لقد بقي الرسم، في مرحلة ما بعد التغيير، يترستام خطى رسامي الثمانينات، في محافظته على توازن سري بين أساليب الرسم المختلفة؛ فظهرت تنوعات كبيرة تعكس الحالة الحقيقية للرسم العراقي الحديث في هذه الحقبة، حينما تم الإجهاز على (الأسلوب) الجمعي لصالح تفرد اسلوبي لكل رسام، وهو ما انتجه انفتاح الرسم العراقي على التجارب في كل انحاء العالم بسبب الهجرات الكثيفة للرسامين العراقيين إلى خارج العراق بعد التغييرات التي حدثت عام 2003، وبسبب الاطلاع الذي تسد جزءا منه وسائل الاتصال الحديثة اليوم، وهو ما جعل الفن التشكيلي العراقي يتطور بالشكل الذي تقوده إليه محركاته الداخلية (الداخل مادية).
لقد ظهرت بعد 2003 تجارب فنية (هل نسميها تجارب جيل ما بعد التغيير؟) لم تعول كثيرا على التدوينات النظرية، وبذلك لم يعد احد يعول على العناصر الـ(خارج مادية)، وبذلك ستجد الأساليب المتناقضة فرصة التعايش جنبا الى جنب، ليس فقط جنب الأساليب مع بعضها، بل وداخل المنجز الواحد، عن طريق المحافظة على توازن مقبول للعناصر البصرية بين التجريدية والتعبيرية؛ ومن هذه التجارب تجربة الرسام محمد مسير الذي كان منجزه يتأرجح بحركة بندولية بين التعبيرية حينا، وبين التجريد حينا اخر، فقد تصالحت عناصر تجربته مع بعضها، وتعايشت بحرّيّة كاملة.
"رغم اللمسات التجريدية (=السحنة)، فأن الرسام محمد مسير يعدّ رساماً تعبيرياً على درجة عالية من الاحساس بالخامة بنمطيها اللذين يستخدمهما في الرسم: (المادة واللون)، المادة، نعني بها المستحثات التي يضعها قبل الشروع بوضع اللون، والمستحثات مواد صلبة، قاسية، ناتئة، لايمكن للالوان ان تزيل أو تغير وجودها الفاعل في بناء اللوحة، وبذلك تكون هي العنصر الفاعل في بناء اللوحة، وبذلك تكون ايضا هي ما اسماه بيكاسو (علامة الواقع التي لايمكن محوها)، وان نمطاً كهذا من الاشارات يضعها الرسام بوصفها مرتكزات طوبولوجية، يبني عليها كلّ ما يعقبها من اشارات وتقنيات...
يظل الموضوع، وغالباً ما يكون العنوان بوابته الرئيسة والأهم، (يظل بمثابة (النظام التكويني) المسبق في ذهن الفنان، قبل ان يستحيل الى (بناء)...) كما يقرر شاكر حسن آل سعيد، أي الى خامة على السطح، وبذلك يكون الموضوع هيكلاً بنائياً للعمل الفني الذي يرتبط وجوده ارتباطاً، لا مناص منه بالتجسّد اللاحق عبر شيئية اللوحة، وعبر الخامة تحديداً، بوصف اللوحة كونها ليست سوى ذلك السطح الذي تكسوه الخامة. إن لهذا التوجّه مخاطره الجمة كونه يحدّد لدى المتلقي سلفاً، أي قبل معاينة اللوحة، منطلق عملية التلقّي، وبذلك يكون الموضوع ـ وهو خطاب درجنا على تسميته (خارج جماليّ) ـ مدخلنا الذي (وضعه) لنا الرسام سلفاً، وقبلنا مقترحاته (عناوينه) لدراسة البنية والشكل، وهي توصي بتفاصيل عن الموضوع قبل رؤيته، فتكون للوحة مرجعية تاريخية سابقة هي العنوان، والموضوع، اللذان سيهيمنان على تصّورنا، بطريقة قسريّة مسبقة، بوصفه (النظام التكويني) للتجربة، أو نظامها اللغويّ، كما يسميه آل سعيد أحيانا"ً.
كان محمد مسير من الرسامين الأوائل الذين تناولوا احداث ما بعد احتلال بغداد، واكتشافات المقابر الجماعية التي فاجأت الجميع والتي لم يكن ممكنا حصر اعداد ضحاياها، واعداد ضحاياها، فرسم لوحته الشهيرة «المقابر الجماعية» التي شارك بها في معرض مشترك أولاً، ومن ثمَّ معرضه الشخصي الأول المخصص لموضوع المقابر الجماعية، ثانياً، فاهلته لمسته هذه ليكون نموذجا لرسامي ما بعد التغيير، وكان هذا واضحاً في معرضه الثاني، والاشتغالات التي قدمها مؤخراً عبر استعادته لطفولته وقيم واجواء الطفولة بشكل عام.
لقد حرص محمد مسير على ان تنطوي لوحته على العناصر التي تحافظ هي الأخرى على توازن مماثل لذلك الذي في منجزه ككل، وكأنما اللوحة هي الكائن الذي يستعيد مراحل تطور النوع في نظرية النشوء والارتقاء، فلم يكن غريبا على الرسام مسير إقامة معرض ينتمي إلى أقصى درجات التعبيرية، ثم يقيم معرضا لا تجد فيه أثرا لمشخّص، فيجمع في ان معا، كل التنوع الأسلوبي في اعماله المنفردة التي تنطوي على العناصر كلها بترتيب يُزحزح، كل مرة بدرجة طفيفة، وان أيا من هذه الأعمال تتشكل من ثلاثة عناصر رئيسة: مسحات من اللون الصافي على مساحة واسعة من اللوحة لا تحتوي أي عنصر آخر، ثم مجموعة من الأشكال الملونة بأشكال تقرب من أشكال المربعات المرصوفة جنب بعضها تتغلغل فيها مجموعة من الخطوط (الشخبطة) واهم هذه الخطوط الشكل المثلث، بينما يمتد العنصر الوحيد الذي يبدو مستمدا من اشكال الواقع ومشخصاته، وهو يقطع اللوحة باتجاه شاقولي، وبلون غامق مقارنة بالألوان الأخرى للوحة، ويبدو هذا المشخص شبيها بكف أو بيد ترتدي كفا من المطاط، واحيانا بدائرة تأخذ مساحة شاسعة من مساحة اللوحة.
يمكن عدّ تجربة محمد مسير انموذجا مهما لتعايش الأساليب ذات الطابع الفردي بحرية في سوق حرة دون مسبقات واشتراطات قبلية، فهو يعد التحولات في منجزه حالة مطلوبة لتأسيس تجربة متواصلة ومنفصلة بقدر كاف مع تاريخ الفن التشكيل العراقي، ومع التطلع الى امتلاك القدرة على المساهمة في فن عالمي حداثي تشترك كل شعوب الأرض به، فكانت له محاولات مستمرة في التجريب وابتكار مفردات جديدة، ومواد جديدة، وتقنيات جديدة، ومواصلة البحث الفردي ليطأ ارضا جمالية جديدة، وهو ما نجح به الى حد كبير، انه يمتثل بثبات لما اسميته (قانون جاكوب كورغ) الذي يشدد بأن الابداع ليس الا هيمنة المبدع على المادة التي يشتغل عليها، وهذا ينطبق على كل الفنون سواء كانت ابداعا تشكيليا، او لغويا، فكان باحثا دائما عن الجديد سواء عبر تركيب عناصر جديدة لانتاج لوحة مختلفة مستلة مما كان يسميه شاكر حسن ال سعيد (المتحف البصري) الذي يشكل الخزين البصري والثقافي للرسام، او من عناصر مستلة من قراءاته واطلاعه على الفن العالمي، ومن سفراته العديدة، ومما يصادفه خلال حياته ويجده صالحا ليكون فنا؛ بدءا من "الشعور بحرارة المحيط ولون الرصيف وأضواء الشوارع والحدث الاجتماعي والسياسي، وما يلقي بظلاله على حياتنا اليومية"، فيختزنه كطاقة كامنة، ومحرك لأفكاره وتوجهاته، وبحثه الجمالي، وانتهاء باستجاباته تجاه ما يواجهه بلده من أحداث وكوارث متلاحقة.
كثيرا ما اعاب محمد مسير التماثل بالتجارب التشكيلية معداً إياها من العاهات الكبيرة في الفن التشكيلي العراقي، ويرجعها الى مشاكل التطور التكنولوجي التي ألقت بظلالها على التشكيل العراقي أيضاً، ويعيب كذلك التناصات (الحرفية) مع تجارب عالمية تصل أحيانا الى درجة النقل الحرفي للتجربة، "فهناك الكثير من التجارب الفنية المهمة لفنانين تشكيليين عراقيين، قد تكون متناصة بدرجة ما مع أعمال أخرى بمفاهيمها ورؤاها ومفرداتها".
لقد عايش محمد مسير ذكريات الحروب، وسنوات الحصار بضغوطها المعيشية الهائلة، وما اعقبها من أحداث دموية تركت في ذات الفنان العراقي شرخاً عميقاً، ومخزونا من الفزع والالم؛ وهو ما تحول، في معرضه الأول عام 2004 عن (المقابر الجماعية)، الي تجربة يشم منها المتلقي رائحة الموت والدم والخراب عبر اللون الطري الذي كان يضعه محمد مسير بكثافة لافتة، وعبر مقترحاته الجمالية التي تقف خلفها ثقافة الفنان ومتحفه البصري.
كانت لمحمد مسير نشاطات فنية تهدف الى ان ينزل الفن الى الشارع، فانجز مرة تجربة فنية لتغيير لون الشوارع والأرصفة الخانقة، وكانت هي عبارة عن معارض في الشوارع، وقد أطلق على هذه التجربة اسم الفن البيئي، وهو من فنون شوارع المدن، و كان الهدف الاخر من هذه التجربة إلغاء لون الحواجز الكونكريتية الخانقة في معظم شوارع بغداد، تلك الحواجز التي ألغت ذاكرتنا عن معالم المدن التي عشناها سنوات طويلة، فكانت تجربة جميلة، ولكن النقل المستمر للحواجز الكونكريتية افسد التجربة فلم يتبق منها شيء.