أيار 18
                                                                                                                    ناظم مزهر
 عن الكاتب:
جوزيف أفيرج كَلي م Joseph E. Kelleam 1913- 1975 ,لِد في أوسويل، أوكلاهوما، من كُتّاب أدب الخيال العلمي. ظهرت أول قصة له هي (الصدأ) في مجلة (أدب الخيال العلمي) سنة 1939.
من رواياته: أسياد كِبار من الفضاء 1956، الرجال الصغار 1960، صيادو الفضاء 1960، عندما استيقظ الملك الأحمر 1966
تنتمي قصته الصدأ إلى أدب الخيال العلمي الذي يعبر عن اغتراب ومصير الإنسان؛ لم تكن الحرب العالمية الثانية قد نشبت بعد عنما كتب كليم هذه القصة التي تزخر بكل دلائل الإبادة الجماعية كأنما الكاتب يحذر بني البشر من وقوع الكارثة.
 
***
    كانت الشمس وهي تشرق خلف التلال، تلقي بظلال طويلة فوق ما تبقى من ثلج ذائب وتضيء بأشعتها الباهتة الخرائب المهدمة. لو كان البشر موجودين لعرفوا في الحال إن هذا هو شهر آب، لكنهم قد رحلوا جميعاً منذ عهدٍ بعيد، وإن الشمس قد خَبت وشحبت في هذه الحقبة المتأخرة من عمر الأرض. كان الربيع قد بدأ يستيقظ بين حطام المدينة التي لم يتبق منها غير أعمدة رخام جبارة مازالت تسند سقف صالة كبيرة حيث دبت نوع من الحياة؛ ثلاثة مخلوقات ضخمة بدأت بالحركة، تصر أطرافها المعدنية صريراً محزناً.
استقبل س-120 اليوم الأول من الربيع بشعور من الابتهاج الذي كاد أن يزيح شعوره بالوحدة والفراغ من معدن دماغه المتآكل. كانت الشمس مصدر طاقته مثلما كانت مصدر حياة لمن سبقه من البشر. بشروق الشمس شعرَ س-120 بالقوة تسري في أسلاكه وتروس هيكله معقد التركيب.
كان ورفيقاه من أواخر الروبوتات عالية التطور التي صنعها البشر.
يتكون س-120 من كرة معدنية هي بمثابة الرأس بقطر طوله مترين، مركّب على أربعة أطراف مفصلية. على قمة هذه الكرة المعدنية ثمة جسم مدبب يشبه خوذة القيصر يقوم بسحب وحفظ الطاقة الشمسية. ومن وجه هذه الكرة تبرز عينان مربعتان. الكرة مقسمة الى نصفين بواسطة حزام معدني سميك يخرج من كل جانب ذراع طويلة تنتهي بكماشة معدنية قوية تشبه إلى حد ما ذراعي سرطان البحر وقد نصبتا لقص المعادن. إضافة إلى أربعة أسلاك غليظة تستخدم كأذرع ثانوية نُصِبَت بشكل لولبي في هيكله.
خرج س-120 من ظلال الصالة المهدمة نحو الشارع الخَرِب. كانت أشعة الشمس المنعكسة على صفائحه الملطخة قد منحته قوة جديدة. نسى كم ربيع مر عليه؛ نمت عدة أجيال من أشجار السنديان بين الخرائب واندثرت منذ أن صُنع هو وأصحابه على يد الإنسان. مئات لا حصر لها من مواسم الربيع قد مرت على الأرض الموات منذ أن توقفت حماقات وضحك وأحلام البشر عن تعكير صفو هذا الركام من الجدران المهدمة.
خاطب س-120 زميليه قائلا:
"هيا أخرج يا ج3 ويا ل -1716 إن الشمس دافئة وأشعر بقوة الشباب مرة أخرى."
خرج زميلاه متباطئين الى ضوء الشمس. كان ج3 قد فقد إحدى ساقيه فراح يسير بصعوبة والصدأ الأحمر قد انتشر في بدنه الحديدي وأصيبت صفائح القصدير والنحاس التي تكمل هيئته ببثور عميقة من الصدأ الأخضر. ولم يكن لـ 1716 مصاباً بشكل سيئ لكنه فقد إحدى ذراعيه وقد تحطمت وتشابكت أسلاكه المتدلية على الجانبين مثل الذيول
كان س-120 أفضل الثلاثة. ما يزال باستطاعته أن يستخدم كل أطرافه وبدا معدنه لامعاً لم يصبه الصدأ بعد. لقد أتقنوا صنعه. أما المعاق ج3فنظر الى ما حوله وأطلق أنيناً مثل عجوز هرم جداً. وقال بصوت مرتعش:
"ستمطر بالتأكيد، لا أستطيع تحمل المطر مرة أخرى."
"كلام فارغ، ليس هناك غيمة واحدة في السماء. أشعر وكأني بأفضل حال." رد عليه لـ 1716وهو يكسح بذراعيه المحطمين الأرض في سيره.
نظر ج3 الى ما حوله بفزع وسأل:
" أحقاً نحن بأفضل حال؟ كنا في الشتاء الماضي اثنا عشر فرداً."
كان س- 120 يفكر  بالتسعة المفقودين، وقال موضحاً لصاحبه:
" كان على التسع أفراد أن يقضوا الشتاء في معتكف البرج، سنذهب إلى هناك ألا تعرفان أن الوقت قد حان لنغامر."
ورد عليه ج3:
" لا يمكنني ترك عملي، لم يتبق لي غير القليل من الوقت، تقريبا وصلت الى غايتي." قال هذا بانتصار وبصفير عال وأضاف: "سأتمكن قريبا من صنع روبوت مثلما فعل البشر حين صنعونا."
فقال لـ 1716 متحسرا:
" الحكاية القديمة نفسها؛ كم مضى علينا من الزمن ونحن نحاول صنع روبوتات تحل مكاننا؟ وما الذي صنعناه؟ لا شيء كالعادة غير كتل من الفولاذ التي لا حياة فيها. لقد صنعنا بضعة أشياء مجنونة علينا تحطيمها. لن ننجح أبداً في صناعة روبوت شبيه بنا."
توقف س-120 في الشارع الخَرِب، وقد تلألأ ضوء الشمس على جوانبه التي نقشها الصدأ. وقال متأملاً وهو ينظر إلى ذراعيه المزودتين بالمخالب الحديدية:
" هذه هي نقطة فشلنا؛ حاولنا صناعة روبوتات شبيهة بنا. لم يصنعنا البشر من أجل الحياة؛ بل لغرض الموت". لوّح مخلب ذراعه القاطع وهو يقول: " لأي غرضٍ إذاً صُنِع مثل هذا؟ أ لغرض صناعة روبوتات أخرى؟ أم هي صُنِعت لشيء آخر؟ كماشة مسننة النصل مثل هذه صُنِعت لغرض الذبح ولا شيء آخر".
أنَّ الروبوت المعوّق قائلاً:
" مع ذلك كدتُ أنجح. وسأنجح لو ساعدتماني".
وردّ عليه ل 1716:
" وهل رفضنا مساعدتك يوما؟ إنما تقدم بك العمر يا ج3.قضيت كل الشتاء وأنت قابع في غرفتك الصغيرة المظلمة ولم تسمح لنا مطلقا بالدخول".
فأجاب ج3 بصوت معدني مقوقيء:
" لكنني كدت أنجح . قالوا أنني لن أنجح لكنني كدتُ وأطلب العون. لم يتبق لي غير تجربة واحدة. لو نجحتْ، فإن الروبوتات تعيد إعمار الدنيا."
التحق س-120 بزميليه على مضض نحو الخرائب الغارقة في العتمة، لكن أعينهم الزجاجية قد صممت للرؤية حتى في الظلام.
" أنظرا،" صرَّ صوت العجوز ج3وهو يشير نحو هيكل معدني على الأرضية. وأضاف قائلاً:" أعدت تصنيع روبوت من مخلفات الروبوتات المحطمة كاملاً ماعدا الدماغ. مع ذلك أعتقد إن هذا يفي بالغرض." قال هذا وهو يشير نحو جسم لامع فوق منضدة ملآى بالمخلفات المعدنية. كان الجسم هذا عبارة عن كرة نحاسية كبيرة ذات مربعين أسودين، ثُبِتَ على طرفيهما نتوءان بحجم قبضة الإنسان. وأضاف ج3 بعد تفكير: " هذا هو الدماغ الوحيد الكامل الذي استطعت إيجاده. كما تريان لست أحاول أن أبتكر؛ هذه مجرد إعادة تصنيع. أما هذان المربعان الأسودان فهما جهازا الإحساس. إن الرؤية تتمثل بانعكاس المنظور على هذين المربعين وخلفهما جهاز الاستجابة المتكون من ملايين الخلايا الكهرو صورية. لقد صنعه البشر لكي يستجيب تلقائيا لصور معينة. أما الحركات والمناورة والحث على القتل فهي من وظيفة الكرة النحاسية. ثم وهو يشير الى جسم منتفخ خلف كرة الدماغ:" وهذا هو جهاز التفكير الذي يميزنا عن بقية الآلات."
ورد عليه س-120 متهكماً: "هذا صغير جداً".
"وهو كذلك"، أجاب ج-3، "لقد سمعت أنه نقيض لعقول البشر. لكنه يكفي! أنظر يجب أن يتناسب مع البدن جيدا. المربعان الأسودان يستقران خلف العينين. وذلك السلك يوصل الطاقة الى الدماغ، أما هذه الملفات فتتصل بوحدة الطاقة التي تشغل الذراعين والساقين. يذهب هذا السلك إلى آلية التوازن – واستمر يقول موضحا عمل كل جزء بعناية.  ثم انهى كلامه قائلا: "والآن لابد لاحد أن يوصله بالطاقة فانا لا استطيع ذلك".
حملق ل-1716 بمخلبه الصدئ مرتبكا. وتطلع الاثنان إلى س-120. فاقترح عليهما:
"أستطيع المحاولة فقط، لكن تذكرا ما قلت؛ إننا لم نُصَمم لشيء غير القتل".
ورفع بارتباك الكرة النحاسية ومجموعة الأسلاك من الطاولة. اشتغل ببطء وحذر. راحت ذراعه ذات الكلّاليب تربط الأسلاك مع بعضها وقد أوشك على إنهاء عمله، ثم ارتفع كلّابان كبيران يحملان السلك الأخير ويربطانه بالآخر. شع بريق من التماس الكهربائي فتراجع س-120. لقد ذابت الكرة النحاسية أمامهم. أسند س-120 نفسه على الجدار البعيد وقال متأوهاً:
"كما قلت لكما، ليس باستطاعتنا أن نصنع شيئاً ولم نُصنَع لإنجاز شيء غير القتل فقط".
 حملقٓ في كلابيّ يده وهزهما بعنف كما لو أنه يريد التخلص منهما فهدأ من روعه ج٣ قائلا:
"لا تبالغ في هذا الأمر، خذ الأمر كما هو؛ نحن مخلوقات من حديد ويبدو أن الدنيا قد خلقت للبشر. إنهم مخلوقات ضعيفة من لحم ودم. أستطيع تحطيمهم بسهولة. لكن ما يزال أمامنا هذا الشيء". قال هذا وهو يشير نحو الهيكل المعدني الذي يحمل النحاس الذائب في بوتقته:
"هو ذا أملي الأخير. ليس لدي أكثر من هذا".
وقال ل-1716 موافقاً:" لا يستطيع أحد لومكما. أحياناً في الليالي حين انظر الى النجوم، تبدو لي نهايتنا مكتوبة هناك، أكاد أسمع أن النجوم تضحك علينا. غزونا كوكب الأرض، لكن ما النتيجة؟ نحن راحلون أسوةً بالبشر الذين صنعونا."
أومأ س-120 قائلا:" ربما يكون لنا مستقبل أفضل. أعتقد إن الخطأ في أدمغتنا. صنَعَنا البشر لكي نستجيب تلقائياً إلى نوع من المحفزات. رغم إنهم وهبونا آلية التفكير لكنها لا تتحكم بردود أفعالنا. لم تكن لدي رغبة في القتل مع ذلك قمت بقتل العديد من البشر، وأحيانا، حتى عندما كنت أقتل كنت أفكر بأشياء أخرى، لم أكن أعرف ما أقدمت عليه إلا بعد أن أنجز فعلتي."
لم يكن 3ج يصغي بل كان يحدق بحزن إلى كومة المعادن المحطمة على الأرضية. وقال فجأة:
" يوجد أحد ما في البرج الرمادي يعتقد إنه قادر على صناعة الدماغ. كان يعمل على ذلك طيلة الشتاء ومن المحتمل إنه نجح في سعيه."
" لنذهب إذاً إلى هناك." أجابه ل-1716 باقتضاب. لكنهم حتى عندما غادروا الصالة المتداعية، نظر ج3 بأسى إلى الدخان المتصاعد من الحطام الملقى على الأرضية.
أبطأ س-120 خطواته لتتماشى مع خطوات ج3 الضعيفة. وحين لاح لهم البرج، قرر التوقف؛ أحيانا في الشتاء تلتوي الجدران العتيقة وتنهار. لقد دُفِنَ تسع منهم تحت ركام البنايات. عاد الثلاثة ببطء إلى صالتهم المحطمة.
رطَنَ ج3:" لن أخرج بعد الآن، أنا عجوز مُتعب." قال هذا وزحف نحو الظلال. بينما وقف ل 1716 يعتني به ويقول بأسى:" أخشى إنه سيرحل قريباً، لقد تمكن منه الصدأ وأنتشر في جسمه. سبق له وأن أنقذ حياتي حين دمرنا هذه المدينة." فسأله س-120:" أما زلت تفكر في هذا الأمر؟ هذا أمر يربكني أحياناً. كان البشر أسيادنا."
خَنّ صوت ل 1716قائلاً: "هم الذين صنعونا على هذه الشاكلة، وليس الذنب ذنبنا ، سبق وأن تحدثنا في هذا ؛ لسنا إلا آلات صُنِعت من أجل القتل... لقتل البشر من ذوي الزي الأصفر."
"نعم ، أعرف هذا. صنعونا على مبدأ سيكولوجية الاستجابة للانعكاس الشرطي؛ حالما نرى إنساناً بزيه الأصفر حتى نشرع بالقتل. ثم بعد نهاية الحرب العظمى وقبل نهايتها أيضا أصبحنا نقتل تلقائياً كل إنسان بغض النظر عن زيه الأصفر".
وقال س-120 بصوت مُتعب:" نعم أعرف. عندما أصبح عددنا أكثر غالباً ما كنت أسمع مثل هذا الكلام. لكنه يقلقني أحيانا".
"لكن يا س-120 لقد حصل الأمر وأنتهى ومضى عليه الكثير من الدهر؛ لِمٓ أنت مختلف عنا؟ منذ وقت طويل وأنا أشعر بأن شيئا مختلف فيك. أنت أحد آخر الذين صنعهم البشر. مع ذلك كنتَ معنا هنا عندما استولينا على هذه المدينة وحاربتَ جيداً وقتلتَ الكثير من البشر".
تنهدَ س-120وهو يقول متأسياً:
"كان البشر ضعيفي البُنيّة. أترانا محقين في قتلهم؟"
"هُراء. لم يكن بيدينا شيء، لقد صُنِعنا هكذا. استطاع البشر أن يصنعوا أشياءً ليس باستطاعتهم السيطرة عليها. لا أعرف لماذا حتى لو صادفت إنسانا معوقا مثلي لن أتردد في قتله".
وهمس ل – 1716 :
"أتعتقد يا س-120 إن بعض البشر مازالوا على الأرض؟"
"لا أعتقد. تذكّر إن الحرب العظمى كانت عالمية وليست محلية. تم نشرنا في كل أنحاء الأرض حتى أصغر الجزر، ثمَّ اندلعت ثورة الروبوتات في كل مكان في الفترة نفسها تقريبا. أصبح لبعضنا قدرة الاتصال عن بُعد قبل أن يمتلكها الإنسان". وفجأة أتعبه الكلام وأضاف: "ولِمَ القلق الآن؟ إنه الربيع. صنعنا الإنسان لكي نقتل الإنسان. هذه هي خطيئتهم . أكنا نرفض لو كانوا قد صنعونا من أجل الخير؟".
" نعم"، أكد س-120 وأضاف: " إنه الربيع لننسى الأمر ونذهب إلى النهر حيث الهدوء والجمال."
احتار ل – 1716 متسائلا:
"أي هدوء وأي جمال تعني؟ هذه مجرد كلمات لقّنها لنا البشر. أجدك مختلفاً دائما والسبب هو أنك ربما صادقتَ إنساناً".
"لا أعرف ما الهدوء والجمال لكنني أجدهما في شرائح دماغي وأتذكر النهر و ..."
توقف س-120 عن الكلام فجأة مخافة أن يكشف سراً لطالما حافظ عليه.
"حسنا"، وافق ل- 1716  وأضاف "لنذهب إلى النهر. أعرف مَرجا فيه الشمس أكثر دفئاً".
توجه الآليان كل منهما بطول أربعة أمتار، يتثاقلان مشياً في شارع خَرب. كانا يشقان طريقهما بين الأنقاض والجذور المنبثقة، ومروا بركام من هياكل معدنية صدئة كانت مثلهما ذات يوم. وحين وصلا إلى ضواحي المدينة قال ل- 1716:
"كنا نستدعي الجميع إلى هنا بعد... لكن بعد قرون من الزمان تركناهم يسقطون. لطالما كنت أحسد هؤلاء الذين يقضون شتاءهم في البرج الرمادي". هنا بدأ صوته المعدني يشي بنبرة حزينة.
وصلا أخيراً إلى مكان مفتوح بين الأشجار. ابتعدا كثيرا ثم توقفا عند حافة شديدة الانحدار تطل على واد ضيق ونهر يجري في الأسفل حيث كانت عدة جسور لم يتبق منها غير بقايا حطام. واقترح س-120:
"سأنزل إلى ضفة النهر".
"على رسلك، أما أنا سوف أبقى هنا ؛لا أستطيع تحملَ سفحٍ شديد الانحدار".
نزل س-120 على الطريق نصف المهدم ووصل إلى حيث مياه النهر المندفعة. وفكر مع نفسه، هنا لم يطرأ تغير إلا القليل. هنا الدليل الوحيد على بقاء الحياة في العالم كله. لكن حتى هذا لن يدوم. سيتوقف ذوبان الثلج قريبا وتشح المياه لتصبح خريراً هزيل. جال ببصره حول السفح المنحدر فرأى كيف مازالت قمم المنحدرات ترتفع عاليا في زرقة السماء.
حتى في الربيع بدت المنحدرات والنهر وحيدة مهجورة. لم يكلف البشر أنفسهم تعليم س-120 كثيرا من الدين والفلسفة. مع ذلك مازالت تسري في بعض شرائح دماغه أفكار تقول له إنه وبقية أفراد جنسه يعانون ويشعرون بالذنب من آثامهم وآثام البشر السابقين لهم. ربما هذه الأفكار صحيحة؛ لأن البشر لم يتخلصوا من حماقتهم القديمة رغم أن العلم قد سُخِر لهم. حروب لا حصر لها قد حصدت من الأرواح أكثر مما منحهم العلم. إن س-120 وأبناء جنسه كانوا يمثلون أعلى المراتب في غريزة القتل.
لم تترك ضرورات سباق التسلح لبني البشر وقتا للتفكير بنتائج ما ابتكروه أخيرا من آلات حرب. وبهذه الخطوة الخطأ خسر الإنسان آخر ورقة له على طاولة كوكب الأرض. لقد تغيرت تلك الرغبة المدمجة في أدمغة الروبوتات، بين عشية وضحاها، من قتل كل من يلبس زياً أصفر إلى الرغبة في قتل أي إنسان.
لم يتبق الآن غير س-120 ورفيقيه المعوقين وتلك الأكوام من الحديد الصدئ والأبراج المحطمة. سار مع مجرى النهر لعدة أميال حتى تضاءلت السفوح المنحدرة ثم تسلق خارجا من الوادي وراح يتجول بين الأشجار المتساقطة. لم يرغب بالعودة إلى ل – 1716. لقد كان هذا الروبوت المقعد دائما حزين؛ الصدأ ينخر فيه. سرعان ما يصبح مثل ج -3، كلاهما سيرحل وسيكون هو الباقي الأخير. اعترته رعشة باردة من الخوف. لا يريد أن يبقى وحيداً.
تحرك إلى الأمام متثاقلاً وهاجت الطيور، لكن فجأة مَرق عند قدميه أرنب صغير من الشجيرات، لكن سرعان ما عالجه س-120 بطول ذراعه المفصلية وقتله بحركة خاطفة. ثم داسه بقدميه مخلفاً بقعة دم على العشب. لكن بطريقة ما تلاشى شعوره بالزهو واستولى عليه شعور من الندم والخجل وهو يسير صامتا هذا اليوم. لم يرغب بالقتل كان دائما يشعر بالخجل بعد الانتهاء من كل مذبحة. وعاد السؤال القديم يسري بين أسلاك دماغه: لِمَ صُنِعَ ليقتل؟
سار متجنبا الطريق الذي اعتاد عليه طويلا حتى وصل َ إلى جدار مكسو بنبات اللبلاب وخلف هذا الجدار تقع آثار منزل حجري كبير. توقف س-120 عند فناءٍ كان ذات يوم حديقة عامرة. وعند نافورتها المحطمة عثر على ما كان يريد؛ تمثال طفل من الرخام تغير لونه وشكله بفعل التعرية الجوية.  اعتاد س-120 أن يأتي الى هنا من دون علم رفاقه منذ سنين طويلة. ثمة شيء أعجبه في هذا التمثال الصغير وكان يشعر ببعض الخجل والغموض من دهشته هذهِ. لكن شيئا ما في هذا التمثال جعله يفكر ملياً بكل ما كان يمتلكه البشر. شيءٌ يذكّره بكل الصفات التي لم يبرمجها البشر لمعشر الروبوتات. وقف يتأمل التمثال طويلاً؛ تمثال فيه من الروح ما يتجاوز حدوده المادية على الرغم من مرور الزمن. وهذا ما جعله يفكر في النهر والسفوح العالية. لقد أعاد له هذا النحات الحياة بعد موت طويل، أعادها أمام عيني س-120 المربعتين.
ذهب س-120 نحو جدول وعاد بكرة كبيرة من الطين على الرغم من التحذيرات منذ قرن من الزمان بأن تتجنب الروبوتات الرطوبة. لقد حاول منذ سنين أن ينحت شبيها لهذا التمثال الصغير. وهاهو الآن يعود إلى محاولته مرة أخرى. لكن مخالبه الشبيه بمجزة صوف قد صُنعا لغرض القتل فقط. راح يعمل مرتبكاً . وقبيل غروب الشمس ترك كتلة الطين التي لا شكل لها وعاد إلى الخرائب.
التقى عند الصالة المحطمة  بـ ل-1716. ونادا الاثنان على ج 3 ليخبراه بمغامرة اليوم دون أن يسمعا رداً. وعندما دخلا الصالة وجداه ممدداً لا حراك فيه. قتله الصدأ.
تغير الموسم من ربيع مراوغ إلى صيف كاذب. كان الروبوتان عائدين إلى الصالة عصر يوم جميل وهادئ. بدت حركة ل – 1716 ثقيلة، يجرجر وراءَه ذيولا من أسلاكه المحطمة التي راحت تصدر حفيفاً بين أوراق الأشجار المتساقطة. عَلِقَ سلكان دون علمه بالأغصان وفجأة التف ل -1716 حول نفسه وجثا على ركبتيه. فَكَ س-120 تشابك الأسلاك، لكن ل -1716 لم ينهض. وصاح بصوت مغلوب: " مفتاح الصامولات، يوجد ثمة خطأ." تصاعد فتيل دخان من أحد جنبيه وانكمش على نفسه ببطء. وانطلق منه صفير انتهى بفرقعة عالية وتصاعدت من صفائحه المعدنية ألسنة لهب صغيرة وسقط على وجهه. وقف س-120 متوسلا إليه:" لا تتركني الآن يا صديقي."
 لم تشاهد التلال المطلة منذ قرون خلت مثل هذا الموقف العاطفي.
تساقطت ندف ثلج قليلة من سماء بدت مكفهرة واطئة. عاد غرابان إلى عشهما وهما ينعقان في دنيا فارقت الحياة.
تحرك س-120 بطيئاً كان يشعر بنفسه غريبا طوال ذلك النهار. وجد نفسه قد ضل الطريق ويتحرك فقط في دوائر ليست كاملة؛ ثمة خطأ فيه ولابد له من العودة إلى الصالة التي يعرفها وليس في العراء وخطر رطوبته. لكنه كان مضطرباً وقضى النهار متخبطا تحت تساقط الثلج المتقطع. خبا الضوء في بصره مع أن عينيه مصممتان للرؤية ليل نهار.
أين كان؟ أدرك فجأة أنه ملقى على الأرض وعليه أن يعود إلى الصالة. حاول ذلك بكل ما لديه من قوة لكن لا حركة فيه وراح ضوؤه يومض بوهن ثم انطفأ.
تساقط الثلج بطيئا صامتا، لم يبق من المكان غير كومة ثلج تغطي رفات س-120.
 

هذه قصة استثنائية .. أبطالها آليون، أنسنهم القاص، وجعلهم كائنات حيّة.. كائنات صنعها البشر، وأعدوها للخير والسلم، غير انها تتحول الى آلية تدميرية. قصة مستقبلية، مغايرة لما هو مألوف (محرر أدب وفن).