أيار 18
 
  
لا أدري لماذا حين أقف عاجزة أمام تربصات الواقع بذاتي، لا أملك سوى الهروب نحو المتخيّل، ولا سيما علاقتي مع شخوص روايتي، فمعهم أكون أفضل حالا من السهر قرب أغنية متألمة أو قرب هاتف لا يرن أو قرب شاشة تلمع كقنديل خافت لا ينقل لنا سوى دمعة محترقة. ربما لو وجدت ما يسكّن كل هذا القلق العاصف بذاتي لنمت بهدوء.
قررت الاتصال بأحلام وإخبارها بأني سأجترح لها شرخا جديدا في مسيرة عشقها، وأروي التفاصيل الصغيرة التي تتعلق بذلك الشرخ في قصة جديدة. وأخذ التفكير مني زمنا قصيرا؛ لأني أعرف كل تفاصيل حياتها، ومن أين أبدأ معها فاتصلت بأحلام وأخبرتها بما يجول في رأسي. لكنها انتفضت، واتهمتني بأني أحسدها على سعادتها، وأسعى جاهدة لخراب بيتها، وتكلمت كثيرا وأنا أخضع للسكوت بمضض تحت ضغط ثرثرتها، ولكن بعد أن استفزتني ذكّرتها بأنها ليست سوى شخصية من ورق، صنعتها بنفسي وكل من شاركها حكايتها في رواية (امرأة في عيون نزقة)، ولكن لم تقتنع، وقالت بعصبية:
أنت لست بأفضل حال مني، كلانا شخصيتان من ورق في الرواية التي عشنا أغلب أحداثها سوية.
أنا الآن لست صديقتك على وسائل التواصل الاجتماعي، ولا علاقة لي مع شخصية (إيمان) في الرواية إلا تشابه الأسماء لا أكثر، أنا (إيمان) المؤلفة التي تسعى لصنع فضاء قصصي يتعالق مع فضاء الرواية التي كنت أنت شخصية فاعلة فيها. وكي لا أفسح مجالا للسارد العليم أو المشارك سأكون أنا الساردة التي أعلم كل شيء.
وعلى الرغم من الاندهاش الذي أصابها عندما سمعت كلامي، بادرتني بتساؤل لا يخلو من اللوم والعتب:
وما ذنبنا نعيش المآسي، ونقع تحت تأثير رؤاك دائما؟ هل نتحمل كل هذا العناء من أجل إمتاع القارئ؟
حاولت أحلام التملص من ضغط إيمان، لكنها لم تفلح، ورضخت للطلب في نهاية النقاش، لا سيما بعدما أن أيقنت أنّ لها دورا مهما في كتابة يومياتها بضمير المتكلم، وكيف كانت تمارس أنوثتها بين يدي خالد، في أمسياتها الواعدة بالحب، يظللها الحلم الأبدي.
شرعت أحلام بكتابة يومياتها، ولكن الكلمات ما زالت مرهقة في تدوين ما عاشته وتعيشه الآن، فهي لا تجد ما يوصلها إلى أمنياتها المنشودة، ويبدو أن أحلام كغيرها من بني البشر ما تعودت البوح بأسرار السعادة ورغباتها المفضوحة، فكلما تعمّق القلم في أفق الطمأنينة نالته عتمة الارتباك، فتبوء محاولتها الكتابة بالفشل، وهكذا ظلت أحلام تسعى إلى تدوين الحب المترف بالشوق، لكنها لم تجمع سوى أوراق ممزقة. جمعت أحلام تلك الأوراق بعد أن دب اليأس في إمكانية رسم لحظات فرح يزهو في فضائها. وأخذت تبحث عن سلة المهملات فرأت خالد جالسا فداهمتها التساؤلات التي لا إجابة لها وهي تتذكر ماضيها مع خالد وهو يبدد رتابة أوقاتها بابتسامته التي تجعل الأمل مشرقا أمامها، الأمل الذي ينبعث معه من جديد، وتتذكر كيف كانت تدّس رأسها تحت وسادتها علّها تغفو على حلم لا تصحو منه.
كان خالد منهمكا في كتابة مرافعته لجلسة الغد، لا يدرك ما يجول من حوله، والهمسات تتسابق في قلب أحلام وهي تنظر إليه "حتى الكلمات لا تجسد توصيفك، ملكت كياني بنبل أخلاقكَ واتزانك، جرى دمك في عروقي حتى دان له قلبي بالنبض، تتسرب في عروقي ومساماتي ورغباتي"، رفع بصره نحوها متسائلا عن سبب شرودها:
 لم أجد سلة المهملات في مكانها.
قالتها وكأنها تهرب من فوضى المشاعر، فأشار إلى تحت الطاولة التي أمامه:
هنا.. كنت أرمي بعض القصاصات فيها.
حين اقتربت منه، جذبه سحر شفتيها، فقبلها، همست توشوشه: " يبدو أننا لن نتغير أبداً يا خالد". سحبت السلة من تحت الطاولة، فتناثرت تلك الأوراق الممزقة من يدها، فسألها:
ما كل تلك الأوراق حبيبتي؟
أحاول كتابة قصة جديدة طلبتها مني إيمان، لكني لم أحسن كتابة مساءاتنا المؤثثة بعشقنا الأبدي، فلتلك المساءات لغة لا يجيدها سوى إغواء حدقتيك.
اكتبي عن تلك المساءات وسحرها.
مشكلتي، أنني لا أملك أية قدرة على كتابة السعادات مثلما أكتب الأوجاع وأفصّل فيها.
ابتسم بخبث وغمز لها قائلا:
إذن، عليّ القيام بما يعيد لك تلك الأوجاع.
كيف؟
أخونك مرة أخرى.
ماذا!!؟
 ضحك بقهقهة عالية، وسحبها إليه وهي تلكمه وكلما لكمته علت ضحكاته اكثر، ثم زمت شفتيها بقوة لتقول بعدها وهي تلوح بأصبعها:
إيّاك إيّاك.. لن احتمل ذلك ثانية.
هذه المرة ستكون بعلمك وليوم واحد فقط، كي أوفر لك مسوغات تساعدك على الكتابة، وستكون مع المرأة نفسها وأمام عينيك في كل تفاصيلها.
الحقيرة نفسها؟
أحبكِ أكبر من الحبّ، أحبكِ طويلا، كثيرا، وأبداً… ولن أتوقف عن حبكِ، هي لن تكون سوى أكذوبة من أجل الكتابة.
اسكت وإلا قتلتك ونفسي.
ضحك ورجع إلى كتابته بعد أن تمتم مع نفسه بصوت مسموع:
أنتِ حرة، فقط أحببت أن أساعدكِ.
سأعتذر من إيمان وانتهى الأمر.
***
بعد يومين اتصلت بها أسألها عن القصة وأين وصلت بها، فأخبرتني بما حدث، واعتذرت مني. ولكن راقت لي فكرة خالد وما سيؤول عنه من أحاديث كثيرة مع النفس، طمأنتها في خوض التجربة، مع ثقتها بحب خالد لها، واطلاعها على كل التفاصيل، فضلا عن قدرتها لمتابعة جميع مواقع التواصل الخاصة به، فما عاد يخفي عنها رموزها السرية، كما حفزها أكثر لخوض التجربة بإثارة رغبتها بإذلال تلك المرأة، حين تعلم أنها عاشت أكذوبة للمرة الثانية.
عاشت أحلام يومين عسيرين بين الرغبة والرهبة، حتى قررت أن تفاتح خالد بالموضوع، دهش خالد كثيرا من طلبها، فهي لم تكن سوى مزحة منه لاستفزاز غيرتها، ولم يتوقع منها الموافقة كما أخبرها، لكنها أصرت عليه، ليس حبا في الكتابة فقط، لكنه ثأرا من ساهرة تلك التي عيّشتها أسوأ أيام حياتها، ولتمعن في إذلالها مرة أخرى، شرط أن يتوقف عن إكمال اللعبة قبل التوغل معها في الممنوع.
تساءل خالد حائراً، إن كانت ستتواصل معه ساهرة بعد كل تلك الإهانات والذل الذي عاشته وهي تتوسل منه الرجوع إليها، فضلا عن مضيّ وقت طويل على انفصالهما، وربما   هي الآن مرتبطة بشخص آخر، لكن أحلام أكدت له أنها امرأة رخيصة، لا كرامة لها، وسترجع مع أول إشارة منه، حتى وان ارتبطت بآخرين من بعده.
أخذت أحلام هاتف خالد ورفعت الحظر عنها من الماسنجر، وأرسلت لها رسالة بكلمتين "اشتقت إليك"، انتظر الاثنان وهما يراقبان الشاشة، الرسالة وصلت لكنها لم تفتح، وبعد مرور ساعة أو أكثر بقليل ولم يأت الرد منها، ضحك خالد:
قلت لك لا يمكن أن ترد بعد كل ذلك الهجر والرسالة المهينة التي وصلتها منك، أتذكرينها في رواية (امرأة في عيون نزقة)؟
عساها لم ولن ترد، ما الضير في ذلك؟ ولم أنتَ منفعل هكذا؟
نهض من مكانه وذهب حيث تقف عند باب الصالة تحمل مغرفة الطعام، قبلها قائلا:
أحبكِ أنتِ فقط.
انشرح وجهها، قبلته وغادرت نحو المطبخ، رجع إلى كتابته وما هي إلا دقائق معدودة حتى جاءه اشعار الماسنجر، فتح الجوال تاركا ما بيده ليرى رسالتها:
عندما تداعب حروفك شاشتي، ‏يتهشّم القلق وينجلي هبوب الظَّلام تغادر الغربة بوابتي، مع عناق هذه السعادة، ‏اسمع صهيل الشوق، وهو يطرق بوابة الأمل، ‏ينتظر لحظة هطول المطر.‏ وراء تلك النافذة إشراقة جديدة والأرض تتوقف عن الدوران مع ارتعاش القلوب، وراء تلك النافذة شيء ما:‏ لي ولكَ ولها. يرتسم كلّه بلون أخضر‏، يصير يدا تلامس أيادي العاشقين، ‏لتخبرنا بإحساس دافئ بالوجود‏، وتأخذنا مع الريح ننطلق معها كالسهم، ما الحياة بلا مشاعر؟!
صرخ حينها صرخة المنتصر وهو ينادي أحلام ويخبرها بأن ساهرة ردت عليه، تساءلت أحلام عن ردها، فأخبرها بأنها تغازله، فطلبت منه ألا يرد ريثما تطفئ الموقد بعد لحظات وتأتي لترى ما يحصل بينهما، لكن شيئا داخله جعله يرد عليها برسالة تعمد اشعالها ليوقعها ولطالما أوقع الفتيات بكلامه المعسول:
اشتقت كثيرا لأماسينا الرائعة، وحكاياتنا الحلوة.
ردت عليه برسالة تطلب منه الاتصال المرئي بالواتساب لأنها تشتاق إليه، اتصل لثوان، فرأى قامتها الممشوقة وهي تعرّي جزءا منها لإغرائه، لكنه أغلق النافذة الخضراء فوراً، وأرسل لها رسالة يخبرها أنه محاصر من زوجته، ولا يستطيع التواصل بغير الكتابة، فأرسلت له:
منذ اللحظات الأولى لانبثاق حروفك، وأنا أنتظرك بشوق عارم، أنصت لشدو طائر فارق موطنه، أمنّي نفسي بأن تفتح النافذة وتتأملني، تعانقني، وتذوب في مملكتي. 
أحس بنشوة تدب في روحه، فلم يتوان عن الكتابة إليها:
حبيبتي الأغلى كم أشتاق لكلماتك الساحرة، تدبُّ بي كَارتعاش خافق للحياة في الجذور المَيّتة، ولا أعلم كيف صبرت كل ذلك الوقت بعيدا عنك؟!
***
كانت أحلام منشغلة جدا في تحضير العشاء ولا يمكنها ترك الموقد، لكنها أطلت للحظات على خالد تخبره أن يصبر عليها لعشر دقائق وستكون معه.
حين علم خالد أن أحلام متورطة مع نار الموقد، قرر أن يتورط هو بتلك اللحظات مع ساهرة، وما أرَقَّها! تثيرُ فيه عواطف وذكريات قديمة، تعصف بروحه عَصفاً ، فيلجأ إلى الصور المعلقة في الذاكرة، فتح معها اتصال مرئي، وبين نشوة ولذة نسي وجود أحلام، حتى أتت لحظة انغماسه في المكالمة، فلم يشعر بوجود أحلام، وهي تأتي بهدوء من خلفه وتنظر إلى الشاشة حتى انتبهت ساهرة لوجود أحلام عبر الكاميرا تقف خلف خالد، فأغلقت ساهرة الاتصال، حينها فقط انتبه خالد لوجود أحلام، حاول التبرير لها بأنها مجرد اكذوبة، هو لم يخرق الاتفاق ولم يحصل شيئا بينهما، وأحلام لا ترد عليه، حاول تقبيلها، دفعته ودخلت غرفة النوم وأغلقت على نفسها، طرق الباب، وراح يناديها ولم تجب عليه أبدا، توسلها كثيرا ولكن من دون جدوى، لم يعلم ما يفعل، قلق كثيرا عليها، خشي أن يحدث لها مكروه، لعن ساهرة ولعن نفسه، صرخ بها يلومها لأنها ورطته معها، لكنها لم ترد، قضى ليله ممددا على عتبة بابها يرجوها أن تخبره أنها بخير ليطمئن فقط، وحين هددها، بأنه سيكسر الباب ردت عليه ترجوه أن يتركها حتى الصباح. تمدد على مضض من دون أن يغمضَ له جفن، يتقلب من جنب إلى جنب متوسداً الآلام والذكريات.
مِن اللحظات الأولى لساعات أوَّل الليل، انتشر ذلك الإستيحاش الرهيب والصمت، فلا يكاد يسمعُ لَـهما شيئاً سوى انفاسهما المتصاعدة، زفير التوجع والأنين المكلوم، توسدا أرض الوهاد وناما في ذلك العمق من الضيق، خائفين مستوحشين مع خُطى الليل الوئيدة كَنَفَثٍ مِن ضَباب أو سَراب.
ما بَعد منتصف الليل سمع خالد أصواتَ استغاثة بوضوحٍ متنام، لَه وقع في الروح، لا يمكن لأحد التوغل في أعماقه وإدراك كنهه، استيقظ مفزوعاً، طرق الباب ولكن لا رد، لم يجد بدا من كسره، وجدها ملقاة على الأرض تنفسها ضعيف، حملها للمشفى بسيارته وقضى ليله في الانتظار، قُبيلَ إطلالة الفجر، في الغبش الضبابي، فكّر وطال التفكير، ما الذي أوصله إلى هنا، كأنَّ لساهرة سحرا يشدُّه إليها شدّا بعد أن تركها كل ذلك الزمن، في حلقه غصّة يابسة، كيف لها أن تربكه؟ لقد قتلت تلك اللعينة البسمة فما عاد لها مكاناً في تجعدات زوايا شفاههما وأعينهما.
في الصباح استقرت حالة أحلام وسمح لها الطبيب بالمغادرة، لكن صمتها لم ينكسر، ليس هناك سوى أصوات في داخلها، أصوات ذات لكنة مغمغمة، تولول في نبرات هي أقرب إلى النحيب منها إلى الكلام. قضى الاثنان فترة مشحونة بالانفعالات والأسى عندما أخذت النار تسري في قلبيهما.اتصل بي خالد ليخبرني بما جرى ويطلب مساعدتي بإقناع أحلام بأن ما يدور في عقلها مجرد خزعبلات، وليس هناك حبا يسمو فوق حبها، وما كانت هذه الأحداث إلا أكذوبة اتفقا عليها. إلا أنني حين سمعت ما فعل خالد بعد كل ذلك الحب، شعرت بتساقط جثث الحروف المشوهة، ضاعت مني في هذا المدّ الشاسع ترتدي لون التراب الرمادي، بينما كان صوت خالد يفتقر إلى التوازن والتدبير السليم، يتحدث بلوعة مريرة، متوجساً على نحو غريزي أن نهايته المحتمة تنتظره في كل خطوة يخطوها نحو أحلام، لذا طلبت منه إمهالها بعض الوقت.
***
أقترب خالد من أحلام وهي مستلقية على فراشهما المحبب لديهما، تحدجه بعينين رخوتين عاتبتين، تحتضر بهدوء واستسلام، كأن مدامعها ملّت منها أو جفت فصولها، أتى صوته على الرغم من خفوته متشظيا، محاصرا بالانكسار، ردد كلمات الاعتذار على مسامعها لأكثر من مرة مقراً بذنبه، لم يزدها كلامه سوى دهشة الاستغراب، لتخبره عزمها على الانفصال.
  أخذت أفكر في أحلام وخالد وهما في خضمّ الهلع، ووجدت انه لا بد مَن أحد يشرق عليهما بالأمل ليعيد لهما هدوء النفس وصفاء الروح المرهقة كل ذلك الوقت، ولم أجد أفضل مني وأنا أتقمص شخصية الساردة المشاركة في الأحداث للتدخل بينهما، كي يطويا صفحة الوجع الذي زرعاه بأيديهما.
 لا أعلم إن ملّت مدامع أحلام منها أو جفت فصولها، حتى تعالى رنين هاتفها الخاص، تكهناتها كانت في مكانها، لا بد أنها أنا، أصلا من غيري يجيد تعزيتها وانتشالها من الهزيمة القاتلة والأحاديث الكثيرة مع النفس فنحن معا فتحنا "بالفعل" صفحة الألم.
     وأخذت أقول على لسان تلك الساردة: عندما ننهي علاقة ما فإننا نجهز أنفسنا لبداية جديدة، فـالنهايات والبدايات في تعالق وجودي دائم، وكأنها تمتح من نواميس الطبيعة، فلا يحق لنا فتح باب النهايات من جديد، وحين أجهشت في البكاء وهي تصر على الانفصال عن خالد بعد خيانته الثانية، كان لابد لي أن أذكرها بأنها ليست سوى أكذوبة، وإنها وخالد وساهرة ليسوا سوى شخوص من ورق، ابتدعتها في مخيلتي، لإيصال فكرتي، ولا يحق لأحد اتخاذ القرار بديلا عني، انتفضت وهي تردد "أنت صديقتي" وأنا أحاول إقناعها، ما فعل خالد إلا ما كتبت له من نص، ولا وجود لساهرة، والآن عليها أن تنسى ما حدث وتحيا سعادتها مع حبيبها، فأنا لا أؤمن إلا بالنهايات السعيدة.