أيار 15
 منذ عام 2003 والعراق يواجه سلسلة من الأزمات الحادة في كل مرافق الحياة.
هذه الأزمات، انعكست بشكل ملحوظ على مجمل الحياة الاجتماعية، مما اضطر المواطن العراقي، الى المفاضلة بين ما هو مهم وما هو أهم من أجل تحقيق أدنى مستويات العيش.
هذا الواقع، جعل حالة الإحباط واليأس والقنوط وفقدان الأمل، هي الغالبة على حياة الناس.
ومما زاد هذه الحالة، إهمال الدولة لأي متنفس من شأنه ان يحقق السعادة والهناء والسلام، الى جانب غياب كلي لكل ما هو ثقافي وجمالي سواء في الحياة الثقافية ام التربوية ام التعليمية.
وعدّت الثقافة ترفاً، فيما انتشار الجهل والأمية يمتدان على نطاق واسع، وبإهمال مقصود من الأجهزة الحكومية كافة.
لا وجود لرعاية أو دعم أو حتى التفاتة إلى كل ما يرقى بوعي المواطن!
الثقافة.. هي آخر ما تعنى به السياسة في العراق، وحتى هذا الآخر مفقود بدليل انه لا توجد قاعة سينما ولا مسرح في العراق، باستثناء دائرة رسمية، لا يعرف لها منجز، ولا يسأل عن حالها حال، وكذا الدائرة الفنية والدائرة الموسيقية..
لكن مبادرات طيبة، وانطلاقات مفاجئة، تثير الانتباه، وتسترعي الاهتمام لا من قبل الحكومة فحسب، وانما من قبل العراقيين المحبطين.. هي التي تجعلنا ندرك جيداً وبوضوح تام، ان العراقيين بناة الحضارة ورواد الوعي والجمال، سرعان ما يكشفون عن اهتمامهم وتفاعلهم مع كل مبادرة ثقافية جادة.. والامثلة كثيرة.. نذكر منها ما حصل من استقبال ومشاركة حميمية عند الاحتفاء بمرور مئة عام على ميلاد رائدة الشعر الحديث (نازك الملائكة) في مسرح الرشيد الذي اعيد إعماره بعد تدميره في 2003، وبقائه مهملاً على مدى ما يقارب العقدين من الزمن المر.
الجمهور الراقي الذي تجمع في هذا المكان، كان يدق نواقيس الفرح استقبالاً لهذا النشاط الثقافي، وينم عن الرغبة الملحة للعراقيين في متابعة ورصد كل ما هو ثقافي..
وكذا الامر مع استذكار الشاعر الكبير (مظفر النواب)، سواء في جلسات اتحاد الادباء ام نشاطات الجمعية العراقية لدعم الثقافة ام جمعية الثقافة للجميع ام غيرها..
وكذا الحال مع مسرح شبابي تم تقديمه في مسرح كلية الفنون الجميلة/ بغداد، من قبل الطلبة.. حيث امتلأت القاعة بالجمهور الذي كان يبحث عن لغة فاتنة وحركات رشيقة، وحوار متقن.
وإذا ما انتبهنا الى هذا الاستقبال الباذخ في هذه الانشطة وسواها، نتبين ان العراقيين لم ييأسوا تماماً، فما زال فيهم رمق للمحبة والسلام والثقافة والجمال، وهو أمر يعد ظاهرة ايجابية ملحوظة، تستحق أن تجد صداها لدى المسؤولين عن رعاية (الثقافة والسياحة والآثار) في وزارة تحمل هذا العنوان الثلاثي الكبير، من دون أن تفيه حقه من القبول والاهتمام والرعاية.
وإذا ما انتقلنا الى شارع المتنبي، والجمهور الواسع الذي يملأ الشارع يومياً وبشكل خاص ايام الجمع، وكيف يكون (الكتاب) سيد الزمان والمكان، وكيف تحول هذا الشارع الى ملتقى اجتماعي يمتد نهاراً حتى الخيط الاول من الفجر.. ليتحول اللقاء، الى لقاءات محبة تمتلئ بالثقافة والمثقفين وكل ما من شأنه رؤية هذا المكان، المكان الاجمل والاكثر بهاء وعطاء.
هذه المشاهد بتنا نراها بين وقت وآخر، تكشف عن مدى اهتمام العراقيين بكل ما هو ثقافي ومتحضر وجميل.. وهو الامر الذي يستدعي من الجهات الرسمية الانتباه اليه، لا ان تقمعه تحت مسوغ (المحتوى الهابط) لكبت الحريات وانما الايمان المطلق بدعوى فتح الآفاق وجعل الازهار تتنفس على اوسع نطاق.
نعم، العراقيون عشاق الثقافة، ولأنهم كذلك، اذن لا بد ان يكون للثقافة حضورها المتميز وتوجهاتها المخلصة ورعايتها البناءة، ذلك ان بناء الانسان لا يتم بالتضليل والتجهيل - كما هو قائم الآن - وانما الانتباه والالتفاف ملياً الى ان الوعي هو الذي يحقق الحياة السليمة والواقع الاجمل لعراق تسوده الحرية والسلام.