أيار 18
الذكرى السنوية الأولى للفضيحة "القومية" 2 آب 1991
 
عواد ناصر
 
     "أمر الجنرال غلوسون (أحد أكبر قادة الحرب الجوية الامريكية) بوضع لوحة كبيرة مضاءة بالكومبيوتر تقول: طريق العودة الى الوطن يمر عبر بغداد".
    وبمواجهتها، في بغداد، وضع "المهيب الركن" صدام حسين في وهمه وتضليلاته العسكرية والإعلامية عبارة تقول "تحرير القدس يمر عبر الكويت" بعد ان سقطت عبارته الأولى في يافطة الحرب العراقية – الايرانية "تحرير فلسطين يمر عبر عبادان" عقب امتحان الايام الثلاثة الذهبية الاولى لقادسيته!
    لكن ما مر عبر عبادان وبغداد والكويت هو جحافل الجثث والمعوّقين وجيش اليتامى والأرامل والأسرى والمخربين خلقياً ونفسياً، عدا التخريب الذي لحق بالاقتصاد والتاريخ والجغرافيا.
    المنتصرون هم الاميركان، وتحققت عبارة ذلك الجنرال، القاسي الملامح، وعاد جنوده الى الوطن عبر بغداد التي لم يعد إليها أحد غير من دفعوا ثمن الهزيمة، قتلى وجرحى وأسرى وغاضبين ومهانين مذلين.
القادة العسكريون الاميركان ـ حسب التقارير الخاصة- لم يكتفوا بمهارتهم وخبرتهم في القتال العسكري التقليدي ولم يرتكنوا لقوتهم، وقوة حلفائهم، حسب، إنما درسوا ايضا نقاط الضعف في السياسة، والمجتمع العراقيين. الى جانب ذلك يعرف الاميركان، وحسب، التقارير الخاصة أيضا، ان المؤسسة العسكرية الصدامية ستقوم، بطريقة ما، بتوفير الكهرباء وفق حاجتها تاركة العراقيين في الظلام. وفي هذا ايضا مكسب معنوي. يقول التقرير الخاص الذي نشرته صحيفة "نيوزويك" في 18/3/1991: "كانت الفكرة هي جعل المدنيين يحسّون بمدى جدّية الحرب وتحويلهم الى هدف مباشرة"!
    الحقيقة هي أن أكبر اسطول جوي في التاريخ كان يتقدم نحو "العراق"!
    إننا اذ نضع "العراق" بين قويسات، فإننا نقدر جهل اولئك الذين لم يفرقوا بين عراق صدام وعراق الشعب، وبينما اختلط دم الجميع بدم الجميع، ودفع العراقيون ثمن جريمة الدكتاتور، اختلط لدى "الاخوة وأبناء العم" نظرهم ونظرياتهم لإقناعنا بأن الدكتاتورية الداخلية يمكن ان تكون بطلة خارجية في الدفاع عن "حياض الوطن والأمة". وهكذا حدث فعلا، ولكن هروب هذه الدكتاتورية المضحك الى الحد الذي قصفت فيه إسرائيل بصواريخ (سكود) يائسة وكوميدية في الوقت نفسه، جعل من فلسطين في اخر لائحة اهتمامات العالم وقفزت إسرائيل الى ضحية على غاية الوداعة!
  • كيف يفسر العراقيون تراجيديا الوطن لكوميديا الغرب؟
  • كيف يفسر العراقيون ما يدفعونه من ثمن قاس وباهظ عن جرائم دكتاتور، لا يحتاج الى صفات أخرى، لإخوة الدم والمصير والطريق الواحد الذي نجح هذا الدكتاتور، الى حين، في فرقتها وشقها على مستوى الوطن العربي كله، لتتبدى، في لحظة تاريخية مشينة، هشاشة المثقف العربي، واليساري خصوصا، الذي لم يكن يساريا أو ديمقراطيا على جميع الجبهات، بل على جبهة واحدة فقط.
  • هل استيقظ الجذر القومي ليطيح بكل ما سواه من تنطع نظري حاول ان يكسب الجبهة الثقافية ضد الحقبة الاميركية والسعودية والخليجية... الخ، ليخسر كل تضامنه العاطفي والإيديولوجي مع شعب العراق ومثقفيه ومبدعيه؟
  • لا يستطيع الفكر الثقافي العربي، المنقسم على نفسه، ان يقنع الكثير من العراقيين بتفسير معنى المواجهة مع الامبريالية والصهيونية والرجعية مثلما يمتلكه رغيف واحد من الخبز في تطمين واقناع معدة جائع عراقي يمتد جوعه من اقصى الشمال الى اقصى الجنوب.
    ولربما يسأل أحد ما بل ويقترح: ناضلوا إذاً من اجل فك الحصار الاقتصادي على العراق...
    نعم، نناضل ولنناضل بشدة من اجل هذا، ولكن... وليس لهذه الـ "لكن" من ضرورة كما هي عليه الان!
    في احتفالات "ثورة 17 تموز" امتدت ولائم الدكتاتور وتعددت وتنوعت وامتلأت بكل ما لذ وطاب، في اليوم نفسه الذي كان يستجدي فيه عطف العالم للسماح له بتصدير النفط "من اجل اطعام الشعب".
    فهل يتصور أحد، بعد هذا، كم من الأكذوبة تتصدر خطاب الدكتاتور، بعد ما تصورنا (تخيلنا) كم من الولائم تصدرت موائده التي لم يستجب لها غير بضعة "صحفيين وأدباء" لا يزالون عند "مجاعتهم" لحفنة من الدولارات؟
  • كيف يوجز العراقي، محنته، المتشعبة، المتكررة، بهكذا نظام لا يعرف من العراق غير مساحة العرش.
  • كيف يعبر العراقي عن حروبه المضحكة – المبكية (هل هي حروبه؟) وقد نزف هذا الدم كله؟
  • قد يضحك البعض عندما نقول ان الدكتاتور هو سبب كل ما حصل ويحصل وسيحصل... لأننا لم نضف جديدا. لكن بعضا اخر سيضحك أيضا ويقول: كم أنتم مخطئون لأنكم لم تقفوا مع دكتاتوركم "العادل".
    أما نحن فنقول اتركونا ندفن موتانا ونرثي وطننا ونخترع أشد الوسائل بدائية لإنتاج رغيف خبز بسيط وسط هذا التعقيد كله...  
 نشرت المادة في (الثقافة الجديدة)، العدد 236، آب 1991، ص 96-98