مسرحية ذات فصل واحد
عن رواية (الحمامة) لباتريك زوسكيند
الشخصيات:
جوناثان: حارس أمني (59 سنة)
الرجل ذو القبعة: شخصية تمثل دواخل جوناثان
مدام لاسال: صاحبة العمارة.
مدام روكار: عاملة التنظيف في العمارة.
مدام توبيل: خياطة في متجر
السيد فيلمان: نائب مدير البنك
السيدة روك: كبيرة المحاسبين
المشهد الأول
المنظر: غرفة جوناثان مفروشة بسجادة وتحتوي على سرير حديدي وخزانة ملابس. فوق رأس السرير تصطف مجموعة من الكتب، وعلى أحد جوانب السرير طاولة عليها تلفاز ومذياع، وفي الجانب الآخر براد صغير لحفظ الطعام.
أحد أركان الغرفة مخصص للغسيل والطبخ
جوناثان: (يمسك بقطعة قماش ويقوم بتنظيف أثاث الغرفة. ينهي عمله ويتأهب للخروج. يصيخ السمع من خلف الباب. يفتح جزءاً من الباب بحذر شديد ويسمع وقع اقدام. يغلق الباب ثم يسمع طرقا خفيفا عليه)
جوناثان: (متوجسا) من؟
صوت: أنا، مدام لاسال
جوناثان: (يتردد قليلا ثم يفتح الباب)
مدام لاسال: (تدخل بمنتهى الأناقة وتدخن سيجارا) كيف حالك سيد جوناثان؟
جوناثان: بخير سيدتي.
مدام لاسال: (ترمي رماد السيجار في إناء صغير على الطاولة)
جوناثان: (يغسل الإناء حالا وهو يشمه بعد كل غسلة)
مدام لاسال: (تراقبه عن كثب وتبتسم بسخرية)
جوناثان: (يأتي بنفاضة سجائر)
مدام لاسال: مررت كي أجمع إيجارات الشهر.
جوناثان: (يحاول السيطرة على نفسه) مدام لاسال، هل نسيت أني وقعت معك عقدا لشراء الشقة بقيمة خمسة وخمسين ألف فرنك، دفعت منها سبعة وأربعين ألفا والثمانية المتبقية تم الاتفاق على تسديدها نهاية العام؟
مدام لاسال: (محرجة) آه، نسيت، أنا آسفة
مدام لاسال: (تسترق النظر لكل جزيئة في الغرفة) يا لها من غرفة نظيفة لم أر مثلها قط!
جوناثان: شكرا مدام لاسال
مدام لاسال: هل تعلم ماذا يقول عنك سكان العمارة يا سيد جوناثان؟
جوناثان: ماذا يقولون، سيدتي؟
مدام لاسال: يقولون أنك شخص تحب العزلة أكثر مما ينبغي
جوناثان: (يحرك جذعه يمينا وشمالا) مم..
مدام لاسال: وإنهم في الوقت الذي كانوا فيه يستحمون بالماء البارد في حوض العمارة الوحيد ويغسلون ثيابهم وأوعيتهم فيه، وهم ناقمون على الظرف السيء الذي أجبرهم على العيش بتلك الصورة كنت أنت الوحيد الذي لم يعان من أي ضيق ولم تتفوه بكلمة تذمر أبدا
مدام لاسال: ويقولون إنك لا تتبادل مع أي منهم كلمة واحدة عدا التحية
جوناثان: (يتلوى) ممم
جوناثان: نعم
مدام لاسال:(تهمس) هل تعلم ما يقول عنك أحد الطلبة القانطين هنا؟
جوناثان: ماذا يقول؟
مدام لاسال: (بهمس) يقول إنك واقع في العشق
جوناثان: (يعتصر) ماذا؟
مدام لاسال: تماما كما يحصل لبعض الرجال حين يقعون في الحب من أول نظرة. انهم يبدون كما لو أن مسا أصابهم. هكذا كان الطالب يسخر منك (تستدرك) عفوا أسأت التعبير.
جوناثان: (يدور برأسه يميناً وشمالاً لحفظ توازنه) لا عليك مدام لاسال
مدام لاسال: (تستأنف بمرح وكأنها تذكرت أمرا) مدام روكار (تضحك) تلك المرأة التي لا يمكن التنبؤ بعمرها، ككل سابقاتها من مدبرات العمارات، تقول إنك لا تستلطفها أبدا (تقترب منه وبأسلوب حاد) هل هذا صحيح يا سيد جوناثان؟
جوناثان: ها؟
مدام لاسال: (بحماس مع حركات) أعتقد أنك محق في شعورك هذا، فهي تراقب المارة بشكل مستمر، بل إنه من شبه المستحيل أن يستطيع المرء تخطيها من دون أن يلفت انتباهها ولو بطريقة سريعة أو طرفة جفن. حتى ولو كانت تنام في غرفتها وهي جالسة إنها تفعل هذا عادة في ساعات ما بعد الظهر وبعد العشاء، (بهمس) الصرير الخافت لباب المدخل يكفي لإيقاظها بما يكفي لترى من الذي يدخل أو يخرج (تتنهد) أظن أن الجميع قد أبدى امتعاضه من سلوكها
جوناثان: مممم.
مدام لاسال: (وهي في طريقها إلى الخروج) سأخرج الآن سيد جوناثان.. وداعاً
جوناثان: وداعاً، مدام لاسال
مدام لاسال: (تخرج وتصفق الباب خلفها)
جوناثان: (يظل واقفا أمام الباب يصيخ السمع ثم يشعر براحة. يقوم بفتح جزء من الباب ويضع قدمه على عتبة الباب الخارجية بحذر. يرى شيئا يجعله يتسمر في مكانه لثوان يشعر بالذعر. يدخل ويغلق الباب بشدة ويده محكمة على مقبض الباب يرتعب) إنها تقف أمام باب شقتي. عيناها تحدق (يمسح العرق عن جبينه. يستأنف النظر من ثقب الباب يلصق ظهره إلى الباب) عينها كقرص مستدير ذي لون بني يتوسطه سواد بلا رموش أو حاجب، النظرة الواحدة من تلك العين تملؤني بالرعب (يعاود النظر من ثقب الباب ثم يلصق ظهره نحو الباب) ولكن.. هناك.. في تلك العين نفسها شيء من العزلة والانكسار. (يعاود النظر من ثقب الباب ثم يتراجع) لقد اختفت العين (يهرع الى سريره مرتجفا. يقوم بمسح العرق حتى أسفل ظهره يخرج كتاب الموسوعة الطبية ويتصفحه) سأصاب بجلطة قلبية أو انهيار عصبي (يسحب الغطاء إلى أعلى كتفيه ويرتجف من البرد) وخز.. وخز.. الألم الداهم والوخز في منطقتي الصدر والكتف يسبقان حتما الجلطة القلبية (فجأة يفتح عينيه وبراحة) نبضات القلب عادت طبيعية والدماء تجري في عروقي من جديد ولا أعراض لشلل أو جلطة (يحرك أصابع يده ورجليه ويحرك عضلات وجهه بشكل متموج) ها أنى في اتم الصحة
المشهد الثاني
الرجل ذو القبعة: (يدخل مخاطبا جوناثان) لقد انتهى أمرك، ما أنت إلا كهل ميؤوس منه، إنك تسمح لحمامة أن ترعبك! حمامة تقذف بك إلى غرفتك، تطرحك أرضاً وتجعل منك سجيناً. سوف تموت يا جوناثان. سوف تموت، إن لم يكن الآن ففي الغد. لقد أفسدت حياتك التي تزلزلها حمامة، دون تمكنك من قتل ذبابة، او قتل انسان. قد تستطيع قتل إنسان رميا بالرصاص. شيء كهذا يحدث سريعا. إنه مسموح به في حال الدفاع عن النفس ووارد في الفقرة الأولى من قانون الخدمة لرجال الحراسة المسلحين بل إنه مطلوب، فلا يمكن لأحد أن يلومك، ولكن (يصرخ) أن تطلق النار على حمامة، فإن هذا لعبث ماجن. فالحمامة حين تطير يصعب التصويب نحوها. ثم إنه ممنوع ويؤدي إلى سحب رخصة السلاح وفقدان الوظيفة وربما السجن ايضا. ولهذا لن تستطيع قتلها. ولكنك، إن تركتها تعيش.. (بهدوء وابتسامة خفيفة) فلن تستطيع العيش معها (بصوت عال) إنها بالنسبة لك رمز الفوضى العارمة، إنها ترفرف وتطير في كل الاتجاهات. تخرج مخالبها وتنشبها في العينين، تتبرز بلا انقطاع وتنشر الجراثيم المهلكة وفيروسات مرض الالتهاب السحائي إنها تجتذب حمامات أخرى، فتتجامع وتتكاثر بسرعة مذهلة وتجد نفسك عندئذ محاصرا بجيش من الحمام، حتى إنك لن تتمكن من مغادرة غرفتك أبدأ، فتموت إما جوعاً أو غرقا ببولك وبرازك (جوناثان يشعر بالصدمة) أو ترمي نفسك من النافذة، فتسقط على الرصيف وتصبح هشيما.
جوناثان: (يسقط على السرير كالصريع)
الرجل ذو القبعة: (يجلس الى جانبه) ولكن حتى هذا يتطلب منك شجاعة لا تملكها، لذلك سوف تمكث في غرفتك وتصرخ طالبا النجدة، وقد تطلبها من رجال الإطفاء ليأتوا إليك وينقذونك من حمامة، حتى تصبح مسخرة العمارة، بل هدف لسخرية الحي كله (مستعرضاً وبخفة) هل سمعتم؟ إن السيد جوناثان طلب إنقاذه من حمامة! (يعود إلى طبيعته) هذا ما سيقوله الناس مشيرين إليك بأصابعهم، وسوف يتم تحويلك إلى مصح للأمراض العقلية، آه يا جوناثان إن حالتك ميؤوس منها أنت ضائع لامحالة يا جوناثان.
جوناثان: (يرمي الغطاء من عليه ويجلس على الأرض آخذا دور العابد) أبانا الذي في السماء.. أنقذني من تلك الحمامة.. آمين (يشعر بضيق شديد فيهرع نحو الباب ثم يتراجع قليلا) لن أتمالك نفسي كي أصل إلى المرحاض (يهرع نحو حوض الغسيل ويتبول ثم يتراجع مصدوما من منظر حوض الغسيل فيقوم بفتح الماء ووضع المطهرات بشكل مبالغ فيه، ثم يظهر في الوسط وعلى وجهه علامات الصدمة)
تبولت في هذا الشيء الجميل (يبكي وبصوت خفيض وكأنه يعتذر) مرة واحدة لا تحسب (ينظر إلى الساعة) فاتتني حلاقة ذقني، ولذلك عليّ أن أقوم بها الآن وأستغني عن طعام الفطور لهذا اليوم، إذ لم يبق لي سوى ثلاثة أرباع الساعة وهي مدة كافية لانقاذي من أزمة قلبية وضغط المثانة الممتلئة سأستمر بروتيني اليومي الذي لم يتغير منذ سنين طويلة(فجأة) ولكني.. لن أستطيع التعايش معها تحت سقف واحد لا يوماً ولا ليلة ولا حتى ساعة واحدة (يقوم باخراج دفتر الشيكات ودفتر التوفير) هذا يكفيني لمدة أسبوعين شرط أن أجد نزلاً رخيصاً، (يفكر) ولكن يتوجب على من طرف آخر دفع مبلغ الثمانية آلاف فرنك إلى مدام لاسال في آخر العام كدفعة نهائية لثمن الغرفة، (متسائلا) كيف سأستطيع أن أطلب من السيدة لاسال إمهالي في تسديد الدفعة الأخيرة؟ (يغمض عينيه وكأنه أمام مدام لاسال) سيدتي! إنني لا أستطيع تسديد الدفعة الأخيرة البالغة ثمانية آلاف فرنك، لأن الغرفة التي اشتريتها منك تحاصرها حمامة (ينتفض) كلا، كلا، (يفكر ثم يهرع نحو الخزانة ويخرج صندوقاً. يخرج ما فيه من المال ويعد ببطء) خمسة فرنكات ذهبية خلال عملي في الحرب الجزائرية، سوار أمي الذهبي، القلم الفضي هديتي من البنك، وهذا المذياع، إذا بعت كل هذه الكنوز سأتمكن من دفع ما علي لمدام لاسال(يحلق ذقنه ويقوم بارتداء زيه. يتسمر في مكانه وعيناه على الباب فجأة يهرع نحو الخزانة ويخرج معطفا وقفازات وقبعة ونظارات سوداء. يرتدي المعطف والقبعة والنظارات. يفتح المظلة ويقف أمام الباب محاولا الخروج ثم يتراجع. يكرر الفعل بشجاعة عالية ثم يصل الباب ويتراجع منكسرا ويتكرر الفعل نفسه عدة مرات) كم تستطيع الحمامة أن تعمر؟ سنتان، ثلاث سنوات، عشر سنوات؟ وماذا لو كانت هذه الحمامة أصلاً كبيرة السن وعجوزا؟ ربما تموت خلال أسبوع (بفرح) ربما تموت اليوم ... بل ربما ما جاءت هنا إلا لتموت (يفتح الباب ببطء شديد ويخرج المظلة أولا ثم رأسه ثم باقي جذعه بحذر شديد حتى يختفي)
المشهد الثالث
المنظر: غرفة جوناثان. نرى من خلال النافذة حمامة تقف على بلاط الممر
جوناثان: (بملابس غير مناسبة، يمد رأسه خلف باب يفتح. يخرج جذعه ببطء وهو يتلوى كالحلزون. يخطو بضع خطوات ثم ينظر إلى نفسه (يهمس) ماذا لو رآني أحد سكان العمارة بملابسي هذه؟ (تجحظ عيناه) بل ماذا لو رأتني مدام روكار؟
السيدة روكار: (تدخل وهي تحمل مجموعة من صفائح النفايات الفارغة المحملة على عربة صغيرة. تتفحص جوناثان من رأسه حتى قدميه وباستغراب) سيد جوناثان!
جوناثان: (يتجمد في مكانه ويبدو كالتمثال لوهلة يحاول التراجع حتى عتبة الغرفة ومع نفسه) لماذا يجب على الناس أن يكونوا طفيليين إلى حد مقرف؟
مدام روكار: صباح الخير يا سيد جوناثان؟
جوناثان: (مستسلما لكل ما قد يحصل) صباح الخير مدام روكار (يقوم بغلق المظلة وخلع معطفه)
مدام روكار: (تشير اليه بسخرية)
جوناثان: (يخرج من حقيبته حذاء ويرتديه ثم يغمغم وكأنه يتكلم للمرة الأولى) سيدتي.. لدي كلمة.. أريد أن أقولها (مع نفسه) لا أعلم بعد ما أود قوله
مدام روكار: (تبتسم) تكلم يا سيد جوناثان
جوناثان: (يتراجع بضع خطوات خجلا)
مدام روكار: (تتنهد) نعم سيد جوناثان؟
جوناثان: (يحاول جعل مسافة بينه وبينها) سيدتي، إنني أريد أن أقول لك مايلي:
مدام روكار: (بغنج) قل يا سيد جوناثان
جوناثان: (بحماسة من يريد القاء خطبة) أمام غرفتي يوجد طائر
مدام روكار: (تتغير لهجتها وبصدمة) ماذا؟
جوناثان: إنها حمامة، وهي تجلس أمام غرفتي على بلاط الممر. انظري انها هناك..
مدام روكار: (تنظر شزرا) ومن أين أتت هذه الحمامة؟
جوناثان: لا أعلم، يبدو لي أنها اقتحمت نافذة الممر التي كانت مفتوحة خلافا لتعليمات العمارة التي تبقيها مغلقة على الدوام
مدام روكار: (بحنق) ربما قام أحد الطلاب بفتحها بسبب الحرارة
جوناثان: (بغضب) ربما، إلا أنها يجب أن تظل مغلقة، وخصوصاً في الصيف، لأن العاصفة إذا هبت سوف تصفع النافذة بعنف وتكسرها، كما حدث في صيف العام 1962. لقد تكلف إصلاح النافذة آنذاك مائة وخمسون فرنكا، ومنذ ذلك اليوم تم التعميم في تعليمات العمارة أن النافذة يجب أن تبقى مغلقة دائماً
مدام روكار: (تنظر بفضول)
جوناثان: (يحاول الهروب من نظراتها)
مدام روكار: (محاولة كسب وده) يجب أن تطرد الحمامة وتغلق النافذة
جوناثان: (يبادلها النظرات كالأسير ثم يتنحنح) إن الأمر..
مدام روكار: (تقاطعه بغنج) أي أمر يا سيد جوناثان؟
جوناثان:(يتنحنح مرة أخرى) إن الأمر السىء هو وجود بقع كثيرة، بقع خضراء كثيرة وريش أيضاً، لقد قامت بتوسيخ الممر كله، هذه هي المشكلة الرئيسية.
مدام روكار: (تهز رأسها بانفعال) بالطبع سيدي، يجب تنظيف الممر، ولكن ينبغي أولاً طرد الحمامة
جوناثان: (بنفاد صبر) نعم.. نعم (مع نفسه) ما الذي تعنيه هذه المرأة؟ ما الذي ترمي إليه؟ ربما تعني أنه يجب علي أنا القيام بطرد الحمامة؟ (يلتفت الى مدام روكار) نعم.. يجب.. يجب طرد الحمامة.. أنا.. أنا كنت سأطردها بنفسي، لكنني لم أتمكن من ذلك. إنني مشغول كما ترين. إنني أحمل معطفي وغسيلي وأذهب إلى عملي. إنني في غاية العجلة سيدتي، لهذا لا يمكنني طرد الحمامة. فقط أردت إبلاغك بالأمر، وخصوصاً ما يتعلق بالبقع إن اتساخ الممر ببراز الحمامة هو المشكلة الأساسية، لأنه يتنافى مع تعليمات العمارة، إذ أن نظام العمارة ينص على وجوب المحافظة على نظافة المدخل والدرج والمرحاض دائماً
مدام روكار: (بنفاد صبر) إنني أشكرك على هذه المعلومة يا سيدي، سوف أهتم بالأمر في أول فرصة سانحة (تستأنف عملها فتخرج وهي تدفع العربة)
جوناثان: (يسير بخطوات حذرة وببطء) إنها لن تهتم بأي شيء، فهي مدبرة العمارة ليس إلا. وبصفتها هذه فهي ملزمة بتنظيف الدرج والممرات، ومرة في الأسبوع بتنظيف المرحاض المشترك، ولكنها ليست ملزمة بطرد حمامة بعد الظهر، على أبعد تقدير، سوف تنسى الأمر كله، بعد أن تثمل بنبيذها الرخيص، هذا إذا لم تكن قد نسيتها الآن وفي هذه اللحظة بالذات (يخرج)
المشهد الرابع
المنظر: ساحة بوسيكو
جوناثان): يدخل حاملا حقيبته ومعطفه وكيسا صغيراً. تبدو عليه إمارات الذهول والأسف. يضع الكيس على المصطبة. يجلس متثاقلا ورأسه بين يديه. يضرب يده على فخذه أسفا) لقد وصلت سيارة السيد مدير البنك من دون علمي بها.
الرجل ذو القبعة: (يخطو نحو جوناثان يجلس الى جانبه) نعم، الحارس يجب أن يماثل أبي الهول، أليس هو رأيك؟ ألم تقرأ مرة؟ إن فاعلية أبي الهول لا تأتي من حركته، وإنما من مجرد وجوده في المكان. إنه يستطيع بمجرد وجوده فقط مواجهة اللص (يمثل دور أبي الهول مع لص الآثار بعفوية وبصوت خشن) عليك أن تتحداني.. لا أستطيع منعك، لكنك يجب أن تتحداني، وحين تتجرأ على هذا، فإن لعنة الآلهة وآل فرعون سوف تحل عليك (يعود إلى طبيعته) أما الحارس فيمكنه القول ( بصوت طبيعي) إن عليك أن تتحداني، إنني لا أستطيع منعك، وحين تتجرأ على هذا، فإن انتقام العدالة سوف يحل بك على شكل إدانة بجريمة قتل (نحو جوناثان وباسلوب حاد) ولكنك تعلم بكل تأكيد أن أبا الهول يملك أسلحة أكثر تأثيراً مما يملكه الحارس، فالحارس لا يمكنه التهديد بلعنة الآلهة، وحتى إذا كان اللص لا يأبه للعواقب فإن جسد أبي الهول لن يمس بسوء لأنه منحوت من صخر البازلت الخالص ويقبع كحصن منيع. لقد تمكن من المحافظة على بقائه مقاوما لصوص الآثار عبر خمسة آلاف عام، بينما تجد حارس البنك، عند حدوث سطو مسلح، مضطرا لأن يدع حياته خلفه، مغادرا إلى الدار الآخرة خلال أقل من خمس ثوان!
جوناثان: (مع نفسه) لقد صلت سيارة السيد مدبر البنك من دون علمي
الرجل ذو القبعة: (يحرك قبعته) اليوم يبدو كل شيء مختلف. اليوم لم تتمكن مهما حاولت أن تجد هدوء أبي الهول الذي كنت تتمتع به في العادة
جوناثان: (بحماس) كنت أعتقد أن الحارس وأبا الهول متشابهان، فسلطة كل منهما رمزية. وامتلاك هذه السلطة الرمزية يشكل عزة نفس واحترام للذات وإمداد بالقوة والقدرة على التحمل، وحماية تحصن من اي مكروه
الرجل ذو القبعة: (يضحك ساخرا) ههههه
جوناثان: لقد وصلت سيارة السيد المدير من دون علمي
الرجل ذو القبعة: (مؤنبا) ألم ترها؟
جوناثان: (مازال في حالة من الأسف) مم.
الرجل ذو القبعة: أخفقت وأهملت واجباتك الوظيفية باستهتار، إنك لست أعمى فقط بل أطرش أيضاً... وإنك أخرق وعجوز ولا تصلح بعد الآن لأن تكون حارسا
جوناثان: (بجمود) لأن سيارة السيد المدير وصلت من دون علمي؟
الرجل ذو القبعة: لأنك وجدت نفسك مضطرا إلى ترك وقفتك المنتصبة قبل وصول هذه السيارة
جوناثان: (يهز رأسه) صار كل شيء يتموج ويتراقص. فكرت، لابد أنني أصبت بين ليلة وضحاها بقصر النظر. حين كنت طفلا كان علي ارتداء نظارة طبية ، لكني أستغرب أن يعاودني قصر النظر في هذه السن المتقدمة. فمع تقدم السن تختفي أعراض قصر النظر ويأتي بعدها الماء الأبيض وانفصال الشبكية وسرطان العين، أو ربما سرطان في الدماغ يضغط على عصب العين (يضع الكيس على رجليه ويقوم بفتحه)
الرجل ذو القبعة: (يختفي)
جوناثان: (يتناول غداءه ونظره إلى البعيد)
المتشرد: (يدخل. يرتدي ملابس مهترئة ويمسك بعلبة سردين. يجلس قبالة جوناثان)
جوناثان: (يشعر بالقرف. يتناول طعامه على مضض)
المتشرد: (يمسك السردينة من ذيلها ويقضم رأسها ويبصقه على الأرض ويرمي البقية في فمه. يكرر الفعل نفسه)
جوناثان: (يبدي امتعاضه)
المتشرد: منذ عقود وأنا أراك في هذا المكان، ولكنني أتساءل.. ما سبب كراهيتك وامتعاضك مني؟
جوناثان: (باحتجاج) قبل وقت طويل، قبل حوالي الثلاثين عاما حين رأيتك لأول مرة، تملكني شعور بالغضب عليك
المتشرد: لماذا؟
جوناثان: كنت أغار منك
المتشرد: (وهو يلعق ما بقي في علبة السردين) تغار مني؟
جوناثان: (يدير ظهره اليه من شدة القرف) نعم، لأنك بلا هموم كهمومي انا.. فبينما علي الحضور إلى موقع عملي في تمام الساعة الثامنة والنصف، كنت أنت تظهر في الساعة العاشرة والنصف أو الحادية عشرة، وبينما علي الوقوف منتصب القامة مشدود الذراعين إلى أسفل، تسترخي أنت على قطعة كرتون وتدخن، وبينما أنا أقضي الساعة بعد الساعة، واليوم بعد اليوم، مخاطرا بحياتي وأنا أحرس البنك وأكسب قوتي بمرارة، كنت لا تفعل أي شيء على الإطلاق سوى الاعتماد على شفقة الآخرين الذين يلقون بالنقود في قلنسوتك، لم تكن يوما معكر المزاج، حتى في الأيام التي كانت فيها قلنسوتك تخلو من أي مال. لم يكن يبدو عليك أنك تعاني أو تخاف أو حتى تمل. دائما تنضح منك ثقة بالنفس ورضى مثيران للغيظ. لقد كنت تمثل تجسيدا يستفز الجاذبية للحرية وسحرها
المتشرد: (يلف ساقيه فيظهر تمزق حذائه ويتعالى في كلامه) لكنك ذات مرة في منتصف الستينيات، وانت تبحث عن المتشرد الذي هو انا.. تعثرت ووقعت بزجاجة خمر موضوعة على قطعة كرتون بين قلنسوتي وكيس بلاستيكي.
جوناثان: ليس لأني افتقدتك كشخص، بل لأن مشهد الطبيعة الصامتة هذا المكون من الزجاجة والكيس والقلنسوة بدا ناقصا
المتشرد: ربما قصدت مشردا آخر
جوناثان: (بإلحاح) بل أقصدك أنت بلحمك وشحمك وكارتونك البلاستيكي وقلنسوتك ومؤخرتك التي تعريها أمام المارة في ساحة بوسيكو.
المتشرد: (يبرز اصبعه من حذائه باستفراز) وماهي مواصفات مؤخرتي؟
جوناثان: (مستعرضاً بيديه ساخراً) مؤخرة بيضاء بلون الطحين، مرقشة ببقع زرقاء وخدوش حمراء. كانت مشوهة بشكل تبدو فيه كما لو أنها مؤخرة كهل عاجز ملازم للفراش
المتشرد: (يقف ويتفحص مؤخرته بعينيه) كل هذا الوصف لمؤخرتي؟
جوناثان: إن صورة مؤخرتك مؤلمة ومقرفة ومرعبة بشكل دفعني إلى الارتجاف كلما تذكرتها
المتشرد: (يرفع حاجبيه) أهكذا هي مؤخرتي؟
جوناثان: (بغضب) في ذلك اليوم وبعد أن أربكني منظر مؤخرتك وأنت تقضي حاجتك.. هربت ولجأت إلى مكتب البريد حيث يتوجب علي أن أسدد فاتورة الكهرباء. سددتها ثم اشتريت طوابع بريدية أيضا، على الرغم من عدم حاجتي إليها، فقط أردت أن أطيل فترة بقائي بحيث أتأكد أنني لن أضطر لرؤيتك مرة أخرى وأنت ما تزال تقضي حاجتك
المتشرد: (مذهولا) كل ذلك سببه مؤخرتي!؟
جوناثان: (بالأسلوب نفسه) منذ ذلك الوقت عودت نفسي على عدم النظر إلى الجهة الأخرى من الشارع والاندفاع إلى اليسار صاعدا في شارع (دوبان) على الرغم من أنني ليس لدي ما أفعله في تلك البقعة من المدينة، لكنني أردت بهذا تجنب المرور في المكان الذي توجد فيه زجاجة الخمر ورقعة الكرتون والقلنسوة
المتشرد: (يقاطع مبتسماً) ومؤخرتي.
جوناثان: (بلامبالاة) فسلكت طريقا طويلة عبر شارعي شيرش ميدي و بولفار راسباي، حتى وصلت إلى شارع دولابلانش، قاصدا غرفتي، محارتي الآمنة. منذ ذلك اليوم اختفت من داخلي تلك الغيرة التي كنت أشعر بها تجاهك.
المتشرد: (ساخراً) ألم تسأل نفسك ولو بشيء من الشك، من وقت لآخر، ما هو جدوى قضائك الثلث الأخير من حياتك أمام أبواب البنك لتفتح البوابة وتقدم فروض الاحترام أمام سيارة المدير كلما تطلب الأمر ذلك؟
جوناثان: (يتحسر) آه، بقاء كل شيء على ما هو عليه.. إجازات قصيرة وراتب قليل يتبخر كليا بعد دفع الضرائب والتأمينات الاجتماعية والإيجار
المتشرد: هل هناك من جدوى فعلية من كل ما سبق؟
جوناثان: (يلملم فتات الطعام عن ملابسه) نعم. إن ما أقوم به ضروري للغاية، فهو يحميني من الاضطرار لتعرية مؤخرتي على الملأ ومن التبرز في الطريق. هل يوجد شيء أكثر إيلاما من الاضطرار للتعري والتبرز في الشارع أمام أعين الناس؟ هل يوجد شيء أكثر إذلالا من هذا السروال المتهرئ؟ هذه الوضعية المتكررة وهذا العري الاضطراري البشع؟ هل يوجد عجز وهوان أكبر من أن يضطر الإنسان لقضاء حاجة محرجة أمام أعين العالم أجمع؟ الحاجة اسمها وحده يفصح عن المعاناة. وككل ما يضطر المرء للقيام به تحت ظروف قاهرة، فإنها تتطلب الغياب المطلق لأي إنسان، أو على الأقل التظاهر بالغياب. بقليل من المال يمكنني تدبر أمري، وقبول ارتداء سترة متسخة وسروال ممزق. وعند الحاجة حين أستغرق بتخيلاتي الرومانسية. يصبح النوم على قطعة من الكرتون، والاستغناء عن حميمية العيش في الغرفة والاستعاضة عنها بزاوية ما، بشبك التدفئة المعدني أو بعتبة أدراج محطات المترو ممكنة. ولكن عندما لا يجد باباً يستطيع أن يغلقه خلفه حين يريد أن يتبرز، ولو كان باب المرحاض المشترك. حين يتم تجريد المرء من هذه الحرية الأساسية، حرية الانسحاب عن الناس عند الضرورة.. فإن كل الحريات الأخرى تصبح عديمة الفائدة. آنذاك تفقد الحياة معناها، ويكون الموت هو الحل الأفضل
المتشرد:(يرفع حاجبيه) تقصد أن جوهر الحرية الإنسانية مرهون بامتلاك مرحاض
جوناثان: نعم، فلقد كنت مصيبا في الكيفية التي أسعى بها لتأمين وجودي. كنت أعيش حياة رغيدة وليس هناك شيء، أي شيء يدعو للندم
المتشرد: مم.. عن اذنك يا جوناثان (يضع قلنسوته على وجهه ويتمدد على المقعد)
جوناثان: (بمفرده) منذ تلك الساعة أصبحت أقف على أرض صلبة أمام أبواب البنك، منتصبا وشامخا تماما كتمثال منحوت من الصخر أو مصبوب من المعدن. وتلك الخصال من الثقة الصلبة بالذات والقناعة التي كنت أعتقد أنني اتمتع بها، قناعة تدفقت في داخلي أنا كالمعدن المنصهر، وتصلبت لتصبح درعا لي، ودعمت من رسوخي وثباتي. منذ ذلك الوقت لم يعد هناك شيء يمكن أن يهزني، أو شك يمكن أن يزعزعني، لقد لبست هدوء وطمأنينة أبي الهول. وحين صرت أصادفك أو أراك جالسا يداهمني شعور يمكن تسميته بشكل سطحي التسامح أو قبول الآخر كما هو. كان شعوري هذا مزيجا شديد التنافر من القرف والاحتقار والشفقة، (يتوقف عن الكلام ليسمع شخير المتشرد) حتى أصبح هذا المتشرد لا يثيرني (يخرج وسرعان ما يدخل. ينحني تحت المقعد. يلتقط علبة الحليب. وقبل أن يستقيم يسمع صوت تمزق بنطاله. يتسمر في مكانه. يشعر بصدمة كبيرة. ينظر هنا وهناك مخافة أن يسمع أحدا أو يعلم بالحدث. يتفحص المتشرد فيجده لازال نائما. ينظر إلى الشق فيجده من أعلى فخذه حتى أسفل جيب السروال الأيسر. يحرك الجزء العلوي للشق يمينا وشمالا وبذهول) الأدرينالين يندفع في دمي، هذه المادة المدغدغة التي قرأت ذات مرة أن الكظر يضخها في الدم بكثرة في أوقات الخطر المحدق وحالات الفزع، لتحفز الحواس والطاقات في الجسم إما للهرب أو لمواجهة مسألة فيها حياة أو موت0 بالفعل أشعر وكأنني جريح، وأن الشق الذي انفتح في سروالي انفتح في جسدي أيضأ. يبدو لي أنني سوف أموت متأثراً بجرحي إذا لم أتمكن فورا من معالجته وإغلاقه (يصرخ) عليك أن تبادر إلى فعل شيء. عليك اتخاذ خطوة فورية لإغلاق هذا الثقب وإلا فإنك ضائع لا محالة (مع نفسه) بهذه السرعة يعمل الأدرينالين، هذا العقار الرائع. بهذه السرعة يحفز الخوف والذكاء وقوة الشكيمة (يضغط بقبضته على علبة الحليب ويكورها ويرميها بعيدا. يضغط بيده على أعلى فخذه. يحرك ذراعه اليمنى بتأرجح سريع كما لو انها مجداف إلى جانبه. يمشي بحذر شديد ناظرا هنا وهناك حتى يخرج)
المشهد الخامس
المنظر: متجر بون مارشيه
محل للخياطة كتب عليه "جانين توبيل _ تعديل وإصلاح_ عناية وسرعة
على جانبي المحل يوجد قسم بيع الزجاجيات وآخر للخضار وآخر للجبن والسجق
مدام توبيل: (ترتدي نظارتها الكبيرة وهي تعمل على ماكنة الخياطة)
جوناثان: (يدخل من أحد زوايا المحل. يمشي باستحياء ويده على فخذه. يخاطب مدام توبيل) سيدتي!
مدام توبيل: ( تنهمك بخياطة ثوب أحمر ذي ثنيات. توقف الآلة وتحرر الثوب من تحت الإبرة وتقص الخيطان العالقة. ترفع رأسها وتنظر إلى جوناثان) نعم
جوناثان: (يشعر بالفزع من حجم نظارتها الكبير ولون شفتيها البنفسجي اللامع وشعرها الكستنائي المنسدل على كتفيها)
مدام توبيل: (باسلوب مهذب) بماذا أستطيع خدمتك؟
جوناثان: (يدير جانبه الأيسر نحوها مشيراً إلى الفتحة في سرواله. وبأسلوب فظ) هل تستطيعين إصلاحه؟ (يلاحظ من ردة فعل مدام توبيل أنه طرح سؤاله بشكل فظ. يغير لهجته) إنه ثقب.. شق صغير... إنه الحظ العاثر السيء سيدتي. هل يمكن صنع شيء ما لإصلاحه؟
السيدة توبيل: (تنحدر عيناها على جوناثان من أعلى وجهه حتى تصل الشق بصورة بطيئة )
جوناثان: (يشعر بالخجل)
السيدة توبيل: (تجلس نصف جلسة وتنحني تحت فخذ جوناثان متفحصة مكان الشق)
جوناثان: (بحرج. يلقي برأسه إلى الخلف قافزا بنظره إلى أقسام بيع الجبن والسجق، والزجاجات والخضار)
مدام توبيل: (تقوم بتفحص الشق بيديها وتثني المثلث الصغير إلى الأمام والخلف)
جوناثان: (يشعر بالدغدغة فيتلوى)
مدام توبيل: (تنهض. مستندة على كرسيها)
جوناثان: (بحماس) والآن؟
مدام توبيل: لا توجد مشكلة، يجب ترقيعه ووضع قطعة تحت الشق، إلا أن أثر خياطة صغير سوف يبقى مرئيا بعض الشيء. لا يمكنني أن أفعل أفضل من هذا
جوناثان: لا بأس بهذا على الإطلاق، أثر خياطة صغير لا يؤثر على الإطلاق، ثم من الذي سيرى تلك الرقعة المحجوبة عن النظر؟ (يلقي نظرة سريعة على ساعته) إنها تشير إلى الثانية إلاّ ربع (نحو مدام توبيل) إنك تستطيعين إصلاحه، سوف تقومين بمساعدتي يا سيدتي؟
مدام توبيل: (وهي تقوم بتعديل نظارتها إلى الأعلى) بالطبع
جوناثان: (مبتهجا) أوه، إنني في غاية الامتنان لك يا سيدتي، أشكرك جزيل الشكر، إنك تحررينني من إحراج عظيم. لكن لي رجاء أخير صغير (بلطف) هل يمكنك أن تتكرمي علي... إنني في الواقع في أشد العجلة من أمري.. لم يبق لدي من الوقت إلا ... (ينظر إلى الساعة) عشر دقائق.. هل يمكنك إصلاحه الآن.. أعني فورا؟ دون تأخير؟ (ينظر في عيني مدام توبيل فيدرك فورا عبثية الموقف. يشعر بانعدام الأمل. ينظر إلى ساعته بقلق ثم يتحدث مع نفسه) عشر دقائق، كيف سيتمكن أي شخص من ترقيع هذا الشق المخيف خلال عشر دقائق؟ إن هذا غير ممكن. هذا لا يمكن تحقيقه أبدا. فالمرء لا يستطيع ترقيع الشق وهو واقف، عليه أن ينزع عنه سرواله، ولكن من أين باستطاعته أن يأتي بسروال آخر وهو موجود في قسم الأغذية بمتجر بون مارشيه؟ هل ينزع سرواله ويقف بلباسه الداخلي؟
يا له من هراء
مدام توبيل: (متسائلة باستهجان) فورا؟
جوناثان: (يومئ برأسه إيجاباً) نعم
مدام توبيل: انظر يا سيدي، إن كل ما تراه هنا، (تشير إلى شماعة الملابس) الكثير من الأثواب والسراويل والقمصان والسترات. كل هذه الأشياء يجب على إصلاحها فورا. إنني أعمل عشر ساعات في اليوم
جوناثان: نعم بالطبع، إنني أفهم تماما يا سيدتي، لقد كان سؤالا أحمقا0 كم تظنين سيستغرق الأمر، حتى تتمكني من رتق شق سروالي؟
مدام توبيل: (تستدير نحو آلة الخياطة. تعيد وضع الثوب الأحمر. تنزل قدم التثبيت الحديدية الصغيرة وتعمل. وببرود) إذا قمت بجلب السروال إلى يوم الاثنين المقبل، فإنه سوف يكون جاهزا بعد ثلاثة أسابيع
جوناثان: (بدهشة) بعد ثلاثة أسابيع؟
مدام توبيل: نعم، أسرع من هذا غير ممكن (تشغل الآلة).
جوناثان: (مصدوما) ما عدت أرى نفسي كجزء من العالم الذي يحيط بي، كما لو أنني أتأمل هذا العالم بمنظار مقلوب (يصاب بالدوار ويترنح. يخطو خطوة جانبية ثم يستدير ويتجه نحو الخارج مغادرا المكان) وداعا سيدتي
مدام توبيل: (تستمر بعملها غير آبهة بجوناثان )
المشهد السادس
المنظر: مبنى البنك
جوناثان: (يقف أمام باب البنك، يده اليسرى تخفي مكان شريط لاصق يظهر واضحا لوهلة من خلال حركة يقوم بها)
الرجل ذو القبعة: جوناثان! قف بثبات ولاحظ ما نجم عن وقفتك من تحدب عمودك الفقري، بما يجعلك رسماً كاريكاتورياً لرجل حراسة
جوناثان: (بالكاد يأخذ نفسا عميقا) الشريط اللاصق قد ينقذني مما انا فيه
الرجل ذو القبعة: (وهو يضع قدم على الأخرى) تأمل فقط كيف راح عمودك الفقري يحدودب ورأسك يهبط أكثر فأكثر وجسدك يتخذ وقفة أكثر انتفاخاً كوقفة كلب هرم
جوناثان: (يأخذ نفسا عميقا مع جحوظ بارز في عينيه. يشعل سيجارا) لكن الصورة الحقيقية للعالم الخارجي لم تتمكن من اختراق عقلي
الرجل ذو القبعة: أي حقد أنت فيه، حين ترغب بتحويل العالم إلى خرائب وأطلال بسبب شق في سروالك؟! لكنك لم تحرك ساكناً ازاء هذا الحقد
جوناثان: (يقبع في مكانه وعيناه تتلصص يميناً وشمالاً)
الرجل ذو القبعة: (ينظر إلى ساعته) حوالي الساعة الخامسة (ينظر إلى جوناثان بسخرية) حالتك من البؤس بحيث تظن أنك لن تتمكن من مغادرة مكانك وأنك سوف تموت هنا حتماً ستنتهي لا كما كنت كرجل مسن متقاعد محترم، يتمتع بصرف معاشه التقاعدي في بيته، انما هنا أمام بوابة البنك، ككومة قذارة صغيرة!
جوناثان: (يغمض عينيه ويأخذ نفسا عميقا)
الرجل ذو القبعة: (يهز رأسه أسفا) يا لك من قزم عاجز مسجون في آلة آدمية شديدة الضخامة والتعقيد. آلة لا يمكنك التحكم فيها
السيد فيلمان: (يطل من البوابة الزجاجية)
السيد فيلمان: سوف نغلق البنك
جوناثان: (يتخلى عن وقوفه ويدخل البنك)
الرجل ذو القبعة: (يقلد دمية العرائس ويقف في الوسط، يشير إلى الداخل) هناك، تبدأ هذه الآلة (يفتح ذراعيه) دمية مسرح العرائس (يقلد حركة دمية العرائس في المشي. يدخل مبنى البنك. يجلس أمام منصة التحكم بالأبواب الكهربائية ويقوم بتشغيل زري البابين الداخلي والخارجي ليتمكن الموظفون من مغادرة البنك)
السيدة روك: (تغلق الباب المضاد للحريق المؤدي لغرفة الخزينة التي كانت قد فتحتها سوية مع السيد فيلمان. وتحرر بالاشتراك مع السيد فيلمان جهاز الإنذار، وتطفئ منصة التحكم مجدداً، وتغادر البنك)
السيد فيلمان: (يغادر البنك بصحبة السيدة روك)
جوناثان: (يودعهما) أتمنى لكما مساء سعيداً وعطلة نهاية أسبوع هانئة
السيد فيلمان: ولك بالمثل
السيدة روك: مساء سعيداً وعطلة نهاية أسبوع هانئة
الرجل ذو القبعة: (نحو الجمهور هامسا بإعجاب) تلقت الدمية بعرفان أفضل التمنيات للعطلة من السيد فيلمان والسيدة روك
صوت السيدة روك: نلتقي يوم الاثنين
الرجل ذو القبعة: (يمشي مثل دمية العرائس حتى يخرج)
جوناثان: (يقفل الباب ويخرج مثل الرجل ذو القبعة أي مثل دمية العرائس)
المشهد السابع
المنظر: غرفة في فندق
الغرفة صغيرة جدا. عرضها لا يكاد يتجاوز عرض باب دخولها، أما طولها فلا يتجاوز الثلاثة أمتار. جدرانها لا تتوازي تماما مع بعضها. السرير يلاصق طولياً جدران الغرفة
(يسمع لغط خافت من خارج الغرفة. قرقعة صحون. بعض الضحكات)
جوناثان: (يقيم في الغرفة. يستمع الى المؤثرات الخارجية. يعلق) أي ضوضاء هذه في غرفتي الجديدة، بعيدا عن الحمامة؟ (يخلع ملابس العمل، يجلس القرفصاء على السرير، يضع ورقا على الكرسي ويضع عليه الطعام ويبدأ بتناوله، يشعر بلذة الطعام) ارجو ان يكون هذا الفندق آمنا، أما عن الطعام، قد ينقصه القليل من قطرات حامض الليمون (يفكر) لا بأس برشفة من النبيذ الأحمر كبديل (يرتشف كأسا من النبيذ. يترك اللقمة تنزلق على لسانه ثم يحركها بين أسنانه ببطء في المضغ ويتكلم مع نفسه) لم يسبق لي في حياتي أن تناولت وجبة ألذ من هذه. اتناولها ببطيْ لأنني قرأت مرة في جريدة أن الأكل بسرعة، وخصوصاً حين يكون المرء شديد الجوع، يضر بالصحة ويؤدي لمشاكل هضمية، وفي بعض الحالات يؤدي إلى الشعور بالغثيان والتقيؤ (يتوقف عن الطعام ثم بقلق) ربما هي الوجبة الأخيرة التي اتناولها في حياتي؟ (يكف عن الأكل. ينهض. يتجه نحو السرير. يجلس على طرفه. يصفن وسرعان ما يتمدد. يطوي الغطاء الصوفي على أسفل السرير ويتدثر بالملاءة. يتكلم بصوت أجش) غدا سأنتحر (يقفل عينيه وينام. يسمع صوت صفير عاصفة قوية ثم صوت رعد شديد وصوت مطر. يسمع دوي انفجار. ينتفض في سريره) لقد آن الأوان، وبدأت النهاية، ليست نهايتي وحدي، بل نهاية العالم، دمار الكون. إنها النهاية المطلقة (يضع يده على قلبه) أشعر بقلبي يخفق بعنف (يتلمس جسده) وبجسدي يرتجف. أي ضيق شديد وقعت فيه؟ كيف لي أن استعيد هدوئي؟ (يفكر) قد الجأ لبعض الذكريات، لا بأس اذن.. في أوائل الخمسينات بدأت تستهويني حياة الفلاحة، لكن عمي طلب مني التطوع في الجيش، فما كان مني إلا أن أطيعه.. تطوعت لمدة ثلاث سنوات، قضيت السنة الأولى منها وأنا أجهد نفسي للتكيف مع القسوة الكريهة للحياة مع الجماعة والإقامة في الثكنات، وفي السنة الثانية تم شحني بحرا إلى الهند الصينية، أما السنة الثالثة فقد قضيتها في المشافي الميدانية إثر إصابتي برصاصة في فخذي.
بعد ان تسرحت من الجيش اختار لي عمي ماري بكوش زوجة لي ولم تقض معي سوى اربعة أشهر حتى تهرب مني مع بائع خضار تونسي كان يعمل في مرسيليا (يضرب فخذه) بناءً على ما سبق توصلت إلى حقيقة مفادها أن الناس لا يمكن الوثوق بهم أو الاعتماد عليهم، وأن المرء لن يجد الطمأنينة والسلام في حياته إلا إذا نجح في الابتعاد عنهم (يسمع طرقة خفيفة وطرقة أخرى واخرى حتى تتحول الطرقات الى هدير قوي لتساقط المطر)
الرجل ذو القبعة: (يدخل متثاقلا. يخاطب جوناثان) غادر الفندق يا رجل. اذهب إلى غرفتك السابقة. امض بقدمين حافيتين، اقفز في برك الماء كما كنت تفعل عندما كنت طفلاً. نط في وسطها، أسقط عليها، بعثر ارتطامها بالماء وبلل واجهات المحلات والسيارات المتوقفة هناك. تمتع بهذه الحماقة الطفولية وكأنك قد استعدت حريتك المطلقة كالحمامة. عندها ستسترد أنفاسك وتترك وقتاً لقلبك كي يهدأ قبل أن تكمل الجزء الأخير من الطريق (بتفاؤل) سترى أضواء تشع من كل جانب، ستسمع أصوات الصباح الأولى في غرفتك السابقة (يطرق بيده ويُسمع صوت رنين كؤوس) رنين كؤوس، الصوت المكتوم لإغلاق باب براد (يسمع صوت غلق باب براد) موسيقي خفيفة تنبعث من مذياع (يسمع صوت موسيقى) وسرعان ما تقتحم أنفك رائحة أليفة (يتخيل شم رائحة لذيذة) إنها رائحة قهوة السيدة لاسال (يتخيل أنه يمسك بكوب قهوة ويتلذذ بشربه وهو يتمايل) ثم ترفع حقيبتك وتتابع صعودك. ما عدت تشعر بالخوف مطلقا. حين تلج الممر تلمح الى ما يشير ان الحمامة قد اختفت
الرجل ذو القبعة: (يختفي)
جوناثان: (يرخي من تشبث أصابع يديه بالفراش. يسحب فخذيه إلى صدره. يطوقهما بذراعيه. يبقى جالسا في تكوره لثوان عدة) عليّ أن أغادر هذا الفندق (ينهض من السرير. يرتدي ثيابه. يحمل الحقيبة) كم استغرق من الوقت للوصول الى غرفتي هناك؟ (يخرج)
سحر الشامي: كاتبة مسرحية من ذي قار، لها العديد من النصوص المسرحية المطبوعة والمعروضة وحصلت على العديد من الجوائز في المسرح والقصة والسيناريو.