة ودمنة لابن المقفع،والف ليلة وليلة. وإلى اليوم لايكون تفكير بالموضوع دون استحضار جذوره الميثولوجية. إلا أن المشكل الأساس أن هذه الابوة الطبيعية لا تعطي القصيدة شكلًا خاصًا بها أول الأمر، بل تدمج الشعرية في سياقات ميثولوجية واسطورية وحياتية، مكونة عجينة الاختلاطات الشكلية، حيث يضيع فيها الشكل  المحدد على حساب المحتوى الكوني. فلا تسمة الكوميديا الإلهية ولا رسالة الغفران ولا الفردوس المفقد ولا رخلات اج جي ويلز، قصصا او تلاجيديا او ملاحم او اشعار،  فالأبوة الطبيعية للشعرية يبعد عنها أي انتماء لشكل  محدد.
 
5- الأب الموضوعي الدينامي
فلم يعد العطش بنية قائمة بذاتها، حين أصبح للفعل الإنسان دور في السيطرة على الطبيعة، وهو ما اتسمت به العلوم وأفكار التنوير والحداثة والثقافة. لتشكل أبوة ثانية لموضوع الماء والنار؛ وهو الموضوع الدينامي، فنجد "المعطاش" يتحول من اللغة إلى الأداة، ومن الفعل المجرد إلى الفعل المادي، ومن الأفكار إلى الممارسة،وهذه الأبوة الفعلية  التي ستحول القصيدة إلى أسئلة وبحث، وأول ما يشّد عصبها هو البحث في جدوى الميثولوجيا والمدونات القديمة في حياتنا اليومية، ثم يصار البحث  لاحقًا في عجائن الحياة الاجتماعية والاقتصادية والفلسفية. هذه الدينامية وحدها تنقل القصيدة من الأبوة الطبيعية الإيجابية، إلى الابوة الدينامية السلبية، من الأبوة الصيانية إلى الأبوة التدمير، من التجريد إلى المعرفة، من المشاعية إلى ابوة العمل والتجربة والعلاقات والإنتاج المادي والفلسفي. ومن هنا تبدأ الشعرية باتساع ميدانها عندما تجد نفسها في أفق المعرفة الإنسانية وليس في تلك التصورات الميتافيزيقية  للوعي. ومع هذا التحول الجذري في اللاوعي المعرفي للثقافة لن يكون السطح اليومي الاجتماعي  للصور الشعرية- قادرًا أن يمنح الشاعر أفقًا جديدًا للمعرفة، فسطح الحياة اليومي عرضة للاختراق. والشعرية جزء من علاقة الذات بالموضوع . "فالذات عند ماركس مثلا هي الإنسان الاجتماعي، او الفرد في صلاته الحقيقية والطبقات والمجتمع إجمالًا، و"الموضوع" هو جملة الأشياء المحسوسة والمنتجات والأعمال بما فيها التقنيات والاديولوجيات والمؤسسات والمؤلفات الفنية والثقافية، ثمة علاقة مزدوجة بين الإنسان وما ينشأ  عنه من أعمال، فما من فعالية بغير موضوع تعطيه شكلًا،"(10) تلك التي تضع الخيال في متناول اللغة..فصناعة مخيلة مادية لتغذية النخل والحيوان والإنسان، وتديم الهيمنة البشرية على الطبيعة، تتطلب السيطرة على طرائق الوعي الاجتماعي ممتزجًا بالرغبات الذاتية،"أن اللاوعي الأكثر عمقًا هو في حقيقة أمرة خنثوي"(11)، فالأرض وأفعالها، الأرض وما يفعل بها، تنتج تكوينات خنثوية، وهو ما يولد دينامية متفاعلة، فالجنس الأحادي صياني، بينما الجنس الخنثوي، تدميري. فعندما  تلد الطبيعة وتنضّج الثمار بذاتها، تكون قد وِلِدت.  هكذا يكون وضع مخيلة الماء في حضوره وفي غيابه. شعرية لطبيعة حجرية يحولها إلى طبيعة عجائنية. وعندما لا نجد حلًا لمشكلاتنا، لا نركن ذاكرتنا إلى الميثولوجيا والتراث، بل إلى المادة السلب، في أحلام اليقظة الشعرية، في العلم والتجربة. إن معاودة الحياة ليست أن نتنفس ونحن نيام، إنمّا، هي الوقوف الدائم الذي يوصل إنسان الأرض بألهة السماء، هكذا تنشط المخيلة الدينامية للقصيدة.
ما عادَ مَعنِيًّا بِما قالَ الرواةُ ،
فَقَطْ يُحاوِلُ أنْ يُطَمْئنَ نَخلَهُ
إن عودة القصيدة لميثولوجيا الحياة اليومية ، خطوة في تأكيد الكلام الشفاهي،  وهو ما تبدأ به القصيدة بعد استهلالها،
" ورأى لهُ في المِيثولوجيا
أصدقاءَ بِطَعمِ آلِهَةٍ أرِيقُوا مِثْلَهُ"
. هذه العودة تحول الشعرية من  الابوة الطبيعية الساكنة التي كان
 " مُختنِقًا بِيُوتوبيا الخُرافيينَ،
والقُطعانُ تَمشي حَولَهُ،
 ليست الدينامية روحية بحت ولا مادية بحث ، إنمّا هي مزيج ثقافي حسب ما يفكر الناس به. فالروحي يعيدنا إلى علاقة الإنسان مع الآلهة، تراجيديا "المعطاش" أي القدرية الطبيعية، بينما تعيدنا تطورات المادة الطبيعية في دورانها ابتداءً من الفلسفة الميلينية إلى غاليلو ونيوتن، إلى كيفية السيطرة على الطبيعة، فالمتغيرات الطبيعية بنية تدميرية، التي هي عبارة عن معلومات وخرائط وتصورات وتخيلات لا يمكن احصاؤها تؤكد بمجموعها رحلة" النار" الكونية ونزولها من السماء إلى الأرض، ثم دخولها في ميادين الإنتاج والعمل والتفكير، وجعلها تكوينًا علميًا منتجًا للصناعة والفلاحة والحروب، في هذه المرحلة، مرحلة التنوير، بدأت الشعرية  تتحرر من هيمنة أشكال الأبوة الطبيعة لموضوع "العطش" لتتحول إلى أشكال الأبوة الدينامية  أي البحث عن افق إنساني للشعرية .تستحث الشعرية الحديثة على الثورة، خاصة عندما تتحرر صورها من الميتافيزيقيا.
ماذا يريد الشاعر بعد أن يخلق تكوينًا غائرًا في الواقعية والمثيولوجيا، ويجعل منه عجينة بيد خبّاز ماهر يمزج  فيها بين فعل اليد وفعل الرؤيا، هذه القصيدة استثناء في قراءاتي للشعر، كثافتها المركزة واحدة من اختصارات الزمن، وقوله في الواقعية والمثيولوجيا تجعلنا نؤمن أن أي فعل لايمكن أن يستغني عن  طفولة الطبيعة والحلم. فالدينامية هي النقلة التجريبية للحداثة الشعرية.
 
 6-  الموضوع الموضوعي: الأب بالتبني
 نصل إلى نهاية بحثنا عن الأبوة التي تتبنى الشعرية، وتصيّرها كيانًا معرفيًا يرتبط بمفردات حياتنا اليومية، بالرغم من أن الشعرية لا تمت بأي صلة للمنفعة الذاتية، أو لأي غرض توَظّف له، الشعرية فن خالص مادته أفعال الإنسان من أجل جمالية مطلقة. والبداية كانت باستدعاء (أنا المرايا)، ليحولها الشاعر إلى الأرض المرايا، السماء المرايا، الأزمنة المرايا، الدين المرايا، اليوتوبيا المرايا، أي يجعل مكونات الطبيعة تحت رؤية الإنسان. ثم يتكشف أكثر عن دور الموضوع الكوني، ذلك الذي كان مدفونًا في ثلج الأرض وبرونزيتها وحديدها وخيميائيتها وطبيعيتها، أو ذلك الذي كان شيئًا أو صورة، ثم تحول إلى تكوين معرفي يقرأ عبر الفلسفة والعلم. فالعلاقة بين الأرض وإنسانها لا تقاس بمفردات الحياة اليومية على السطح فقط؛ وهو ما يعني ظاهراتية الأشياء؛ بل تقاس بالأفعال المركبة من تكوينات مادية وروحية؛ من الماء والنار، مولدة عجينة كونية، وها هي المرايا تَستحضر وجه الشاعر "الشاهد"، المختنق  في خبايا التاريخ.
وشاهدَ الأنهارَ وهيَ تموتُ حُزنًا قَبْلَهُ.
في هذه اللحظة المفارقة، ينكشف الكائن البشري كقارئ يحرك الأشياء الساكنة، ويدعو لعدم التصالح معها، بل التخاصم والكشف، "فلم يعد الأمر يتعلق بالإنحياز للأشياء، بل بمخاصمة الأشياء، في جدلية البؤس والغضب، ضد بؤس (المعاطش) ينهض الغضب المحرر"(12).
          عديدة هي قراءات القارئ الذي سيتبنى جدلية النماء والتغيير، وعديدة هي القصائد المتمردة على القراءات الجامدة، قراءات القواعد والنظم، ومن يقولب القراءة ضمن منهجية ثابتة كمن يخلّف ذرية متطابقة، وهذا ما يخالف طرائق التغيير، ما يمكن اعتماده في القراءات الجديدة  للشعرية هو تعدد ألسنة القراء، هؤلاء الذين قلبّوا التوازي على مدى عصور، ولم يستقروا على طريق واحد في الرؤية، لذلك تتطلب الشعرية منهجًا  يتبنى طروحاتها الجديدة، ولن يكون هذا الأب غير القارئ، الذي يؤول صور القصيدة وأبعادها، الذي يلغي الفاصل بين الطروحات العلمية والطروحات الاجتماعية، هذا القارئ هو الأب بالتبني الذي يلجأ إليه الشاعر ليؤول مشروعه، وينشر ثقافته، ويعمم رؤيته. دون القراءة  التي تتبنى التأويل، تبقى القصيدة ناقصة، فلا مناص من أن نعتمد هذه الموضوعاتية اطارًا عامًا غير فضفاض للنقد، وفي داخل هذا الإطار يمكن للناقد أن يقرأ ما تؤول إليه العلاقة بين النَّص والمجتمع. أي جدل البنية الثلاثية للشعرية:(الطبيعة /الدينامية/ القراءة) دون ذلك لا قراءة للقصيدة، وبالقدر الذي يمارس الإنسان حريته مبتعدًا عن أي اغتراب يمنعه من تحقيق هذه الحرية، تكون الشعرية قد كسبت شيئًا من فاعلية العناصر. علينا أن نقرأ الشعر بعودته إلى عناصر الطبيعة في اشتباكها المادي، وفي ديناميكيتها الاجتماعية، وفي رؤيتها للمستقبل. هذه القراءة تجعل الشعر  جزءاً من حرية المواقف، وشيئًا يمكن لمسه وشمه ورؤيته وتذوقه وادراكه، وأي كيان معرفي يخرج عن هذه المصاهرة المعرفية للقراءة لايمكنه أن يحقق أدنى جمالية..وليس غريبًا أن تجد لها معادلًا موضوعيًا في حياتنا الاجتماعية: عندما يجف الماء تجوع الأرض وعناصرها، و يصبح الجفاف والتصحر مادة في العناصر نفسها، فالشعر الحديث لا يقولب العناصر في صور محددة، بل يوحد العناصر الطبيعية لتكوين صورة كونية عن الموضوع.
هذه القصيدة تؤسس لمعادلة تكشف عن الكيفية التي يكون الإنسان فيها قارئًا لتاريخه وهو غير التاريخ الذي تدونه المقولات والمراسم والبيانات، قد لا يكون هذا التاريخ دليلًا مباشرًا للاقتصاد والفلسفة والمجتمع وعلم النفس وغيره، ولكنه المؤشر الذي لا يخطئ عندما يكون الفراتين قد جفا. يتمكن الشعر الموضوعاتي من الكشف عن مكونات المعرفة الغائبة في تفاصيل الطبيعة، تلك التي تعلمنا باستمرار أن الشمس لا تشرق ولا تغرب، وإنما نحن الذين نتحرك في فضائها وفي ما تفرضه علينا، وفي كل تحولاتها. لا تقرأ هذه القصيدة إلا من خلال المعية مع الطبيعة، ومن دون ذلك تصبح كلمات فارغة/فالـ"معية" أي جدلية الشعرية للطبيعة واحدة من رفقة الشيطان للسفائن في البحر، سواء اكان الملاح عوليس أو كلكامش، لابد للشعر من "معية"، ومعية القصيدة العناصر الطبيعية في يقظتها وفي أفولها، دون ذلك، فالطبيعة تصمت، ولا لغة يمكن أن تفتح طلاسمها.  هذه ليست قصيدة تُقرأ في مأتم، بل هي حلم يقظة تتحدث فيه عن انبثاق الآخرمن المرآة الزمنية، كـ"رأس صغير ثمين يبادله النظر"(13) هكذا يكتب جان بيير ريشار عن بول إيلوار. عن الآخر الذي هو أنا، المختزن في مرايا الطبيعة.. يكتب الشاعر الآن قصيدته الناقصة في لحظة وجد نفسه دون الآخر مسؤولًا عن القول السؤال، فهو الكائن الذي يهب الشعرية للحياة ، كما تهب الطبيعة الدينامية، بوعي، الفرص التي لم تحققها الميثولوجيا  واليوتوبيا والرواة المختنقين. مهمة الشاعر، كما يبدو من السياق؛ أنه يطمئن نخلة، من العطش، ففي بلد جففت الحروب فيه كل شيء، أصبح أقل ندى يستدعي ميثولوجيا العناصر.
نحن نتحدث عن شعر العناصر في جدليتها الاجتماعية،  وفي علاقتها مع الإنسان، وليس حديثنا عن الأتربة والمياه والنيران والهواء، نحن نتحدث عن الآخر الذي يأتي محملًا بقدرية الفعل، مطمئنًا نخلة، أو بانيا مأوى، أو محققًا مصير. هذا يعني ثمة دينامية حركة ترافق القراءة،" فالعلاقة هي التي تلد النظر، النظر الذي يخلق الرؤية، الرؤية التي تسمح بالمرئي ولكن المرئي -وهذا هو سره- لايوجد بالنسبة لنا إلا في صيغة ما يُرى"(14) أي في صيغة الموجود. والقارئ وحده من يحقق الموجود.
وجهٌ مِنَ المِرآةِ
يَخرُجُ باحثًا عنّي
ولا أحَدٌ هُنا لِيَدُلَّهُ.
 
الهوامش
  1. قاموس العين، مادة ظمأ
  2.  غاستون باشلار، الماء والاحلام، ت: د. علي نجيب إبراهيم، المنظمة العربية للترجمة، ط1، بيروت، 2007، ص 157
  3. ياسين النصير، الاستهلال في بدايات النص الادبي، دار نينوى ، دمشق، ط4 ،2017 ، ص13.
  4. باشلار، ص157.
  5. مايكل ريفاتير، دلائليات الشعر، ترجمة محمد معتصم، كلية الاداب والعلوم الإنسانية.
  6. حاورة التيماوس، افلاطون، ص 125. منقولة من الإرض واحلام يقظة الإرادة
  7. مايكل ريفاتير ، ص 75
  8. غاستون باشلار ، شاعرية  أحلام اليقظة/ علم شاعرية التأملات الشاردة، ت: جورج سعد، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، ط1 ،1991،، ص 104
  9. المصدر السابق ص 104.
  10.   هنري لوفيفر، ماركس وعلم الاجتماع، ترجمة بدر الدين قاسم الرفاعي، وزارة الثقافة ، دمشق، 1971 .ص10
  11. غاستون باشلار، الأرض واحلام يقظة الإرادة ، ت: قيصر الجليدي، مشروع كلمة دائرة الثقافة والسياحة، أبو ظبي، ط1، 2018، ص 149.
  12.   ،الأرض واحلام  يقظة الإرادة، ص 151
  13. العرب والفكر العالمي  شتاء 1988 ص 27
  14. العرب والفكر العالمي شتاء 1988، ص 29