أيار 18
      بعد مرور تلك الأعوام جلست أمام مخزن أسراري، أتفحص بعض صوري في الميدان مع صديقتي نجاة تلك الحسناء ذات العيون الواسعة والنظرات الحادة والملامح المحددة والشعر الأسود المائل للأحمر، كانت غير راضية عما يحدث.
أتذكر صوتها الغاضب وكلماتها الِصاخبة والمعارضة لما يحدث بكل صراحة: أنا مع الريّس ولست مع أغلب تلك الأحداث، أين الوفاء مع البطل الذي حافظ علينا. كان حبها للجيش لا يقل عن حبها للرئيس.
وقعت من يدي صورة كانت التقطتها لي نجاة أمامَ دبابة خلف دار القضاء العالي، كان حجمي ضئيلاً للغاية أخَذَتني أفكاري لفترة بالية؛ حينها كان الألم في حياتي هو الحياة، إذا غاب عني بعض الوقت استدعيه بكل السبل، فقد كنت لا أحتمل أي نسيم من السعادة والراحة.
كنت كلما تنتابني السعادة أشعر أني طائر في السماءِ؛ أحلق في الهواءِ؛ قدماي تبحثان عن الأرضِ ولا تجدانها، كان وزني ينعدم وأفقد الجاذبية؛ فانجذابي للأرض عندي هو أصل الحياة، حتى وإن كان البديل التحليقَ في الهواء والتجولَ في السماء بين النجوم الساطعة حيث النقا، كانت عندي الجاذبية مع العذاب أفضل من شعوري كريشة يطوحها الهوا؛ لا تثبت على حال.
لا أَنكر أن السعادة شعور فريد ذقته مرات ومرات، من فرط فرحتي به كنت لا أحتمله، كنت أرفرف من شدة فرحتي أحيانا.
لكنني كنت أعجز عن الصمود على تلك الحال؛ إنه شعور ثقيل رغم ثقله يحملني فوق الأرض ويترنح بي في كل اتجاه عدا الأسفل. بينما كنت أطيل النظر نحو الأسفل، في غمرة تلك النوبة الأخيرة من السعادة حاولت أن ألمس بقدمي الأرض، لم أجدها.
تعجبتُ!  فدوما حينما كنت في نعيم الجاذبية الأرضية لا أنظر إلا إلى السماء، لم أكن أنظر مطلقا حولي أو حتى أسفل قدمي، كانت عيناي معلقتين في السماء. إلى ماذا أنظر؟ لا شيء محدد، لكنني كنت دوما أنظر لأعلى فقط.
الآن أمكث في حِصن الجاذبية أغرقتني جبالها الحزينة، كدت أتوه في دروب تعاستِها.
تلك المرة كنت أنظر إلى أسفل قدمي فقط لا أحتمل النظر لأعلى.
لا زلت أسبح في ظلمات العذاب وإذا ببصيص من الضوء ينير أمامي طريقي، إني أتشبث به لكنه يأخذ عيني لأعلى وأعلى كما كنت قبلا.
إني اقترب من البهجة التي أبحث عنها فيهما.
الحين أدركت وجودي، إني استعيد توازني بينهما؛ جزء في الأرض وجزء في السماء، عذاب الأرض وسعادة السماء. إنها البهجة التي كنت أبحث عنها حقا بين النقيضين.
فالغوص للأسفل فقط عذاب والتحليق في السماء فقط ضياع.. إن الوجود بينهما هو البهجة.
الآن أرتشف كوبا لا ينضب من البهجة.
رحيقه السري مكتسب من عمق الأرض وفضاء السماء. يمنح من يتناوله الخلود، ويمده بطاقة البقاء بهما معا.
يستطيع شاربه السير فوق الأرض والتحليق في السماء في ذات الوقت.
يمنح شاربه أيضا التوازن، فهو ليس أبيضا وليس أسودا ليس مملوءا وليس فارغا؛ هو بين كل هؤلاء هو خليط من كل الأشياء..
شدتني صورة أخرى التقطتها نجاة مع جندي يرتدي ملابسه ذات المموه، تذكرت معها كيف صنعت الثورة بنا الكثير؛ ففي أثنائها وبعد التنحي شعرت أن الكذبَ والتضليل لن يكونَ لهما مكان.
حينها جاءني يقين أن الظلم لن يعرف مخلوقا على وجه الكرة الأرضية مرة أخرى.
تذكرت يوم كنا نسير في أحد الشوارع المحيطة بميدان التحرير في أعقاب الأحداث الساخنة قلت لها:
الدنيا تطير بي من فرط السعادة؛ مما أغدقته الثورة علينا من أجواء ليس لها مثيل، وليس لها وصف دقيق يليق بها، كانت أجواء تشبه المدينة الفاضلة؛ فالكاذب لن يكذِب بعد اليوم. والسارق لن يسرق بعد اليوم.
التَفَتَتْ نحوي قائلةً:
المفارقة العجيبة أني لم أتعرض للسرقة أبدا في حياتي، إلا في أعقاب الثورة.  هل تلك مصادفة؟
كانت البلد تُسرق كل يوم لكني لم أتعرض للسرقة المباشرة قط؛ فقد كنت قبل الثورة أسْرَق بشكل غير مباشر وبعدها أصبحت أسْرَق بشكل مباشر.
ربما لأن السارق أصبح قريبا ومتمكنا أكثر من ذي قبل؟
قلت:
انظري حولك كم طفل يخطف كل يوم بل كل لحظة؟
كم حادث بشع يحدث كل ساعة؟ فالبلطجة أصبحت سيدة الأحداث.
كم حالة نصب تتم في وضح النهار؟ كم عامل فقد عمله؟ وكم أسرة فقدت أعز ما تملك؟ كم شهيدا ضاع منا؟ فما دمنا عاجزون عن أخذ حقه.  فقد ضيعناه وضيعنا حقه.
قالت نجاة:
سوف يرفع الله عنا تلك الغمة، فالأمور تسير على ما يرام ونحقق ما نحلم به، ومصر في طريقها إلى العالم؛ بفضل كل مخلص وكل متفان.
ما يحدث من سرقات ونهب وخطف؛ هو أعراض جانبية تصحب أي ثورة، هي إفرازات غير مرغوب فيها، لكنها طبيعية في حالتنا، سوف ترجع الأمور لنصابها حتما عما قريب.
قلت له:
أشعر أن شيئا بداخلي مخطوف، بداخلي شيء لا أعرفه مسروق، ولكني على يقين أنه عزيز.
عدلنا المسار حقا. نسير على الدرب حقا. لكن ما الذي أخذ منا؟ أي شيء ثمين أضعناه؟ إذن ما الذي فقدناه؟
كل ما أشعر به أنه شيء مهم.  لكني لا أعلمه.  أنا لا أجد إجابة عن هذا السؤال بكل صَيغِه.
كيف أسترده في حين أني لا أعرفه؟ هل سأعرفه يوما؟ هل سأسترده يوما؟
قالت: كان قرار تعديل المسار أصعب من قرار الثورة ذاته. اخترنا الأصعب، واجهنا قدرنا المحتوم، لا زلنا نواجه وفي الأفق نور يتلألأ، كلما سرنا تأكدنا أننا في الطريق الصحيح.
قلت:
بعد أن نجحنا في إعادة الثورة، بعدما تهنا عام كامل، وكدنا أن نفقد كل شيء وبلا رجعة. فإما أن نسترد كل شيء؛ الماضي والواقع والحلم أو الاستسلام. وكان القرار وقد كان.
وعاد لنا كل شيء، حتى الألم، حتى الظلم، حتى مرارة ما قبل الثورة؛ إلا أن حافزنا الوحيد هو الوطن. لا شيء غيره. يكفي أننا في حضن مصر، يكفي أنها بين ضلوعنا.
ولكن هل ستنتصر الإرادة الصادقة في القضاء على الظلم والألم والمرارة؟
هل سيأتي يوم يتوارى فيه الفساد الذي يطل برأسه من كل الأركان ليعلن عن انتصاره حتى الآن ولسان حاله يقول "لن يجدي معي شيء، ثوروا كل يوم، لن انتهي، لن أتراجع عن مكاني أنا استحوذ على كل شبر فلا متنفس إلا لي".
هو يحتمي بأعداء الوطن الذين سينقضون على آخر أمل لنجاة مصر من مخطط الشر. إذا حاولنا الثورة على ذلك الفساد البغيض. حقا للفساد من يحميه.
قالت:
الثورة الحقيقية على الفساد وعلينا أن نتمسك بالصبر.
انصرفت صديقتي متجهة للمترو وسرت وحيدا في طريقي.
لا زلت واقفا أمام مخزن أسراري، كمن يبحث عن شيء.  مررت على ذكريات ليست قريبة، سرعان ما جال أمامي ما حدث، لا زلت أذكر كلماته: عن الظلم والبكاء وجملته التي لا زالت ترن في رأسي - حتى البكاء يظلم – أظن أنه رجل نادر؛ لم يقترف ذنبا في حق أحد، لم يظلم أحدا. هكذا ظن، هكذا يشعر، هكذا يفكر بل أنها هي الحقيقة. يشهد من حوله بذلك..
ذات مساء سحبتني خطواتي إلى منزله - الذي يواجه منزلي مباشرة - كنت أعلم أنه لن يزورني رغم رغبته في ذلك.  كان يأبى خشية أن يتهمه جيرانه بالجنون - فالطبيب النفسي لا يدخل بيته عاقل في عرفهم - طرقت الباب، لم انتظر طويلا، فتح وتلقفني، أدخلني في الحال. رحبت به جلس على أريكة بجوار نافذة تطل على حديقتي الصغيرة، كان يبدو هزيلا تملأ ملامحه هزيمة بينما عيناه بها بريق من دموع تكاد تقفز، لم يترك لي فرصة لأي كلام بل تولى هو الأمر، تركته يحكي ويحكي:
لماذا أبكي وأعاني من الظلم الذي يحاصرني في كل مكان؛ في لقمة عيشي، في شربة مائي، موطن رزقي، في الهواء وفي الأجواء؟
كان دوما يتعجب من حاله:
ما دمت أنا المظلوم الذي لم يرتكب ذنبا، لم يظلم أحدا لماذا يزورني البكاء المؤلم والمرير؟
لماذا لا يزور ظالمي مرة؟ فلو فعل لكف عن ظلمه وندم على كل لحظة مارس فيها الظلم.
لماذا أبكي؟ كلما تذكرت كيف أضنى ذلك الشخص نفسه لكي يحجب عني رزقي الذي قسمه لي ربي من فوق سبع سماوات؟
كيف لم يتوان لحظة في التخطيط والتدبير لمنع حقي عني؟ كيف استطاع أن يستقطب الجميع في صفه ضدي؟ كيف جمع ذكاءه وخبراته وخبرات الشياطين لإنجاح مخططه ليغلق أمامي كل نوافذ الرزق؟ – كما تخيل – كان عجبي لتفرغه من أجلي ومن أجل منع أية بوادر أمل.
تركته يسترسل كان لديه سيل لا ينضب من الألم والحيرة والدهشة:
"أجل كان يحاربني لم يشغلني الأمر في حينه. لكن بعد مرور الوقت تيقنت من نواياه. لا أعرف لماذا كل هذا الكره؟ كل هذا الحقد؟ هل ظن أنه سيأتينني رزق من ربي عن طريق الخطأ؟ وبالتالي عليه هو أن يصحح مساره؟
لا أدري كيف كان يفكر؟ لا أدري لماذا يفعل كل هذا.
 
لكني أعلم جيدا أنه سبب رؤيتي لرسول الله صلى الله عليه وسلم في منامي، كان الحبيب راضيا عني مبتسما في وجهي، عانقني وقبلني، هي لحظة تهون من أجلها كل المتاعب وكل المقالب وكل البكاء وكل الدموع.
استطرد قائلا:
أشعر أنني من الصفوة، لم أشغل بالي مطلقا أن ينتقم منه ربي أو أن يرفع ظلمه عني، لم اكتشف حقيقة ما يضمره حتى وقت قريب، كنت اعتقد أن ما يحدث هو مجرد مصادفة. ليس أمرا متعمدا ومدبرا من أجلي.
عندما أدركت الحقيقة ضحكت في نوبة هستيرية، ثم انتابتني عاصفة من البكاء والدعاء؛ دعوت ربي أن يأخذ لي حقي؛ لن أستعين بأحد سواه وكفى، قررت ألا أستسلم للظلم؛ قاومت ولا زلت ولم يتوان هو الآخر في هجومه الذي أصبح الآن واضحا. حتى جعل الجميع يتعاطف معي، لجأت لكبير يخافه ويهابه فتعاطف معي إلا أنه فجأة انحاز لظالمي وإذا به يتنصل من وعده بإنصافي، طالبته بنصرة المظلوم؛ هاجمني بنظرات جعلت مني أنا المتهم والمخطئ، تعجبت مرة أخرى؛ نجح عدوي في تشويه صورتي. كان صمتي انتظارا لعدل المقسط دوما ، استرحت الآن . حتى وإن لم يكف ظالمي عن ظلمه؛ بل أنه زاد في طغيانه ولم أبال.
كان الرجل يبكي في كل جملة خرجت من فمه، علمت فيما بعد أن من ظلمه هو ابنه، لازلت أراه يبكي رغم مرور وقت طويل على ذلك اللقاء.
 تأهبت للخروج متجها للمنزل وما أن اقتربت من الباب فاتحا إياه ذات الليلة وجدت إحدى الصديقات العزيزات أمامي، لم تكن مهمتي في إقناعها لزيارة عيادتي الجديدة سهلة ففي اللقاء الأخير لمحت شحوبا بملامحها وهبوطا بحماسها الذي يميزها دوما. منذ أيام جمعتني الصدفة بها في النادي، جددت دعوتي "لماذا لا تزوريني فى عيادتي لتأخذي فكرة عن نجاحي؟ "وكان صمتها كالعادة. إلا أنى أحسست بزيارة وشيكة منها فبحكم خبرتي كانت بها حاجة للابتعاد عن ضوضاء نفسها، وفعلا حضرت كما توقعت.
جلسَت في استرخاء تام، وأخذت تروى لي في تدفق:
كنت أغالط نفسي فهو لازال في جزيرتي التي منحته مفاتيحها وخريطتها السرية. أدركت أنى كنت أخدع نفسي، ظننت أنى كلما أطلعته على مقتنياتي سيزداد تمسكا بي، لجأت إلى إعلامه عن نقاط ضعفي عله يتجنبها، أوضحت له أنه كلما تجنبها سأعود إلى نفسي الحقيقية؛ فأنا أمر بمرحلة غريبة عنى، أعيش أوقاتا غريبة عن ذاتي وعن حقيقتي ؛أنا لست أنا، أنا لست كذلك، أنا أفضل من ذلك، فقط أريد أن أستعيد ثقتي بنفسي وبالعالم وأنت هذا العالم فساعدني .
قلت لها وماذا فعل؟
بادرتني:
فاجأني رده الذي حيرني وقتها كثيرا، لقد اتهمني أنى لست على طبيعتي، ما زادني اعتمادي عليه إلا ارتباك أكثر وتغريب أكثر. تيقنت أنى مسنودة على حائط كلما لجأت إليه أجده يميل بى ليس لعدم قوته وإنما لأن أساسه ليس صلبا فهو لم يأكله الصدأ بل لإنه مصنوع  من مادة مطاطية لا تمنح قاصده القوة بل تبخل حتى أن تسنده واكتشفت أنى  لجأت لحائط ليس مائل فقط بل هو أردأ أنواع الحوائط وتأكدت أن ما أتلفه الدهر لن يداويه إلا الدهر ،فأزمتي التي أصابتني  كان أساسها أنى أثق فى غيري كثيرا وما كان منهم إلا أنهم يخذلونني على أقصى درجة وإلى أسوأ درجة ،ظننت أن الحب هو خير دواء فتشبثت به إلا أنه لم يكن كما تمنيت؛ فذالك القلب لم يكن بمستوى حبي ،حاولت كثيرا أن احتفظ به فهو أملى لأستعيد ذاتي الحقيقية وما جنيت إلا ألماً أكثر وغربة أكثر وارتباكاً أكثر. أدركت أن الحب أيضا يكون داء إذا لم يكن دواء، فالعثور على الحب ليس معناه الشفاء فربما يكون بداية لمعاناة جديدة، زادت به آلامي إلى ذروتها وكانت قناعتي أن أول خطوات نجاتي هي التخلص من هذا الحب العقيم رغم جراحي وأسقامي وحقا ما ذهبت إليه فتعافيت شيئا فشيئا وأنا الآن في طريقي لاستعادة ما فقدت من ثقتي ونفسي فهل من أمل جديد لحالتي يا طبيب؟
على الفور كان ردى: إنك الأمل لهذا العالم فأنت تجسيد لنجاة البشرية من زحف اليأس إليها. استمري فأنت على الطريق لذاتك الحقيقية التي أخفتها عنك تراكمات وإحباطات فرضها عليك الواقع ووضعتهِا على عتباتك الظروف.
سألتني في براء ة: هل سأحب مرة أخرى؟
احترت وفي بحثي عن الرد جاء بخاطري رد سابق التجهيز: الأمل كبير رغم ما حققته المادة من سيطرة على عالمنا.
بأمل يتضاءل في صوتها قالت: هل هناك حب حقيقي في عالمنا؟
لم أخف أمامها أنى في حيرة من هذا العالم ولم أنكر أنى أبحث مثلها عن هذا الحب
-لست لأني طبيب نفسي عندي طريق سحري يوصلها إليه، خشيت أن تكتشف أنى أنا الآخر حائط مائل فتزداد حالتها سوءا وتتفاقم أزمتها -ثبتت نظري نحوها وهاجمني صمت طويل.
 
منال الأخرس.. قاصة وصحفية مصرية، لها عدة مؤلفات، وحصلت على العديد من الجوائز