أيار 18
   
 تردّد صاحب التكتك وهو يرى المبلغ المرتفع الذي أعطته له تلك السيدة، ذات الشعر البني المقصوص على طريقة الرجال. لم يخطر بباله في هذا الصباح العادي جدا، حيث أفاق على صوت زوجته الحاد، وهي توقظ الأولاد للذهاب إلى المدرسة. مرّت على أنفه كما في كلّ صباح رائحة البيض المقلي بزيادة. ثم فتح ذات الحنفية الصدئة، وغسل يديه بالماء العكر الذي اعتاده من بضع سنين، بذلك الصابون الرخيص ذي الرغوة الخفيفة. ارتدى ايضا كما في كلّ يوم سترته الخضراء الغامقة، تلك التي جلبتها أمّه عندما أتت من بيتها في المدينة، لزيارته في حي سبع قصور، الحي الذي تصفه بلهجتها المتذمرة "يمه هاي منطقتكم شو ما بيهه ولا قصر". في ذلك اليوم قالت له أنها صادفت رجلا يبيع الستر المستعملة، واشترت منه هذه السترة الفاخرة بمبلغ خمسة آلاف. ثم مرّ كما في كلّ يوم بصفٍ مرصوص من بيوت يدعونها الحواسم، وعبر المجرى الذي تصل إليه مياه تصريف المطابخ والحمامات، حتى إنه صادف الصِبية أنفسهم الذين يعبثون بالتراب، والمرأة التي تنبش في المزابل، والخضّار الذي يدور بعربته في الشوارع، نعم، إنه الصباح الذي اعتاده، ولا شيء خطر بباله سواه، عداها هي، الطويلة، الممتلئة قليلا، بملامحها الناعمة، وطريقتها السريعة في الحديث. مدتْ يدها حيث كانت تقف في تقاطع (البنوك). لفت انتباهه لسانها الثقيل قليلا، وهي تشرح له أنها تريد جولة في بعض أحياء بغداد. تردد للحظة. انتظر أن تسأله كم يريد. لكنه بفطنته أدرك أنها ستدفع جيدا. عدّل من ياقة سترته الخضراء، وكبس محرك التكتك بقدمه، فانطلقت خفيفة، تمرق من بين السيارات، لتتفادى الزحام، وتسلك طرقا فرعية. عِبر المرآة كان يسترق النظر للمرأة ذات البلوزة الصفراء، والساعة الرمادية الكبيرة. تلمع في يدها التي تمسك دفترا صغيرا، وإلى جانبها حقيبة ظهر سوداء. راحت تدون أشياء، وهي تراقب الناس والطرقات. من دون أن يظهر عليها انفعال ما. استطاع أن يميز لون عينيها البنيتين المكحلتين، وعنقها الناصع وشعرها البني المقصوص بعناية.
شعر بألم ما في قلبه، كم من يصحو على نقطةٍ مضيئة تلوح في أفق معتم، فتظن أنك ستموت إن لم تصل إليها. في ذات اللحظة العجيبة تلك عرف أنها دخلت بضراوة إلى قلبه، وأسره شكلها البسيط العميق، وطريقتها في وضع القلم على شفتيها وهي تتأمل الشوارع الضيقة في باب المعظم، والبيوت العتيقة الصامدة في وجه السنين. انتابته حيرة لا يعهدها في نفسه، كيف يبدأ حديثها معه، كان يود أن يسألها مثلا من أين أتت؟ وماذا تريد أن تشاهد تحديدا؟ انتظر منها أن تبادر هي بكلمة ما، فقد حرص ألا يبدو متطفلا. ولم يكن انتظاره طويلا، إذ سألته فجأة عن مكان الإعدادية المركزية "يقولون إنها  هنا.. هل تستطيع أخذي إليها؟"
شقت التكتك طريقها نحو الإعدادية، عبر الدرابين الضيقة، وكان يرى عينيها تلتهمان الأمكنة. -هل تبحثين عن مكانٍ ما؟ بحسّه أدرك أنه السؤال المناسب لبدء حديث يتمناه مع امرأة يبدو عليها أنها أضاعت شيئا ذات عام. بدت كما لو أنها أفاقت من حلم، على صوته، وعادت للتو إلى العالم من رحلة بعيدة -أبحث عن ذكريات أمي وأبي. -‏هل كانا يعيشان هنا؟ -‏نعم.
 -‏أستطيع مساعدتك. اعطيني المعلومات التي لديك عن المكان. -‏أظن أنه قريب من الإعدادية المركزية. يقول أبي أنه كان مدرسا فيها قبل أن يتم إجباره على الرحيل.
 -‏الرحيل؟
‏- رحل إلى إسرائيل...جميع اليهود هنا تركوا منازلهم ورحلوا. قالت جملتها الأخيرة، وهي تتفحص البيوت الموصدة، والبيوت التي تحولت إلى مخازن، فيما بدا ما يشبه الدمع يلتمع في عينيها الواسعتين. احتاج بضع دقائق ليرتب أفكاره حولها.. إنها امرأة يهودية، قدمت للبحث عن منزل أبويها. ربما لتراه، أو لتسترده. بعد دقائق كانا أمام الإعدادية. تناهت إلى أسماعهم أصوات الطلبة، وقد شارف الوقت على الحادية عشرة صباحا. اقتربت من جدار المدرسة، تحسست الطابوق، كمن يتحسس قبر وليٍ من الأولياء. بدت كأنها تتخيل كيف كان والدها يدخل ويلقي دروسه هناك، وقد تذكرت كلّ ما أخبرها إياه، عن تلك الأيام وما خلّفته من حنين، وكيف يضجُّ الآن في قلبها، ويطفو على ملامحها باحثا عن أثرٍ ما. عادت إلى مقعدها في التكتك الأزرق، وهي تخبره أن المنزل ليس ببعيد، لكنها ليست متأكدة من مكانه تماما. غمره إحساس هائل أن إيجاد المنزل بات مهمته اليوم، فقد كان ذلك كفيلا بسعادتها.
أرته الصور الباهتة التي بحوزتها. ثمة زقاق ضيق، بشرفات متقاربة لبيوت متقابلة. إنه يعرف جيدا هذه الأزقة، وهي ليست كثيرة هنا في باب المعظم والميدان ودرابين القشلة، لكنها متشابهة، ولابدّ من وجود علامة ما يستدلان منها على المنزل المقصود. في حوالي الساعة الواحدة بعد الظهر، اقترح عليها أن يأكلا شيئا. وافقت على الفور، فأخذها إلى مطعم قريب يعرفه. كان وجودها إلى جواره قد لفت الأنظار، أدرك أن هيأته البسيطة وهيأتها الفاتنة، هي السبب. تكدّر مزاجه قليلا، وتمنى لو أن أحدا غيره لا يراها. بدت ملامحها راضية تماما، وهي تشاهد الدجاج فوق طبق الرز. نسي الناس، وانشغل برؤيتها وهي تأكل طعامها بشهية واضحة وعفوية بديعة. حتى إنه لم يبالِ بالأكل كثيرا. لم تحاول منعه من دفع الحساب. ‏أشرقت روحه لأنها لم تفعل. عندما انطلق بالتكتك من جديد، ليكمل البحث معها، شعر أنه على وشك التحليق. وبقايا طعم الشاي والسكائر التي دخناها تداعب حواسه المتأهبة. ‏دخلا زقاقا ضيقا. اقترحت عليه أن يمشيا. هلّل قلبه للفكرة. ‏
راحت تحدق في الأسطح والشرفات المتقاربة. أحيانا كانت تمدّ يدها لتلمس الطابوق، وتلتقط الصور. في لحظة انشغالها بالتصوير تعثرت وكادت تسقط. ‏
- انتبهي.. هذه الشوارع مليئة بالحفر. ‏
- ما اسمك؟
‏- عمار. ‏
- إنه اسم جميل. اسمي إيلا. ‏
- إيلا! هل هو اسم يهودي؟ ‏
- نعم.. يعني شجرة البلوط ‏
- هل تقرأ؟ ‏
- لا...كان آخر كتاب قرأته هو في المعهد كي أنجح. ‏
- أنت غير مطلعٍ على تاريخ العراق إذن؟
‏- ليس كثيرا.. في معهد الإدارة لا يعبئون بالتاريخ. ‏
ضحك ضحكة متهكمة باحثا في وجهها عن ضحكة مشابهة، لكن ملامحها كانت جادة وهي تمشي بخطوات سريعة في ذلك الزقاق حتى شارفا على نهايته، ووجدا نفسيهما أمام زقاقين آخرين متفرعين عن الأول. أخرجت الصورة الباهتة مجددا، وأخذت تطالعها باحثة عن تفصيل ربما لم تلتفت إليه. ‏كان ينظر مثلها إلى الصورة: ‏
-انظري! زخرفة الشرفات هذه غير متشابهة.. ثمة اختلافات صغيرة قد تقودنا لمنزلك. ‏-حقا؟ كيف تبدو الشرفة التي في الصورة برأيك؟ ‏
-لا اعرف بالضبط.. لكن يمكننا مع بعض التدقيق الوصول إلى شيء ما. ‏ربما لو سألنا كبار السن من أصحاب المحلات القريبة. ‏
- حسنا، لنفعل رجاء. ‏وهما يسيران، كان كتفها أحيانا بسبب عدم انسياب أرض الشارع، يحتك بكتفه. ويبدو له وجهها من الجانب فاتنا، وشعرها الصبياني رقيقا وجذابا. كان قلقا من سرعة مرور الساعات وهي إلى جواره، لم يرد أن تسكت أبدا، سألها، وهو يحاول دفعها للسير ببطء: ‏
- وأنت، ماهي دراستك؟ ‏
- درست التاريخ، وأنا الآن أدرّسه في الجامعة. ‏
- ما معنى أن ندرس تلك الأشياء التي حصلت في الماضي؟! ‏فيما بعد لم يستطع أبدا نسيان نظرتها المعاتبة المستغربة، وهي تقول بنبرة لا تخلو من غضب: ‏
- أشك كثيرا أننا سنفهم حاضرنا من دون فهم الماضي. ‏كل محاولاته اللاحقة في الحديث معها كانت لكي يرمّم ما اعتقده من فجوة في التفكير بينهما. ‏خمّن ذلك عندما سألته بصوت مرهٓق إن كانت سببت له التعب أو كان يودّ الرحيل: ‏
- أنا بخير تماما. وسنجد المنزل. ‏ابتسامتها الكبيرة جعلت قلبه يخفق، واطمأن إلى رغبتها في بقائه معها. ‏وصلا عند شارع المتنبي. اجتازه مارا بمحلات بيع الكتب، والبسطات المتناثرة، حتى وقفا قرب مقهىً شعبي، ودلفا إليه، أخبرها أنه مقهى الزهاوي. تركها تتأمل الصور على الجدران، ثم راقبها بشغف وهي تشرب الشاي وتدخن. ‏طلب منها صورة المنزل، ثم غاب دقيقة، فيما راحت هي تتأمل أثاث المقهى الخشبي القديم، ويبدو أنها تستغرق في أفكارها. ‏أشار إليها للخروج، وراحا يقطعان المسافات صامتين. ‏عندما وصل بها إلى ذلك الزقاق الضيق القديم، كانت الشمس قد أوشكت على الغروب. كان عمال المخازن والمطابع يغادرون، في حين كانت المنازل موصدة تماما، وهادئة، وبدت كما لو أنها تموج بالحزن والغموض والحنين. ‏فيما راحت أشعة الشمس تنسلُّ من الزقاق، لتجد العتمة لها مكانا، خيّم صمت عميق، يشبه صمت القبور، أخرج هاتفه وأشعل المصباح. ‏
- إيلا.. أظن أن المنزل قريب من هنا. أخبرني رجل مسن أن أمثال هذه الشرفات هي في زقاق حسن باشا ‏-يا إلهي! أتمنى أن نعثر عليه. ‏
- لكن قد يتعثر بحثنا بسبب الظلام. ‏ينبغي رؤية الشرفات بوضوح. ‏
- كلا.. سنكمل ما بدأنا اليوم، حتى لو اضطررنا للرجوع وجلب مصباح. ‏كانت صورة المنزل بين يديه، وهو يمر على المنازل، متفحصا إياها بدقة، فيما كانت هي تراقب ملامحه بلهفة، باحثة عن انطباع تعرف منه أنهما وصلا. ‏اكتسبت ملامحه فجأة مظهرا مبهرا، وبدا كما لو أنه توقف أكثر من المعتاد أمام أحد المنازل: ‏
- أنظري إيلا ‏أخذت الصورة بارتعاشه واضحة، وراحت تطابقها مع المنزل الذي أمامها، مستعينة بضوء مصباحها وبقايا آخر أشعة الشمس المتوارية. ‏ظهرت كل المعالم بوضوح، شكل الباب، والجدران، والشرفة المزخرفة، ثم تصورت المسافة بين المنزل والإعدادية، إنها مسافة منطقية، تطابق حكايات والدها، وبقايا ذكرياته. ‏بدت كما لو أنها تهمس للباب بأشياء. ‏تركها تتأمل المنزل، واندهش من محاولتها فتح الباب المقفل. ‏
- أرجوك لا تحاولي الآن. ‏
أفلت الشمس تماما، وتضاءل شحن الهاتف. أمسك يدها وهو يحثها على الرحيل. اضطر إلى جذبها قليلا. ‏راحا يسيران ببقايا ضوء الهاتف الخافت. حتى لاحت الأضواء لهما. ‏عندما وصلا إلى التكتك، كانت كفها في كفّه. ‏صعدت إلى التكتك، وهو يتحسس رطوبة كفه، مأخوذا بالدموع على وجهها الساهم. ‏قال بانفعال، تشوبه لذة الانتصار:
 ‏- ايلا.. غدا سنعود. ‏
- سأسافر في الصباح. ‏قاد التكتك إلى حيث تقيم في فندق بغداد. ‏تلألأت الاضواء في الطرقات. كان كل شيءٍ يسير إلى نهايته المحتمة، ‏حتى الأضواء تنكسر على الشارع، وتلاقي مصيرها هناك على الإسفلت. ‏وها هو التكتك ايضا، يصل إلى الفندق، شعر ايضا إنها نهاية شيءٍ جميل، مثل الأضواء المتكسرة. ‏قبل أن تنزل، خرج صوتها متكسرا هو الآخر، متكسرا ومجروحا: ‏
- شكرا لك. لولاك لم أجد منزلي. ‏تردد وهو يشاهد حفنة الدولارات في يدها. كان المبلغ كبيرا، هكذا بدا من حجمه في كفها ذات الأصابع الناعمة، رغب بشدة في الإمساك بكفها وعصرها، لكن المال بدا حاجزا شاهقا. أطبق بيده أصابعها على المال. وصعد التكتك شاقا طريقه بين السيارات، وفي الطرقات المختصرة، وهو يراقب تكسّر الأضواء. ‏