تموز/يوليو 13
   
رفضي للظلم بكل أشكاله جعلني انحاز الى النساء المضطهدات
 ولدت باهرة محمد عبد اللطيف عام 1957 في بغداد، وحصلت على البكالوريوس في اللغة والأدب الإسباني في كلية الآداب/ جامعة بغداد عام 1979 بتقدير امتياز، كما حصلت على دبلوم عالي في الترجمة الفورية ودبلوم عالي في الترجمة التحريرية وبتقدير امتياز من جامعة أوتونوما بمدريد عام 1982. تحمل شهادة ماجستير في أدب أمريكا اللاتينية من جامعة اوتونوما بمدريد ودبلوم في دراسات الهجرة والتفاعل الثقافي. عملت أستاذة للغة والأدب الإسباني في جامعات عديدة من بينها كلية اللغات/جامعة بغداد، وجامعة أوتونوما وجامعة كمبلوتنسي بمدريد، وحاضرت في العديد من الجامعات والمعاهد الأخرى. تكتب باللغتين العربية والإسبانية، ولها العديد من الكتب المطبوعة بكلا اللغتين. تعد من أفضل المترجمات المتخصصات في اللغة الإسبانية على مستوى العراق والوطن العربي وإسبانيا. وقد حازت ترجمتها لكتاب «الغابة الضائعة» وهي مذكرات الشاعر الإسباني رافائيل ألبرتي، على جائزة أفضل كتاب مترجم في العراق عام 1993. كما حازت دراستها المعنونة «رجم» والصادرة بمدريد، على إشادات الكثير من الكتاب الإسبان المتخصصين في قضايا المرأة. خلال أكثر من عشرين عاماً من إقامتها في مدريد، قدمت العشرات من المحاضرات عن الأدب العربي والإسباني وعن وضع المرأة في المجتمعات العربية والإسلامية، كما شاركت كأكاديمية وتدريسية ومثقفة في نشر الثقافة العراقية والعربية والإسلامية وساهمت بشكل فعال في ترسيخ ثقافة التعريف بالتراث العربي والإسلامي في الغرب عن طريق تواصلها مع المثقفين الاسبان عبر مئات الندوات والدورات والكورسات والمهرجانات. لم تصدر سوى مجموعة قصصية واحدة هي "تأملات بوذية على رصيف الموت" وتسعى لإصدار المزيد مستقبلا لأني أحب الفن القصصي.
 
* متى بدأت نشاطها النسوي، وماهي القضايا التي حفزتها لتخوض في هذا المجال؟
ـ رفضي للظلم بكل أشكاله، جعلني منذ الطفولة انحاز إلى النساء المضطهدات اللواتي يتعرضن للعنف الأسري أو الظلم الاجتماعي. لقد نشأت في بيئة منفتحة اجتماعيا وحظيت بطفولة سعيدة حتى بدأ وعيي يشاغب علي مع مرحلة الصبا والشباب. وكان جّل اهتمامي على مدى عقود من حياتي هو وضع النساء في مجتمعاتنا العربية وطغيان العقلية الذكورية المسيطرة على علاقة الرجل (أبا وأخا وزوجا) بالمرأة (ابنة وشقيقة وزوجة). مجتمعاتنا أبوية ذكورية بامتياز تمنح الولد حقوقا أعلى من شقيقته منذ مراحل الطفولة الأولى، وتسهم فيها الأسرة بالدرجة الأولى، بحكم هيمنة العادات الاجتماعية المتخلفة وبعض الأفكار الرجعية السائدة التي لا علاقة لها بقيم الدين، لكنها سوغت وشرعت في أحيان كثيرة تحت هذا المسمى. ثقافة "العيب" و"الحرام" تحكم علاقاتنا كمجتمع عراقي أو عربي، بدلا من أن تكون المنظومة الأخلاقية للإنسان هي الرادع عن الخطأ في السلوك الفردي وفي علاقته بالمجتمع والدولة. وكل هذا يحدث بسبب غياب المواطنة الحقيقية التي تضمن المساواة بين جميع المواطنين أمام القانون وفي الحقوق والواجبات في ظل قيم ديمقراطية حقيقية وسلطة قانونية مستقلة وعدالة اجتماعية تحمي الأفراد من غائلة الفقر والتهميش والظلم، سواء أكان المواطن امرأة أم رجلا.
انتصرت لنساء كثيرات في حياتي، حميت صديقات من شتى المخاطر ودافعت عن حريتهن قبل أن أنخرط في العمل المجتمعي المدني في إسبانيا وأكرس الكثير من كتاباتي عن النساء العربيات والمسلمات في الغرب. عملت مع منظمات نسوية وتعلمت الكثير من نساء مناضلات قدمن الكثير لمجتمعهن ولقضية حقوق الإنسان وحقوق النساء.
أكثر ما يحزنني في الآونة الأخيرة هو الهجوم المنظم على كفاح النساء ودور الحركات النسوية عن طريق سياسة خلط الحابل بالنابل، أعني خلط السياسة بالدين لتبرير الهجوم على التنظيمات المدنية وحركات التحرر النسوية. أضرب مثالا على هذا ما يجري من تشويه متعمد لهذه الحركات التي ناضلت في عالمنا العربي منذ مطلع القرن العشرين من أجل تحرير المرأة من حالة العسف الاجتماعي والتهميش والعنف الممارس ضدها في المنزل والشارع، في الريف والمدينة. لقد كانت جداتنا أكثر وعيا من الجيل الحالي من الفتيات اللواتي يجدن أنفسهن بين نموذج رأسمالي يعمل على تشيء المرأة في مختلف منصات التواصل ووسائل الإعلام، وانموذج اسلاموي محكوم بخطاب رجعي ترعاه نظم ومؤسسات عربية يعرفها الجميع. من المؤسف جدا ألا نرى ولا نسمع أصوات النساء الواعيات لذواتهن وقدراتهن ودورهن في المجتمعات العربية خارج هيمنة السياسة الرجعية أو المنابر المتأسلمة. في أعوام شبابي كانت قضايا النساء وتحريرهن والدفاع عن استقلاليتهن الاقتصادية واضحة ومطروحة للنقاش المجتمعي وثمة منابر وهيئات للتعبير عنها، لذا كان طبيعيا أن تنخرط كثير من الفتيات والنساء في هذا التيار. أما اليوم فالفوضى ضاربة، سياسيا واجتماعيا، والخنادق متداخلة، والعدو بات صديقا مع حملات التطبيع. كما أن هناك غياب واضح لأفكار الاستنارة التقدمية في ظل موجة عالمية للأفكار اليمينية حتى أن بعض حقوق النساء في الغرب ايضا باتت مهددة، فما بالنا بمجتمعاتنا التي ترزح في فوضى "لاخلاقة" أصبح فيها الرجال والنساء معا أرقاما غير مؤثرة في مجتمعاتهم إلا في استثناءات تثبت القاعدة ولا تنفيها.
 
* ما هو تأثير الغربة على ما تكتبينه، وهل وجدت البيئة التي تجعلك تكتبين؟
الغربة لها أثر كبير في كل تفاصيل حياتي على المستوى الشخصي وعلى المستوى الكتابي. وقبل ذلك لا بد لي من القول إنها حالة التحدي الأكبر الذي واجهته في حياتي. كنت مترفة رقيقة أحيا في جو اجتماعي مرفه، وحتى تمردي وثورتي على الكثير من الظواهر الاجتماعية التي كنت أرفضها كانت نوعا من الترف الفكري لأني كنت أعيش في سياق اجتماعي يوفر لي الأمان النفسي والاقتصادي. لقد "اخترت" الغربة اضطرارا لأني كنت مختنقة بسبب الجو العام السياسي والاقتصادي والاجتماعي في أعوام الحصار (عام 1995)، عندما غادرت الأمان الأسري وعملي في دار المأمون للترجمة والنشر في وزارة الإعلام والتدريس في كلية اللغات / قسم اللغة الإسبانية، وعدت إلى إسبانيا التي درست فيها من قبل. آنذاك بدأ الشعور الحقيقي بالانقلاع والخوف والوحشة وانعدام الأمان النفسي والحياتي وكل الأفكار التي تنال من عزيمة المرء. لذا كانت تلك الخطوة نقطة تحول كبرى في حياتي لأني ذهبت بلا أي دعم مادي أو نفسي من أي جهة. كنت أحمل حقيبة واحدة هي كل ما سمح لي بحمله ومائة دولار، ومبلغ استلفته من الأهل على أمل استلامه في عّمان. كانت تجربة أنهكت صحتي لكنها غيرتني تماما، إذ لم أعد تلك الرومانسية الثائرة الحالمة بل أصبحت أكثر قوة وجلدا واحتمالا، وحكمة أيضا. فالضربات المتكررة خير معلم لأنها تزودنا بمهارات البقاء على قيد الحياة، والكرامة أيضا.
في الغربة يكتشف المرء نفسه وإمكانياته ويختبر أفكاره وكل خزينه القيمي والمعرفي أيضا. كما أنها تستدعي كل قدراتك الكامنة للدفاع عن ذاتك وهويتك المقتلعة والمعرضة للمحو في كل موقف، خاصة وأني خرجت بغصة كبيرة في القلب إزاء الوطن وشجونه، غصة تحول أحيانا دون الحكم بموضوعية على قضايا يعتقد الكثير منا إنها مسلمات. أعني أن الحوار مع الآخر يغدو صعبا جدا في هذه الحالة، عليك اختبار كل ما حملته معك من تاريخ وقيم إنسانية واجتماعية وحمولة الدين والأفكار الموروثة، وكل مكونات الهوية الوطنية، لتغربليها أولا ثم لتحافظي عليها بلا تعصب أو شوفينية. كيف ستقبل الآخر الذي تعمل وتعيش معه وتحاوره، بكل موروثاته وحمولاته المختلفة عما لديك، والمسيئة أحيانا أو الحافلة بالأفكار المسبقة والصور النمطية، كيف لك أن تكسب احترام عقل الغربي، قبل محبته، وتعاطفه مع قضاياك الوطنية والعربية؟
أول الأمر كنت أركض في شتى الاتجاهات على نحو غير واع أبحث عن طريقة للعيش بكرامة، وأتعامل مع قوى اليسار الإسباني في القضايا كافة والتي تهمني كعراقية عربية، وأشارك وأدعى إلى الندوات والمؤتمرات والمحافل حتى بت معروفة إلى حد كبير في وسائل الإعلام الإسبانية وباتوا يتصلون بي في كل ما يخص العراق أو النساء العربيات.
في الأعوام الأخيرة هدأت وخففت من إيقاعي مرغمة بعد تعرضي لـ"منخفض" صحي ألم بي. إن كتاباتي كلها متأثرة بهذا الحوار الدائم بين السياق الثقافي والسياسي والاجتماعي الذي أعيش فيه وبين ما أحمله في داخلي من مكونات هويتي الأولى، وهذا الحوار يصبح سجالا أحيانا أو يصطدم بتشدد الآخر لكني تعلمت أن أتحاور بهدوء واحترام وندية مع الآخر، كائنا من يكون.
 
* هل ساهمت الترجمة في تطوير الملكة الشعرية لديك؟
ـ بالتأكيد، فالترجمة في الوقت الذي تفتح فيه مغاليق الكتب المعجمة الخفية للقراء، تضيف إلى خزين المترجم تفاصيل دقيقة حميمة عن أسلوب هذا الكاتب أو ذاك الشاعر الذي يترجم عنه. فالمترجم، خاصة إذا كان شاعرا، يستمتع ويتعلم من هذه التفاصيل التي قد تغيب عن القارئ العربي لاحقا لأنها تخفت أو تتلاشى في الترجمة ومهما بلغ المترجم من براعة، واختلاف لغوي ودلالي ونفسي وإحالاته على الذاكرة الثقافية للنص الأجنبي. فأن هذا ما كنت أحسه مع أي ترجمة شعرية قمت بها عن شعراء أسبان أو من أمريكا اللاتينية.
أن الترجمة علمتني الكثير حول أساليب الشعراء والكتاب، وكما قيل فالأسلوب هو الإنسان (لا كما ترجم قديما: الأسلوب هو الرجل!).
وترجمتي لمذكرات ألبرتي. كانت أول تجربة لي وتحد في آن واحد لأن أسلوب ألبرتي الشعري في نثره كان عاليا، ناهيك عن الشعر الذي أورده في كتابه. لكني خرجت منها متعافية ممتلئة بشكل هائل من المفردات الثمينة والاستخدامات اللغوية والاستعارات والصور الشعرية. وكذلك الحال مع شعراء أمريكا اللاتينية الذين ترجمت لهم وعرفت أساليبهم المميزة النابضة بالحياة والتواقة للحرية.
 إن تجربتي في قراءة أعمال بورخيس كاملة فضلا عن قراءة عشرات الكتب عنه وعن شعره جعلتني أتعلم الكثير منه ومن حكمته في الأدب والفكر والكتابة. لذا أقول بتواضع أني أكتب بأسلوب مختلف تماما عما يكتبه الآخرون. ليس أفضل، لكنه مختلف. تعلمت من بورخيس الإيجاز في الشعر، وفي الكتابة الأدبية وفي الحديث أيضا. فأنا لست مستعدة للإطالة كي أقنع القارئ بما أقوله بل أسعى لإيصال رسائلي إليه في أقل وقت، وبما يبقيه متحفزا للمزيد. أنا أخشى ملل القارئ، ولكم شعرنا بالملل من كتّاب كثيرين، بضمنهم كتّاب معروفين، وكم تمنينا في أعماقنا لو أن هذا الكاتب لم يسهب هنا، ولم يستطرد هناك ليبق القارئ متحفزا متفاعلا لا تنتابه حالة من الشرود أو الملل!
كما تعلمت من بورخيس عدم الانسياق خلف رغوة اللغة وإغراءاتها. وهذا خطر ماحق يتهدد الشعر العربي منذ مطالعه: الحشو اللغوي، نظرا لأن اللغة العربية ثرية جدا بمفرداتها، حيث يسقط الشاعر تحت تأثير غواية اللغة واستطراداتها. وجميعنا قرأ قصائد يمكن اختزالها إلى النصف أو أكثر، احتراما لوقت القارئ وجهده، وذائقته أيضا. وهذه الجملة الأخيرة هي شعاري في كل ما أكتب: احترام القارئ وإشعاره بهذا الاحترام.
 
* من هم قراؤك.. هل هم المستشرقون.. أم الشباب أم النساء؟
- القراء عادة يبقون مجهولون بالنسبة للكاتب، ما لم يجد القاريء تعليقا أو رأيا له. بهذا المعنى أنا ممتنة لقرائي ولتعليقاتيهم وآرائهم ورسائلهم التي تصلني كلما نشرت شعرا أو نثرا أو دراسة أو ترجمة. هذا على الرغم من قلة نشري، إذ ليس كل ما يكتبه الكاتب بالضرورة ينبغي نشره أو أنه جدير بالنشر. ولابد من ترك المادة المكتوبة لبضعة أيام أو أسابيع، وأحيانا لسنوات، قبل أن ينشرها الكاتب. وأني لأعجب حقا من أولئك الكتّاب الذين باتت عاداتهم في الكتابة الفيسبوكية ديدنا مميزا لهم في النشر اليومي.
وبالعودة إلى سؤالك حول من هم قرائي. قرائي هم من الشباب والنساء وكبار السن، ممن يحملون ذائقة حديثة فأنا أزعم أني أكتب بلغة حديثة مفهومة شعرا ونثرا وإحساسا. كما إن كتاباتي عن النساء تصل إليهن على غير توقع. وثمة قراء من مجايلي يدهشونني أحيانا بمتابعتهم في لمسة كرم حقيقي تسعدني. أما المستشرقون -ويدعون هنا في إسبانيا بالمستعربين لأن هذه التسمية تاريخية تعود إلى حقبة الأندلس ويشار إلى المسيحيين الإسبان الذين اتقنوا اللغة والثقافة العربية.
 
*هل واجهت صعوبات في هذا المجال ، ماهي وكيف تم تجاوزها؟
- الصعوبات هي التي تصقل شخصية الإنسان حيثما كان. فالحياة التي تخلو من التعقيد والمشقة والانعطافات تصبح أفقية مملة تخلو من التحديات التي تستنفر الطاقات الكامنة في الإنسان. ولو لم أغادر العراق لكنت قد وفّرت الكثير من الصعاب حتما، إلا أني كنت سأفتقد الخبرة التي اكتنزتها في أعوام الغربة هذه. من هنا فأنا مدينة للصعوبات الكثيرة التي اعترضتني في صقل شخصيتي وتوسيع مداركي، والأهم هو في اختبار قدرتي على المطاولة والتحمل، بعصامية مطلقة. تعلمت من العيش مع الإسبان الكثير وأعدت اكتشاف هويتي الوطنية والعربية والإنسانية. فالغربة مختبر هائل لخوض شتى التجارب الذاتية والنفسية والفكرية وحتى عندما تخيب النتائج توقعاتك فإنها تغني زادك الإنساني والمعرفي.
 
* كيف ينظر إليك المجتمع الإسباني كعربية تتكلم الإسبانية؟
- الإنجاز الكتابي المتنوع كان باستمرار يسير بالتوازي مع عملي الأكاديمي في الجامعات الإسبانية الحكومية والتزاماتها الكثيرة، ومع الترجمة الفورية التي كنت أعمل فيها عن طريق مئات المؤتمرات الأوروبية والدولية، وكلها تسير جنبا إلى جنب مع أنشطة أخرى تشمل المحاضرات والندوات وتنظيم الدورات والفعاليات الثقافية. ولعل الأسبوع الثقافي العراقي الوحيد الذي نظم عن العراق في السنوات العشرين الأخيرة كان من تنظيمي بالتعاون مع عدد قليل من الكتاب والفنانين الأصدقاء العراقيين المقيمين في إسبانيا وكان بجهود فردية تماما. كل ما ذكرته كان تعبيرا عن هوية وطنية وإنسانية حرصت عليها وعلى تقديمها في أبهى صورة. هاجسي كان ومازال هو أن أكون همزة وصل بين ثقافتي العراقية والعربية وبين الثقافة الإسبانية المسيحية في جوهرها العلمانية في نظامها السياسي، وبتفاعلي المستمر وحواري المتصل مع من حولي من الإسبان والعرب.
لي أصدقاء وصديقات من اليسار الإسباني من كتّاب وفنانين وساسة، وأيضا لد ّي صديقات وأصدقاء من رجال الكنيسة ممن يؤمنون بالحوار مع الآخر المختلف ويرحبون بالتفاعل معه. وقد اغتنيت بالحوار مع الجميع وتعلمت احترام الآخر المختلف.
أنا راضية عن مسيرتي على مدى ثلاثين عاما من الإقامة في إسبانيا ومن التفاعل مع الثقافة الإسبانية باحترام وندية، ولعلي محظوظة حقا بهذا الكم الهائل من الاحترام والتقدير الذي يعاملني به الإسبان والعرب على حد سواء.
 
* هل من رسالة أخيرة.. لمن؟
- كلمتي الأخيرة ستكون للقارئ أو القارئة التي ستقرأ هذا الحوار بصبر وبشيء من متعة أرجوها.
أدعوه للاستزادة من المعرفة بالقراءة وممارسة العقلانية في الحياة، فنحن غالبا ما نبلغها متأخرين لأن تربيتنا الاجتماعية والتعليمية لا تحثنا على التفكير والتحليل المنطقي والفهم العميق لجوانب الحياة. كما أن تعليمنا تلقيني في الأغلب، وثقافة الحوار غائبة عن علاقاتنا. ولا أحد ينكر أن علاقتنا بالمعرفة نفعية، والامتحانات نخوضها للنجاح لا للتعلم كهدف قائم بذاته.
كما أن غياب درس الفلسفة عن مدارسنا فاضح وفادح. نكبر وتكبر معنا ثغرات عميقة في أسلوب تفكيرنا، في جهلنا أسس التخاطب والنقاش بعيدا عن الخوف في علاقة بعضنا بالبعض الآخر. ردود أفعالنا انفعالية في أغلب الأحيان، نتعجل في إطلاق أحكامنا النمطية، لا ندرك كسلنا الحياتي، ولا نتأمل ترددنا إزاء أبسط التجارب. كما أن انعدام الثقة بالآخرين هو نتيجة حتمية لنقص الثقة بأنفسنا لأن الأسرة والبيئة الاجتماعية لا تنمي ثقة المرء بنفسه. أتأمل الكثير من الأقوال والأمثال الشعبية التي تستخدم خارج سياقاتها المنطقية، من قبيل: الخوف حلو، الحذر يقيك الضرر، وان هناك وعشرات الأقوال والحكم الشعبية التي تسكن دواخلنا وتحكم سلوكياتنا... إنها دعوة للتأمل في ثقافتنا الاجتماعية لتجاوز القيود التي تحجم قدرات الجميع وتعيقهم عن النهوض ببلداننا أسوة بالمجتمعات الأخرى.