أيار 18
 
   قادني قدرُ الحرب لأخدم في جبهة قاطع بدرة، المدينة الحدودية مع إيران والواقعة شرق مدينة الكوت 70 كم. .
وبدرة مكان غامض من تلول الاثر المليئة بالأساطير، وفي جانبها الشمالي المقابل لمدينة مهران الايرانية يمتد حزام اخضر كثيف من بساتين النخيل والرمان فيما تتصحر بقية جهاتها من جهة ميسان والكوت ومندلي حيث تكثر مقالع الحصى والتلول الرملية والصخرية التي هي امتداد لتلال سلسلة حمرين. وأغلب سكانها من الكورد الفيلية، وتسقى اراضيها من السيول القادمة من منطقة سد كنجان الايراني ، وكان الماء العذب يصل الى اهل البلدة محمولا على الدواب من منطقة منصور آباد الإيرانية ، وكانت في الحكم الملكي تعد من أماكن النأي ويُنفى اليها من تعتقد الحكومة انه خطرٌ عليها.
عرفت جغرافية المكان عن طريق أسئلتي وتجوالي ، فكنت أسأل الرُعاة والعطارين وسواق السيارات، وبائع الخضرة، وصاحب المقهى، حاملا خواطر ابن بطوطة في قراءة روح المدن، ومقتديا بخاطرة للروائي الفرنسي سانت اوكزبوري وهو يكتشف أسرار الصحراء الافريقية قوله: الواحات والمدن والأماكن الجديدة تفتح شهيتنا لكتابة خواطر الاشتياق للطفولة.
هو كتب روايته الرائعة (الأمير الصغير) بخيال تلك الأمكنة وانتقل معها ليؤسس خواطر الامير وأسئلته عن الحياة ولكن في مكان نائي هو القمر.
وبدرة أيضا مكان نائي لكنك لا تستطيع أن تصنع حكاية لأمير آخر ، لأن المدافع حسمت الأمر وهدمت البنية التحتية لهكذا شكل من الخواطر ، وابقت لحكاية شهرزاد نافذة واحدة هي (ذكريات الجنود والتأسي على رفاقنا في الفصيل من الذين تذبح اعناقهم الشظايا أو تخترق صدورهم رصاصات القناص.
لهذا أبقيت روي ( اكزبوري) مؤجلة للحظة نهاية الحرب عندما تحفظني تميمة أمي التي اخذتها الى شباك العباس ع . ومسحتها بضريحه ثم عملت لها خيطا مثل القلادة وقالت : أحملها على صدرك ، فهي تحمل عطر من حمى الحسين في كربلاء وستحميك حتما..!
وسأعود الى ليل قريتنا القابعة في الطرف البعيد لأهوار الجبايش باسمها الرومانسي ــ السريالي المثير ( بوسة الماي ) وتعني قبلة الماء ، ودائما عندما اذكر اسم مسقط رأسي لجنود الفصيل يضحكون بعمق صدورهم.
الضحكات ومشاعر الاستغراب من الاسم الذي يعتقده بعضهم أنه يليق بقرية للأثرياء في ضواحي مدينة حضرية وليس لقرية لا تعرف في حياتها اليومية سوى مواعيد رعي قطعان الجواميس والعودة بها ، وصناعة القيمر واللبن الخائر والذهاب به الى المدينة القريبة لتبيعه امي، ومن بعض ثمنه تجلب لنا الطحين والأعشاب الطبية والسكر والشاي ، ثم طورت تسوقها بعد ذلك لتجلب البهارات والمصقول ، وهو نوع من الحلويات اليابسة المحشوة باللوز، ومعه دخل اللوز الى قريتنا وكان بالنسبة لي اشهى الف مرة من السمكة المشوية ولحم الثور.  
أول مرة في حياتي أسمع تشبيها بين الجمال والمرأة عندما سمعت أمي تقول: المعيديات خدودهن ( تنقط ) دما ، وشفايفهن لوز .
وأعتقد أن أمي امتلكت جمال التعبير بسبب حلوى المصقول، الذي أسعى لشرائه دوما من حانوت سريتنا سعيا مني لاستعادة تلك الايام عندما كنت اقف مشدوها على صورة ملونة لانثى خدها مثل المصقول حرصت بيوت معظم قرى المعدان أن تضعها افتخارا بهذا الحسن الذي يحمل لقب (بنت المعيدي) الذي تصفه أمي بوجه اللوز والقيمر، والذي صادفته مرة في واحد من صباحات الحرب بشكله المادي وليس التصويري عندما كنت تواقا لتناول القيمر عندما يسمح لنا رئيس عرفاء السرية بالنزول من الخطوط الامامية الى مدينة بدرة لأجل الاستحمام أو شحن بطاريات جهاز اللاسلكي في مقر اللواء في المدينة. وهناك سمعت باسم بائعة قيمر ينذهل الجنود من جمالها أسمها (سميرة) تبيع القيمر في سوق المدينة، وحين سألت عنها سائق الحانوت؟
قال : أن هذه الفاتنة تقطن في حي الجماسة في اطراف المدينة، ولكن اصلها من مدينة الكمالية في اطراف بغداد حيث يسكن العديد من العوائل التي تربي الجواميس ويقال انهم هاجروا الى بغداد بعد تجفيف الاهوار واغلبهم من معدان محافظة العمارة.
جندي مثقف من أهل الحلة بالغ في وصفها عندما سألني: هل تعرف وسمعت ببنت المعيدي؟
قلت: نعم، وصورها في كل غرفة من بيتنا .
قال: سميرة تشبهها تماما، وكان الجنود المتحضرون يسمونها سميرة، فيما الجنود ابناء الريف يسمونها (أسميرة) وعلي أن اسميها في داخلي بلهجة قريتنا فأضيف الألف الى بداية اسمها، ولكني انطقها أمام الجنود بلهجة متحضرة (سميرة).
رأيتها أول مرة جالسة أمام صينية القيمر في صباح بارد ولكن شمسه مشرقة فينعكس الضوء على خدها كما ينعكس ضوء الشموع على أساور الذهب ليشعرك المشهد بشهية جمال الحواء عندما يشع بصنعة الرب وغير خاضع لمؤثرات البيئة والحضارة ومساحيق المكياج.
وجه سميرة ووجه (بنت المعيدي) يشتركان في ملامح (موناليزا) من الشرق، هكذا حملت إحساسي وانا أجمع صورة المرأتين في عيني، الفرق أن (بنت المعيدي) خضعت لأساطير كثيرة حول نشأتها وبيئتها وحياتها، فيما (سميرة) تحمل سيرة واضحة، هي ابنة لجماس أتى مهاجرا من اهوار العمارة الى بغداد، وحين اندلعت الحرب حمل جواميسه الى منطقة بدره فسوقها رائجٌ لبيع القيمر، لأن فرقة من الجنود ترابض فيها ، وحتما سيساعده جمال ابنته لتصريف كامل انتاج جواميسه من القيمر، وهذا ما ظهر في انتشار خبرها وجمالها بين سائر جنود الفرقة الثانية في بدرة، ويقال حتى قائد الفرقة كان يجيء بسيارته المظللة ليمعن النظر اليها من بعيد.
يوم انتقلت الى المدينة لأتعلم، تطورت ثقافتي وحفظت شرحا واسعا وتحليلا جماليا من مدرس التربية الفنية عن لوحة (الموناليزا) التي رسمها ليوناردو دافنشي، وهي اليوم واحدة من اشهر لوحات متحف اللوفر، وحين انتهت الحرب ونلت من سفر السفن والقطارات هجرة بعيدة عن قريتنا الساحرة (بوسة الماي) قارنت في دهشة الوقوف أمام الموناليزا الحقيقية بينها وبين نتاج المعدان من جمال الانوثة، فشعرت بلذة ذلك الاغراء الطفولي عندما كنت اقف مرتعشا امام صورة (بنت المعيدي)، وأشعر وانا في الثامنة بعاصفة من الاحاسيس الذكورية التي تنتصب معها حتى اصابع اليد، فأتخيل تلك الرومانسية المرتعشة في خيال أن يكون هذا المصقول المحشى باللوز من حصتي عندما اكبر حيث كنت اتمنى أن يصير لدي قطيع من الجواميس، لكني لن اجازف بإرسال موناليزتي الى السوق لتبيع القيمر، سأذهب لأبيعه انا جملة لصاحب حانوت حتى لو بسعر أقل.
سميرة بائعة القيمر في مدينة بدرة وقفت مع (بنت المعيدي) أمام لوحة دافنشي، وبدأت تتفاخر بسحرها: أنها اجمل من هذا الوجه المرسوم بالألوان الزيتية. وأنها تفيض دلالا وغنجا وتسحر أرتالا من صنوف الجيش والمقاتلين، وهذه اللوحة لن تغري سوى نظرات السواح وزوار المتحف.
أدمنت على القيمر، فقط لأتمتع بسحر وجه سميرة، ومنعني كبريائي ورهبتي من جمالها أن اهمس لها أنني وهي من ذات السلالة، وأن أجدادنا كانوا يخوضون حروبهم ضد عيلام وجيوش الاسكندر بدواب محاربة هي الجواميس، وكانت خيول ملك مقدوميا تفر امامهم مذعورة.
طقس يتكرر، والأخيلة الثلاثة (بنت المعيدي)، (وموناليزا دافنشي)، (وسميرة بائعة القيمر)، ظلت تشكل وقودا لرغبتي بالبقاء مع ما تمنحه تميمة امي من طمأنينة الى قلبي من أن الحرب سوف لن تمسني بأذاها .
وكم تمنيت أن احمل سميرة من تلك القرفصاء في الصباح البارد واطلبها عروسا واذهب بها الى قريتنا (بوسة الماء) وحتما حين يراها أهل القرية سوف ينتزعون من الجدران صورة (بنت المعيدي)، إذ لا حاجة لهم فيها مع هذا الجمال الساحر القادم ليعيش بينهم بشحمه ولحمه وليس صورة على الجدار.
وفي يوم ما دفعني شغفي بهذا الجمال لأطلب ساعتيَ نزول الى بدره من عريف الفصيل والذهاب الى سميرة لكي اخبرها برغبتي لتكون زوجتي مادمنا نحن من سلالة واحدة.
وصلت الى مكان جلستها فلم تكن موجودة، فقط بعض من الجنود المتجمعين. وشيخ يشماغه على رأسه وعصاه الغليظة التي تشبه العصا التي يقود فيها المعدان قطعان جواميسهم وهو ينتحب مثل طفل.
سألت عن سبب نحيب الرجل
قال لي أحد الجنود: أنه ينتحب من اجل ابنته سميرة.

صحت بصوت عال ومفزوع: ماتت..؟
قال: كلا. بل هربت مع أحد الجنود وقد أُغرمتْ فيه، وقررا الهروب متخفين بسيارة الارزاق الى الجبهات الامامية، وفي الليل انسلا عبر ثغرة حقل الالغام وهربا معا الى الجانب الايراني...!
 
 نعيم عبد مهلهل روائي عراقي يقيم حالياً في: فوبرتال/ المانيا