أيلول/سبتمبر 13
         
(1)    
انتجت نظرية المعرفة بتطورها وتراكم بناها جدل اختلافي واسع، ولاسيما مع ضاغط المرجعيات الفلسفية المنتمية اليها. انطلاقاً من فكرة ان الانتماء الفلسفي امر لا مناص منه بوصفه ظاهرة طبيعية رافقت الفكر البشري مع نموه. فضلا عن عد الفلسفة امرا اعتمده الانسان بمجرد احالة افكاره الى محركات التأويل والترميز، بتنامي البنى المعرفية والموقف في تنامي وانشطار.
ان نظرية المعرفة (الأبستمولوجيا) لا يمكن الا ان تكون نظريات متعددة. وذلك بفعل التنوع في مرجعياتها الفلسفية. وعلى وفق منطق البحث العلمي، يتبين ان المتراكم الهائل في مستويات البناء المعرفي لا بد ان يقدم لطاقة الاختلاف فاعلية الانتاج المتجدد والمنتج الدائم. بل ان الجدل (الديالكتك) الذي اسس له هيرقراط وعظمه افلاطون وبنى نظمه هيجل يمثل صورة من حتمية الاختلاف في بنية المعرفة ذاتها.
 عندما نعتمد منطق المعرفة العلمية، بافتراضها لبدايات الوعي عند الانسان الاول مع التطور البنى الفسلجية ولاسيما الدماغية، قدمت اسبقية الادراك وبناء الوعي للصورة المرئية بوصفها تسبق الكلمة المنطوقة المحملة للمعنى وتحقيق الوعي الابتدائي. بهذه المعادلة التي تقترب بطاقة الكشف العلمي الى البديهيات تتأكد ان الصورة المستلمة بشقيها المدركة كوجود قبلي في الطبيعة يسبق فعل الادراك او المنتجة بوسائط الوعي ونظم المعرفة كما في الرسوم البدائية الطوطمية الاولى، هي اساس تشكل بنى المعرفة الاولى، وهي نتاج وعي احالها الى مفاهيم تتعالى لتكون في مؤلات فلسفية بحتة. وهذا ما انتجه الفن وتطور به الى زمن الحداثة وما بعدها. بعض من هذه الصور ذات تركيب عالي في نسقية الفكر المصدر منها لتكون صورة متفلسفة، او تحوي عناصر التفلسف. التي تخطت الكلمة والمعنى في زمن الحداثة وما بعدها، وكأن الفلسفة استشرفت ذلك في بحث عنما قدمته في سردياتها الفكرية الاولى فيما تصفه ب (لتجريد العقلي).
 لا جدل في عدّ الصورة المرئية لغة تواصلية في مباشرتها الوعي كمفردة بناء لا تلبث الا ان تحقق تركيبيتها باندماج مع معطيات الذاكرة التي تؤسس التفسير للصورة ذاتها. ومن ثم تولد الجديد في منطق التأويل لتحال الى منظومه تحمل في داخلها مفاهيم مركبة الى مستوى التفلسف.
وعليه فان منطقة بحثنا في متعاليات البناء الأبستمولوجي للصورة، التي انتجها الانسان بعمليات وعي متعالي، هو ذاته الذي نسميه بالفن الذي اعتمد الصورة مع بواكير وعي الانسان الاول. ولاسيما عندما احال الصورة المرسومة الى خطاب ترميزي عالٍ في مركباته التأويلية.
ولان قراءتنا تؤمن بمتراكمية وتطور المعرفة، فان الصورة المرئية المصنعة بواسطة الفكر وصلت الى طاقتها القصوى مع تنامي وتتطور النسيج المعرفي للإنسان، من حيث وعيه بمكنونات محيطه وبيئته. انها بداية تكوين المعرفة بتنامي علاقات تفاعلية مع بينته. اذ ان هذه العلاقات تؤسس وتبني الوعي والفكر ومن ثم تؤسس المعرفة، باعتمادها ركنين أساسيين. أحدهما يرتبط بالأخر عضويا تطوريا. يتمثلان بالركن الفسلجي الحسي وما يحتويه من اجهزة اتصال وتواصل، والركن البيئي الاجتماعي الطبيعي، بما يمتلك من افكار وتصورات تجتاح عقل الانسان، باعتماد العلاقة المتطورة بقوة النمو الفسلجي للإنسان عبر سنين حياته. هذا ما اشار له العالم العراقي الفذ د نوري جعفر قائلا: " تبدأ العلاقة بنضج فسلجي لبدوات الاتصال وبنية المخ. تتدرج بنضجها، مما حقق انعكاس واضح في تعامل الانسان مع بيئته المحيطة".
وعند بداية فعل الاتصال تبدأ اولى عمليات التحليل. تحليل الرسائل الواصلة إلى الجهاز المخي الفسلجي. المتمثلة بتفكيك المادة المرسلة وعلاقاتها المجاورة، هذه التراكمية عبر الزمن حققت نمو تمثل في البنى الحضارية التي وصلنا اليها.
ان عمليات تحليل الصور الحسية الخارجية المتحققة في وعي الانسان بواسطة ادوات البصر ترافقها طرح مجاميع منطقية لتحقيق الفهم بأعشار الثانية، بل بسرعة تتخطى ادق وسائل قياس الزمن. بذلك تحقق عمليات تجزئيه للمفردات الاولية للصورة الحسية الوافدة. قد تكون المفردات علاقات وظواهر، ومن ثم يتحقق تراكب في بنية الصورة ذاتها او مع مجاوراتها باستدعاء خزين الذاكرة.
هذا ما نلاحظه عند الاطفال من عمليات تحليلية تعمل بالتركيبية نفسها البنائية للموضوعات البسيطة في الحياة من ابسطها الى اعقدها عند مستويات التركيب والتجريد العقلي. فتركيب مكعبات في مداخلها عند طفل ذي أربع سنوات يحتاج إلى عمليات تحليل وتركيب قد تكون (بمنطق النسبية) أصعب من حل معادلة رياضية مركبه عند مختص.
 ان الخبرة الاختصاصية متراكم عمليات قصدية اساسها التحليل والتركيب ضمن دائرة التخصص. بفعل ذلك يمكن أن تتشكل قواعد نظرية في بنية المعرفة وعلاقاتها وظواهرها، ومن ثم اعادة تركيبها على نحو متجدد. لتكون العمليات التحليلية التركيبية اداة فهم ووعي متنامي متطور لمجموع المعارف الانسانية، في بعض منها احالة للصورة المرئية الى تأويل يتصاعد في طاقته الابيستميولجية الى تفلسف.
ان عمليات تحليل الصورة ملازم ومتداخل لعمليات تركيبها في الفن. بل أن أحدها تعتمد الأخرى، فعلى الرغم من وصف التجزيء من اوليات عمليات التحليل بتفكيك الصور العقلية إلى اجزاء بنائها كمفردات وعلاقات وظواهر، إلا انها لا تستغني عن عمليات التركيب. فهناك ترابطا بناءً يصل في احيان من مستوى الابداع والابتكار إلى نوع من الجدل العقلي بأرضية ادائية تطبيقية تؤسس حرفية الخبرة.
 وعليه فان تحليل الصورة المرئية بطاقة تراكمية ابوستيمولوجية ومن ثم التركيب بذات الطاقة، يمثل حقيقة المعرفة والادراك والوعي وبنائها وتطورها ويتجاوز حسابات الكم والكيف في تراكم مفردات الصور إلى نوع من الشمول الديالكتيكي بفعل تداخل في العلاقات والسياقات والانسجة حاضرا وماضيا واستشرافا لأفق المستقبل، باتصافها بلا محدودية في الكميات والكيفيات، وذلك لحتمية استمرار فعالية العمليات التحليلية التركيبية.
  
(2)
تقدم لنا الافتراضات المنطقية المعتمدة على منطق البحث العلمي، وفي بداية اللغة المنطوقة وتطورها ونموها الى اللغة المكتوبة كانت على شكل من الاصوات التي تنامت لتؤشر دلالات لموجودات بيئية مادية او احيائية محيطة بالإنسان، أشر اليها بواسطة اصوات عن طريق تكرارها واسست اشتراطية الشيء او المادة او الحيوان ...الخ.  انها البدايات الاولى للغة، هذا الافتراض المنطقي يتقبله العقل التحليلي المعتمد منطق المعرفة العلمية، والامر يعني ان لأي صوت، منظومة دلالية تحتاج الى صورة مرئية في مرتكزاتها الاولى الى ان تطور العقل البشري بفعل المتراكم الواسع ليحقق الصورة التأويلية ذات المحمولات المركبة , فعندما نلفظ كلمة (كرسي او ملعقة ) لا يستطيع العقل الا استدعاء صورة لهما من متراكم خزين الذاكرة ، بينما اذا لفظت كلمة (شرف) فان الصورة تتخطى الحسيات المادية الى مركب مفاهيمي بضواغط البيئة الأبستمولوجية التي يعيشها الانسان الناطق او المستمع.
وبعد زمن طويل من متراكم البناء المعرفي، والتحول الحضاري، استطاعت الصورة المصنعة بأدوات الفن التشكيلي ان تؤسس انفتاحاً تأويلياً متحركاً بما تمتلك من محمولات في المعنى او المفاهيم المصدرة منها لا يمكن تأطيره بسهولة، فهي تبث طاقة تأويل عالية ومتغيرة بحسب منظومة المعرفة للمتلقي، هذا ما تميزت به فنون الحضارات الكبرى عبر التاريخ من وادي الرافدين والنيل والحضارة الاغريقية.
وما يؤكد ان طاقة الصورة العالية ذاك الاختلاف الواسع والمتنوع في التفسير، بل ان تحقيق صورة مجردة بالكامل من ضاغط المعنى امر يعد استثنائياً اسسته الفنون التشكيلية مع زمن الحداثة الذي اسس للفن التجريدي. بوصفه فناً مستفزاً ومربكاً للعقل البشري المأسور بالمعنى والمفهوم، وعملية الانفكاك من هذا الاسر يحتاج الى مرونة عقلية متقدمة تحلل معطيات الصورة وتبعد متراكمات ضاغط المعنى لتجعل من الصورة المجردة انفعالاً وتفاعلاً جمالياً بحتاً.
ان تقبل او تعاطف او توافق أبستمولوجياً مع المجردات من المعنى و المفهوم يعد تحولاً كبيراً في الوعي الانساني ، يتوافق مع رؤى افتراضية ذات منطق علمي في عد بدايات التصور الذهني حيث يبدأ بحوار الذات من داخل الانسان مع معطيات او رسائل محيطه الطبيعي و الاجتماعي ، هذا الحوار في معظمه كلمات صامتة ، الا ان ما قدمته علوم الدماغ في توصيفها للحوار الداخلي بين العقل و الصورة المرئية بالمتحول الكبير لما يمتلك من مكانة مهمة في مساحة الرؤى الافتراضية التي تؤسس الصورة الذهنية للإنسان ، و الامر لا يشمل فقط العاملين بالمعارف المعتمدة على الصور او الاشكال بل يشمل المعارف التي تعتمد اللغة المنطوقة او المكتوبة ، او المتنوع الهائل من مصدرات  الوجود المادي من رسائل يحيلها العقل الى مفاهيم .
المثير في تلك المجردات التي ذكرناها آنفاً بواسطة الصورة الشكلية او الصوتية المجردة من ضاغط المعنى حجم مستوى الانفتاح التأويلي الهائل المحقق لنتاجات ذات مكانة مهمة في البنى الابداعية ولاسيما مع الاقتراب من زمن الحداثة وما بعدها، وها نحن في خضمها، اذ لم تستطع اللغة المنطوقة الوصول الى مستويات لغة الصورة الا بملامسات رائعة في الموسيقى، والامر قد يقدم افترضاً منطقياً في ان الموسيقا التي تعد محفزاً يسبق الكلمة في التجريد.
ان عمليات تحليل الصورة، ومن ثم تركيبها بمتغير قصدي، تعد في تخطيها الفهم والوصف إلى نوع من البناء والتجديد بجدلية فعالة بين الوحدات التحليلية والتركيبية عمليات ابداع وتحول في مفردات وعلاقات وسياقات في خضم مادة المعرفة مما يؤدي إلى تحقيق الجديد في بنية المعرفة الاختصاصية. هذا ما بدأه الانسان الاول من دون ان يعي ان طاقته العقلية اعتمدت الصورة المجردة في بناء الترميز العالي مما اسس لنجاح مستمر في صناعة المقدسات الصورية للإنسان.
ويتفق منظرو منطق المعرفة العلمية، ولاسيما (كارل بوبر)، ان لبناء أي معرفة لابد من ثلاثة أسس أو مسلمات. الأولى، وجود العالم الخارجي المستقل عن الذات الانسانية (الموضوع). وهذا الوجد لا يتحقق الا بفعل الادراك له واولى المدركات تتمثل في الصورة المرئية. والثانية، وجود ادوات الحس التي تستطيع أن تلتقط المعطيات التي يقدمها العالم الخارجي (وسائل المعرفة). والثالثة، وجود المقدرة العقلية التي تستطيع التفسير (العارف المفكر). وهذه العمليات ذات حركة مترابطة متداخلة، على الرغم من مرحليتها غير المحسوسة. وتكمن اهمية هذه الاسس بفعل عدم استطاعتنا الاستغناء عنها أو عن أي مفردة من مفردات بنائها. فلا يمكن تصور معرفة من دون وجود الاجسام والهيئات المتوفرة في العالم الخارجي. كما لا يمكن تصور معرفة من دون المعدات الحسية التي تستطيع التقاط معطيات العالم الخارجي. ومن جهة أخرى فان المعدات الحسية والاجسام والهيئات لا تستطيع بناء معرفة إلا بواسطة القدرة العقلية الفسلجية. فضلا عن كل ذلك فان المقدرة العقلية تعتمد على امكانية تتمثل في الانساق التي حققتها المعرفة المتراكمة ضمن زمن ومكان ما. وهذه العمليات التي تبدأ من التقاط الصورة وتفسيرها بعد فهمها، انها عمليات تحليلية تركيبية. تحلل الصورة وتعمل الى تركيبها لتكون ضمن دائرة منظومة المعرفة.