أيلول/سبتمبر 13
قراءة في قصيدة الشاعر السوداني محمد المكّي إبراهيم : (بعض الرحيق أنا والبرتقالةُ أنتِ)
 
 في عام 1980 تعرّفتُ في الكويت على شاعر وقاص سوداني (يعمل مدرساً) اسمه خالد محمد عثمان، توطدت علاقتنا ثقافياً وشخصياً. ولعل أكثر الصفحات إشراقاً في علاقتنا أنْ تعرّفتُ عن طريقه على تجربة رمز كبير من رموز الشعر السوداني، ألا وهو الشاعر الكبير محمد المكي إبراهيم، وتحديداً عبر ديوانه (بعض الرحيق أنا.. والبرتقالةُ أنتِ). ومنذ ذلك الحين لا أكفُّ عن الاندهاش المتجدد بالقصيدة التي حملَ الديوان عنوانها، وكلما ذهبتْ بيَ المنافي إلى جغرافيا أخرى، أتذكر هذه القصيدة فأبحث عن نصها الكامل لأستعيد الدهشة. ويدرك دارسو الأدب حقيقةَ أن الاندهاش المتجدّد بنص شعري ما لمدة طويلة ينبع من عظمة هذا النص. وقد وجدتُ في قصيدة محمد المكي إبراهيم (بعض الرحيق أنا والبرتقالة أنت) في هذا السياق ما يدفعني للقول بأنها واحدة من كلاسيكيات الأدب العربي الحديث الخالدة مثل: (أنشودة المطر) للسياب و(لا تصالح) لأمل دنقل وسواهما.
 
محمد المكي ابراهيم
 
تتفرّد هذه القصيدة بتكامل المعنى والمبنى تكاملاً جمالياً مدهشاً لا ترتقي إليه إلا النصوص العظيمة، وقد سكبَ فيها الشاعر حفنةً من من كلِّ ماءٍ عذبٍ وصلتْ إليه يدُهُ ليخلقَ لنا بحيرةً صغيرة تعوم فيها أشكال كثيرة: السودان، أفريقيا، الحرية، اليسار، الهوية، التاريخ، الهموم والأحزان. وقد صاغَ كل ذلك بلغة ايروتيكية تجعل من علاقة الإنسان بالأرض علاقة الجسد بالجسد في لحظة احتدام الأشواق والشهوات. وقد برعَ الشاعر في التحكّم الرائع بالانتقالات المنسابة من الجسد إلى الأرض (الوطن) ومن الأرض إلى الجسد بأسلوب أراد فيه الشاعرأن يقول: سأفعلها وأغلق الباب من ورائي:
الله يا خلاسيةْ
 يا حانةً مفروشةً بالرمل
يا مكحولةَ العينين
يا مجدولةً من شعرِ أغنيّةْ
يا وردةً باللونِ مسقيّةْ
بعضُ الرحيقِ أنا والبرتقالةُ أنتِ.
 
يقف الشاعر محتفلاً ومفتوناً بالجمال الخلاسي (العربي الأفريقي) وقد اتخذّهُ رمزاً يتسلّل منه إلى الوطن السوداني، وكأنه استهل القصيدة استهلالاً تراثياً بلغة وأسلوب حديثين، حيث يتغنى الشاعر بهذه الفتاة – الرمز التي جمع لها شعرياً ما فيها واقعياً من مفردات جمال وبنداءاتٍ بدا معها وكأنه يمارس الاعتراف: (يا حانةً مفروشةً بالرمل). لماذا فرشَ الحانةَ بالرمل؟ هل أرادَ أن ينأى برواد الحانة عن ضرر التعثّر وقد فرشَ لهم الحانةَ بالرمل لكي يكون سقوطهم رحيماً؟
ثم ينزاح الشاعر باللغة في (يا مكحولة العينين / يا مجدولةً من شِعر أغنيّة) إلى الدلالات التي يريد للقصيدة أن تذهب إليها من جهة، وترتقي بالوصف إلى مقام الموصوف من جهة أخرى، عندما جدّلَها بشعر أغنية. وقالَ الأغنية وليست القصيدة، لأن الأغنية ترنُّمها الأصوات والأنفس بحنجرة التراث وبانفتاح الصوت في فضاء التصادي.
ويراكمُ الأوصاف: (يا وردةً باللون مسقية). فهي وردةٌ لا يسقيها الماء بل اللون (وهنا الألوان) ليختم النشيد الأول من التوصيف بضربة الأستاذ: (بعض الرحيق أنا والبرتقالةُ أنتِ). أي أن الشاعر وبعد كل هذا التكبير أو التبجيل يعود إلى الثنائية الواجبة: (هو – هي)، ليقول إنما هي البرتقالة وما هو إلا بعض من رحيقها.
يسحب الشاعر نفَساً عميقاً ثم يعدل قامته، وفي حركة تتوازى فيها اليد ووجهة الرأس مع علو الصوت يعمّق نداءاته:
يا مملوءةَ الساقينِ أطفالاً خلاسيين
يا بعضَ زنجيّةْ
وبعضَ عربيّةْ
وبعضَ أقوالي أمام الله.
 
هنا.. يسترسل الشاعر في الإجلال ليصل به إلى أقصاه، فهي (تلك المرأة الخلاسية: الرمز) عشتاره: سيّدة الخصب التي تزدحم سيقانها بأطفال الهوية الموسومين بالبعض الزنجي والبعض العربي. أمّا لماذا الساق، فربما أراد الشاعر أن يحيلنا – لاستحضار القداسة - إلى الأسطورة الشعبية التي تقول أن مريم ولدت عيسى من ساقها. ويختم الشاعر ترتيله الاستهلالي بما يشبه القسَم: (وبعض أقوالي أمام الله). إنها مواءمة بين الوطن والدين، سيعود إلى تصعيدها بعد حين.
من اشتَرَاكِ اشترى فوحَ القرنفلِ
من أنفاسِ أمسيةْ
أو السواحلَ من خصر الجزيرةِ
أو خصرَ الجزيرةِ
من موج المحيطِ
وأحضانِ الصباحيّةْ
مَن اشتراكِ اشترى
للجرحِ غمداً
وللأحزان مرثيةْ
مَن اشتراكِ اشترى
مني ومنكِ
تواريخَ البكاءِ
وأجيالَ العبوديةْ
من اشتراكِ اشتراني يا خلاسيةْ
فهل أنا بائعٌ وجهي
وأقوالي أمام الله.
بعد المواءمة بين الوطن (عبر رمزه المرأة الخلاسية) والدين (يوم يقف المرء أمام ربه) يهيّئ الشاعر لقول فصلٍ آخر: في أنَّ من اشتراك اشترى كل شيء: طبيعةً وجغرافيا وتاريخاً و(مَن اشتراكِ اشتراني يا خلاسية)، وهذه هي المعادلة الأساسية في القصيدة (أنا: أنت) التي يرتقي الشاعر مع شروطها: (فهل أنا بائعٌ وجهي وأقوالي أمام الله).
هنا يختزل محمد المكي إبراهيم كل ما يمكن أن يقوله الإنسان في حضرة رمز يحاصره المشترون، ومَن يبيع فإنما يبيع وجهه وأقواله أمام الله (يومَ تصفرُّ وجوهٌ وتبيضُّ وجوه). إنه يحيل إلى توحّدٍ مسنود بالعمق الديني، في مجازٍ لم أطلّع على ما هو أجمل من توظيفه وسياقه في الشعر العربي الحديث. والشاعر يفعل ذلك وهو يقف على تخوم الصفاء لأن رمزه الخلاسي جديرٌ بكل ما يقول:
فليسألوا عنك أفوافَ النخيلِ رأتْ
رملاً كرملِكِ
مغسولاً ومسقيّا
وليسألوا عنكِ أحضانَ الخليجِ متى
ببعضِ حسنكِ
أغرى الحلمَ حوريّةْ
وليسألوا عنكِ أفواجَ الغزاةِ رأتْ
نطحاً كنطحكِ والأيام مهديّةْ
 
فليس رملها مغسولاً ومسقياً فحسب كما لم يروا وكما تشهد أفواف النخليل، وليس ببعضٍ من حسنها أغرى الحلمُ حوريةً فحسب كما تشهد لها أحضان الخليج، وإنما لها نطحٌ لم يرَ الغزاة مثله نطحاً. وبعد أن انتهى الشاعر من الصياغة النهائية لشكل الرمز ومفردات التوحّد، ومن هذه النقطة بالتحديد يحلّق بالقصيدة في استخدام مذهل للرمز، حين يجعل من مفردات الجسد وحاجاته الحسية والحاجات المقابلة عالماً شعرياً يعبّر عن أرقى أشكال الالتزام الجمالي في الشعر العربي الحديث.
 
برعَ الشاعر في استخدام المرأة كرمز حي حمّلَهُ دلالات عميقة، ووظّفَهُ بحضورٍ رائع للشكل وملامسة المعنى برمزية شفيفة تجعل من التلقّي حواراً ساخناً بين الحواس والإحالات، موّشىً بغنائية مؤثرة تنضح من طياتها الأبعاد المعرفية والوجدانية والتاريخية والنفسية والاجتماعية والجمالية للنص:
يا برتقالةُ
 قالوا يشربونكَ
حتى لا يعودُ بأحشاءِ الدنانِ رحيقْ
ويهتكون الحمى
حتى تقومَ لأنواع الفواحشِ سوقْ
والآن راجوا
فظلّ الدنُّ والإبريقْ
ظلتْ دواليكِ تعطي
والكؤوسُ تُدارْ.
يبني الشاعر مستوى الرمزية - في قصيدته- بأسلوبٍ لا يتورّط في الإبهام المجاني وإنما  لتحصين النص ضد مزالق الخطاب المباشر، لاسيما وأن الشاعر يتناول موضوعاً يقع في صلب المباشرة، ولذلك فهو يذهب إلى ترميز الرمز: فالبرتقالة رمز للمرأة الخلاسية (العربية الأفريقية) التي تمثّل بدورها رمزاً للسودان وما هو أبعد. ورغم المباشرة الحادة في (هتك الحمى) و (سوق الفواحش) إلا أن سياقها جعلها مقبولة، بل وبدتْ كضرورة تستجيب لحرارات التصاعد الشعري في ملامسة مواضيع من هذا النوع.
وبالرغم من كل ما قالوا في أنهم سيشربون الرحيق حتى الجفاف، إلا أن أمراةً – برتقالةً لها نطحٌ لم ير الحالبون دواليها مثلَهُ نطحاً، يهرع إليها صوت الشاعر لتغتسل من أدرانِ (تواريخ البكاء وأجيال العبودية):
هزّي إليكِ بجذعِ النبعِ
واغتسلي
من حزنِ ماضيكِ
في الرؤيا وفي الإصرارْ
هزّي إليكِ
فأبراجُ القلاعِ تفيقْ
النحلُ طافَ المراعي
وأهداكِ السلام الرحيقْ
الشرقُ أحمرُ
والنعمى عليكِ إزارْ
نجري ويمشونَ للخلفِ
حتى نكملَ المشوارْ.
يخرج الشاعر في هذا المقطع من الرمز المركّب (البرتقالة) إلى الرمز الأصلي (المرأة الخلاسية) ويعود في (هزّي إليك بجذع النبع....) إلى الإحالة الدينية في سورة مريم (هزّي إليكِ بجذعِ النخلةِ، يسّاقطُ عليكِ رطباً جنيا)، ولكنه بالانزياح اللغوي يختار (جذع النبع) وليس جذع النخلة (نخلة مريم).. ويبدو أن الشاعر بعودته إلى هذا الرمز الداخلي لأكثر من مرة (أي مريم، دون أن يسميها) يقصد إضفاءَ قدرٍ عالٍ من القدسية نلمحُ عن طريقه أنّ مريمَ هي المرأة الخلاسية، وما أبناؤها إلاّ أبناء الله.
ثمّ يحدّثها الشاعر عن أوانٍ هو أوانها: (السلام والرحيق والشرق الأحمر وإزار النعمى). ولا ريب أن هكذا مفردات تذهب بالذاكرة إلى زمنٍ افتقدناه حيث كان حاضراً بقوة، يومَ كنا (نجري ويمشونَ للخلفِ حتى نكملَ المشوارْ). ومن لوحة الإشراق واليقظة ينتقل الشاعر إلى لوحة الانطفاء والسبات، بينما تتشبّث الأنا بعنادها الجليل في بناء حيوي يعكس بيئة القصيدة، الخارجية والداخلية، في وصفية انتقالية بمثابة ضرورة بنيوية:
طافَ الكرى بعيون العاشقيكِ
فعادوا منكِ بالأحلامْ
ما للعراجينِ تطْواحٌ
وليس لأطيار الخليجِ بغامْ
النبعُ أغفى وكلّ الكائنات نيامْ
إلاّ أنا
والشّذى
ورماح الحارسيكِ قيامْ.
كل شيء غافٍ.. وليس سوى الأحلام تطوف تحت أحداق العاشقين. لا عراجين تتدلّى ثمارُها ولا لأطيار الخليج صوت. وفي نهاية المقطع تتقلّص الجماعية إلى معادلة أصغر: (أنا والشذى والحارسيك).. أولئك الذين لا يسمحون بالتقاء الشذى بالشذى. ومن الشذى يعبر الشاعر إلى شبقٍ مكشوف في توظيف ساحر يلعب بالرموز والتفعيلات لعباً لا يجيده إلا كبار الشعراء:
متى تجاوزتُهمْ
وثباً إليك أجئْ
شَعري بليلٌ
وحُضني بالورود مليءْ
فلتتركي البابَ مفتوحاً
وحظّي في الفراشِ دفيءْ
ولتلبسي لي غلالات الشذى
وغناء النبع والأشجارْ
فلي حديثٌ طويلٌ
مع نهديكِ في الأسحارْ
يا برتقالةُ
ساعات اللقاء قصارْ
تأمليني في الصباح أطلْ
البحرٌ ساجٍ
وتحفافُ النخيلِ غزلْ
وبركةُ القصر بالنيلوفر ازدحمتْ
والنحلُ أشبعَ كاساتِ الزهور قُبلْ
وإنني الآن أزهى ما أكون
وأصبى من صباي
 ومكسيّاً من النورِ الجديدِ إزارْ.
 
يندفع هذا المقطع بعنفوان الأمنية إلى التعبير عن اللقاء المرتجى بين (الأنا) و (الأنا الأكبر: الأرض: الوطن) وبحرارة لا ترقى إليها إلا لغة لقاء الجسد بالجسد في التحام روحي يجعل الذات أكثرَ زهواً والصبى أصبى والنورَ إزاراً، وفي ذلك عِدّةٌ لمن يستعد لمغامرة أخرى في مواجهة أفول آخر:
تأمليني فإن الجَزْرَ أوشكَ
  • إني ذاهبٌ –
ومع المدّ الجديد سآتي
هل عرفتيني؟
في الريح والموجِ
في النوءِ القويِّ
وفي موتى وبعثي سآتي
فقولي قد عرفتيني
وقد نقشتِ تقاطيعي وتكويني
في الصخر والرمل ما بين النراجينِ
وإني صرتُ في لوح الهوى تذكارْ.
يواصل الشاعر انتقالاته – كما فعلَ في مساحة القصيدة كلها – ويخرج من الرمزية الكليّة إلى خطاب أكثر سهولة، وكأنه يقصد تفادي الالتباس في خطابه، ومخاطبته لها: (المرأة: البرتقالة) التي تقترب كثيراً من مطابقة الأصل (الخروج من الرمز إلى حافات الأصل) ليذكّر بأفكار الحياة الفلسفية عبر معادلاتها الجدلية المعروفة: (مد – جَزر)، (موت – حياة)، (ذاكرة – انبعاث).
وفي ختام القصيدة، يتذكر الشاعر ما بدأَ بهِ ولكن من دون ياءات النداء، ليصعّد الفعل الدرامي من مستوى الشبق إلى مستوى الفناء في مسعى إلى تصعيد مستوى الانتماء، سابقاً ولاحقاً، إلى تلك العارية الزنجية التي تعادل في بعضها أقوالَه أمام الله:
والآن
لا شابعاً من طيبِ لحمكِ
أو ريّان من سكب نهديك أمضي
فأوعديني أن ستدعوني
إلى فراشكِ ليلاً آخرَ
وتطيليهِ عليَّ بشَعركِ
في زندي
ولونك في لوني وتكويني
فنيتُ فيك فضمّيني
إلى قبور الزهور الاستوائيةْ
إلى البكاء وأجيال العبوديةْ
ضُمّي رفاتي
ولفّيني بزندكِ
ما أحلى عبيركِ
ما أقواكِ
عاريةً وزنجيةْ
وبعض أقوالي أمام الله.
*
وبعد أن استفضتُ في قراءة قصيدة هذا الشاعر، شرحتُ الأسباب الذاتية (انفعالي الشخصي بالقصيدة) والجمالية (جمالية القصيدة) التي دعتني للاهتمام بها منذ خمسة وعشرين عاماً لأباشرَ في قراءةٍ عامتْ في زمن التأجيلات حتى آنَ لها أن تحط في مايو 2005، لا بدَّ من القول أن النقد العربي لم يول – للأسف – شاعراً كبيراً مثل محمد المكي إبراهيم وسواه من الشعراء السودانيين الاهتمام الذي يليق بهم وبهذه القصيدة تحديداً. ومن أكبر المآخذ على النقد العربي أنه كان لفترة طويلة من الزمن – وما زال في أغلبه – نقداً "إقليمياً".. إن صح التعبير.. كرّسَ كثيراً من الجهد لأدب بلدان عربية معينة وتجاهل طويلاً إبداعات بلدان عربية أخرى، وتورّطَ هذا النقد (الإعلامي) في التهليل لتجارب شعرية عربية (تعود إلى عواصم ثقافية مشرقية) ومحضَها مقاماً يفوق حجمها الحقيقي، فيما تم تهميش تجارب أخرى جديرة بالاهتمام مثل تجربة محمد المكي إبراهيم.
*
منذ خصصتُ أطروحة الماجستير لرؤية جديدة للالتزام في الأدب عملتُ على رصد الالتزام الجمالي في الكتابة من حيث كونه ارتقاءً إبداعياً عن الخطاب الأدبي للالتزام الواقعي بما ينتج عنه من أدب سياسي ذي نبرة حادة ومباشرة.
وبدءاً من مسلمّات الكتابة الأدبية في أن الشعر هو التمايز عن الكلام العادي، وإذا ما استلزمت صناعة النص الشعري قدراً من المباشرة فيجب أن تأتي في سياقات جمالية ترتقي بإبداعية النص ولا تحط به إلى مستويات السطحية.
بعد منتصف السبعينيات من القرن العشرين حدثَ ميلٌ قوي في الشعر العربي الحديث نحو الاهتمام بشكل القصيدة (أي بجمالياتها) بعيداً عن الإلحاحات الحماسية للمضمون. ومنذ ذلك الحين شرعَ الشعراء الستينيون بتجارب جديدة بموازاة التجارب الشابة الجريئة لشعراء مرحلة السبعينيات.
وكانت جميع هذه التجارب تهدف إلى الارتقاء بالتجربة الشعرية من الالتزام الواقعي إلى الالتزام الجمالي بوعي ينطلق من قيمة أن (الالتزام هو أن تكتب جيداً) كما يقول غارسيا ماركيز، والجودة هنا لا تعني المضمون بقدر ما تقصد الشكل. وفي ذلك التحاقٌ متأخرٌ بسؤال الحداثة الكبير في أن الكتابة لم تعد (ماذا) وإنما (كيف).
في هذا السياق صدرت دواوين شعرية كثيرة في عدة بلدان عربية من بينها السودان. والانتقالة ذاتها: من الالتزام الواقعي إلى الالتزام الجمالي حدثتْ مع هذا الشاعر: من ديوانه (أمتي) الصادر عام 1969 إلى ديوانه (بعض الرحيق أنا والبرتقالة أنت) الصادر عام 1976. والتحوّل لاشكّ بائنٌ في عنواني الديوانين. في الديوان الستيني (أمتي) يصرخ عنوان الكتاب بالالتزام الواقعي من حيث اختيار مفردة واقعية مباشرة تعبّر عن روح الديوان، خاصةً من حيث نسبة الأمة إلى الذات: (أمتي)، أي أننا سنقرأ الديوان بانطباع مسبق عن طبيعة هذا الشعر في أنه شعر موقف يقول فيه الشاعر بانتمائه إلى هذه الأمة، وهذا الشعر هو شعرها دون مجازات. وعندما نصف هذا الالتزام بالواقعية، لأن هكذا عنوان يصلح أن يكون أيضاً عنواناً لمقال سياسي يعبّر فيه الكاتب عن المضمون ذاته.
أما في الديوان السبعيني (بعض الرحيق أنا والبرتقالة أنت) فإن الالتزام الجمالي يتجلى في أبهى صورهِ في العنوان، بل أن العنوان وحده يكفي لئن يكون قصيدةً قصيرة متكاملة المبنى والمعنى.
وفي القصيدة المذكورة (التي طابق الشاعر بين عنوانها وعنوان الديوان لعلمه بأنها لغزه السحري) والتي أرى فيها كما ذكرتُ سابقاً نموذجاً رائعاً للالتزام الجمالي في الأدب العربي الحديث، أخذ الشاعر من الالتزام الواقعي جوهره في الالتزام بقضايا الأمة والمجتمع ولكنه صاغَهُ بحلّة جمالية سخّرَ في صناعتها جميع أدواته الشعرية للخروج بنص شعري منقّى من شوائب الخطاب السياسي. لأن الشعر هو أن يذهب الشاعر إلى أعماق الواقع ليعبّرَ عن رحلته بلآلئ اللغة المدلاّة على جيد القصيدة. وهو ما فعله محمد المكي إبراهيم في قصيدته (بعض الرحيق أنا والبرتقالة أنت). ولم تستبد قصيدةٌ بنفسي، في ما قرأتُ من شعر، كما فعلتْ هذه القصيدة:
فنيتُ فيك فضمّيني
إلى قبور الزهور الاستوائيةْ
إلى البكاءِ
وأجيال العبوديةْ
ضُمّي رفاتي
ولفّيني بزندكِ
ما أحلى عبيركِ
ما أقواكِ
عاريةً وزنجيةْ
وبعضَ عربيةْ
وبعض أقوالي أمام الله.
ــــــــــــــــــــــــ
ولد محمد المكي إبراهيم عام 1939 في مدينة الأبيض. تخرج من كلية الحقوق بجامعة الخرطوم، ودرس الدبلوماسية واللغة الفرنسية بالسوربون. التحق بوزارة الخارجية السودانية 1966، وعمل دبلوماسياً في عواصم عديدة.
صدر له من الشعر: أمتي 1969- بعض الرحيق أنا والبرتقالة أنت 1976- في خباء العامرية 1986- يختبئ البستان في الوردة 1989- وله مسرحية شعرية بعنوان: مزرعة اليمام.
مؤلفاته أيضاً: الفكر السوداني، أصوله وتطوره- بين نار الشعر ونار المجاذيب.
نال وسام الآداب والفنون 1977، وقد ترجمت بعض قصائده إلى الإنجليزية والفرنسية والروسية.
 
 
  د. علي ناصر كنانة: شاعر وكاتب عراقي يقيم حالياً في قطر.