أيار 18
 
 
 الحب الحقيقي
لقد ماتَ شاباً في الثلاثين من عمرِه.
حصل هذا قبل عشرين عاماً.
 
وطيلة العشرين
ظلت هي كلَّ عامٍ تحتفل بعيدِ ميلادِه..
 
طاولةٌ صغيرة
في حديقةِ البيت الصغيرة
تكفي لاثنين،
وكرسيّان تأخذُ أحدَهما لها
وتترك الثاني شاغراً له.
 
في كلّ عيد ميلادٍ طيلة العشرين
كانت تملأ الحفلَ بكلامٍ لا ينتهي
عن سرّ احتفاظِه بشبابه ووسامته
وكلامٍ آخرَ
عن رحلاتٍ قصيرةٍ وطويلةٍ قاما بها معاً لمدنٍ لم ترها..
وهمسات عن أمنياتِ وأحلامِ عامٍ جديد،
وينتهي الحفلُ بسماعِ أغنيةِ (الحب الحقيقي)
قبل أن تطوي الطاولة
وتعيد كرسيّها وكرسيّه الفارغ
إلى موضعيهما
في غرفة نومِهما المهجورة منذ عشرين.
 
قبل يومين
وفي عيد ميلادِه الخمسين
كانت وحيدةً على السرير
صامتةً
مغمضةَ العينين
وذابلةَ الشفتين
وكانت تنتظر أن يعدَّ هو الطاولة
والكرسيين
وأن تسمع منه كلاماً عن سر شبابها وسحر جمالها الآسر
وكلاماً آخَر عن آخِر رحلةٍ لهما..
وكانت تنتظر أن يُسمعها أغنية (الحب الحقيقي).
لكنه لم يأت.
ولم تستيقظ هي.
هكذا هي على السرير
ماضيةً في رقدتِها الأخيرة
وحيدةً
وصامتةً
ومغمضةَ العينين.
 
انتظار لا يُمَل
 
مذ هو طفلٌ
ومنذ أن سلكَ الطريقَ للمرةِ الأولى
وحيداً
بقيت أمُّه في انتظارِه.
وبقيت حرائقُ تتّقد في قلبِها في كلِّ آنٍ
فلا تنطفئ
ولا تطمئن حتى يعود.
 
كان طريقاً طويلاً ذلك الذي مضى فيه
وكان انتظاراً دائماً.
أختُه الكبرى كانت تنتظر أوبتَه حيناً
قبل أن ينصرفَ انتظارُها إلى ولدِها..
أختُه الصغرى انتظرته.
وانتظرته، بعد حين وقد أضحى فتىً، حبيبتُه
وانتظرته زوجتُه، وقد صار رجلاً،
ثم انتظرته ابنتُه، وقد باتَ أباً..
دائماً كانت هنالك من تنتظره
على قلقٍ
وهي تتلظى على جمرِ حرائق قلبها
فلا تطمئن
ولا ينطفئ فيها حريقٌ
حتى يؤوبَ
من طريقِه الطويل.
 
ما أكثرَ الحرائقَ
وما أكثر انتظارَ المنتظرات.
لكن دائماً يظلّ وجهٌ واحدٌ،
جوهرٌ واحدٌ لا يتبدّلُ ولا يتحوّل،
دائماً هنالك من بين عمقِ أيِّ منهن
يطلّ وجهٌ واحدٌ صاعداً من حرائق القلوب
وجهُ امرأةٍ واحدة
هي أمُّه التي مضت مع الموت، وقد ظلّ منها انتظارها
ماثلاً حيّاً منذ ذلك الحين،
مذ كان طفلاً
وقد سلكَ الطريقَ الطويلَ وحيداً.