أيار 18
     تتذكر طفولتها الغابرة، حينما كانت تلهو بدميتها المحشوة بالقطن بين ايقونات وتماثيل العذراء الملونة، التي تزين القبور الرخامية، التي رقدت بصمت تحت ظلال شجرة السدر الضخمة والنخيل، شيئا فشيئا اخذت تسترد ذكرياتها القديمة، اثناء ما كانت تحمل دلو الماء على كتفها الناعم، لوالدها الخمسيني الذي انهمك يصقل رخام شاهدة قبر، انتصبت في يومها الاول من تقويم سرمدية الموت ، شاهدة لها بريق بارد، تكسرت عليها خطوط الضوء، التي تسللت عبر سعفات النخلات الثلاث، التي كانت تتمايل بهدوء، بينما نواح طائر الفاختة، يتردد في المقبرة الحانية، شاهدة رخام ابيض انتصبت الى جوار شواهد صامتة امتدت على جانبي الممر الضيق،  المعبد بالآجر في مقبرة الأرمن والأرثوذكس، انها ابنته المدللة ، الصبية الجميلة ، ببشرتها التي بلون الحليب والورد وعينيها السوداوين، بقوامها الناحل  وضفيرتيها المجدولتين وهما تتدليان على ظهرها، وجدت نفسها فجأة وهي في ربيع انوثتها السادس عشر بانها ستغادر دميتها المحشوة بالقطن واحلام طفولتها التي ستتبدد في ما بعد، حينما اخبرتها امها، بانها ستتزوج ، قالت لها وهي ترد على دهشة ابنتها وتساؤلاتها التي لمعت في عينيها السوداوين، حين شعرت بالخوف وهو يطبق على قلب ابنتها الصغير، بعد ان ادركت ما يجول في راس ابنتها، قالت لها، بانها ستسعد في حياتها المقبلة كزوجة وأما ما ان تحتضن مولودها الاول بين يديها! ستشعر انها تلقت الهبة الإلهية التي تنتظرها النساء، ولكن انى لعقلها ان يدرك ما تعده لها الايام المقبلة في الخفاء، انها الصبية، التي لم تعرف من أنوثتها سوى أب يلثم جبينها بقبلاته، كلما اقبلت نحوه تريق ماء الوضوء على يديه، في صباها المبكر، حينما كانت في الثانية عشرة، اخبرته بانها تريد ان تضع سنا ذهبية، لان جارتها فاطمة ابنة محمد المسكين، زينت فمها بسن ذهبي، كيف له ان يرد روحه، فلا قلب تحت ضلوعه يطاوعه على الرفض، رافقته في اليوم التالي، بالأحرى كانت تلوذ به، وهي ترافقه بخطواته المتمهلة في الطريق الى الباب الشرقي ، الذي لا يبعد كثيرا عن المقبرة التي تطل على كمب الارمن.
وجدت نفسها تجلس على كرسي طبيب الاسنان في عيادته داخل بناية من طابقين مقابل حديقة غازي، هناك وضع لها الطبيب اليهودي، سنا ذهبية.
كانت المرة الاولى التي تغادر فيها المنزل، في ذلك اليوم شاهدت العالم الكبير وهو يتحرك امام عينيها، رأت الجوق الموسيقى الملكي وهو يعزف في حديقة الملك وارفة الظلال، بينما زهور حسين تصدح بصوتها القوي الذي تردد بين جذوع اشجار الكاليبتوس ونخيل جوز الهند في الحديقة الظليلة.
ابتسمت كما لم تبتسم في حياتها، وهي ترى في المرآة سنها الذهبية تتلألأ في فمها، اخبرته بانها تريد اسورة مرصعة بالمينا، وكما لو انه جنى مصباح ألف ليلة وليلة، كان يلبي امنياتها الصغيرة، والدها الخمسيني، ببنيته المربوعة القوية، نحات رخام قبور موتى الارثوذكس، وصانع لمعان شواهد الموتى، الرجل التقي الورع، الذي حج الى بيت الله في عامه الاربعين، هو الذي يواري بيديه الضخمتين، التوابيت بمقابضها الفضية ودهانها البني اللامع التي تضم جثامين الموتى في حفرتها الابدية، بالتراب.
 فجعت العائلة، بموت شقيقها الاكبر والوحيد، الذي لم يعد يشغل اماسيها وهو يطلق العنان لصوته الرخيم في ليالي المقبرة، الوحيد بين شقيقاتها الخمسة، كان في نهاية عقدة الثاني، حين قتلته الحمى التي لم تمهله طويلا اذ فتكت به في اليوم الثالث بعد ان اصيب بالسحايا، تدرك بأن ظهر اباها ينوء بفاجعة فقدان وحيده، الايمان وحده، الذي ساعده على ان يظل متماسكا حتى اليوم الاخير في حياته حينما أسلم الروح في حجرها.
 في ذلك اليوم القصي، وارت امها دميتها المحشوة بالحكايات بين طيات السجاد، وتمتمت بوصاياها في اذن صبيتها الصغيرة، أخبرتها ان تنضج وعليها تتقن كيف تكون امرأة  في السادسة عشرة، الا انها لم تكن تعرف ان الأيام تخبئ لها مذبحا ستنحر عليه انوثتها، بعد ان باتت القربان الأبدي لأمومتها، في منزل سيجثم على قلبها الصغير ككابوس لا ينتهي، بلا جدوى كانت تستنجد بابيها الذي اخذ يبتعد ويضيع في جوف السراب، بينما شفرة لم تسن، تقشر طفولتها بقسوة لم تعهدها من قبل، سلخت طفولتها التي توارت تحت لحاء الخوف السميك، يوما بعد اخر وعاما تلو عام، اطبق الذعر ببراثنه على عنقها يخنق انفاسها، حينما وجدت نفسها تهرب بابنها البكر ابن الثالثة ، كانت في منتصف عقدها الثاني وزوجها في نهاية عقده الثالث،  تضرعت الى ابيها الكهل ان يخلصها من الكابوس الذي ادخر سمه في قلبها المنهك، تنتظر مخلصا لم يكتب له ان ينقذها ، تدور الايام بينما الأمها التي بدت ان لانهاية لها تتفاقم، عذاباتها تتراكم  ككومة رماد تخنق أنفاسها، تضرعت ان يخلصها من مكابداتها، احتضنت أولادها الأربعة بعباءتها تحت شجرة المشمش، حيث كانت تلوذ بحديقة المنزل يحيط بها الظلام والبرد، كان الرعب يقتلع قلبها ما ان ترى زوجها الذي يتحول الى وحش كلما افرط  في تناول الخمر التي تجعل منه مخلوقا قاسيا، لا يتورع من ايقاع الأذى بأطفالها او خنقها  بقبضتيه الضخمتين.
من اجل ان لا تنتزع منها وصاية اطفالها، الذين لم يشتد عودهم بعد، اخفت عن ابيها الكدمات الزرق التي احاطت عينيها، لم تعد تبتسم كما كانت في طفولتها القصية، بعد ان لطم فمها بقبضته فتحطمت سنتها الذهبية، وتناثر حطامها في فمها المملوء بالدم والالم ، عندما يتحرر من سكره الشديد، كان يلوذ باضطرابه واعتذاراته وهو يطلب منها الصفح، ولكنه يعود وحشا اشد قسوة وفتكا وهو يتجول في منزله المملوء بالصراخ  والعويل والخوف. قال لها يبرر قسوته : انه تأثير الخمر الذي لا يستطيع مغادرته..
وهو يقبل راسها قالها لها، ما الحل يا بنيتي، هل تريدين الطلاق، سأطلقك منه يا بنيتي.
ولكن كيف تطلقني يا بوية .. سينتزع مني أطفالي، كيف أعيش من دون أطفالي يا بوية؟
 في عامها الثلاثون، بقوامها الناحل وبشرتها الشاحبة، وعينيها المرهقتين، وقفت في وجهه، وهو الوحش الذي لا يصد، وقفت امامه، وهي تلملم أطفالها السبعة، بيديها، أسندت ظهرها اليهم ، كما لو كانوا جدارها، لم تتخل عنهم، تلقت بقلب مكسور، لطماته المجنونة التي همدت على تقاطيع وجهها، واستسلمت للكدمات التي أحاطت عينيها، فقدت بريق فمها الوردي، وغارت وجنتيها، واعتل قوامها الرشيق، ولكنها باتت اكثر صلابة، فهاهي تنظر الى اطفالها وهم  ينضجون تحت عباءتها، وهي تحتمي بظلام ليلة شتاء شديد البرودة تحت شجيرة مشمش جرداء في حديقة منزل تسكنه الارواح الشريرة ، في عامها الخامس والثلاثين فجعت بموت ابنتها الصبية، عندما اشتعلت النيران في ثيابها  ولم تستطع إنقاذها، حتى وهي تضمها الى صدرها، وها هو زوجها ، اخيرا، يفقد جبروته في عقده الخامس، بعد ان هده الخمر والغليان، غير المفهوم، الذي يمور في داخله،  غادر الاولاد طفولتهم ، ابنه البكر ارسل الى الجبهة، في الحرب التي زمجرت بصرير أسنانها الفولاذية، بينما عقدها الرابع  ينحت في تقاطيع وجهها اخاديد الصبر والالم وهي تتطلع الى أطفالها وهم ينضجون ، تنظر الى الشعر الذي نبت فوق شفاههم  وذقونهم ، كم تمنت ان يكون اباها حيا، كيما يرى احفاده وهم يغادرون صباهم ،  فهي لم تتركهم للضياع  على الرغم من الالام والعذابات التي تلقتها بقلب صبية غادرت طفولتها مبكرا.
في عقده السادس مات زوجها ، وهو يتطلع  بصمت في وجه المكلف باستلال روحه ، ردد بصوت واهن، قبل ان يقبض ملاك الموت روحه ، اسمها ، عشرات المرات ، كان يتضرع  ان تسامحه وتغفر له قسوته و وحشيته،  كانت في الخامسة والخمسين، حين وارت جثمانه تحت التراب، بدت كامرأة في عقدها السابع ، بشرتها التي تشبه لون الحليب صارت شاحبة بلون الشمع و خصلات شعرها امست كالفضة واصابعها كالشموع ، أمضت حياتها بصمت تعيش ذكرياتها العتيقة ، أحاط بها احفادها صبية وصبايا، فمن غيرها التي اخفت صبيتها تحت عباءة الخوف والظلام، تسللت اليها المتاعب القديمة حتى هدت هيكلها.
 انطوت بهدوء وهي تنظر في وجوه أحفادها الذين احاطوا بها، كانت تدرك بانها تموت، بهمس خافت تمتمت بصوتها البارد الرقيق وهي تتطلع في سماء أحاطت بها
يا يمة.. يا بوية. 
أغلقت جفنيها للمرة الاخيرة بعد ان غادر ضوء عينيها الناعم الى ملكوت الله.