نيسان/أبريل 18
البورتريه: استراتيجية للبناء في "أسير عاشق"" لجان جينيه
 
جان حينيه
1-تقديم
نهدف في هذا المقال إلى دراسة استراتيجية البورتريه البلاغي في بناء الإيتوس، في كتاب "أسير عاشق" للكاتب جان جينيه. ونفترض أن دراسة هذه الاستراتيجية، في الكتاب الأخير لجينيه، قد تكشف عن جوانب أخرى من فكر الكاتب الذي بنى صورةً مغايرة للمثقف الغربي الذي، عادة، ما ينظر إلى "الشرق" إمّا بصورة استعلائية، وإمّا بصورة المتعاطف الإنساني. تنطلق هذه الدراسة من سؤال مركزي: كيف يبني البورتريه إيتوس الكاتب في "أسير عاشق"؟ وللإجابة عن هذا السؤال، سنقف على مفهومين رئيسين، هما: مفهوم البورتريه، بوصفه استراتيجية بلاغية، ومفهوم الإيتوس، وكيف يبنى داخل الخطاب.
وقبل أن نشرع في دراسة السؤال الإشكالي الذي وضعناه موجها للدراسة، لا بد من الإشارة إلى سياق تأليف الكتاب، وموضوعه، لأن هذا السياق، من شأنه أن يلقي الضوء على إشكال تصنيف الكتاب. هل هو سيرة ذاتية أو شهادة أو مذكرات...؟ وكيف يمكن قراءته، هل نصنفه روبورتاجا صحفيا أو نضعه ضمن الكتابات الذاكرة المنفتحة على أنواع متعددة من أدوات الكتابة؟ وهل تهيمن صورة الذات في السرد، أو أن الكتاب، ينفتح على أصوات أخرى، تجعل منه عملا بوليفونيا، بالمعنى الباختيني؟
عكفَ جان جينيه على كتابة "أسير عاشق" بين سنتي 1984 و1986؛ أي في المرحلة الأخيرة من حياته، وهي مرحلة دالّة تجعل من "أسير عاشق" "كتابا/ ذاكرة"، يستعيد فيه الكاتب قرابة سنتين، أمضاهما بين الفلسطينيين، لاسيما في مخيم "عجلون" بالأردن، في مطلع السبعينيات من القرن الماضي، وهي مرحلة فاصلة في حياة الكاتب سينعتها "بالجمال". وإذا كانت لحظة اكتشاف "الجمال" في المخيمات الفلسطينية، ذكرى مؤسسة في الكتاب، فإن ذاكرة الكاتب تنفتح على رحلاته إلى مناطق أخرى من العالم العربي؛ مثل المغرب وتونس ولبنان، من جهة، كما أنها تستحضرُ ما شهدته أوروبا من تفاعلات مع أحداث "الشرق"، من جهة أخرى.  ويتضمن الكتاب بعضا من الذكريات والتجارب المختلفة التي عاشها الكاتب في حياته، ولا سيما شهادته على تجربة "الفهود السود" بأمريكا. لقد استجدّت أحداث كثيرة، في السنوات الأخيرة، في مسار القضية الفلسطينية، قد تجعل القارئ بعيدا عن إدراك حقيقة العمل الفدائي الفلسطيني الذي يشكل، حسب تقديم الأستاذ كاظم جهاد للترجمة العربية، "العجيبة المحورية التي يتأسس عليها، ويدور مجمل الكتاب"(1).
2-تأسيس نظري ومنهجي
أ-البورتريه، استراتيجية لبناء الخطاب
 ترى جويل غارد طامين أن البورتريه "مفهومٌ خطابيُّ" الأصل، ارتبط ميلاده بالخطابة القديمة، ثمّ استُعمل فيما بعد في جميع الأنواع الأدبية. إن البورتريه، حسب طامين دائما، هو الأثر الذي تركته الخطابة في الرواية، سواء في مستوى السرد أم في مستوى الوصف. وتكمن أهمية هذا المفهوم، في نظرها، في أنه يسمح بإعادة توحيد البلاغة مع التخصصات الخارجة عنها؛ لأنّ هدف البورتريه هو اللغة في حركتها، ومن ثمّ، الإنسان، الذي يحوله إلى حجّة للمدح أو الذّم، لا سيما في الخطابة الاحتفالية.
يحضر البورتريه في أجزاء الخطاب الثلاثة:
-في مرحلة الإيجاد: حيث يرتبط بالحجج المتعلقة بالشخص (a persona)؛
-في مرحلة السرد: حيث يحتاج الخطيب إلى رسم صورة لمن يدافع عنه أو ينتقده، كما أنه يُوظف في كل مرة، يسعى فيها الخطيب إلى استدعاء العواطف، لاسيما في الخطاب الاحتفالي؛
-في مرحلة الترتيب: حيث يعمد الخطيب إلى انتقاء الصور التي يريد أن يجعلها أكثر حضورا في خطابه.
وتدرجُ طامين البورتريه، ضمن الصور التي تجعل الموصوف ماثلا أمام الأعين، ومؤثرا في الأذهان. وهو، في نظرها، يحمل أسماء متعددة؛ وذلك تبعا، لما نصفه:
-التبوغرافيا: وصف الأماكن؛ -الكرونوغرافيا: وصف المراحل والأزمنة؛ -البروسبوغرافيا: وصف الجوانب الجسدية للشخصيات -الإيتوبي: وصف الطبائع(2).
يخضَعُ وصف الشخصيات للتّوجيه من الواصف، ويهدف إلى إبراز الخصائص التي تميز الشخصية، فيُبنى عليها الحجاج، ومن خلالها، يعمل الخَطيب على بناء نماذج، تفيدُ إمّا المدح، إذا كان النموذج إيجابيا، وإمّا الذم، إذا كان النموذج سلبيا؛ وهذا ما يسمى في بلاغة الحجاج، عند بيرلمان، ببناء "النموذج"، أو "عكس النموذج". ومن أجل الإلمام بخصائص الشخصية، "يجب البحث بصورة منظمة في مجموعة من المواضع، التي حددها سيسرون، انطلاقا من المقالة الثانية من كتاب الخطابة لأرسطو، وأدرجها ضمن مرحلة الإيجاد؛ وهي: الاسم، والطبيعة (الجنس، منطقة الانتماء، العرق، العيوب والخصال الجسدية والأخلاقية)، ونوع الحياة (التعليم، الصداقات، المهنة إلخ)، والوضع الاجتماعي، والعادات، والمشاعر، والتجارب، والأذواق، والنوايا، والأفعال، والأحداث، والأقوال"(3). وترى جويل طامين أننا، من خلال هذه العناصر، لا نبني جزءا من الخطاب فقط، بل يمكننا أن نبنيَ الخطاب كلّه. ونرى أن استراتيجية بناء الخطاب استنادا إلى تقنية البورتريه في كتاب "أسير عاشق" حاضرة حضورا كبيرا؛ فهي تؤلف أجزاء الخطاب، وتؤدي وظيفة حجاجية، تتخذ فيها الذات موقع الشاهد، من جهة، وموقع الناقد، من جهة أخرى.
ب-الإيتوس وبناء صورة الذات في الخطاب
استثمر دومنيك مانغينو مفهوم الإيتوس الذي يعدّ أحد الأركان الثلاثة الأساس في خطابة أرسطو، الذي يرى أن الخطابة هي "الكشف عن الطرق الممكنة للإقناع، وهذا الإقناع يتوقف عند أرسطو على ثلاثة أركان هي أولا "أخلاق القائل"، وهو ما يمكن أن نسميه بحجة الإيتوس، وثانيا "تصيير السامع في حالة [نفسية] ما، وهو ما يمكن أن نسميه بحجة الباتوس، وثالثا "القول نفسه من حيث هو يثبت أو يبدو أنه يثبت" وهو ما يمكن أن ننعته بحجة اللوغوس أي الكلام و/ أو العقل"(4).
واستنادا إلى قول أرسطو: "والخطيب يقنع بالأخلاق إذا كان كلامه يلقى على نحو يجعله خليقا بالثقة... وهذا الضرب من الإقناع ينبغي أن يحدث عن طريق ما يقوله المتكلم، لا عن طريق ما تظنه الناس عن خلقه قبل أن يتكلم. وليس صحيحا –كما يزعم بعضا الكتاب في مقالاتهم عن الخطابة أن الطيبة الشخصية التي يكشف عنها المتكلم لا تسهم بشيء في قدرته على الإقناع بل بالعكس، ينبغي أن يعدّ خلقه أوقى عناصر الإقناع لديه"(5)، ركز مانغينو على فعالية "الإيتوس" في مجال تحليل الخطاب، ولعل أول تعديل أدخله على هذا المفهوم يتمثّل في "أخذه من حقل الخطابة الشّفوية، وإعادة صياغته في مجال تحليل الخطاب"(6)، واستنادا إلى أرسطو والدّراسات الحجاجية الحديثة، استنتج مانغينو أنّ:
"-الإيتوس مفهوم خِطابي، وهو يتكوّن داخل الخطاب، وليس صورة توجد خارجه.
-يرتبط الإيتوس أساسا بسياق التفاعل، من أجل التّأثير في الآخر.
-الإيتوس مفهوم هجين (اجتماعي- خِطابي) وسلوك يتمّ تقييمه اجتماعيا، ولا يُمكن فهمه خارج وضعية معيّنة للتّواصل، وتكون هذه الوضعية نفسُها مُدمجَةً في وضع اجتماعي تاريخي معين"(7).
وإذا كان المتكلّم يشكّل صورته داخل الخطاب، انطلاقا من واقع اجتماعي معيّن، فإنّ طريقة تقديمه لذاته تندرج ضمن المعارف والتّمثّلات المشتركة بينه وبين المخاطَب، فهو ينطلق من القوالب الجاهزة في بناء صورته، وينطلق المخاطَب من القوالب نفسِها في تلقّي هذه الصّورة وتشكيلها من جديد. وقد لا تتطابق الصّورة الّتي يُريد المتكلّم أن ينسجها عن ذاته داخل الخطاب، مع الصّورة الّتي يُكوّنها عنه المخاطَب، لاسيما إذا كان المقام التواصلي يعرف نوعا من التّوتّر بين الطّرفين، ولهذا، فإنّ المتكلّمَ مدعوٌّ إلى مراعاة المقام من أجل إقناع المخاطَب بصورته ودفعه إلى تصديقه وتبنّي مواقفه. ولا ينبغي أن نغفل أنَّ الإيتوس السّابق على الخطاب قد يُؤثّر في تشكيل صورة المتكلّم داخل الخطاب، كما هو الشّأن بالنّسبة إلى الكتاب الذين ينطلقون من تجربتهم الذاتية في الحكي عنها؛ ذلك أن مدى مشاركته في الحدث المروي، وأهميته في التنظيم السياسي أو النقابي أو المهني أو الاجتماعي... تجعل منه "شاهدا كبيرا" أو "شاهدا صغيرا" في الحدث، هذه الصّورة تسبقُه قبل أن نتعرّف على الصّورة الّتي بناها لذاته داخل الخطاب، ولهذا " لا يُمكن أن نتجاهل أنّ الجمهور قد كوّن تمثّلات عن إيتوس المتكلّم قبل أن يتحدّثَ"(8).
تشكل الذات محور الكتابة في "أسير عاشق"، غير أن هذه الذات يُعاد تشكيلها في الخطاب، لتقدّم صورة مغايرة، لما يعرفه القارئ عنها، ومن هذا المنطلق، فإنّ استثمارنا لمفهوم الإيتوس، كما عرضنا له سابقا، قد يسعفنا في الكشف عن إيتوس جان جينيه، وإعادة النظر في المسلمات التي كرّسها النقد عنه، لاسيما أننا نعرف أن كتابات جينيه شغلت العديد من الدراسات الغربية والعربية، والأمر نفسه، ينطبق على شخص الكاتب وحياته.
3-"أسير عاشق" وإعادة رسم صورة الذات والعالم
 يقول جان جينيه: "عندما يشفّ رسم عن عيوب كثيرة، فإن الرسام يمحوه، وتُدعُّ ضربتان أو ثلاثٌ بالممحاة الورقة من طراز "كانسون" بيضاء تماما؛ وهكذا، فما إن مُحيت فرنسا وأوروبا حتى أصبح هذا البياض القابع أمامي، والذي كان بالأمس يضم فرنسا وأوروبا، فضاءً للحرية راحت تنخطّ فيه فلسطين التي عِشتها... أكانت هذه الانتفاضة، التي بقيت خارجة على القانون زمنا طويلا، تأمل أن تتحول إلى قانون تكون سماؤها هي أوروبا؟ حاولت أن أقول ما صارت عليه؛ أمّا أوروبا، التي صارت تشكل لديّ أرضا مجهولة، فقد باتت ممحوة"9).
يرسم جان جنيه بورتريه الشخصي، ببناء علاقة انفصال عن الثقافة الغربية، وبالتعبير عن امتلاكه لقيمة الحرية المفتقدة في هذه الثقافة، وتتجسد هذه الصورة بوضوح، عندما يعيد النظر في مسلماتها، انطلاقا من التجربة التي عاشها، و كان شاهدا عليها، ويُظهر المقطع السابق الذكر، لوحة جديدة للعالم والذات، تتجسد في الخروج من عالم منبوذ، يُمحى في ذاته، إلى عالم يمتلك فيه الكاتبُ حريته، والعالم الممحو هو أوروبا وفرنسا، فهذا العالم أصبح مقيدا للحرية، أمّا العالم الجديد فهو الذي "ينخط" في حياته، من خلال التجربة، وهو عالم يمنحه إمكانات التحرر واكتشاف الجمال.
تُبنى علاقة الانفصال مع الثقافة الغربية ومسلماتها، انطلاقا من تفاصيل التجربة التي عاشها جان جينيه في المخيمات الفلسطينية، ومن اللقاء بأناس بسطاء، يبحثون عن معنى للحياة، في نضالهم اليومي، يقول مصورا علاقته بالمرأة: "كان شيء ما ينبئني بأن وضعي ما كان لينسجم مع ما كنت أعرف عن الشرق: رجل وحيد يتوسط فريق نساء عربيات. كان كل شيء يعلن عن هذا الشرق الذي سأراه بالمقلوب، لأن هؤلاء النساء خلا ثلاث منهنّ، كنّ متزوجات..."(10). إنّ الصورة التي تقدمها الثقافة الأوروبية عن المرأة الشرقية، والأحكام المسبقة عنها التي تجعلها ضمن ما يسمى عادة "الحريم"، صورة مغلوطة عن الشرق، حسب جينيه، وهي مقدمة أساس، ستدفعه إلى إعادة مراجعة هذه الصورة النمطية من خلال تجربته الشخصية، وتتكرر هذه الصورة الإيجابية عن المرأة في الكتاب كله، سواء في مستوى وصف تحررها، أم في مستوى الحكي عن تضحياتها وانخراطها في المقاومة. يتخذ السردُ التجربةَ منطلقا للشهادة، ويستقرئ العالم، بناء على ما شاهده الكاتب، وما عاشه من تجارب، لا على ما كرّسته الثقافة الغربية في ذهن المخاطب عن الشرق خصوصا، وعن الآخر عموما.
4-"أسير عاشق": مذكرات شاعر على "الأزمنة الرديئة"
يقول جان جينيه: "لنتوقف قليلا عند الحقيقة المعروفة في أن الذاكرة ليست بالشيء الموثوق منه. تعدل، لا عن مكر، الأحداث وتنسى التواريخ وتفرض ترتيبها الزمني الخاص، وتتناسى أو تحول الحاضر الذي يكتب أو يسرد. تفخّم ما كان عاديا: فأكثر إمتاعا لكل واحد أن يكون شاهدا على أحداث نادرة لم يتحدث عنها أحد من قبلُ. من عرف واقعة فريدة، فذّة، نال حصّته من هذه الفرادة الاستثنائية. من هنا رغبة كل كاتب مذكرات في البقاء وفيا لخياره الأول... يريد كاتب المذكرات أن يعبّر عما لم يره أحد... وإننا لمحظوظين، ومن مصلحتنا أن نوهم بأن رحلة الأمس تستحق عناء ما نكتبه الليلة... إنّ كاتب المذكرات يطمح إلى أن يكون مغني ذاته، من دون أن يعترف لنفسه بذلك إلا لماما... أكان هوميروس سيكتب الإلياذة لولا غضب أخيل؟ أكنا سنعرف غضب أخيل لولا هوميروس؟ ولو أنّ شاعرا رديئا غنّى أخيل، فما كان ياترى سيعرف عن هذه الحياة المجيدة والقصيرة..."(11).
يرسم جان جينيه صورة للكاتب الحقيقي، الذي يمنح للوجود حقيقته، انطلاقا من التجربة التي عاشها؛ فهو ليس كاتب صالونات، وليس صحفيا ينقل ما شاهده، ولكنه يعيد صياغة التجربة ببث روح الشاعر فيها، وهي صورة تنسجم مع التصور الإنساني للشاعر، بوصفه المبدع القادر على الإحساس بالجمال، والتعبير عنه. إن كتابة جينيه كتابة ذاكرة، وقيمة ما يكتبه يقترن اقترانا وثيقا بالتجربة التي عاشها بالفعل، غير أن الكاتب يقيد قيمة التجربة في علاقتها بالذاكرة؛ فالذاكرة ليست بريئة؛ بل هي تمحو، وتنتقي، وتعدّل... وهذا ما يجعل منها أداة من أدوات غنائية الذات، وشعريتها. يقدم جان جينيه مثالا لعلاقة الشاعر بالتجربة، باستحضار العلاقة بين "هوميروس" و"أخيل"، يمثل الأول نموذجا للشاعر، والثاني نموذجا للبطل في الذاكرة الإنسانية، ويتساءل عن قيمة الشاعر والبطل في بناء المخيلة الإنسانية، ويصل إلى أنهما لا ينفصلان، فلكي يكون هناك شعراء، يجب أن يكون هناك أبطال في التاريخ، ولكي يكون هناك أبطال في التاريخ، يجب أن يكون هناك شعراء أفذاذ. إن صورة هوميروس وأخيل، صورة منتقاة بدّقة للتعبير عن علاقة الذات بالتجربة، وهي، في المطاف الأخير، صورة جينيه الذي ربط بين كتابته وشعريته، وبين البطولة المتجسدة في المقاومة والجمال.
لا ينفصل تصور جان جينيه عن الذاكرة عن تصوره للشهادة، وهو تصور يقرن بين الشهادة، بوصفها فعلا تاريخيا، وبين البعد الإيتيقي لها؛ فالشهادة، عند الكاتب، تقترن بالتحرر من القيود الإيديولوجية والسياسية، وهذا التحرر يعبر عنه جنيه في مستويات متعددة:
  • تحرر الذات:
يقول جنيه: "... اعتبارا من أواسط 1983، صرت حرا بما فيه الكفاية للبدء بتحرير ذكرياتي التي يَنبغي أن تقرأ كتحقيق صحفي (روبورتاج)(12).
يتضمّن هذا المقطع، الوارد في نهاية الكتاب، تَوجيهين للقارئ؛ التوجيه الأول، يؤكد على مطلب أساس، ناضلت من أجله الذات طيلة حياتها، وهو التحرر، ونعتقد أن المسافة الزمنية التي تفصل بين التجربة وكتابتها، جعلت الكاتب متحررا من الراهن، لأنه يقيد حريته، أمّا التوجيه الثاني، فيعيد التأكيد على بعد مهم في الكتاب، وهو كيف يمكن أن يُقرأ؟  وهذا التوجيه يعزز قيمة الذات، لأنها كانت شاهدا حاضرا في الأحداث، وجزءا منها، وهو ما يحيل عليه "التحقيق الصحفي" الذي يتسم بالتحري والدّقة في الوصف، والموضوعية التي تسعى الذات إلى الاتصاف بها، في علاقتها بالأحداث التي كانت شاهدة عليها؛ وهذا يكشف على تحرر الذات من الحدث، من جهة، وتحررها من العاطفة التي قد تكون نتيجة الانفعال العاطفي اللحظي، من جهة أخرى.
ب-التحرر من الآخر:
          يقول جان جينيه: "كلمات الشاهد الأولى، بعد اسمه وعمره، هي التالية تقريبا: "أقسم بأن أقول الحقيقة كل الحقيقة ولا شيء سوى الحقيقة". وأنا قبل أن أشرع بكتابة هذا الكتاب، أقسمت بأن أقول فيه الحقيقة؛ ولم يكن ذلك في شعيرة ما، بل في كل مرة يطلب فيها فلسطيني أن يقرأ بداية الكتاب أو بعض مقاطعه، أو نشرها في مجلة أو أخرى، كنت أبذل ما في وسعي للصمود أمام طلبه. لا يمثل الشاهد، قضائيا، لا الرجل الذي يعارض القضاة ولا هذا الذي يخدمهم. وهو يكون بحسب القضاء الفرنسي قد أقسم بأن يقول الحقيقة، لا بأن يقولها القضاة....  إن الشاهد لوحيد... وهو لا يرد على السؤال الضمني "كيف" فحسب، وإنما ليري الآخرين "لمَ" هذا "الكيف"، وليسلط عليها إضاءة تنعت أحيانا بالفنية. ولأن القضاة لا يكونون أبدا في الأماكن التي يقام فيها بالأفعال التي يحكمون عليها، فالشاهد لا غنى عنه، ولكنه يعلم أن صدقية الوصف لن تعني شيئا لأي شخص، ولا للقضاة، إذا لم يضف هو عليها الظلال والأضواء التي كان هو الوحيد الذي ميّزها. يقدر القضاة أن ينعتوه بالثمين، وإنه لكذلك"(13).
          يقدم جان جينيه تصوره للشهادة، منطلقا من الثقافة الغربية نفسها، وهو تعبير عن علاقة النقد، واتخاذ المسافة. فمن أسس الشهادة قول الحقيقة. غير أن تصور الحقيقة، حتى في تقاليد القضاء الفرنسي، قيمة إنسانية، تكشف عن التفاصيل التي يمكنها أن تدفع الآخرين إلى الحكم، وهذا يعني أن الشاهد يقدم إضافة نوعية للحدث، عندما يجيب عن أسئلة ضمنية، تفترض في شهادته التفسير والإقناع، وهو ما يصفه جينيه بالإضاءة الفنية. الشاهد يضيف الأضواء والظلال، ومن هذا المنظور، فهو يصنع الشهادة، ليخدم الحقيقة. ولكي تصبح الشهادة مطلبا للحقيقة، يجب أن تتحرى التجرد، وهو ما يكشفه جينيه في علاقته، بموضوع الشهادة والفاعلين فيها، وهم الفلسطينيون. رفض الكاتب أن يطلعهم عن تفاصيل شهادته، لأنها ليست موجهة لهم، أو لخدمتهم، بل لخدمة الحقيقة التي تصنعها الذات، بالانفصال عن الآخر، مهما كان هذا الآخر.
          يرسم جان جينيه إيتوس الحياد، برفض الشهادة تحت الطلب، أو الكتابة تحت الطلب، ويتضمن كتاب "أسير عاشق" مقاطع متعددة، تكشف عن هذا البعد من أبعاد شهادته، ومن أمثلة هذا، حواره مع ياسر عرفات، وهو أحد رموز المقاومة الفلسطينية، وقائدها الأبرز، يقول الكاتب:
"... التهذيب نفسه هو ما ميزت في صوت عرفات، عندما قال لي:
-ولم لا تضع (في الفلسطينين) كتابا؟
.... ما كنت معتقدا بمشروع هذا الكتاب – ولا أي كتاب- ولا بالمتيقن من الانتباه إلا لما كنت أسمع وأرى..."(14).
          يرفض جان جينيه طلب عرفات بالكتابة عن الفلسطينيين، على الرغم من أن هذا الطلب صادر عن سلطة فعلية ورمزية كبيرة، هي ياسر عرفات. وهذا الرفض تعبير عن الذات المتجردة، والمتحررة من الآخر؛ لأن الحقيقة، عندها، هي التجربة نفسها، أمّا الكتابة عنها، فلاحقة على ما كانت "تراه وتسمعه"...
          تركز الكثير من الدراسات الحديثة على الإبدال الذي تحققه الشهادة، في مستوى ميثاق الكتابة؛ إذ انتقل هذا الميثاق مما يسميه فيليب لوجون في تنظيره للكتابة السير ذاتية "الميثاق السير ذاتي"، الذي تتطابق فيه ذات الكاتب المؤلف وذات الكاتب والسارد، إلى "ميثاق الشهادة". ففي ميثاق الشهادة، يعلن الشاهد، في مقدمة مذكراته أو شهادته، عن ميثاق أخلاقي، يلتزم بموجبه بقول الحقيقة، وتوخي الصدق، والتجرد من العوامل الذاتية والسياسية التي من شأنها أن تؤثر في نقل الحقيقة، وما يكتبه الشاهد عن أحداث الماضي التي كان طرفا فاعلا فيها. والملاحظ أن جان جينيه، يعي هذا البعد من أبعاد الشهادة، غير أنه يورد هذا الميثاق في آخر كتابه "أسير عاشق"، ولا يفصل هذا الميثاق عن تصوره للحقيقة التي تتحرّرُ من الواقع، ومن الذات والآخر، وهذه الحقيقة تظل ذاتية لأنها محكومة بسلطة الكتابة وأدواتها، ومن أهم هذه الأدوات الذاكرة.
ج-التحرر من الواقع
يقول جان جينيه: "لكن ماذا إذا كانت الكتابة كذبا حقا؟ وماذا إذا كانت عمل على إخفاء ما كان، إذ لا تمثل الشهادة أكثر من خداع بصري؟ حتى إذا كانت الكتابة تقول نقيض ما حدث، فهي لا تقدم منه سوى وجهه المرئي، المقبول، والأخرس إذا صحّ التعبير... كيف يمكن التعبير في الوقت نفسه عن المشاعر المتناقضة التي تصدر عن مختلف شهود تلك المشاهد؟ الأمر نفسه بالنسبة إلى جميع صفحات هذا الكتاب التي لا تتضمن سوى صوت منفرد. وكسائر الأصوات فإن صوتي مغشوش... هذه الجملة تطمح إلى حجب الكتاب، وكل جملة إلى حجب الجملة السابقة لها، فلا يبقى على الصفحة سوى خطإ: ما كان يحدث غالبا نوعا ما، وما لن أقدر أبدا على وصفه بحذق، وما أتوقف، بحذق أيضا، عن محاولة فهمه"(15).
يتضمن، المقطع السابق الذكر، تأملا في جدلية التجربة والكتابة عنها، هل يستطيع الكاتب أن يكتب الواقع؟ لا تستطيع الكتابة، في نظر جينيه، أن تنقل الواقع، كما هو، فهي صوت منفرد، وعاجزة عن تصوير اللامرئي، إنها خداع وصوت مغشوش، لأنها تعيد تشكيل الواقع، فتلجأ إلى الحذف والحجب، ومن ثمّ، فمنطق الكتابة عن التجربة الذاتية، يتجاوز التحرر من الذات والآخر إلى التحرر من الواقع نفسه.
د-التحرر من الذاكرة
          لا يمكن فصل الذاكرة الفردية عن الذاكرة الجماعية؛ وهي إمكانية من إمكانات إعادة تركيبها، أو ما يسميه يان أسمان "مونتاج الماضي"(16)؛ ويُقصدُ بهذا المفهوم، أنه ليس ثمة ماضٍ، يمكن الاحتفاظ به في ذاكرة ما بصورته كما هو؛ أي إن الماضي، حين نتذكره، لا نتذكره بصورته التي وقع بها؛ وإنما بما يبقى من الماضي في الذاكرة، كما يقول هولبفاكس: "ما يستطيع المجتمع استعادته منه بأطره الرابطة الموجودة في كل فترة من الفترات"(17). وتعمل الذاكرة، بطريقة استعادية وبنائية في الآن نفسه (إعادة مونتاج الماضي وبنائه). ولعل هذا ما دفع جان جينيه إلى تأمل الذاكرة، والتأكيد على أن ذاكرته ليست ذاكرة متعالية، ومحايدة؛ لأن الماضي لا يستطيع أن يظل ماضيا بالصورة نفسها التي وقع بها، فالماضي يُعاد تنظيمه بشكل دائم في الذاكرة، من قبل الأطر الرابطة المتغيرة والخاصة بالزمن الحاضر؛ ولهذا يقول جينيه: "عليّ، منذ الآن، أن أنبه القارئ إلى أن ذكرياتي دقيقة، فيما يتعلق بالوقائع والأحداث والتواريخ، غير أن المحادثات أعيد تركيبها... أعترف بأنني اسقت إلى الحقبة، ذلك أن الحوارات التي ستقرؤونها معاد تركيبها فعلا. آمل أن تكون أمينة، لكنني أعرف أنها لن يكون لها أبدا حذق حوار حقيقي... لا تحسبوا مع ذلك أنني لا أحترم الفدائيين: فلعلي قمت بكل ما في وسعي لاستعادة نبر الأصوات وتنويعاتها وكلمات الجمل... أنا أراهم في السن نفسها التي كان لهم ساعة الحدث المتذكر. أهي مزيّة لسني أم نتيجة بؤس لحياة بكاملها، إنني أراني من القفا، أنا الذي كنت مستندا بقفاي دائما إلى الحائط؟(18)   
5-إبدال المثقف في الشهادة على "العجيبة الفلسطينية"
          قبل أن نكشف عن موقف جان جينيه من "القضية الفلسطينية"، نتوقف على موقف الأوروبيين منها، ولاسيما المثقفين منهم؛ وذلك لأسباب متعددة، أهمها دور المثقف في التأثير في الرأي العام وصناعته، وكيف استطاع جان جنيه أن يبني حالة الاستثناء والتفرد، من بين هؤلاء المثقفين، انطلاقا من قناعاته الخاصة التي يعلنها صراحة في عنوان كتابه "أسير عاشق".
          نستحضر، في هذا السياق، مقالا  للمفكر المغربي عبد الكبير الخطيبي، بعنوان "دموع سارتر"(19)، ينتقد فيه موقف المثقفين الأوروبيين من القضية الفلسطينية، ويبرز فيه تناقضات  المفكر جون بول سارتر في موقفه من إسرائيل،  وهو "نموذج" "للمثقف الغربي"،  الذي يحيد عن القيم الإنسانية، عندما يتعلق الأمر بالقضية الفلسطينية، وذلك نتيجة ما أسماه عبد الكبير الخطيبي "الوعي الشقي" الذي تولّد لديه، من جراء إحساسه بالذنب المترتب عن الإبادة النازية لليهود، يقول الخطيبي: "ليست دموع سارتر دموع متصوف... إنها بالأحرى دموع الوعي الشقي لفكر ممزق تشكل إبادة النازية خلفيته... إنها أفكار محافظة تجعل من شعب معين مركز العالم. فهو يرى أن وجود إسرائيل معطى تاريخيا لا يمكن الطعن فيه، وأن المشكل الذي ما زال معلقا هو وجود اللاجئين الفلسطينيين لا وجود الشعب الفلسطيني: إنه اختلاف أساس تسعى الصهيونية الوثوقية إلى حجبه وإغفاله. غير أن الصهيونية المشروطة، نظرا لعمائها المتولد عن الشعور بالذنب لا تدركه ولا تفهمه"(20). ويسوق الخطيبي مجموعة من الأقوال للمثقف البارز والمؤثر سارتر، ومنها قوله: "ليس بيننا من ليس مذنبا بل ومجرما في هذه الظروف، فنحن المسؤولون عن هذا الدم اليهودي الذي أراقه النازيون"، وقوله أيضا: "لن يتمتع أي فرنسي بالحرية ما دام اليهود لا يتمتعون بكامل حقوقهم، ولن يخلد أي فرنسي إلى الأمن والطمأنينة ما دام يهودي واحد في فرنسا أو خارجها أو في العالم أجمع لا يطمئن على حياته"(21). ينتقد الخطيبي موقف المثقف الغربي الذي وقع ضحية الدعاية الصهيونية التي "تعمل على إحياء ذكرى الخوف من إبادة الشعب اليهودي لكي تشعر الغرب بالذنب وتقضي على كل ما من شأنه أن يعوق مشاريعها التوسعية"(22).
وينتقد عبد الكبير  الخطيبي موقف سارتر من القضية الفلسطينية انتقادا لاذعا، إذ يقول: "لقد حادت الصهويونية بسارتر عن الطريق وجرته نحو سلمها الذي يمتزج بالشعور بالإثم والوعي الشقي، وقد كان سارتر، شأنه في ذلك شأن الرأي العام الغربي آنئذ يعميه الضلال واليأس: كان الغرب يريد أن يدفن جثته وينسى رعب النازية، وكان على الشعب الفلسطيني أن يؤدي ثمن هذا القرار الفظيع"(23).
يُعيد جان جينيه  النّظر في علاقة المثقف من القضية الفلسطينية، وينطلق، في إصدار هذا الموقف، من التجربة التي عاشها، عند زيارته للمخيمات في الأردن، هذه التجربة ستقوده إلى اتخاذ موقف، ينتصر لفلسطين، وقضيتها، يقول جونيه: "بالنسبة لي، أن تكون كلمة "فلسطينيون" موضوعة في العنوان، أو في صلب مقالة، أو على منشور سري، فإنها تستحضر في ذهني مباشرة الفدائيين في مكان معين هو: الأردن، وخلال فترة يمكن تحديدها بسهولة: أكتوبر، نوفمبر، ديسمبر من العام 1970، ويناير، فبراير، مارس، أبريل 1971. ففي هذه الفترة، وفي ذلك المكان، عرفت الثورة الفلسطينية. إن الوضوح البديهي العجيب لما حدث، وقوة تلك السعادة المرافقة لوجودهم، يسميان أيضا: الجمال"(24).
يمكن التمييز بين مستويين في الأسباب التي دفعت جان جينيه إلى الإعجاب بالقضية الفلسطينية، والانتصار لها؛ المستوى الأول، يبدو موضوعيا، ويتمثّلُ في الوضوح الذي نجم عن لقائه المباشر بالفلسطينيين، والمستوى الثاني، ذاتي محض، يكمن في السعادة التي شعرت بها الذات عند حدوث هذا اللقاء. وهذان المستويان، يتفاعلان معا، لينتجا قيمة من القيم التي يتأسس عليها الفكر والوجود، وهي قيمة الإحساس بالجمال.
إنّ موقف جان جينيه ليس موقفا انفعاليا، يحكمه الشعور بالدّهشة؛ بل هو موقف نقدي، نابع من التجربة التي رآها، وعاشها، فجعلته، يعيد النظر في مسلمات الثقافة الغربية، وتدفعه هذ التجربة الحقيقية إلى اتهام الغرب بالمسؤولية عن تحويل الإنسان، بعد قرون من الدعوة إلى الحداثة والتنوير، إلى حياة الرحالة، وهو ما يظهر جليا في مخيمات اللاجئين الممتدة في مناطق مختلفة في العالم، ينعت جان جينيه هذا الوضع بأوصاف لاذعة، تحطّ من ادعاءات الثقافة الغربية، وتحملها المسؤولية عن مآسي العالم؛ فالمخيمات تمثل "فضلات الأمم" و"مياهها القذرة"، وهي نتيجة لصناعة البؤس في العالم، هذه الصناعة رآها الكاتب بأم عينيه، يقول: "ننظر اليوم، ربما كما قبل أربعة آلاف سنة أو أكثر، إلى شعوب كاملة، وهي تعاود الانغماس في حياة رحالة، لا بفعل اختيار...هذا ما نراه من كوة الطائرة، أو عندما نتفحص المجلات الباذخة التي يخلع ورقها الصقيل على المخيمات أمنا ظاهريا، في حين هي ليست سوى فضلات الأمم "الجالسة"، لأنها لم تعرف أن تصرف "مياهها القذرة"، فهي راحت وتركتها في واد... ينبغي أن ننظر بارتياب إلى صور المخيمات تحت الشمس أو على أوراق المجلات المصقول. تكفي هبة ريح واحدة ليطير كل شيء، النسيج والصفائح، الزنك والفولاذ. فلقد شاهدتُ البؤس بأن عينيّ ذات يوم"(25).  
6-خاتمة: فرضيات جديدة لإعادة قراءة " أسير عاشق "
يصعب تصنيف كتاب "أسير عاشق" في خانة من خانات الكتابة عن الذات؛ إذ تحضر فيه تقنيات الكتابة المتنوعة التي تخترق أنوعا متعددة؛ كالشهادة، والسيرة الذاتية، والبورتريه، والتحقيق الصحفي.... ويمكن قراءة هذا الكتاب /الذاكرة، بوصفه عملا متعدد الأصوات؛ أي "بوليفونيا" بالمعنى الذي منحه الناقد الروسي ميخائيل باختين لهذه المفردة"(26).
إن هذا التعدد، لا يلغي الذات، بل يمنحها مساحة أكبر لإعادة بناء صورتها في الخطاب، كما وضحنا ذلك في تحليلنا لمقاطع متعددة من الكتاب، وهو ما يجعلنا نفترض أنه يمكن قراءة هذا الكتاب/الشهادة، بوصفه إعادة صياغة للعالم الذي يحيط بالكاتب ويقهره، فهو: "عمل لا يفرض فيه أسلوب الروائي والمسافر صوته وحده وأفكاره، بل يدعك، ومن هنا فرادة الكتاب وطبيعته الاستثنائية، ترى إلى مصائر الآخرين وتسمع أصواتهم، وذلك حتى في الإيماءة الخفية، ما لا يكاد يرى أحيانا، في الكلام المشوش، بل الصامت، ما لا يكاد يسمع والذي يظل مع ذلك يهدر بقوة"(27).
وأخيرا، لا نستطيع أن نتجاهل، صورة الكاتب، التي يعيد بناءها استنادا إلى ذاكرته الحية، والناقدة، والتنويرية؛ إذ يمكن قراءة ذاكرة جنيه، بوصفها إشهارا للجنون في وجه العالم، الذي أصبح يشبه الصحراء، وهي آخر صيحات الذاكرة التي توازي هذا القول المكثف للناقد جون إيف تاديي، الذي يكيف فيه مسار علاقة الإنسان بالذاكرة، حين يقول: "الذّاكرة هي التي تصنع الإنسان؛ فهو يبدأ حياته مثل طفلٍ فروديّ، يبدو ظاهريا مصابا بالنسيان المرضي (الأمنيزيا)، كبت جراحاتِه كلّها في لا وعيه. ثم يكبر مثل يافع برغسونيّ: ذاكرته مقترنة بالفعل، ذاكرة عملية موجّهة نحو المستقبل؛ بودليريّا يستعيد الماضيَ في عطر وموسيقى بالاشتغال مشترك لحواسّه الخمس. وبتقدّمه في السّن يصير بروستيّا، وهي ذي ذاكرته تعيشُ حالاتِ وَجْدٍ لا شعوريّة، تجعله يعيش الماضي من جديد، ولربّما يفلت من قبضة الزّمن. ثم لا يلبثُ أن يشيخ على شاكلة شاتوبريان، لا تستطيع ذاكرته أن تواسيه، كان سوفوكليس قد بيّن له الطريق إلى كولونا، طريقَ السّلام الرّوحي بعد ماضٍ مشحون ودمويّ، لربّما تاه في ذاك الخلاء حيث صرخ الملك لير مُشْهِراً جنونه في كلّ اتجاه، هنا حيث لا ذاكرة لأحدٍ".
خبر جان جينيه جنون العالم الحديث، وليس غريبا أن تصنّف كتاباته إلى جانب الكتاب والمفكرين الذين دانوا عبث الحضارة الرأسمالية التي تصنع الموت، وتدمر قيم الإنسان، وتعيد العمران إلى خلاء وصحراء... ومقابل هذه الصورة المجنونة للعالم، يبني جينيه صورة "القديس والشهيد"... ونضيف الشاهد المجنون على الأزمنة الرديئة.
*إبراهيم العدراوي: باحث في البلاغة وتحليل الخطاب.
 
الهوامش:
  1. كاظم جهاد، مقدمة ترجمة كتاب "أسير عاشق"، ط1، القاهرة، دار الشرقيات للنشر والتوزيع، 1997، ص 7.
  2. Joëlle Gardes Tamine, La rhétorique, Éd, Armand Colin, Paris, P 163.
  3. Joëlle Gardes Tamine, La rhétorique, P 163.
  4. عبد الله صولة، في نظرية الحجاج دراسات وتطبيقات، ط1 ، تونس، مسكلياني للنشر والتوزيع، 2011،  ص 25.
  5. عبد الله صولة، المرجع نفسه، ص 25.
  6. Maingueneau Dominique, « Ethos, scénographie, incorporation », in Images de soi dans le discours – La construction de l’ethos, Ruth Amossy, éd Lausanne, Delachaux et Niestlé, 1999, p 75-100.
  7. Maingueneau Dominique, Le discours littéraire: Paratopie et scène d'énonciation, p 205. Armand Colin, 2014.
  8. Ibid, p 205
  9. أسير عاشق، ص 417.
  10. أسير عاشق، ص 14.
  11. أسير عاشق، ص 51.
  12. أسير عاشق، ص 49.
  13. أسير عاشق، ص 318-317.
  14. أسير عاشق، ص 38.
  15. يان أسمان الذاكرة الحضارية، ترجمة عبد الحليم عبد الغني رجب، المجلس الأعلى للثقافة، مصر، 2003. ص70.
  16. Maurice Halbwachs. Les Cadres Sociaux de La Mémoire.P 390.
  17. أسير عاشق، ص 40.
  18. عبد الكبير الخطيبي، دموع سارتر، مجلة أوراق فلسفية، العدد 14، 2005.
  19. عبد الكبير الخطيبي، ص 47.
  20. عبد الكبير الخطيبي، ص 49-50.
  21. عبد الكبير الخطيبي، ص 50.
  22. عبد الكبير الخطيبي، ص 52.
  23. جان جينه، أربع ساعات في شاتيلا، ترجمة محمد برادة، مجلة الكرمل، العدد 7، 1983، ص 147.
  24. أسير العاشق، ص 21-22.
  25. كاظم جهاد، مقدمة اسير العاشق، ص7.
  26. كاظم جهاد، مقدمة أسير عاشق، ص7.
  27. Jean- Yves et Marc Tadié - Le sens de la mémoire, Folio Gallimard 1999. P 929-.
---------------------------